جديد المدونة

جديد الرسائل

الأربعاء، 21 ديسمبر 2016

(28)الفصول من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم /22 شهر ربيع الأول 1438.


قال الحافظ ابن كثير رحمه الله 

فصل [غزوة تبوك]

ولما أنزل الله عز وجل على رسولِهِ ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة:29]، ندبَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهلَ المدينة ومن حولهم من الأعراب إلى الجهاد، وأعلمهُم بغزوِ الروم، وذلك في رجبٍ من سنة تسع، وكان لا يريد غزوةً إلا ورَّى بغيرها، إلا غزوتَه هذه، فإنه صرَّح لهم بها ليتأهَّبوا، لشدَّة عدوِّهم وكثرته، وذلك حين طابتِ الثِّمار، وكان ذلك في سنةٍ مُجدبة، فتأهَّبَ المسلمون لذلك.

وأنفق عثمان بن عفان رضي الله عنه على هذا الجيشِ- وهو جيش العسرة- مالًا جزيلًا فقيل: ألف دينار، وقال بعضُهم: إنه حَمل على ألف بعير ومائةِ فرس وجهَّزها أتم جهاز حتى لم يفقدوا عقالًا وخطامًا، رضي الله عنه.

ونهض صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نحوٍ من ثلاثين ألفًا، واستخلف على المدينة محمدَ بن مسلمة وقيل: سباع بن عرفطة، وقيل: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والصحيح أن عليًّا كان خليفةً له على النساء والذرية، ولهذا لما آذاه المنافقون فقالوا: تركه على النساء والذُّرية، لحق رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فشكا إليه ذلك، فقال: «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ غير أنه لا نبي بعدي» وقد خرج معه عبدُ الله بن أُبَي رأسُ النفاق، ثم رجع من أثناء الطريق.

وتخلف عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النساءُ والذرية، ومَن عذره الله من الرجال ممن لا يجد ظهرًا يركبه أو نفقةً تكفيه، فمنهم البكَّاؤون، وكانوا سبعةً: سالم بن عمير، وعُلبة بن زيد، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب، وعمرو بن الحُمام، وعبد الله بن المغفل المزني، وهرميُّ بن عبد الله ،وعرباض بن سارية الفزاري، رضي الله عنهم.

وتخلف منافقون كفرًا وعنادًا وكانوا نحو الثمانين رجلًا، وتخلَّف عصاةٌ مثل: مرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، وهلال بن أمية، ثم تاب اللهُ عليهم بعد قدومه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخمسين ليلة.

فسار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمر في طريقه بالحِجْر، فأمرهم أن لا يدخلُوا عليهم بيوتهم إلا أن يكونوا باكين، وأن لا يشربوا إلا من بئرِ الناقة، وما كانوا عجَنُوا به من غيره يُطعموه للإِبل، وجازها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقنَّعًا.

فبلغ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبوك وفيها عينٌ تبِضُّ بشيء من ماءٍ قليل، فكثرت ببركتِه، مع ما شوهِد من بركة دعائه في هذه الغزوة، من تكثير الطعام الذي كان حاصلُ الجيش جميعه منه مقدارَ العنز الباركة، فدعا اللهَ عز وجل فأكلوا منه وملؤوا كلَّ وعاء كان في ذلك الجيش، وكذا لما عَطشوا دعا الله تعالى فجاءت سحابةٌ فأمطرت، فشرِبوا حتى رووا واحتملوا، ثم وجدوها لم تجاوزِ الجيشَ، في آياتٍ أخر كثيرةٍ احتاجوا إليها في ذلك الوقت.

ولما انتهى إلى هناك لم يلقَ غزوًا، ورأى أن دخولَهم إلى أرض الشام بهذه السنة يشقُّ عليهم، فعزمَ على الرجوع، وصالح صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحنَّة بن رؤبة صاحب أيلة، وبعث خالدًا إلى أُكيدر دُومة، فجيء به فصالحه أيضًا، وردَّه، ثم رجع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،وبعد رجوعه أمر بهدم مسجد الضرار، وكان قد أُخرج من دار خذام بن خالد، وهدمَه بأمرِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مالكُ بن الدخشم أخو بني سالم، أحد رجال بدر، وآخر معه اختُلف فيه، وهو المسجد الذي نهى الله رسوله أن يقوم فيه أبدًا.

وكان رجوعه من هذه الغزاة في رمضان من سنة تسع، وأُنزل فيها عامة سورة التوبة، وعاتب اللهُ عز وجل مَن تخلف عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال عز وجل: ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ﴾ [التوبة:120] الآية، والتي تليها، ثم قال:﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾[التوبة:122]،فبانَ لك من هذا واتضحَ ما اختُلف فيه، وهو أن الطائفةَ النافرة هم الذين يتفقهون في الدين بصحبتهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الغزوة، وإذا رجعُوا أنذروا قومَهم ليحذروا مما تجدَّد بعدهم من الدين، والله سبحانه وتعالى أعلم.

*********************

هذا الفصل في غزوة تبوك ويقال لها :غزوة العسرة، وكانت هذه الغزوة في شهر رجب سنة تسع ،وهي آخر غزوات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.

وقد استُدِل بغزو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ في شهر رجب على جواز القتال في الأشهر الحرم، ولكن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ لم يغزهم حتى بلغه أن الروم يجمعون له ،فالقتال في الأشهر الحرم باقٍ على حرمته، قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[البقرة:217]، (كَبِيرٌ) أي: عظيم. وقال سبحانه:﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ﴾[الْمَائِدَةِ: 2]. وَقد كَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ: الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ، وَلَا يَجُوزُ الْقِتَالُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَيَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ. «تفسير القرطبي»(3/44).

وقال ابنُ القيم رحمه الله في «زاد المعاد» (3/302) عن آية المائدة مؤيدًا القولَ بعدم النسخ : وَهِيَ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا، وَلَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخٌ .

وقال رحمه الله -بعد ذلك عن آيتَي البقرة والمائدة السابِقَتين- : فَهَاتَانِ آيَتَانِ مَدَنِيَّتَانِ بَيْنَهُمَا فِي النُّزُولِ نَحْوُ ثَمَانِيَةِ أَعْوَامٍ، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ نَاسِخٌ لِحُكْمِهِمَا، وَلَا أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى نَسْخِهِ، وَمَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى نَسْخِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾ [التوبة: 36] وَنَحْوِهَا مِنَ الْعُمُومَاتِ، فَقَدِ اسْتَدَلَّ عَلَى النَّسْخِ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ . اهـ المراد.

أما قول السيوطي رحمه الله :

وحَقُّ تَقْوَاهُ فِيمَا صَحَّ من أَثَـــرٍ ** وفي الحَرامِ قِتَالٌ للأُلَى كَفَـــرُوا

فلم يصح للسيوطي رحمه الله شيءٌ في هذا البيت من النسخ .

(وحَقُّ تَقْوَاهُ فِيمَا صَحَّ من أَثَـــرٍ) يشير إلى قول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران:102]. أي: أنها منسوخة ،والصحيح أن الآية مطلقة تقيَّد بالأدلة الأخرى فالمراد اتقوا الله حق تقاته فيما استطعتم، لقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:16]. وقوله: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة:286].

(وفي الحَرامِ قِتَالٌ للأُلَى كَفَـــرُوا) يشير إلى قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة:217].

وهذا قول جمهور العلماء أن النهي منسوخ ،وَأَنَّ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مُبَاحٌ .«تفسير القرطبي»(3/43).



وكان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ لا يغزو في الأشهر الحرم ابتداءً إلا أن يُغْزَى. أخرج الإمامُ أحمد في مسنده (22/ 438 )من طريق لَيْثٍ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ:«لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِلَّا أَنْ يُغْزَى - أَوْ يُغْزَوْا - فَإِذَا حَضَرَ ذَاكَ، أَقَامَ حَتَّى يَنْسَلِخَ».

