جديد المدونة

جديد الرسائل

الخميس، 22 فبراير 2018

(20) العلم وفضلُه


                     فضائل العلم على المال

قال ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة(1/129):وَفضل الْعلم على المَال يعلم من وُجُوه:
أحدها:أن الْعلم مِيرَاث الأنبياء وَالْمَال مِيرَاث الْمُلُوك والأغنياء.

 الثَّانِي:أن الْعلم يحرس صَاحبَه وَصَاحب المَال يحرس مَالَه. وَالثَّالِث:أن المَال تذهبه النَّفَقَات وَالْعلم يزكوا على النَّفَقَة الرَّابِع :أن صَاحب المَال إِذا مَاتَ فَارقه مَاله وَالْعلم يدْخل مَعَه قَبره.

 الْخَامِس:أن الْعلم حَاكم على المَال وَالْمَال لَا يَحكم على الْعلم.

 السَّادِس: أن المَال يحصل لِلْمُؤمنِ وَالْكَافِر وَالْبَر والفاجر وَالْعلم النافع لَا يحصل الا لِلْمُؤمنِ.

السَّابِع:أن الْعَالم يحْتَاج اليه الْمُلُوك فَمن دونهم وَصَاحب المَال إِنَّمَا يحْتَاج اليه أهل الْعَدَم والفاقة.

 الثَّامِن:أن النَّفس تشرف وتزكو بِجمع الْعلم وتحصيله وَذَلِكَ من كمالها وشرفها وَالْمَال يزكيها وَلَا يكمله وَلَا يزيدها صفة كَمَال بل النَّفس تنقص وتشح وتبخل بجمعه والحرص عَلَيْهِ فحرصها على الْعلم عين كمالها وحرصها على المَال عين نَقصهَا.

 التَّاسِع:أن المَال يدعوها إلى الطغيان وَالْفَخْر وَالْخُيَلَاء وَالْعلم يدعوها إِلَى التواضع وَالْقِيَام بالعبودية فَالْمَال يدعوها إلى صِفَات الْمُلُوك وَالْعلم يدعوها إلى صِفَات العبيد.

 الْعَاشِر:أن الْعلم جاذب موصل لَهَا إلى سعادتها الَّتِي خلقت لَهَا وَالْمَال حجاب بَينهَا وَبَينهَا .

الْحَادِي عشر:أن غَنِي الْعلم أجل من غَنِي المَال فَإِن غَنِي المَال غنى بأمر خارجي عَن حَقِيقَة الانسان لَو ذهب فِي لَيْلَة أصبح فَقِيرا معدما وغني الْعلم لَا يخْشَى عَلَيْهِ الْفقر بل هُوَ فِي زايدة أبدا فَهُوَ الْغَنِيّ العالي حَقِيقَة كَمَا قيل

غنيت بِلَا مَال عَن النَّاس كلهم .وأن الْغَنِيّ العالي عَن الشَّيْء لَا بِهِ.

 الثَّانِي عشر:أن المَال يستعبد محبه وَصَاحبه فَيَجْعَلهُ عبدا لَهُ كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: تعس عبد الدِّينَار وَالدِّرْهَم الحَدِيث. وَالْعلم يستعبده لرَبه وخالقه فَهُوَ لَا يَدعُوهُ إِلَّا إلى عبودية الله وَحده.

 الثَّالِث عشر: إِن حُب الْعلم وَطَلَبه أصل كل طَاعَة وَحب الدُّنْيَا وَالْمَال وَطَلَبه أصل كل سَيِّئَة.

 الرَّابِع عشر: أن قيمَة الْغَنِيّ مَالُه وَقِيمَة الْعَالم علمه فَهَذَا مُتَقَوّم بِمَالِه فَإِذا عدم مَاله عدمت قِيمَته وَبَقِي بِلَا قيمَة والعالم لاتزول قِيمَته بل هِيَ، فيضاعف وَزِيَادَة دَائِما.
الْخَامِس عشر: أن جَوْهَر المَال من جنس جَوْهَر الْبدن وجوهر الْعلم من جنس جَوْهَر الرّوح كَمَا قَالَ يُونُس بن حبيب: علمك من روحك وَمَالك من بدنك.وَالْفرق بَين الأمرين كالفرق بَين الرُّوح وَالْبدن.

 السَّادِس عشر: أن الْعَالم لَو عرض عَلَيْهِ بحظه من الْعلم الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا لم يرضها عوضا من علمه والغني الْعَاقِل إِذا رأى شرف الْعلم وفضله وابتهاجه بِالْعلمِ وكماله بِهِ يود لَو أن لَهُ علمه بغناه أجْمَعْ.

السَّابِع عشر:أنه مَا أطاع الله أحْدٌ قطّ إلا بِالْعلمِ وَعَامة من يعصيه إِنَّمَا يعصيه بِالْمَالِ.

