جديد المدونة

جديد الرسائل

الأحد، 1 يناير 2017

(29)الفصول من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم / 3 من ربيع الثاني الموافق 1438 .


بسم الله الرحمن الرحيم

                               [قدومُ وفدِ ثقيف]

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: فصل

وقدم وفدُ ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضانَ هذه السنة فأسلموا، وكانَ سببُ ذلك أنَّ عروةَ بن مسعود سيِّدَهم كَان قد جاءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مُنصرَفَه من حُنينٍ والطَّائف، وقبلَ وصوله إلى المدينة، فأسلَم وحسُن إسلامُه واستأذن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في الرجوعِ إلى قومِه لِيدعُوهم إلَى الله عز وجل، فأذِنَ له وهو يَخشى عليه، فلمَّا رجعَ إليهم ودعاهم إِلى الإِسلام رمَوه بالنَّبْل فقتلوه.

ثمَّ إنَّهم ندمُوا ورَأوا أنَّهم لَا طاقةَ لهم بحربِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فبعثُوا وفدَهُم إليه في رمضان كما قدَّمنا، وكانوا ستةً، فأوَّلُ من بصُر بهم المغيرةُ بنُ شعبةَ الثَّقفي، وكَان يرعَى، فتركَ ذلكَ وأقبلَ بهم علَى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وعلَّمهم في الطريقِ كيفَ يسلِّمونَ عليه، وسبقَ أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه المغيرةَ، وبشَّر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بقدومِهم.

فأنزلهُم عليه الصلاة والسلام في المسجدِ وضربَ لهم فيه قُبَّةً، وكانَ السَّفيرُ بينهم وبينهُ خالدُ بن سعيد بن العاص.

وكان الطعامُ يأتيهم من عندِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فلا يأكلُونه حتى يأكلَ خالدٌ قبلهم، فأسلَموا واشترَطوا أن تبقَى عندهم طاغيتُهم اللَّاتُ، وأن لا تُهْدم، فلم يجْبهم صلى الله عليه وسلم إلَى ذلك.

وسألُوا أن يخفِّف عنهم بعضَ الصلوات فلم يجبهُم إلى ذلك.

فسألُوا أن لا يَهدِموا بأيديهم طاغيتَهم، فأجابهُم إليه.

وبعث معهم أبا سفيانَ صخرَ بن حرب والمغيرة بن شعبة لهدمِها فهدمَهَا.

وعظُم ذلك على نساءِ ثقيفٍ، واعتقدُوا أن يصيبَهم منها سُوءٌ، وقد طَنَزَ بهم المغيرةُ بن شعبة حين هدمَها فخرَّ صَريعًا، وذلك بتواطؤٍ منه ومِن أبِي سُفيان، ليُوهِمَهم أنَّ ذلك منها، ثمَّ قام يُبكِّتُهم ويُقَرِّعُهم رضي الله عنه. فأسْلَموا وحسُن إسلامُهم.

وجعلَ صلى الله عليه وسلم إمامَهُم أحدَ السِّتَةِ الَّذينَ قَدِمُوا عليه، وهو عثمانُ بن أبي العاص، وكان أحدثَهم سِنًا، لِمَا رَأى من حرصِه على قراءةِ القرآن ،وتعلُّمِه الفرائضَ ،وأمَرهُ أن يتَّخذَ مؤذِّنًا لا يأخذُ على أذانِه أجرًا، وأن يقتديَ بأضعَفِهم.