والحديث حسن . وأبوالزبير وإن كان مدلسا وقد عنعن إلا أنه إذا كان الراوي عنه الليث بن سعد فإنه لا تضر عنعنته . يراجع «جامع التحصيل» .

ودلَّ حديث جابرٍ على جواز قتال المشركين في الشهر الحرام إذا بدأُوا بقتال المسلمين ،وهذا يسمى جهادَ دفعٍ.قال ابن القيم رحمه الله في «زاد المعاد»(3/301):وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِذَا بَدَأَ الْعَدُوُّ، إِنَّمَا الْخِلَافُ أَنْ يُقَاتَلَ فِيهِ ابْتِدَاءً، فَالْجُمْهُورُ جَوَّزُوهُ وَقَالُوا: تَحْرِيمُ الْقِتَالِ فِيهِ مَنْسُوخٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.

وَذَهَبَ عطاء وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّهُ ثَابِتٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، وَكَانَ عطاء يَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا يَحِلُّ الْقِتَالُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَلَا نَسَخَ تَحْرِيمَهُ شَيْءٌ.

وقال ابنُ مفلح في «الفروع»(10/47):وَيَجُوزُ القتال في الشهر الحرام دفعًا إجماعا .اهـ والأشهر الحُرُم:ذو القَعدة وذوالحِجَّة وشهر الله المحرم ورجب .

وسبب هذه الغزوة هو ما تقدم الإشارة إليه أنه بلغ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أن الروم تجمعُ جموعًا من القبائل لحرب المسلمين.

قال الحافظ في «فتح الباري»(تحت رقم4415): وَكَانَ السَّبَبُ فِيهَا مَا ذكره ابن سَعْدٍ وَشَيْخُهُ-أي شيخ ابن سعد وهو محمد بن عمر الواقدي- وَغَيْرُهُ قَالُوا: بَلَغَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الأنباط الَّذين يقدمُونَ بالزيت من الشَّام إلى المدينة أَنَّ الرُّومَ جَمَعَتْ جُمُوعًا ،وَأَجْلَبَتْ مَعَهُمْ لَخْمَ وَجُذَامَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ مُتَنَصِّرَةِ الْعَرَبِ ،وَجَاءَتْ مُقَدِّمَتُهُمْ إِلَى الْبَلْقَاءِ فَنَدَبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَى الْخُرُوجِ وَأَعْلَمَهُمْ بِجِهَةِ غَزَوِهُمْ .اهـ

(ندب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب إلى الجهاد).

أي: رَغَّبَ وحَثَّ على الخروج إليهم.

(وكان لا يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها، إلا غزوته هذه، فإنه صرح لهم بها ليتأهبوا، لشدة عدوهم وكثرته، وذلك حين طابت الثمار، وكان ذلك في سنةٍ مجدبة، فتأهب المسلمون لذلك).

التورية: التعمية، يعني يظهر لهم أنه يريد جهةً ،مثلًا :يسأل عن طريق جهة كذا فيتبادر إلى ذهن السامع أنه يريد تلك الجهة ،ولكنه يريد جهة أخرى، يقول هذا من باب التوريَة، وهذا من حُسنِ السياسة وكتمان السر.

(إلا غزوته هذه، فإنه صرح لهم بها) أي: غزوة تبوك صرح النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ لهم بها.

(ليتأهبوا، لشدة عدوهم وكثرته، وذلك حين طابتِ الثمار، وكان ذلك في سنة مجدبة، فتأهب المسلمون لذلك)

كلامه رحمه الله يشير إلى ما جاء في حديث كعب بن مالك ،وفيه:«غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا، وَمَفَازًا وَعَدُوًّا كَثِيرًا، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ»،هذا هو السبب في تصريح النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ لهم بهذه الغزوة للمصلحة، لأن الطريق بعيدة ،ولصعوبة الأمر وكثرة العدو، ولأنه وقتُ طِيب الثمار، وقد كانوا في سَنةٍ مجدبة أي: سنة قحط، فالنفوس تشتاق للراحة وللبقاء بين الثمار.

(وأنفق عثمان بن عفان رضي الله عنه على هذا الجيش وهو جيش العسرة مالًا جزيلًا فقيل: ألف دينار، وقال بعضهم: إنه حمل على ألف بعير ومائة فرس وجهزها أتم جهاز حتى لم يفقدوا عقالًا وخطامًا، رضي الله عنه)

يشير رحمه الله إلى حديثٍ رواه الترمذي(3701)،وأحمد (34/231) من طريق عَبْدِ اللَّهِ بْنِ القَاسِمِ، عَنْ كَثِيرٍ، مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: جَاءَ عُثْمَانُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلْفِ دِينَارٍ  حِينَ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَنَثَرَهَا فِي حِجْرِهِ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَلِّبُهَا فِي حِجْرِهِ وَيَقُولُ: «مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْمِ مَرَّتَيْنِ».

وهذا إسناد ضعيف ، كثيرٌ قال عنه الحافظ في «تقريب التهذيب»(رقم5626):كثير بن أبي كثير البصري مولى ابن سمرة مقبول .اهـ وأما عبدالله بن القاسم فهو ليس بِهِ بأس قاله يحيى بْن مَعِين كما في «تهذيب الكمال». وللحديث شواهد تقويه من حديث ابْنِ عُمَرَ ،وغيره .

وهذا فيه فضيلة لعثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهَا أَحَدٌ.

وروى الإمام البخاري في «صحيحه» (2778) من طريق أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وهوعبد الله بن حبيب السلمي أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ حُوصِرَ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ، وَلاَ أَنْشُدُ إِلَّا أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَفَرَ رُومَةَ فَلَهُ الجَنَّةُ»؟ فَحَفَرْتُهَا، أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ العُسْرَةِ فَلَهُ الجَنَّةُ»؟ فَجَهَّزْتُهُمْ، قَالَ: فَصَدَّقُوهُ بِمَا قَالَ.

وتجهيز الغُزاة فيه فضلٌ عظيم فهو من الجهاد في سبيل الله. روى البخاري (2843)، ومسلم (1895) عن زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا».

(ونهض صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نحو من ثلاثين ألفًا، واستخلف على المدينة محمد بن مَسْلَمَة ،وقيل: سِبَاع بن عُرْفُطَة، وقيل: علي بن أبي طالب رضي الله عنه)

فيه أن عدد الجيش في غزوة تبوك ثلاثون ألفًا ،وهذا أكبر عدد يشهد مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم القتال، وهذا على أشهر الروايات أنهم ثلاثون. قال النووي في شرح صحيح مسلم (17/99-100)- شرح حديث كعب الطويل الآتي ذِكْرُه-: قَوْلُهُ (وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَاسٍ كَثِيرٍ يَزِيدُونَ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ) هَكَذَا وَقَعَ هُنَا زِيَادَةٌ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ قَدْرَهَا، وَقَدْ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ: كَانُوا سَبْعِينَ أَلْفًا، وقال ابن إِسْحَاقَ: كَانُوا ثَلَاثِينَ أَلْفًا ،وَهَذَا أَشْهَرُ ،وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: بِأَنَّ أَبَا زُرْعَةَ عَدَّ التابع والمتبوع ،وابن إِسْحَاقَ عَدَّ الْمَتْبُوعَ فَقَطْ ،وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

ثم ذكر الحافظ ابن كثيرالذين بقوا في المدينة من الرجال ولم يخرجوا مع النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ وهُم:

1-مَن استخلفهم النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ على المدينة ،وهو محمد بن مسلمة الأنصاري وقيل: سِبَاع بن عُرْفُطَة، واستخلف عليًّا استخلافًا خاصًّا على أهله وذريته، وأنكربعضهم على علي بن أبي طالب تخلفه عن الغزوة فآنسه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ وكلمه بما يدلُّ على أن هذا منقبةٌ له .  روي البخاري (4416) ،ومسلم (2404) عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى تَبُوكَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلِيًّا، فَقَالَ: أَتُخَلِّفُنِي فِي الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ؟ قَالَ: «أَلاَ تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ، مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي»، وهذه منقبة عظيمة لعلي بن أبي طالب ،لكن لا يُستدَل به كما قالت الشيعة أن علي بن أبي طالب أحقُّ بالخلافة من أبي بكر وعمر وعثمان رَضِيَ اللَّهُ عنهم جميعًا،فهذا-أي اعتقاد الشيعة- ضلالٌ مبين .قال شيخ الإسلام في «العقيدة الواسطية»: لَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي يُضَلَّلُ الْمُخَالِفُ فِيهَا: مَسْأَلَةُ الْخِلَافَةِ،وَذَلِكَ بِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ: بِأَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.اهـ فالأحق بالخلافة كترتيبهم في الفضل :أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي بن أبي طالب.

