جديد المدونة

جديد الرسائل

الثلاثاء، 9 يناير 2018

(٤٨)سِلْسِلَةُ التَّفْسِيْرِ


                                           
قال تعالى في شأن الفِتْيَة أصحاب الكهف:﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)﴾ [الْكَهْفِ].
—-------------
هاتان الآيتان نهاية قصة الفِتْية أصحاب الكهف في سبعة عشر آية.

قال الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ في تفسيره: هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِقْدَارِ مَا لَبِثَ أَصْحَابُ الْكَهْفِ فِي كَهْفِهِمْ مُنْذُ أرقدهم إلى أن بعثهم الله وَأَعْثَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَأَنَّهُ كَانَ مقداره ثلاثمائة سنة تزيد تسع سنين بالهلالية، وهي الثلاثمائة سَنَةٍ بِالشَّمْسِيَّةِ، فَإِنَّ تَفَاوُتَ مَا بَيْنِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ بِالْقَمَرِيَّةِ إِلَى الشَّمْسِيَّةِ ثَلَاثُ سِنِينَ، فَلِهَذَا قَالَ: بَعْدَ الثَّلَاثِمِائَةٍ وَازْدَادُوا تِسْعًا.

وَقَوْلُهُ:(قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا)أَيْ: إِذَا سُئِلْتَ عَنْ لَبْثِهِمْ وَلَيْسَ عِنْدَكَ عِلْمٌ فِي ذلك وتوقيف من الله تعالى فَلَا تَتَقَدَّمْ فِيهِ بِشَيْءٍ، بَلْ قُلْ فِي مِثْلِ هَذَا:(اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أَيْ: لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إلا هو ومن أطلعه عَلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ، وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ كَمُجَاهِدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَف.اهـ
وقد اختلف العلماء في المدة التي مكثها  الفِتية في الكهف.
 فمنهم من ذهب إلى أنهم بقوا ثلاثمائة وتسع سنين .
وهذا قول ابن كثير وعزاه إلى مجاهد وغير واحد من السلف والخلف.
وقال الشيخ ابن عثيمين رَحِمَهُ اللَّهُ في«تفسير سورة الكهف»:(وَازْدَادُوا تِسْعًا) ازدادوا على الثلاثمائة تسع سنين فكان مكثُهم ثلاثمائة وتسع سنين.
 قد يقول قائل:لماذا لم يقل ثلاثمائة وتسع سنين؟.
فالجواب: هذا بمعنى هذا، لكن القرآن العظيم أبلغ كتاب، فمن أجل تناسب رؤوس الآيات قال:(ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا)، وليس كما قال بعضهم بأن السنين الثلاثمائة بالشمسية وازدادوا تسعًا بالقمرية، فإنه لا يمكن أن نشهد على الله بأنه أراد هذا، من الذي يشهد على الله أنه أراد هذا المعنى؟
 حتى لو وافق أن ثلاثمائة سنين شمسية هي ثلاثمائة وتسع سنين بالقمرية فلا يمكن أن نشهد على الله بهذا، لأن الحساب عند الله تعالى واحد، وما هي العلامات التي يكون بها الحساب عند الله؟
الجواب: هي الأهلَّة، ولهذا نقول: إن القول بأن (ثلاثمائة سنين) شمسية،(وازدادوا تسعًا) قمرية قول ضعيف.
أولًا: لا يمكن أن نشهد على الله أنه أراد هذا.
ثانيًا: أن عدة الشهور والسنوات عند الله بالأهلة، قال تعالى: (هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب) (يونس:5) وقال تعالى (يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) (البقرة:189).اهـ

وجاء عن قتادة:(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا) هذا قول أهل الكتاب، فردّه الله عليهم فقال: (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) رواه ابن جرير في تفسير هذه الآية(17/647).
وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله القول الأول.
فقال رحمه الله في الجواب الصحيح(4/246): بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ زَعَمُوا أَنَّ هَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِقَوْلِهِ: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا) وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، بَلْ ذَكَرَهُ كَلَامًا مِنْهُ تَعَالَى.اهـ
وقال الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ في تفسير هذه الآية:وَفِي هَذَا الَّذِي زَعَمَهُ قَتَادَةُ نَظَرٌ، فَإِنَّ الَّذِي بِأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ لَبِثُوا ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ غَيْرِ تِسْعٍ، يَعْنُونَ بِالشَّمْسِيَّةِ، وَلَوْ كَانَ اللَّهُ قَدْ حَكَى قَوْلَهُمْ لَمَا قَالَ: وَازْدَادُوا تسعا، والظاهر مِنَ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ لَا حِكَايَةَ عَنْهُمْ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ،وَاللَّهُ أَعْلَمُ.اهـ
وعلى هذا القول الثاني وهو قول قتادة يكون لا تُعلَم المدة التي بقيها الفِتْية  في الكهف.
وَقَوْلُهُ:﴿أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ﴾ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: في تفسيره (17/650):يقول: أبْصِر بالله وأسْمِع، وذلك بمعنى المبالغة في المدح، كأنه قيل: ما أبصره وأسمعه.
وتأويل الكلام: ما أبصر الله لكلِّ موجود،وأسمعه لكلّ مسموع، لا يخفى عليه من ذلك شيء.اهـ


وهذا يستشهد به النحويون على التعجب .التعجب له صيغتان عند النحويين ( ما أفعل – أفعِلْ به ) أبصِر به-أسْمِع- من أمثلة (أفعِل به).

وحُذف الجار والمجرور في{أَسْمِعْ}لدلالة السياق عليه .

وَقَوْلُهُ: (مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)قال ابن كثير:أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَيْسَ لَهُ وَزِيرٌ وَلَا نَصِيرٌ وَلَا شَرِيكٌ وَلَا مشير، تعالى وتقدس.اهـ
واختلفوا في المراد بالذين هم ما لهم من دونه من ولي.قيل:المراد أصحاب الكهف ،وقيل:أهل السماوات والأرض، كما قال سبحانه قبلها:(لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)،وقيل غير ذلك.

من فوائدِ الآيتَيْن:

•  عددُ السنين التي بقيها الفِتية في الكهف وأنها ثلاثمائة وتسع سنين.
•  دليل على كمال قُدرة الله سبحانه فقد أرقدهم هذه المدة الطويلة ثم بعثهم من نومهم بأبدانٍ سليمة لم يتغير منهم شيء.
•  دليلٌ على البعث والنشور.
•  أن الإنسان يقف حيث يعلم ولا يتكلم فيما لا يعلم.
•  انفراد الله عز وجل بعلم الغيب، وكما قال تعالى:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) } [النمل].
•  إثبات صفتَي البصر والسمع لله عز وجل.
•  انفراد الله عز وجل وحده سبحانه بالحكم والتشريع ، وكما قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]، فالحلال ما أحله الله عز وجل والحرام ما حرمه الله عز وجل،{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }[الشورى:21].
فلا يجوز اتباع القوانين الوضعية والأحكام الطاغوتية،قال الله سبحانه وتعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }[الأنعام:121]، فالله سبحانه هو المنفرد بالحكم يحكم بما يريد ويقضي بما يشاء سبحانه وتعالى.