*********************

هذا الفصلُ في قدومِ وفدِ ثقيفٍ على رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وقد سبقَ  في غزوة حنين السنة الثامنة  أنه لمَّا انهزم المشركون،هرب بعضُهم إلى أوطاس ،وبعضهم إلى نخلة ،وبعضهم إلى الطائف، فلحق النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ الذين هربوا إلى الطائف ، وهم ثقيف  ، وتحصَّنوا في الحِصْن ،ودخل معهم في الحِصْن مَلِكُ هوازن وَهُوَ مالك بن عوف ،فمكث أربعين ليلة ولم ينل منهم كبير شيءٍ، فرجع النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ ،ثم بعد غزوة تبوك في السنة التاسعة أقبل وفدُ ثقيفٍ إِلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ وأسلموا ،فبيْنَ حصارِهِم بالطائف وبيْن إسلامهم غزوةُ تبوك،وأهل السيَر يذكرون غزوة الطائف ثم غزوة تبوك ثم قدوم وفدِ ثقيف مراعاةً للترتيب الزَّمَني،بينما ابن القيم رحمه الله ذكر غزوة الطائف ثم قدوم وفد ثقيف ،وقد أبدى عُذْرَه في ذلك وقال:«فَهَذِهِ قِصَّةُ ثَقِيفٍ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، سُقْنَاهَا كَمَا هِيَ، وَإِنْ تَخَلَّلَ بَيْنَ غَزْوِهَا وَإِسْلَامِهَا غَزَاةُ تَبُوكَ وَغَيْرُهَا، لَكِنْ آثَرْنَا أَنْ لَا نَقْطَعَ قِصَّتَهُمْ، وَأَنْ يَنْتَظِمَ أَوَّلُهَا بِآخِرِهَا لِيَقَعَ الْكَلَامُ عَلَى فِقْهِ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَأَحْكَامِهَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ».اهـ من «زاد المعاد»(3/439).

وثقيف جاء أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ دعا لهم بالهداية .روى الترمذي في «سننه» (3942)من طريق أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْرَقَتْنَا نِبَالُ ثَقِيفٍ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ. قَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا». والحديث إسناده ضعيف أبو الزبير مدلس وقد عنعن.

(أَخْرَقَتْنَا) أي: أوجعتنا .

وجاء في فضلهم حديثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عند الترمذي (3945)«أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكْرَةً فَعَوَّضَهُ مِنْهَا سِتَّ بَكَرَاتٍ فَتَسَخَّطَهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ فُلاَنًا أَهْدَى إِلَيَّ نَاقَةً فَعَوَّضْتُهُ مِنْهَا سِتَّ بَكَرَاتٍ فَظَلَّ سَاخِطًا، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لاَ أَقْبَلَ هَدِيَّةً إِلاَّ مِنْ قُرَشِيٍّ أَوْ أَنْصَارِيٍّ أَوْ ثَقَفِيٍّ أَوْ دَوْسِيٍّ»،والحديث صحيح.

وقوله: (في رمضان هذه السنة) أي: السنة التاسعة.

ثم ذكر الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ سبب إسلام ثقيفٍ أن عروة بن مسعود الثقفي سيد ثقيف كان قد جاء إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ عند انصرافه من حنين والطائف  فأَدْرَكَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْمَدِينَةَ ،وأسلم وحسن إسلامه، ثم استأذن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ في الرجوع إلى قومه ثقيف يدعوهم إلى الله ويعلمهم فقتلوه فبعد ذلك ندموا.

وعروة بن مسعود الثقفي جاء حديثٌ في قتلِ قومه له والثناء عليه .

روى ابن أبي حاتم في «تفسير سورة يس»من طريق عَبْدِ الْمَلِكِ يَعْنِي ابْنَ عُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ابْعَثَنِي إِلَى قَوْمِي أَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «انْطَلِقْ» فَانْطَلَقَ فَمَرَّ عَلَى اللاتِ وَالْعُزَّى لَا عُزَّى، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا. يَا مَعْشَرَ الْأَحْلافِ، إِنَّ الْعُزَّى لَا عُزَّى، وَإِنَّ اللاتَ لَا لاتَ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا قَالَ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ فَأَصَابَ أَكْحَلُهُ فَقَتَلَهُ فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:«هَذَا مَثَلُهُ كَمَثَلِ صَاحِبِ يس قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ».

وهذا إسنادٌ مرسل. عبدُالملك بن عُمير لم يدركِ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،إذ لم يُولد إلا في أواخر خلافةِ عثمان بن عفان رضي الله عنه.قال الحافظ في «تهذيب التهذيب»:ذكره ابن حبان في «الثقات»،وقال:ولِد عبدالملك بن عمير لثلاث سنين بقين من خلافة عثمان ،ومات سنة ست وثلاثين ومائة، وله يومئذ مائة وثلاث سنين، وكان مدلِّسًا ،وكذا ذكر مولده ووفاتَه ابنُ سعد اهـ.

وعروة بن مسعود استُشهِد في السنة التاسعة، قال الذهبي رحمه الله في «سير أعلام النبلاء»:«وفيها-أي في التاسعة-: قُتِل عروة بن مسعود الثقفي، وكان سيدًا شريفًا من عقلاء العرب ودهاتهم، دعا قومه إلى الإسلام فقتلوه»،فعبدالملك بن عُميرلم يلقَه أبدًا.