2-وتخلَّف في هذه الغزوة المعذورون من الضعفة، ومن لم يجد له ما يحمله من النفقة ،وهؤلاء معذرون فلهم الأجر .روى البخاري (2839) عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي غَزَاةٍ، فَقَالَ: «إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا، مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلاَ وَادِيًا إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ».

3-(وتخلف منافقون كفرًا وعنادًا وكانوا نحو الثمانين رجلًا).

فيه عددُ المنافقين المتخلفين ،وهذا مأخوذ من حديث كعب بن مالك« فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ المُخَلَّفُونَ، فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا »، ورأس المتخلفين من المنافقين عبدالله بن أُبَي بن سلول.

 4-(وتخلف عصاة مثل: مُرَارَة بن الربيع، وكعب بن مالك، وهلال بن أمية)

قال الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[التوبة:118]،وكان قد تخلَّف أبوخيثمة أيضًا، لكنه أدركته رحمة الله فلحقهم .قال كعب بن مالك«فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ-أي جالس- رَأَى رَجُلًا مُبَيِّضًا يَزُولُ بِهِ السَّرَابُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ» فَإِذَا هُوَ أَبُو خَيْثَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ الَّذِي تَصَدَّقَ بِصَاعِ التَّمْرِ حِينَ لَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ»رواه مسلم. ومما تقدم نعلم أن  الذين تخلَّفوا، إما مستخلَف ،وإما معذور، وإما منافق، وإما بعض من زلَّ وأخطأ.قال ابن القيم رحمه الله في «زاد المعاد»(3/503):لَمْ يَكُنْ يَتَخَلَّفُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَحَدُ رِجَالٍ ثَلَاثَةٍ : إِمَّا مَغْمُوصٌ عَلَيْهِ فِي النِّفَاقِ أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْأَعْذَارِ، أَوْ مَنْ خَلَّفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، أَوْ خَلَّفَهُ لِمَصْلَحَةٍ .اهـ

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «البداية والنهاية»(7/200): كَانَ الْمُتَخَلِّفُونَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ ; مَأْمُورُونَ مَأْجُورُونَ كَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ وَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَمَعْذُورُونَ وَهُمُ الضُّعَفَاءُ وَالْمَرْضَى وَالْمُقِلُّونَ وَهُمُ الْبَكَّاءُونَ، وَعُصَاةٌ مُذْنِبُونَ وَهُمُ الثَّلَاثَةُ وَأَبُو لُبَابَةَ وَأَصْحَابُهُ الْمَذْكُورُونَ، وَآخَرُونَ مَلُومُونَ مَذْمُومُونَ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ.اهـ

(فمنهم البكاؤون): وهؤلاء أشار إليهم القرآن الكريم .قال ربنا سبحانه:﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾[التوبة:91-93]. وسُمُّوا البكَّائين: لأنهم استحملوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَجدوا عِنْده مَا يحملهم عَلَيْهِ، فتَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ الدرر في اختصار المغازي والسير»(239)لابن عبدالبر.

ثم ذكر الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ مرور النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ وصحابتِه رضي الله عنهم بالحِجْر -وهي ديار ثمود-. قال: (فسار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمرَّ في طريقه بالحِجر، فأمرهم أن لا يدخلوا عليهم بيوتهم إلا أن يكونوا باكين، وأن لا يشربوا إلا من بئر الناقة، وما كانوا عجنوا به من غيره يطعموه للإبل. وجازها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقنَّعًا).

وهذا ثابت عند البخاري (4420) ومسلم (2980)، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِ الحِجْرِ: «لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ المُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ». ورواه البخاري (4419) عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالحِجْرِ قَالَ: «لاَ تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ، إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، ثُمَّ قَنَّعَ رَأْسَهُ وَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى أَجَازَ الوَادِيَ».

(ثُمَّ قَنَّعَ رَأْسَهُ) قال القاري رحمه الله في «مرقاة المفاتيح»(8/3200): بِتَشْدِيدِ النُّونِ مُبَالَغَةً مِنَ الْإِقْنَاعِ أَيْ: أَطْرَقَ رَأْسَهُ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ يَمِينًا وَشِمَالًا كَالْخَائِفِ لِئَلَّا يَقَعَ نَظَرُهُ عَلَى مَسَاكِنِهِمْ، أَوْ جَعَلَ قِنَاعَهُ عَلَى رَأْسِهِ شِبْهَ الطَّيْلَسَانِ.اهـ ، وهذا يفيد النهي عن دخول مساكن الظالمين الذين أنزل الله عليهم العقوبة إلا للعبرة والاتعاظ، قال: «إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ»، وفي حديث جابر في حجة النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ عند مسلم (1218)، قال: «حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ، فَحَرَّكَ قَلِيلًا»، ومُحَسِّر: مكان بين منى ومزدلفة أنزل الله فيه عذاب أصحاب الفيل ،فقد قدم أبرهة الحبشي من اليمن لهدم الكعبة بجيش كبير عرمرَمٍ،فلما كانوا بوادي مُحَسِّر امتنع الفيل عن التقدم حبسه الله، منعه الله سبحانه عن التقدُّم، ولهذا لما قال الصحابة في صلح الحديبية: خَلَأَتْ القَصْوَاءُ، خَلَأَتْ القَصْوَاءُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَا خَلَأَتْ القَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الفِيلِ».الله سبحانه منعها عن المشي كما منع الفيل من القدوم لتخريب الكعبة ،وما أراد أحد الكعبة بسوءٍ إلا قصمه الله وأذله ، وقد أنزل الله عزوجل في عقوبة أصحاب الفيل سورة كاملة (سورة الفيل)،وأنزل عليهم بأسه الذي لا يرد ،﴿ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ﴾[الفيل:3]طير مسخرة من عند الله، ﴿ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ[الفيل: 4]، حجارة حامية من نار.

استفدنا مما تقدم أنه لا يجوز دخول أماكن العذاب إلا للعبرة، فلا يجوز الذهاب للنزهة كما قد يفعل بعضهم، لكن للاعتبار لا بأس.

(وأن لا يشربوا إلا من بئر الناقة، وما كانوا عجنوا به من غيره يطعموه للإبل) هذا رواه مسلم (2981)من طريق  نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، أَخْبَرَهُ، أَنَّ النَّاسَ نَزَلُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحِجْرِ - أَرْضِ ثَمُودَ - فَاسْتَقَوْا مِنْ آبَارِهَا، وَعَجَنُوا بِهِ الْعَجِينَ «فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُهَرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا، وَيَعْلِفُوا الْإِبِلَ الْعَجِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَرِدُهَا النَّاقَةُ». ورواه البخاري (3378)عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «لَمَّا نَزَلَ الحِجْرَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، أَمَرَهُمْ أَنْ لاَ يَشْرَبُوا مِنْ بِئْرِهَا، وَلاَ يَسْتَقُوا مِنْهَا» ، فَقَالُوا: قَدْ عَجَنَّا مِنْهَا وَاسْتَقَيْنَا، «فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَطْرَحُوا ذَلِكَ العَجِينَ، وَيُهَرِيقُوا ذَلِكَ المَاءَ»،ورواية البخاري« فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَطْرَحُوا ذَلِكَ العَجِينَ»ظاهره يخالف رواية مسلم« وَيَعْلِفُوا الْإِبِلَ الْعَجِينَ ».قال ابن القيم في «زاد المعاد»(3/466): وَقَدْ حَفِظَ رَاوِيهِ مَا لَمْ يَحْفَظْهُ مَنْ رَوَى الطَّرْحَ .