 الثَّامِن عشر:أن الْعَالم يَدْعُو النَّاس إلى الله بِعِلْمِهِ وحاله وجامع المَال يَدعُوهُم إلى الدُّنْيَا بِحَالهِ وَمَاله.

 التَّاسِع عشر:أن غنى المَال قد يكون سَبَب هَلَاك صَاحبه كثيرًا فَإِنَّهُ معشوق النُّفُوس فَإِذا رَأَتْ من يستأثر بمعشوقها عَلَيْهَا سعت فِي هَلَاكه كَمَا هُوَ الْوَاقِع وَأما غنى الْعلم فسبب حَيَاة الرجل وحياة غَيره بِهِ وَالنَّاس إِذا رأوا من يستأثر عَلَيْهِم بِهِ ويطلبه أحبوه وخدموه وأكرموه.

 الْعشْرُونَ: أن اللَّذَّة الْحَاصِلَة من غنى إِمَّا لَذَّة وهْمية وَإِمَّا لَذَّة بهيمية فَإِن صَاحبه التذ بِنَفس جمعِه وتحصيله فَتلك لَذَّة وهمية خيالية وان التذ بإنفاقه فِي شهواته فَهِيَ لَذَّة بهيمية. وأما لَذَّة الْعلم فلذة عقلية روحانية وَهِي تشبه لَذَّة الْمَلَائِكَة وبهجتها وَفرق مَا بَين اللذتين.

 الْحَادِي وَالْعشْرُونَ: أن عقلاء الأمم مطبقون على ذمّ الشره فِي جمع المَال الْحَرِيص عَلَيْهِ وتنقصه والازراء بِهِ ومطبقون على تَعْظِيم الشره فِي جمع الْعلم وتحصيله ومدحه ومحبته ورؤيته بِعَين الْكَمَال.

 الثَّانِي وَالْعشْرُونَ: أنهم مطبقون على تَعْظِيم الزَّاهِد فِي المَال المعرض عَن جمعه الَّذِي لَا يلْتَفت إليه وَلَا يَجْعَل قلبه عبدًا لَهُ ومطبقون على ذمّ الزَّاهِد فِي الْعلم الَّذِي لَا يلْتَفت اليه وَلَا يحرص عَلَيْهِ.

 الثَّالِث وَالْعشْرُونَ: أن المَال يمدح صَاحبه بتخليه مِنْهُ وإخراجه وَالْعلم إِنَّمَا يمدح بتحلِّيه بِهِ واتصافه بِهِ.

 الرَّابِع وَالْعشْرُونَ: أن غنى المَال مقرون بالخوف والحزن فَهُوَ حَزِين قبل حُصُوله خَائِف بعد حُصُوله وَكلما كَانَ أكثر كَانَ الْخَوْف أقوى وغنى الْعلم مقرون بالأمن والفرح وَالسُّرُور.

 الْخَامِس وَالْعشْرُونَ: أن الْغنيَّ بِمَالِه لَا بُد أن يُفَارِقهُ غناهُ ويتعذب ويتألم بمفارقته،والغني بِالْعلمِ لَا يَزُول وَلَا يتعذب صَاحبُه(و)لَا يتألم، فلذَّة الْغنى بالمال لذَّة زائلة مُنْقَطِعَة يعقبها الألم ،وَلَذَّة الْغنى بِالْعلمِ لَذَّة بَاقِيَة مستمرة لَا يلْحقهَا ألم.

إلى أن قال رحمه الله:الْوَجْه الأربعون: أن الْقدر الْمَقْصُود من المَال هُوَ مَا يَكْفِي العَبْد ويقيمه وَيدْفَع ضَرُورَته حَتَّى يتَمَكَّن من قَضَاء جهازه وَمن التَّزَوُّ(د) لسفره إلى ربه عزوجل فَإِذا زادعلى ذَلِك شغله وقطعه عَن السّفر وَعَن قَضَاء جهازه وتعبية زَاده فَكَانَ ضَرَره عَلَيْهِ أَكثر من مصْلحَته، وَكلما ازاداد غناهُ بِهِ ازْدَادَ تثبُّطا وتخلفا عَن التجهز لما أمامه، وَأما الْعلم النافع فَكلما ازْدَادَ مِنْهُ ازْدَادَ فِي تعبية الزَّاد وَقَضَاء الجهاز واعداد عُدَّة الْمسير.

 وَالله الْمُوفق وَبِه الِاسْتِعَانَة وَلَا حول وَلَا قُوَّة إلا بِهِ،فَعدَّة هَذَا السَّفر هُوَ الْعلم وَالْعَمَل ،وعدة الإقامة جمع الأموال والادخار،وَمن أراد شَيْئا هيأ لَهُ عُدته قَالَ تَعَالَى:{وَلَو أَرَادوا الْخُرُوج لأعدوا لَهُ عدَّة وَلَكِن كره الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ وَقيل اقعدوا مَعَ القاعدين}.اهـ