و قد  ضعَّف الحديث  الشيخ الألباني رحمه الله في «السلسلة الضعيفة» (6280).

وأما إسلام عروة بن مسعود فهو عند منصرفِ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم  من الطائف ،وهذا على قولِ ابن إسحاق ،وجاء أنه لما صدر أبو بكر وعلي رضي الله عنهما وأقاما للناس الحج، قدم عروة بن مسعود الثقفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما. كذا قال موسى بن عقبة .يراجع/ «سير أعلام النبلاء».

وعروة بن مسعود كانت له اليد البيضاء في عقد صلح الحديبية السنة السادسة،والحديث بطوله رواه البخاري (2731)عن المسور بن مخرمة ومروان وفيه:«فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، أَلَسْتُمْ بِالوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَوَلَسْتُ بِالوَلَدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَهَلْ تَتَّهِمُونِي؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظَ، فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ لَكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ، اقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِيهِ، قَالُوا: ائْتِهِ، فَأَتَاهُ..».

وعروة بن مسعود رضي الله عنه أقربُ الناس شبهًا بعيسى عليه الصلاة والسلام .روى الإمام مسلم رحمه الله (172)عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ، فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا، فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ ، قَالَ:  فَرَفَعَهُ اللهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي، فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ، جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَإِذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَائِمٌ يُصَلِّي، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَائِمٌ يُصَلِّي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي نَفْسَهُ - فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ قَائِلٌ: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا مَالِكٌ صَاحِبُ النَّارِ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَبَدَأَنِي بِالسَّلَامِ».



(فبعثوا وفدهم إليه في رمضان كما قدمنا)

يشير إلى قوله:(وقدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان هذه السنة).

(وكانوا ستة)هذا عدد وفد ثقيف كانوا ستة. وقد جاء تسميتهم كما في «سيرة ابن هشام»(2/539):عَبْدُ يَالَيْلَ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، والْحَكَمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ وَهْبِ بْنِ مُعَتِّبٍ، وَشُرَحْبِيلُ بْنُ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ مُعَتِّبٍ، وعُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ بِشْرِ بْنِ عَبْدِ دُهْمَانَ، أَخَو بَنِي يَسَارٍ، وَأَوْسُ بْنُ عَوْفٍ، أَخَو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ ،وَنُمَيْرُ بْنُ خَرَشَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، أَخَو بَنِي الْحَارِثِ فَخَرَجَ بِهِمْ عَبْدُ يَالَيْلَ، وَهُوَ نَابَ الْقَوْمَ وَصَاحِبُ أَمْرِهِمْ»،وسندها لا يصح .

وجاء عند ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (1/ 312- 314)«أنهم سَارُوا فِي سَبْعِينَ رَجُلًا ،وهؤلاء الستة رؤساؤهم» ،ولا يصح أيضًا سندُه.

(فأنزلهم عليه الصلاة والسلام في المسجد وضرب لهم فيه قبة)

كان مسجد النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ مكان استقبال الضيوف والوفود ،وهو مكان التعليم والدعوة إلى الله.

ثم ذكر الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ شروطًا لوفد ثقيف أنهم اشترطوا أن يبقى عندهم طاغيتُهم اللات، فلم يجبهم، وأن يخفف عنهم بعض الصلوات فلم يجبهم، وسألوا أن لا يهدموا بأيديهم طاغيتهم اللات، فأجابهم إليه.

والقصة في «الطبقات» (1/ 312- 314) لابن سعد بنحوها، وفي السند شيخ ابن سعد وهو مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الواقدي متروك، وفيه مبهم.

(وقد طَنَزَ)الطَّنَزُ:السُّخرية كما في «الصحاح»للجوهري.