ثم ذكر ابن كثير بعض معجزات النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ التي وقعت في غزوة تبوك، وما أجرى الله على يد النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ من البركة في تكثير الطعام والماء وغير ذلك.

(وصالح صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحنَّة بن رؤبة صاحب أيلة) يُحنَّة بن رؤبة ،كان نصرانيًّا.

(وبعث خالدًا إلى أُكيدر دومة، فجيء به فصالحه أيضًا، وردَّه)أكيدر دُومة هُوَ أُكَيْدِرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلَكِ الْكِنْدِيُّ أهدى لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هدية حرير. روى الإمام مسلم (2071) عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، أَنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ أَهْدَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوْبَ حَرِيرٍ، فَأَعْطَاهُ عَلِيًّا، فَقَالَ: «شَقِّقْهُ خُمُرًا بَيْنَ الْفَوَاطِمِ» ، وفي رواية له:«بَيْنَ النِّسْوَةِ».قيل :إنه أسلم  ،وهذا ردَّه  ابن الأثير في «أُسْد الغابة»(1/273)وقال: أَهدى لرسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصالحه ولم يُسلم، وهذا لا اختلاف بين أهل السير فيه، ومن قال: إنه أسلم، فقد أخطأ خطأً ظاهرًا، وكان أكيدر نصرانيًا، ولما صالحه النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاد إِلَى حِصنه، وبقي فيه، ثم إن خالدًا أسره لما حصر دومة أيام أَبِي بكر، رضي اللَّه عنه، فقتله مشركًا نصرانيًا .اهـ

وهذا فيه دليلٌ على أن الإمام إذا رأى مصلحة للإسلام والمسلمين في مصالحة الكفار فإنه يصالحهم ويجري لهم الأمان في عدم الاعتداء عليهم وأذاهم، ولا يُعدُّ هذا من موالاة الكفار،وقد تقدم في دروسٍ ماضية عقد المسلمين الصلح مع أهل فدَك ،وفي صلح الحديبية مع كفار قريش ،وقد عقد الإمام البخاري في «صحيحه»بابًا لهذه المسألة(بَابُ الشُّرُوطِ فِي الجِهَادِ وَالمُصَالَحَةِ مَعَ أَهْلِ الحَرْبِ وَكِتَابَةِ الشُّرُوطِ) .

ثم ذكر عند رجوع النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أنه أمر بهدم مسجد الضرار. وهذا يفيد هدم أماكن الضرار التي وُضعت للتفريق والعناد، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ[التوبة:107]، قال ابن القيم رحمه الله في «زاد المعاد»(3/500): وَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ مَسْجِدِ الضِّرَارِ فَمَشَاهِدُ الشِّرْكِ الَّتِي تَدْعُو سَدَنَتُهَا إِلَى اتِّخَاذِ مَنْ فِيهَا أَنْدَادًا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْهَدْمِ وَأَوْجَبُ، وَكَذَلِكَ مَحَالُّ الْمَعَاصِي وَالْفُسُوقِ كَالْحَانَاتِ وَبُيُوتِ الْخَمَّارِينَ وَأَرْبَابِ الْمُنْكَرَاتِ.اهـ

وهذا يفيد إزالة المنكر باليد .قال ابن القيم في «إعلام الموقعين»(3/12):إِنْكَارُ الْمُنْكَرِ أَرْبَعُ دَرَجَاتٍ؛ الْأُولَى: أَنْ يَزُولَ وَيَخْلُفَهُ ضِدُّهُ، الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقِلَّ وَإِنْ لَمْ يَزُلْ بِجُمْلَتِهِ، الثَّالِثَةُ: أَنْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ، الرَّابِعَةُ: أَنْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ؛ فَالدَّرَجَتَانِ الْأُولَيَانِ مَشْرُوعَتَانِ، وَالثَّالِثَةُ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ، وَالرَّابِعَةُ مُحَرَّمَةٌ؛ثم ضرب  رحمه الله بعض الأمثلة للنوع الرابع منها:

إِذَا رَأَيْت الْفُسَّاقَ قَدْ اجْتَمَعُوا عَلَى لَهْوٍ وَلَعِبٍ أَوْ سَمَاعِ مُكَاء وَتَصْدِيَةٍ فَإِنْ نَقَلْتَهُمْ عَنْهُ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ الْمُرَادُ، وَإِلَّا كَانَ تَرْكُهُمْ عَلَى ذَلِكَ خَيْرًا مِنْ أَنْ تُفْرِغَهُمْ لِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ مَا هُمْ فِيهِ شَاغِلًا لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَكَمَا إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُشْتَغِلًا بِكُتُبِ الْمُجُونِ وَنَحْوِهَا وَخِفْت مِنْ نَقْلِهِ عَنْهَا انْتِقَالَهُ إلَى كُتُبِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ وَالسِّحْرِ فَدَعْهُ وَكُتُبَهُ الْأُولَى، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ؛ وَسَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ يَقُولُ: مَرَرْت أَنَا وَبَعْضُ أَصْحَابِي فِي زَمَنِ التَّتَارِ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ مَعِي، فَأَنْكَرْت عَلَيْهِ، وَقُلْت لَهُ: إنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ لِأَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَهَؤُلَاءِ يَصُدُّهُمْ الْخَمْرُ عَنْ قَتْلِ النُّفُوسِ وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ فَدَعْهُمْ.اهـ

وهدمُ أماكن الضرار وإزالة المنكرات باليد كلٌّ بحسَبِهِ .قال الشيخ ابن باز رحمه الله في «مجموع الفتاوى»(6/51): الإنكار يكون باليد في حق من استطاع ذلك كولاة الأمور، والهيئة المختصة بذلك فيما جعل إليها، وأهل الحسبة فيما جعل إليهم، والأمير فيما جعل إليه، والقاضي فيما جعل إليه، والإنسان في بيته مع أولاده وأهل بيته فيما يستطيع.

أما من لا يستطيع ذلك أو إذا غَيَّره بيده يترتب عليه الفتنة والنزاع والمضاربات فإنه لا يغير بيده بل ينكر بلسانه، ويكفيه ذلك لئلا يقعَ بإنكاره باليد ما هو أنكر من المنكر الذي أنكره، كما نصَّ على ذلك أهل العلم. أما هو فحسبه أن ينكر بلسانه. فيقول يا أخي: اتق الله هذا لا يجوز، هذا يجب تركه، هذا يجب فعله، ونحو ذلك من الألفاظ الطيبة والأسلوب الحسن. ثم بعد اللسان القلب يعني: يكره بقلبه المنكر، ويظهر كراهته، ولا يجلس مع أهله، فهذا من إنكاره بالقلب، والله ولي التوفيق.اهـ

ثم ذكر المؤلف ابن كثير رجوعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ في شهر رمضان ، وسورة التوبة أغلبها نزل في غزوة تبوك، وكشف الله فيها فضائح المنافقين.

روى البخاري(4654)عنِ البَرَاءِ بن عازب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: « آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلاَلَةِ﴾ [النساء: 176] وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ ».قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»معلِّقًا على هذا: أَمَّا السُّورَةُ فَالْمُرَادُ بَعْضُهَا أَوْ مُعْظَمُهَا ،وَإِلَّا فَفِيهَا آيَاتٌ كَثِيرَةٌ نَزَلَتْ قَبْلَ سَنَةَ الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ ،وَأَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَوَّلَ بَرَاءَةٍ نَزَلَ عَقِبَ فَتْحِ مَكَّةَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ عَامَ حَجِّ أَبِي بَكْرٍ ،وَقد نزل ﴿الْيَوْم أكملتُ لكم دينَكُمْ﴾، وَهِيَ فِي الْمَائِدَةِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ ،فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مُعْظَمُهَا ،وَلَا شَكَّ أَنَّ غَالِبَهَا نَزَلَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ،وَهِيَ آخِرُ غَزَوَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .اهـ

وجاء أنه عند رجوع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من تبوك ودخوله المدينة خَرَجَ النَّاسُ لِتَلَقِّيهِ، وَخَرَجَ النِّسَاءُ والصبيان  يقولون:

طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا ... مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعِ

وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا ... مَا دَعَا لِلَّهِ دَاعِي

قال ابن القيم رحمه الله في «زاد المعاد»(3/482): وَبَعْضُ الرُّوَاةِ يَهِمُ فِي هَذَا وَيَقُولُ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ مَقْدِمِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ مَكَّةَ، وَهُوَ وَهْمٌ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعِ إِنَّمَا هِيَ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّامِ لَا يَرَاهَا الْقَادِمُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَا يَمُرُّ بِهَا إِلَّا إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى الشَّامِ .اهـ

وهذا لا يصح من حيث هو ،فقد ذكره  الحافظ ابنُ حجر رحمه الله في «فتح الباري» (3925) من طريق عبيدالله بن عائشة  ثم قال :وَهُوَ سَنَدٌ مُعْضَلٌ  .اهـ

وقال الشيخ الألباني في «الضعيفة» (598): هذا الإسناد ضعيف رجاله ثقات، لكنه معضل سقط من إسناده ثلاثة رواة

أو أكثر، فإن ابن عائشة هذا من شيوخ أحمد وقد أرسله،وبذلك أعلَّه الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» (2/244). اهـ

وسمعت والدي رحمه الله يقول: هذا لا يثبتُ  .

ثم ذكرالحافظ ابن كثير رحمه الله قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة:122].

هذه الآية فيها قولان:

- أحدهما :أن الطائفة النافرة للجهاد هي التي تتفقه في دين الله فإذا رجعت تُفَقِهُ الناس في أمورِ دينهم وما تعلَّمته من النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ. وهذا رجحه ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ أن الطائفة النافرة للجهاد هي التي تتفقه في الدين ،لأنه قال:« فبانَ لك من هذا واتضحَ ما اختُلف فيه، وهو: أن الطائفةَ النافرة هم الذين يتفقهون في الدين بصحبتهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الغزوة »أي :من سياق قصة غزوة تبوك  يتبين أن الطائفة النافرة هي التي تتفقه في الدين، لِمَا اشتملت عليه الغزوةُ من العلوم والمواعظ.

- القول الثاني: أن الطائفة التي تتفقه هي الباقية، لأن النافرة مشغولة بالجهاد فإذا رجع المجاهدون استفادوا وتفقهوا من الباقين.قال البغوي رحمه الله في «تفسير هذه الآية» أَيْ: فَهَلَّا خَرَجَ إِلَى الْغَزْوِ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةِ جَمَاعَةٌ ،وَيَبْقَى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ، ﴿لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾ يَعْنِي الْفِرْقَةَ الْقَاعِدِينَ، يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ وَالْفَرَائِضَ وَالْأَحْكَامَ، فَإِذَا رَجَعَتِ السَّرَايَا أَخْبَرُوهُمْ بِمَا أُنْزِلُ بَعْدَهُمْ، فَتَمْكُثُ السَّرَايَا يَتَعَلَّمُونَ مَا نَزَلَ بَعْدَهُمْ، وَتُبْعَثُ سَرَايَا أُخَرُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ﴾ وَلِيُعْلِمُوهُمْ بِالْقُرْآنِ وَيُخَوِّفُوهُمْ بِهِ، ﴿إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ لَا يَعْمَلُونَ بِخِلَافِهِ.اهـ وَهَذَا قَول الأَكثرين، كما سيأتي في كلام ابن القيم رحمه الله.

وقال ابن القيم رحمه الله في «مفتاح دار السعادة»(1/56): وَقد اخْتلف فِي الآية فَقيل: الْمَعْنى أن الْمُؤمنِينَ لم يَكُونُوا لينفروا كلُّهم للتفقه والتعلم ،بل يَنْبَغِي أن ينفر من كلِّ فرقة مِنْهُم طَائِفَة تتفقه تِلْكَ الطَّائِفَة ثمَّ ترجع تعلِّم القاعدين، فَيكون النفيرُ على هَذَا نفير تعلُّم ،والطائفة تقال على الْوَاحِد فَمَا زَاد، قَالُوا فَهُوَ دَلِيلٌ على قبُول خبر الْوَاحِد، وعَلى هَذَا حملهَا الشَّافِعِي وَجَمَاعَة.

 وَقَالَت طَائِفَة أُخرى: الْمَعْنى وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لينفروا إِلَى الْجِهَاد كلُّهم ،بل يَنْبَغِي أَن تنفر طَائِفَةٌ للْجِهَاد وَفِرْقَة تقعد تتفقهُ فِي الدّين، فَإِذا جَاءَت الطَّائِفَة الَّتِي نفرت فقهتها الْقَاعِدَة وعلَّمتها مَا أُنْزِلْ من الدّين والحلال وَالْحرَام، وعَلى هَذَا فَيكون قَوْله: ليتفقهوا ولينذروا للفِرقة الَّتِي نفرت مِنْهَا طَائِفَة ،وَهَذَا قَول الأَكثرين ،وعَلى هَذَا فالنفير نفير جِهَاد على أصله، فَإِنَّهُ حَيْثُ اسْتعْمل إِنَّمَا يُفهم مِنْهُ الْجِهَاد قَالَ الله تَعَالَى: ﴿انفروا خفافا وثقالا وَجَاهدُوا بأموالكم وَأَنْفُسكُمْ﴾ وَقَالَ النَّبِي« لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح وَلَكِن جِهَاد وَنِيَّة وَإِذا استنفرتم فانفروا »،وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوف من هَذِه اللَّفْظَة ،وعَلى الْقَوْلَيْنِ فَهُوَ ترغيب فِي التفقه فِي الدّين وتعلُّمِه وتعليمه، فَإِن ذَلِك يعدل الْجِهَاد ،بل رُبمَا يكون أَفضل مِنْهُ .اهـ .
ويستفادُ من كلام ابن القيم أنَّ ثَمَّ قولًا آخر في الآية ،وهو الحث على الرحلة في طلب العلم ،وأن النفير نفير علم، قال الشوكاني رحمه الله في «فتح القدير»(2/474):ذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ مِنْ بَقِيَّةِ أَحْكَامِ الْجِهَادِ، وَهِيَ:حُكْمٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْخُرُوجِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ، وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، جَعَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَّصِلًا بِمَا دَلَّ عَلَى إِيجَابِ الْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ، فَيَكُونُ السَّفَرُ نَوْعَيْنِ: الْأَوَّلُ: سَفَرُ الْجِهَادِ، وَالثَّانِي: السَّفَرُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ..

ونذكر حديث كعب بن مالك في قصة غزوة تبوك لما فيه من الفوائد والمواعظ والآداب،نفعنا الله بذلك.