(وجعلَ صلى الله عليه وسلم إمامَهُم أحدَ السِّتَةِ الَّذينَ قَدِمُوا عليه، وهو عثمانُ بن أبي العاص، وكان أحدثَهم سِنًا)

 عثمان بن أبي العاص من جملة وفد ثقيف وهو أصغرُهُم سنًّا، وأمره النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أن يكونَ إمامًا لهم، وهذا في «صحيح مسلم» (468) عن عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «أُمَّ قَوْمَكَ» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي شَيْئًا قَالَ: «ادْنُهْ» فَجَلَّسَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ فِي صَدْرِي بَيْنَ ثَدْيَيَّ. ثُمَّ قَالَ: «تَحَوَّلْ» فَوَضَعَهَا فِي ظَهْرِي بَيْنَ كَتِفَيَّ، ثُمَّ قَالَ: «أُمَّ قَوْمَكَ. فَمَنْ أَمَّ قَوْمًا فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ، وَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ، وَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ، وَإِنَّ فِيهِمْ ذَا الْحَاجَةِ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ وَحْدَهُ، فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ».

(وأمَرهُ أن يتَّخذَ مؤذِّنًا لا يأخذُ على أذانِه أجرًا، وأن يقتديَ بأضعَفِهم)

وهذا في «سنن أبي داود» (531) عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْنِي إِمَامَ قَوْمِي، قَالَ: «أَنْتَ إِمَامُهُمْ وَاقْتَدِ بِأَضْعَفِهِمْ وَاتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا».

وهذا دليل على كراهة اتخاذ الأجرة على الأذان.قال الترمذي في «سننه»( 209) عقب الحديث: وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ كَرِهُوا أَنْ يَأْخُذَ المُؤَذِّنُ عَلَى الأَذَانِ أَجْرًا، وَاسْتَحَبُّوا لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَحْتَسِبَ فِي أَذَانِهِ .اهـ لكن إذا أعطوه بدون شرط فلا بأس أن يأخذَهُ .روى البخاري (7164)،ومسلم (1045)عن عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِينِي العَطَاءَ، فَأَقُولُ أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالًا، فَقُلْتُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذْهُ، فَتَمَوَّلْهُ، وَتَصَدَّقْ بِهِ، فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا المَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَالاَ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ».

أما أخذ الرَّزْق وهو :الأخذ من بيت مال المسلمين على الأذان، فهذا لا شيء فيه.

قال ابن قدامة في «المغني» (1/ 301): وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي جَوَازِ أَخْذِ الرَّزْقِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةً إلَيْهِ اهـ المراد.

 والرَّزق :بفتح الراء وسكون الزاي العطاء كما في «حاشية الروض المربع»(1/434)لابن القاسم رحمه الله.

وقال الشيخ ابن باز رحمه الله في «فتاوى نور على الدرب»(6/349): أما من أخذ من بيت المال فلا حرج عليه، لأن بيتَ المال للمسلمين عامة ،ولا سيما المصالح كالأذان والإمامة وأشباه ذلك، وهكذا الأوقاف التي ُتوقف على المؤذنين والأئمة، هذه كلُّها من باب التعاون على البر والتقوى ،ومن باب تسهيل الإمامة والأذان، لأنه ليس كلُّ واحد يتفرغ لهذا الشيء، فإذا أمنت حاجتُه كان هذا أدعى إلى أن يلتزم ويقوم بهذا الأمر العظيم الواجب، أمَّا هذا الأجر الذي يساق اليوم للمؤذنين فالذي يظهر أنه غير داخل في الحديث السابق ذكره، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يؤاجِر فيقول: لا أؤذن إلا بأجر.

يعني: مشارطة بينه وبين أهل المسجد، أو بينه وبين بعض الناس الآخرين ، فهذا هو الأقرب في ظاهر النص. أما المال الذي يعطاه من بيت المال كما يعطَى المدرس ويعطَى الإمام ويعطى المجاهدون، هو غير داخل في هذا إن شاء الله، لكن لا شك أن الذي يريد ألا يأخذَ شيئا بالكلية وأن يتفرغ لهذا الشيء من جهة نفسه لأن الله قد أعطاه مالا ووسع عليه فهذا أكمل في الإخلاص.اهـ



- ومن الأحكام التي لم يذكرْها الحافظ ابنُ كثيرٍ في هذا الموضع،وهي متعلِّقة بوفدِ ثقيفٍ، أنه في وقتِ حصار النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ ثقيفًا بالطائف سنة ثمان ،تسوَّر أبُو بكرة نُفَيْع بن الحارث رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلى أعلى الحِصن هُو وبعضُ عبيد ثقيف ثم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأعتقهم، وكان أبوبكرة عبدًا لرجل يقال له: الحارث بن كلدة الثقفي ،فلما أسلم ثقيف طالبوا بأبي بكرة فأبى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أن يردَّهُ إليهم .