*********************

أخرج البخاري (4418)، ومسلم (2769)، عَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَ، قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ، حِينَ عَمِيَ، قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ قِصَّةِ، تَبُوكَ، قَالَ كَعْبٌ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ، حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ العَقَبَةِ، حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإِسْلاَمِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ، أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا، كَانَ مِنْ خَبَرِي: أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ، فِي تِلْكَ الغَزَاةِ، وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ، حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الغَزْوَةِ، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا، حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الغَزْوَةُ، غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا، وَمَفَازًا وَعَدُوًّا كَثِيرًا، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ، وَالمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرٌ، وَلاَ يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ، يُرِيدُ الدِّيوَانَ، قَالَ كَعْبٌ: فَمَا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلَّا ظَنَّ أَنْ سَيَخْفَى لَهُ، مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيُ اللَّهِ، وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلاَلُ، وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالمُسْلِمُونَ مَعَهُ، فَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ، فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أَنَا قَادِرٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الجِدُّ، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئًا، فَقُلْتُ أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ، فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لِأَتَجَهَّزَ، فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، ثُمَّ غَدَوْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الغَزْوُ، وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ، وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ، فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ، فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطُفْتُ فِيهِمْ، أَحْزَنَنِي أَنِّي لاَ أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ، أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ: وَهُوَ جَالِسٌ فِي القَوْمِ بِتَبُوكَ: «مَا فَعَلَ كَعْبٌ» فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ، وَنَظَرُهُ فِي عِطْفِهِ، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّهُ تَوَجَّهَ قَافِلًا حَضَرَنِي هَمِّي، وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الكَذِبَ، وَأَقُولُ: بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا، وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي، فَلَمَّا قِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي البَاطِلُ، وَعَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا بِشَيْءٍ فِيهِ كَذِبٌ، فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ، وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَادِمًا، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ، فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ المُخَلَّفُونَ، فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا، فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلاَنِيَتَهُمْ، وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَجِئْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ: «تَعَالَ» فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي: «مَا خَلَّفَكَ، أَلَمْ تَكُنْ قَدْ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ». فَقُلْتُ: بَلَى، إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ، لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ اليَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي، لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ، تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ، إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ، لاَ وَاللَّهِ، مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى، وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ». فَقُمْتُ، وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِي، فَقَالُوا لِي: وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا، وَلَقَدْ عَجَزْتَ أَنْ لاَ تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ المُتَخَلِّفُونَ، قَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَ، فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي، ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، رَجُلاَنِ، قَالاَ مِثْلَ مَا قُلْتَ، فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ، فَقُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ العَمْرِيُّ، وَهِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةَ الوَاقِفِيُّ، فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ، قَدْ شَهِدَا بَدْرًا، فِيهِمَا أُسْوَةٌ، فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُسْلِمِينَ عَنْ كَلاَمِنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، وَتَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي الأَرْضُ فَمَا هِيَ الَّتِي أَعْرِفُ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ، وَأَمَّا أَنَا، فَكُنْتُ أَشَبَّ القَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلاَةَ مَعَ المُسْلِمِينَ، وَأَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ وَلاَ يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلاَمِ عَلَيَّ أَمْ لاَ؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ، فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلاَتِي أَقْبَلَ إِلَيَّ، وَإِذَا التَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ النَّاسِ، مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلاَمَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ، فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَفَاضَتْ عَيْنَايَ، وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الجِدَارَ، قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ المَدِينَةِ، إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ أَنْبَاطِ أَهْلِ الشَّأْمِ، مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ، يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ، فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ، وَلاَ مَضْيَعَةٍ، فَالحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ، فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأْتُهَا: وَهَذَا أَيْضًا مِنَ البَلاَءِ، فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُ بِهَا، حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنَ الخَمْسِينَ، إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِينِي، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ، فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا؟ أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ قَالَ: لاَ، بَلِ اعْتَزِلْهَا وَلاَ تَقْرَبْهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي: الحَقِي بِأَهْلِكِ، فَتَكُونِي عِنْدَهُمْ، حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الأَمْرِ، قَالَ كَعْبٌ: فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلاَلِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ هِلاَلَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ، لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ؟ قَالَ: «لاَ، وَلَكِنْ لاَ يَقْرَبْكِ». قَالَتْ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ، وَاللَّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا، فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَتِكَ كَمَا أَذِنَ لِامْرَأَةِ هِلاَلِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ؟ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لاَ أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا يُدْرِينِي مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا، وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ؟ فَلَبِثْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ، حَتَّى كَمَلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلاَمِنَا، فَلَمَّا صَلَّيْتُ صَلاَةَ الفَجْرِ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، وَأَنَا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ، قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي، وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ، أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ، قَالَ: فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ، وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاَةَ الفَجْرِ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، وَرَكَضَ إِلَيَّ رَجُلٌ فَرَسًا، وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ، فَأَوْفَى عَلَى الجَبَلِ، وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الفَرَسِ، فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي، نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ، فَكَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا، بِبُشْرَاهُ وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا، وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا، يُهَنُّونِي بِالتَّوْبَةِ، يَقُولُونَ: لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ، قَالَ كَعْبٌ: حَتَّى دَخَلْتُ المَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّانِي، وَاللَّهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ غَيْرَهُ، وَلاَ أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ، قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ: «أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ»، قَالَ: قُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: «لاَ، بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ». وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ». قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا نَجَّانِي بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لاَ أُحَدِّثَ إِلَّا صِدْقًا، مَا بَقِيتُ. فَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ المُسْلِمِينَ أَبْلاَهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلاَنِي، مَا تَعَمَّدْتُ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِبًا، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيمَا بَقِيتُ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ﴾ [التوبة:117] إِلَى قَوْلِهِ ﴿وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة:119] فَوَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطُّ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي لِلْإِسْلاَمِ، أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ لاَ أَكُونَ كَذَبْتُهُ، فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا - حِينَ أَنْزَلَ الوَحْيَ - شَرَّ مَا قَالَ لِأَحَدٍ، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ﴾ [التوبة:95] إِلَى قَوْلِهِ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ القَوْمِ الفَاسِقِينَ﴾ [التوبة:96]، قَالَ كَعْبٌ: وَكُنَّا تَخَلَّفْنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَلَفُوا لَهُ، فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَنَا حَتَّى قَضَى اللَّهُ فِيهِ، فَبِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ: ﴿وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ [التوبة:118]. وَلَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ مِمَّا خُلِّفْنَا عَنِ الغَزْوِ، إِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا، وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا، عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْهُ.

*********************

هذا الحديث العظيم نذكرُ قليلًا من فوائده للاستفادة .

من فوائد الحديث:

- يستفاد منه وجوب النفير للجهاد إذا استنفر الإمام الناس .روى البخاري (2783)، ومسلم (1353)، من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا».

وهذا أحد المواضع التي يجب الجهاد فيها وجوبًا عينيًّا على كل قادرٍ من الرجال. الثاني: إذا هجم على البلاد عدوٌّ وجب عليهم دفعه، فإن لم يستطيعوا وجب على إخوانهم المسلمين معاونتهم، الثالث: عند التحام القتال كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التوبة:16].

هذه ثلاث مواضع يذكرها أهل العلم يجب فيها الجهاد وجوبًا عينيًّا.

- ذكر الشخص قصته التي حدثت له وإن كان فيها لوم عليه للمصلحة وللعبرة والتعليم ،فكعب بن مالك ساقَ قصته للاستفادة،والتحذير من المعصية والنفاق ،والحث على لزوم الصدق والآداب. وليس فيه دليل لإيراد قَصص التائبين كما يفعل بعضهم، يشغلون الناس عن الكتاب والسنة بذكر قصص التائبين، والكثير منها الله أعلم بصحتها ،وبعضها لا يجوز ذكرها أصلًا لأنها قد تُجرئ بعض الطائشين على الفعل نفسِه كالزنا، وشرب الخمر، ولكن حسب المصلحة والحاجة ،ومع تحرِّي الأشياء الثابتة .قال الإمام أحمد رَحِمَهُ اللَّهُ: «وَمَا أَحْوَجَ النَّاسَ إلَى قَاصٍّ صَدُوقٍ» كما في تلبيس إبليس ص(111) لابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ.

(وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلاَلُ، وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالمُسْلِمُونَ مَعَهُ، فَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ، فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أَنَا قَادِرٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الجِدُّ، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئًا، فَقُلْتُ أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ، فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لِأَتَجَهَّزَ، فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، ثُمَّ غَدَوْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الغَزْوُ، وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ، وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ، فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ)

- يستفاد ترك التسويف في العمل الصالح وأنه ينبغي العزم والجد، فالتسويف مُضِر وللتأخير آفات.