روى عبدالرزاق بن همام الصنعاني في «المصنف»(5/300) عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ: «أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحَاصِرُ أَهْلِ الطَّائِفِ بِثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ عَبْدًا، فَأَعْتَقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمُ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمُ الْعُتَقَاءُ».

هذا حديث صحيح .عاصم بن سليمان هو الأحول كما في سياق شيوخ معمر بن راشد من «تهذيب الكمال»،وهوأبو عبد الرحمن البصري ثقة.

وروى الإمام  أحمد (17530) من طريق الشَّعْبِيِّ، عَنْ رَجُلٍ، مِنْ ثَقِيفٍ، قَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُرَخِّصْ لَنَا، فَقُلْنَا: إِنَّ أَرْضَنَا أَرْضٌ بَارِدَةٌ، فَسَأَلْنَاهُ أَنْ يُرَخِّصَ لَنَا فِي الطَّهُورِ، فَلَمْ يُرَخِّصْ لَنَا، وَسَأَلْنَاهُ أَنْ يُرَخِّصَ لَنَا فِي الدُّبَّاءِ، فَلَمْ يُرَخِّصْ لَنَا فِيهِ سَاعَةً، وَسَأَلْنَاهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْنَا أَبَا بَكْرَةَ، فَأَبَى، وَقَالَ: هُوَ طَلِيقُ اللهِ وَطَلِيقُ رَسُولِهِ وَكَانَ أَبُو بَكْرَةَ خَرَجَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَاصَرَ الطَّائِفَ فَأَسْلَمَ .والحديث في «الصحيح المسند»(برقم 1499).

قال ابنُ القيم في «زاد المعاد»(3/440):(فيه) أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَبَقَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَحِقَ بِالْمُسْلِمِينَ صَارَ حُرًّا .قَالَ ابن المنذر: وَهَذَا قَوْلُ كُلِّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.اهـ المراد.

ونستفيد مما تقدَّم تاريخ إسلام أبي بكرة رضي الله عنه أنه في سنة ثمان .

****************************

فصل [حجَّة الصِّديق وتواتر الوفودِ وبعث الرسل]

وبعث صلى الله عليه وسلم أبا بكرٍ الصديق رضي الله عنه أميرًا على الحجِّ هذه السنة، وأردفه عليًّا رضي الله عنه بسورة براءة أن:«لاَ يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ»، وينبذ إليهم عهودَهم إلا مَن كان ذا عهدٍ مقدَّرٍ فعهده إلى مدَّتِه.

وتواترتِ الوفودُ هذه السنة وما بعدها على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مذعنةً بالإسلامِ ،داخلين في دينِ الله أفواجًا ،كما قال تعالى:﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)﴾.

وبعثَ صلى الله عليه وسلم معاذَ بنَ جبل إلَى اليمنِ ومعه أبو موسى الأشعري رضي الله عنهما، وبعثَ الرُّسُلَ إلى ملوكِ الأقطارِ يدعوهم إلى الإسلام.

وانتشرتِ الدَّعوةُ، وعلَتِ الكلمةُ، و﴿جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾.

**********************

هذا الفصل في حجة أبي بكرٍ الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في أواخر السنة التاسعة، فقد بعثه النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أميرًا على الحج ،ولم يَحُجِّ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ ذلك العام.

وقد ذكروا سببَين -في تأخير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ الحج عن العام التاسع إلى العام العاشر –أحدهما :استقبالُ الوفود ،الثاني: من أجل ضلالات الجاهلية ومخالفاتهم .قال الشيخ ابنُ عثيمين رحمه الله في «شرح رياض الصالحين»(2/491): وفي السنة التاسعة كانت الوفود تردُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم من كل ناحية، فبقي في المدينة، ليتلقى الوفود، حتى لا يثقل عليهم بطلبه، حتى إذا جاء الوفود إلى المدينة وجدوا النبي صلي صلى الله عليه وسلم ،ولم يتعبوا في طلبه ..، فلم يحجّ في السنة التاسعة لتلقي الوفود. هذا من وجه.

ومن وجه آخر: في السنة التاسعة حجَّ مع المسلمين المشركون، لأنهم لم يُمنعوا من دخول مكة، ثم مُنعوا من دخول مكة .اهـ المراد.

ثم ألحق النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ عليًّا بسورة براءة، والمراد صدر سورة براءة، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قَالَ الْعُلَمَاءُ إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي إِرْسَالِ عَلِيٍّ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ جَرَتْ بِأَنْ لَا يَنْقُضَ الْعَهْدَ إِلَّا مَنْ عَقَدَهُ أَوْ مَنْ هُوَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَأَجْرَاهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى عَادَتِهِمْ. اهـ. من «فتح الباري» (8/321).

فهذا هو السبب في إلحاق النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ علي بن أبي طالب إثر إرساله لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما. أنه كان هناك بين النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ عقود وعهود مع الكفار ،وكان من عادتهم أنه لا ينقض العهدَ إلا من عقده أو من كان من أهل بيته ،وعلي بن أبي طالب ابن عم النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.

(أن «لَا يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ»)

هذا عند البخاري (369)،ومسلم (1347) من طريق حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الحَجَّةِ فِي مُؤَذِّنِينَ يَوْمَ النَّحْرِ، نُؤَذِّنُ بِمِنًى: أَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ  قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: ثُمَّ أَرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا، فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةٌ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ فِي أَهْلِ مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ: «لاَ يَحُجُّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ». وقوله:«قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: ثُمَّ أَرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا، فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةٌ »هذا القدر مرسَل.

- ويستفادُ من هذا منع المشركين من الحج ،وهذا من تطهير بيتِ الله الحرام الذي أمر الله به. قال الله تعالى: (أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة:125]. (أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ) من الشرك وأهل الشرك والبدع والمعاصي ومن النجاسات.

وقال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[التوبة:28].

- وفيه منعُ العريان من الطواف بالبيت وقد كانوا في الجاهلية يعتقدون أنه لا يحسن الطواف بالبيت بثيابهم فكانوا إما يستعيرون ثيابًا من الحُمس، وإما يطوفون عراة ،وفي «صحيح مسلم» (3028)، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهِيَ عُرْيَانَةٌ، فَتَقُولُ: مَنْ يُعِيرُنِي تِطْوَافًا؟ تَجْعَلُهُ عَلَى فَرْجِهَا، وَتَقُولُ:

الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ  ***  فَمَـــــا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ

فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف: 31]».

(وينبذ إليهم عهودَهم إلا مَن كان ذا عهدٍ مقدَّرٍ فعهده إلى مدَّتِه)

يعني: أمر النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ بنبذ عهود المشركين التي كان تَمَّ تنفيذُها إلا من كان له عهد إلى أجلٍ مسمى، قال الله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [التوبة:4].

ثم ذكر الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ أنه تواترت الوفود هذه السنة وما بعدها على رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، (هذه السنة) أي: السنة التاسعة.

(وتواترت) التواتر لغة: التتابع، فقوله (وتواترت) أي: تتابعت، ولكثرة الوفود هذا العام سُمِّيَ عامَ الوفود.

والوفود: هم القوم المختارون من الرؤساء والكبار يفدون لبعض المهمات.

قال ابن منظور في «لسان العرب»: هُمُ الْقَوْمُ يَجْتَمِعُونَ فَيرِدُونَ الْبِلَادَ، وَاحِدُهُمْ وافِدٌ، وَالَّذِينَ يَقْصِدُونَ الأُمراء لِزِيَارَةٍ واسْتِرْفَادٍ وانْتجاعٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

ومن الوفود الذين وفدوا على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ وفد بنِي حنيفة ،ووفد بني تميم، ووفد عبد القيس ،ويذكرون أن وفد عبد القيس وفدوا مرتين.

قال الحافظ في «فتح الباري»(تحت رقم4368): الَّذِي تَبَيَّنَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ لِعَبْدِ الْقَيْسِ وَفْادَتَانِ .

إِحْدَاهُمَا: قَبْلَ الْفَتْحِ ،وَلِهَذَا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ »،وَكَانَ ذَلِكَ قَدِيمًا إِمَّا فِي سَنَةِ خَمْسٍ أَوْ قَبْلَهَا ،وَكَانَتْ قَرْيَتُهُمْ بِالْبَحْرَيْنِ .

ثَانِيَتُهُمَا: كَانَتْ فِي سَنَةِ الْوُفُودِ .اهـ المراد .