- قوله: «وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ»، هذا فيه التحسر على فوات الخير.

- «فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ» فيه جوازالاحتجاجُ بالقدر بعد التوبة من الذنب،أما احتجاج العاصي بالقدر فهذا باطل لا يجوز، فقد أرسل الله سبحانه الرسل مبشرين ومنذرين لإقامة الحجة، قال تَعَالَى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا[النساء:165]، لكن بعد التوبة لا بأس به.

ومن هذا الباب على أحد الأقوال ما أخرج البخاري (6614)،ومسلم (2652) عن أبي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الجَنَّةِ، قَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلاَمِهِ، وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى  ثَلاَثًا.

قال شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى»(11/259)-في الجواب عن محاجة آدم وموسى عليهما الصلاة والسلام-: لَكِنَّ وَجْهَ الْحَدِيثِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَلُمْ أَبَاهُ إلَّا لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ مِنْ أَجْلِ أَكْلِهِ مِنْ الشَّجَرَةِ فَقَالَ لَهُ: لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ؟ لَمْ يَلُمْهُ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ أَذْنَبَ ذَنْبًا وَتَابَ مِنْهُ؛ فَإِنَّ مُوسَى يَعْلَمُ أَنَّ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ لَا يُلَامُ وَهُوَ قَدْ تَابَ مِنْهُ أَيْضًا وَلَوْ كَانَ آدَمَ يَعْتَقِدُ رَفْعَ الْمَلَامِ عَنْهُ لِأَجْلِ الْقَدَرِ لَمْ يَقُلْ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} اهـ المراد.

وقد ذكر نحو هذا الجواب ابن القيم رحمه الله في «شفاء العليل»(18)عن شيخه ابن تيمية ،ثم قال:وقد يتوجه جوابٌ آخر ،وهو أن الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضر في موضع ،فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه وترك معاودته، كما فعل آدم فيكون في ذكر القدر إذ ذاك من التوحيد ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذاكر والسامع، لأنه لا يدفع بالقدر أمرًا ولا نهيا ،ولا يبطل به شريعة ،بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءة من الحول والقوة، يوضحه :أن آدم قال لموسى ،أتلومني على أن عملت عملا كان مكتوبا علي قبل أن أخلق ،فإذا أذنب الرجل ذنبا ثم تاب منه توبة ،وزال أمره حتى كأن لم يكن، فأنَّبه مؤنب عليه ولامه ،حسُن منه أن يحتج بالقدر بعد ذلك ويقول :هذا أمر كان قد قُدر عليّ قبل أن أخلق ،فإنه لم يدفع بالقدر حقًّا ،ولا ذكره حجة له على باطل، ولا محذور في الاحتجاج به، وأما الموضع الذي يضر الاحتجاج به ففي الحال والمستقبل، بأن يرتكب فعلًا محرما أو يترك واجبا، فيلومه عليه لائم ،فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره ،فيبطل بالاحتجاج به حقًّا ويرتكب باطلا كما احتج به المصرُّون على شركهم وعبادتهم غير الله .اهـ

 (فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطُفْتُ فِيهِمْ، أَحْزَنَنِي أَنِّي لاَ أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ، أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ: وَهُوَ جَالِسٌ فِي القَوْمِ بِتَبُوكَ: «مَا فَعَلَ كَعْبٌ» فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ، وَنَظَرُهُ فِي عِطْفِهِ، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّهُ تَوَجَّهَ قَافِلًا حَضَرَنِي هَمِّي، وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الكَذِبَ، وَأَقُولُ: بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا، وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي)

- فيه الابتعاد عن مواضع التُّهَم فقد أسيء الظن بكعب بن مالك لتخلفه عن الغزوة، فلهذا يقول رجلٌ من بني سَلِمة: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ، وَنَظَرُهُ فِي عِطْفِهِ) قاله حميةً لله ولرسوله.

- (فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا) فيه الرد على المغتاب وهذا من حق المسلم على أخيه المسلم أنه إذا سمع غيبة صاحبه ومن فيه خير أن يرد غِيبتَه وينكر ذلك.

- (وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي) هذا فيه مشاورة ذوي الرأي والخبرة والبصيرة.

(فَلَمَّا قِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي البَاطِلُ، وَعَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا بِشَيْءٍ فِيهِ كَذِبٌ، فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ، وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَادِمًا، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ، فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ المُخَلَّفُونَ، فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا، فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلاَنِيَتَهُمْ، وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَجِئْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغْضَبِ)

- نستفيد أن القادم من السفر يبدأ بالمسجد قبل أن يدخل بيته فيركع فيه ركعتين.

- وفيه جلوس الإمام وكبير القدر للناس بعد أن يصلي في المسجد.

- شؤم النفاق والكذب وأن من صفات المنافقين الأيمان الكاذبة، قال تعالى: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [التوبة:95].

- فيه الأخذ بالظاهر والسرائر يتولاها الله سبحانه.

- وفيه أن التبسم قد يكون عن غضب كما يكون عن سرور وفرح.

(ثُمَّ قَالَ: «تَعَالَ» فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي: «مَا خَلَّفَكَ، أَلَمْ تَكُنْ قَدْ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ». فَقُلْتُ: بَلَى، إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ، لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ اليَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي، لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ، تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ، إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ، لاَ وَاللَّهِ، مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى، وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ»)

- نستفيد التربية على الصدق، الصدق نجاة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [المائدة:119]، الصدق قد يكون فيه مرارة على النفس لكن عواقبه حميدة وثماره جليلة.

الصِّدْقُ حُلْوٌ وَهُوَ الْمُرُّ  ***  وَالصِّدْقُ لا يَتْرُكُهُ الْحُرُّ

جَوْهَرَةُ الصِّدْقِ لَهَا زِينَةٌ  ***  يَحْسُدُهَا الْيَاقُوتُ وَالدُّرُّ

والجزاء من جنس العمل، مَن صدق صدق الله معه.روى النسائي في «سننه» (1953) عَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ رضي الله عنه الحديث وفيه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:«إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ» وهو في «الصحيح المسند» لوالدي الشيخ مقبل رَحِمَهُ اللَّهُ (474).

- وفيه حسن الظن بالله سبحانه، ورجاء عفوه ومغفرته، «إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ».

- وفيه توفيق الله سبحانه لكعب وصاحبيه وتثبيته لهم وهذا من مناقبهم.

- قَالَ: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ» هذا فيه تزكية النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ لكعب بن مالك.

(فَقُمْتُ، وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِي، فَقَالُوا لِي: وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا، وَلَقَدْ عَجَزْتَ أَنْ لاَ تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ المُتَخَلِّفُونَ، قَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَ، فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي، ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، رَجُلاَنِ، قَالاَ مِثْلَ مَا قُلْتَ، فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ، فَقُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ العَمْرِيُّ، وَهِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةَ الوَاقِفِيُّ، فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ، قَدْ شَهِدَا بَدْرًا، فِيهِمَا أُسْوَةٌ، فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي)

- نستفيد تربية النفس على الثبات وعدم الإصغاء إلى من يزين الباطل، وهذا واضح فقد كان هنا محاولة شديدة لكعب بن مالك أن يرجع ويُكَذِّبُ نفسه ويعتذر بما اعتذر به المنافقون.

- وفيه التأسي بالنظير من أهل الفضل .فقد سأل كعب: «هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، رَجُلاَنِ، قَالاَ مِثْلَ مَا قُلْتَ، فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ» فتأسى بهما كعب بن مالك.