- استفدنا أن من الأشياء التي كانت في السنة التاسعة:

-غزوة تبوك .

- استِشهاد عروة بن مسعود الثقفي ، قال الذهبي رحمه الله في «سير أعلام النبلاء»:«وفيها-أي في التاسعة-: قُتِل عروة بن مسعود الثقفي، وكان سيدًا شريفًا من عقلاء العرب ودهاتهم، دعا قومه إلى الإسلام فقتلوه».وقد تقدم .

- قدوم وفد ثقيف على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ ،ومنهم عثمان بن أبي العاص وإسلامهم في السنة التاسعة بعد غزوة تبوك.

- حجَّةُ أبي بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.قال الذهبي رحمه الله في «سير أعلام النبلاء»:وفيها-أي في التاسعة-: حج بالناس أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على الموسم في أواخر ذي القعدة ليقيم للمسلمين حجهم.

- منع المشرك من الحج ومنع العريان من الطواف بالبيت في العام التاسع .

-تواتر الوفود على النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ في هذا العام.

 -وفي التاسعة أيضًا: توفيت أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، زوجة عثمان رضي الله عنهما كما في «سير أعلام النبلاء».

- وفيها وفاة النجاشي وقد نعاه النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ لمَّا توفِي.روى البخاري (1333)، ومسلم (951)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي اليَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى المُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ».

- وفيها وفاة عبد الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين ،فقد مرض في ذي القعدة هذا العام ثم توفي بشَرِّ مِيتة .يراجع/«البداية والنهاية» (5/ 42)، و«سير أعلام النبلاء» (2/ 174) .



-وفيها فُرِض الحج على قولٍ .وابن القيم رحمه الله في«زاد المعاد»(2/96)يقول: فَإِنَّ فَرْضَ الْحَجِّ تَأَخَّرَ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ.اهـ

-هذا ونستفيد من كثرة الوفود على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ في هذا العام أن العاقبة للمتقين وأن النصر هو لدين الله ولشرع الله، فبعد متاعب ومشاق غلب الحق وظهر ،وذهب الباطل وأُهدِر بإذن الله، قال سبحانه: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء:81]. فالباطل لا يدوم، وهذه بشارة لأهل الحق قال تعالى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات:171-173].

ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فمِن بعد فتح مكة والإسلام يعلو شيئًا فشيئًا، لأن الناس كانوا ينتظرون إسلام قريش لمكانتهم، ولأنهم أهل الحرم، كما قال عمرو بن سلِمَة: «وَكَانَتِ العَرَبُ تَلَوَّمُ بِإِسْلامِهِمُ الفَتْحَ، فَيَقُولُونَ: اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ، فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الفَتْحِ، بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلامِهِمْ، وَبَدَرَ أَبِي قَوْمِي بِإِسْلامِهِمْ...» الحديث، رواه البخاري (4302).

 (تَلَوَّمُ) أي: تنتظر (فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ) أي: ظهر على قريش.

- ونستفيد من مجموع  سيرةِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ في معاملة الوفود فوائد منها:

 -استقبال الوفود بالترحيب ،وهذا من أخلاق النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ الشريفة، روى البخاري (53)،ومسلم (17) من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ القَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ القَوْمُ؟ - أَوْ مَنِ الوَفْدُ؟ -» قَالُوا: رَبِيعَةُ. قَالَ: «مَرْحَبًا بِالقَوْمِ، أَوْ بِالوَفْدِ، غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لاَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الحَرَامِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ، نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، وَنَدْخُلْ بِهِ الجَنَّةَ، وَسَأَلُوهُ عَنِ الأَشْرِبَةِ: فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ، أَمَرَهُمْ: بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ المَغْنَمِ الخُمُسَ» وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنِ الحَنْتَمِ وَالدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالمُزَفَّتِ ، وَرُبَّمَا قَالَ: «المُقَيَّرِ» وَقَالَ: «احْفَظُوهُنَّ وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ».

 -اهتمام النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ بتعليم الوافدين العقيدة وأحكام الإسلام ،كما دل عليه حديث ابن عباس المذكور وغيره مما في معناه ، وكان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ يبين لهم أن دينَ الإسلام دينُ رحمة ويسرٍ وأُلْفة.

وهذا فيه تربية للداعي لله أن يكون همُّه عند اللقاءات أن يتفقه الناس في أمور دينهم.

-كان يحضُرُ عند مجيء الوفود ثابتُ بن قيس بن الشَّمَّاس رضي الله عنه لبلاغته  فيُجيب المعاندين للحق .روى البخاري(4373)، ومسلم (2273) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:«قَدِمَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: إِنْ جَعَلَ لِي مُحَمَّدٌ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ تَبِعْتُهُ، فَقَدِمَهَا فِي بَشَرٍ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَفِي يَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِطْعَةُ جَرِيدَةٍ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى مُسَيْلِمَةَ فِي أَصْحَابِهِ، قَالَ: لَوْ سَأَلْتَنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا، وَلَنْ أَتَعَدَّى أَمْرَ اللهِ فِيكَ، وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ اللهُ، وَإِنِّي لَأُرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيكَ مَا أُرِيتُ، وَهَذَا ثَابِتٌ يُجِيبُكَ عَنِّي ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ».

قال النووي رحمه الله في «شرح صحيح مسلم»: قَالَ الْعُلَمَاءُ كَانَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ خَطِيبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَاوِبُ الْوُفُودَ عَنْ خُطَبِهِمْ وَتَشَدُّقِهِمْ .اهـ

وقال ابن القيم رحمه الله في «زاد المعاد»(3/536)-في سياق الفوائد- فيه :أنَّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يُجِيبُ عَنْهُ أَهْلَ الِاعْتِرَاضِ وَالْعِنَادِ.

وَ(فيه)تَوْكِيلُ الْعَالِمِ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ عَنْهُ وَيُجِيبَ عَنْهُ.اهـ

-كان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ يحسِن إلى الوفود ويكرمهم -والإكرام مؤثِّرٌ في النفوس -ويعطيهم ما يعينهم عند سفرهم . روى البخاري (3053) ،ومسلم (1637) من طريق سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَالَ: يَوْمُ الخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الخَمِيسِ؟ ثُمَّ بَكَى حَتَّى خَضَبَ دَمْعُهُ الحَصْبَاءَ، فَقَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ  يَوْمَ الخَمِيسِ، فَقَالَ: «ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا» ، فَتَنَازَعُوا، وَلاَ يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ، فَقَالُوا: هَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «دَعُونِي، فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ» ، وَأَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلاَثٍ: «أَخْرِجُوا المُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ، وَأَجِيزُوا الوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ» ، وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ .

وبوب البخاري في «صحيحه»على هذا الحديث: بَابُ جَوَائِزِ الوَفْدِ.

-ومن حسن معاملة النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ للوفود الحلم والرفق والرحمة بهم قال تعالى في وصف النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران:159].

- التجمل لاستقبال الوفود .روى البخاري (3054) ،ومسلم (2068)عنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: وَجَدَ عُمَرُ حُلَّةَ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ، فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْ هَذِهِ الحُلَّةَ، فَتَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَلِلْوُفُودِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ، أَوْ إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ» فَلَبِثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجُبَّةِ دِيبَاجٍ فَأَقْبَلَ بِهَا عُمَرُ حَتَّى أَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ أَوْ إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ، ثُمَّ أَرْسَلْتَ إِلَيَّ بِهَذِهِ، فَقَالَ: «تَبِيعُهَا أَوْ تُصِيبُ بِهَا بَعْضَ حَاجَتِكَ» . وفي روايةٍ للبخاري (886)،ومسلم (6/2068) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ، فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ».أقر النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه على استحسان التجمل لمقابلة الوفود والتجمل للعيد والجمعة ،و أنكر عليه عَرْضَ  لبس الحرير، لأنه تشبُّهٌ بالكفار بالنسبة للرجال.

قال النووي رحمه الله في «شرح صحيح مسلم»: فيه اسْتِحْبَابِ لِبَاسِ أَنْفَسِ ثِيَابِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ وَعِنْدَ لِقَاءِ الْوُفُودِ وَنَحْوِهِمْ ،وَعَرْضِ الْمَفْضُولِ عَلَى الْفَاضِلِ وَالتَّابِعِ عَلَى الْمَتْبُوعِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ من مصالحه التي قد لا يذكرها .اهـ

انتهى الدرس التاسع والعشرون /  3 من ربيع الثاني /الموافق 1438 .