 أما قوله: «قَدْ شَهِدَا بَدْرًا» هذا عُدَّ من أوهام الزهري  .قال ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ في «زاد المعاد» (3/ 505- 506): هَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا عُدَّ مِنْ أَوْهَامِ الزُّهْرِيِّ، فَإِنَّهُ لَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَغَازِي وَالسِّيَرِ الْبَتَّةَ ذِكْرُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فِي أَهْلِ بَدْرٍ، لَا ابْنُ إِسْحَاقَ، وَلَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَلَا الأموي، وَلَا الْوَاقِدِيُّ، وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ عَدَّ أَهْلَ بَدْرٍ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَلَّا يَكُونَا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَهْجُرْ حاطبا، وَلَا عَاقَبَهُ وَقَدْ جَسَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ لعمر لَمَّا هَمَّ بِقَتْلِهِ: «وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»، وَأَيْنَ ذَنْبُ التَّخَلُّفِ مِنْ ذَنْبِ الْجَسِّ.

قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى كَشْفِ ذَلِكَ وَتَحْقِيقِهِ حَتَّى رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ الْأَثْرَمَ قَدْ ذَكَرَ الزُّهْرِيَّ، وَذَكَرَ فَضْلَهُ وَحِفْظَهُ وَإِتْقَانَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُحْفَظُ عَلَيْهِ غَلَطٌ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّ مرارة بن الربيع، وهلال بن أمية شَهِدَا بَدْرًا، وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ، وَالْغَلَطُ لَا يُعْصَمُ مِنْهُ إِنْسَانٌ. اهـ.

(وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُسْلِمِينَ عَنْ كَلاَمِنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، وَتَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي الأَرْضُ فَمَا هِيَ الَّتِي أَعْرِفُ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ، وَأَمَّا أَنَا، فَكُنْتُ أَشَبَّ القَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلاَةَ مَعَ المُسْلِمِينَ، وَأَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ وَلاَ يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلاَمِ عَلَيَّ أَمْ لاَ؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ، فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلاَتِي أَقْبَلَ إِلَيَّ، وَإِذَا التَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي)

- فيه شدة البلاء الذي حصل لهؤلاء الثلاثة، ولهذا كعب بن مالك يقول: (وَتَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي الأَرْضُ فَمَا هِيَ الَّتِي أَعْرِفُ) تنكرت  أرضُ المدينة كأنها بلد أخرى، و ضاقت أنفسهم فصارتْ لا تتحملهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت أي: بما وسعت، الرحب: السعة.

- وفيه جواز التخلف عن صلاة الجماعة للمهجور إذا كان لا يتحمل الحال ولهذا تخلف هلال ومرارة عن صلاة الجماعة ولم ينكر عليهما النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.

- وفيه هجر العاصي لغرض شرعي، وباب الهجر مُضيَّق؛ لأن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ يقول:«لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» رواه البخاري (6077) ومسلم (2560).

والذين هجرهم النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ معدودون على الأصابع فالعاصي لا يُهجر إلا لمصلحة دينية إذا كان يؤثر فيه الهجر فيتوب من معصيته، أو يخفف من شره ،أما إذا كان لا يبالي بمن هجره أو يزيده الهجر عتوًا ونفورًا فهذا لا يهجر، ذكر مضمون هذا والدي الشيخ مقبل الوادعي رَحِمَهُ اللَّهُ، وهكذا ابن عثيمين في «شرح رياض الصالحين».

المبتدع  يهجَر هذا عليه اتفاق السلف .قال شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى»(24/292): وَمَنْ كَانَ مُبْتَدِعًا ظَاهِرَ الْبِدْعَةِ وَجَبَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ ،وَمِنْ الْإِنْكَارِ الْمَشْرُوعِ أَنْ يُهْجَرَ حَتَّى يَتُوبَ ،وَمِنْ الْهَجْرِ امْتِنَاعُ أَهْلِ الدِّينِ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، لِيَنْزَجِرَ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِطَرِيقَتِهِ وَيَدْعُو إلَيْهِ ،وَقَدْ أَمَرَ بِمِثْلِ هَذَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ ،وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.اهـ

عوام أهل البدع الجهال الذين لا يعرفون الدين ،هؤلاء لا يهجرون لمصلحتهم ومن أجل دعوتهم .

قال الشيخ ربيع حفظه الله في « مجموع كتب ورسائل وفتاوى فضيلة الشيخ العلامة ربيع بن هادي عمير المدخلي »(2/351): إنَّ أهل البدع الآن كثير يملئون الأرض والعياذ بالله! فنحن لا نهجر الجميعَ إنما هم محل دعوتنا، ندعوهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأما الرؤس المدَبِّرة والدعاة إلى الباطل في صحُفهم ومجلاتهم وكتبهم وأشرطتهم ومحاضراتهم وندواتهم ومواقعهم، هؤلاء يحارَبون ويُحذر منهم ولا يجالَسون ولا يقرأ لهم ولا يستفاد منهم.

وعوامُهم المساكين المخدوعون هؤلاء ندعوهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وهذا الكلام يؤيِّده كلامُ كثير من أئمة السنة ومعاملتهم، أنهم يدعون العوام إلى الله تبارك وتعالى ولا يهجُرونهم كما يهجرون أئمةَ السوء وأئمة الشر وأئمة الضلال.

افهموا هذا!؛ حتى لا يفهم بعضُكم أن كل من وقع في بدعة بُتَّ هجره لا كلام معه ولا دعوة ولا شيء! لا، الدعوة قائمة حتى للكفار ولليهود والنصارى، والدعوة قائمة لأهل البدع أيضا ،لكن لا يَتميع الإنسان فيذهب يداخلهم ويأنس إليهم حتى يضيع، تُخلص لله عز وجل وتحاول إنقاذ هذا الذي وقع في الضلال بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرض الجيد المقرون بالحجة والبرهان، فإن هذا سبب من أسباب الهداية، وقد حصل به هداية الكثير في كثير من البلدان.

جاء الإمام محمد بن عبدالوهاب والدنيا مظلمة فجاهد بالدعوة إلى الله تبارك وتعالى وهدى الله على يديه الكثير، كانوا قبوريين وخرافيين وضالين واهتدوا على يديه، وشيخ الإسلام ابن تيمية كذلك، وأئمة الدعوة في الهند من السلفيين؛ جاءوا والدنيا مظلمة ونشروا هذه الدعوة فاستجاب لهم الملايين، قال تعالى:﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل:125]اهـ.

 (حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ النَّاسِ، مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلاَمَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ، فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَفَاضَتْ عَيْنَايَ، وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الجِدَارَ)

- فيه امتثال الصحابة لأمر النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، أبو قتادة من أقارب كعب بن مالك وبينهما المودة لكنه مع ذلك لم يكلم كعب بن مالك، وهذا يفيد الحب في الله والبغض في الله.

(قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ المَدِينَةِ، إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ أَنْبَاطِ أَهْلِ الشَّأْمِ) قال النووي في شرح صحيح مسلم (16/ 167): قَوْلُهُ (أُنَاسٍ مِنَ الْأَنْبَاطِ) هُمْ فَلَّاحُو الْعَجَمِ اهـ.

(قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ المَدِينَةِ، إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ أَنْبَاطِ أَهْلِ الشَّأْمِ، مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ، يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ، فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ، وَلاَ مَضْيَعَةٍ، فَالحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ، فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأْتُهَا: وَهَذَا أَيْضًا مِنَ البَلاَءِ، فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُ بِهَا، حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنَ الخَمْسِينَ، إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِينِي، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ)

- فيه جواز التعامل مع الكفار بالبيع والشراء.

- وفيه أن أخبار المسلمين قد تشاع فتصل إلى الأعداء ،وخاصة الآن في أزمنتنا مع وسائل الإعلام.

- وفيه ثبات كعب بن مالك وقوته في دين الله مع ضعف حالته وشدة أمره ولكنه ثبت ولم يُصغِ لكلام أحدٍ فكان هذا من مناقبه.

-إحراق الرسائل التي يُخشى من بقائها تأثُّر النفس ،فكعب بن مالك بادر إلى إحراق الرسالة لأنه قد يقرأُها فيما بعد ،وهذا لا يُؤمَن فيه على النفس.

- قوله (فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي: الحَقِي بِأَهْلِكِ، فَتَكُونِي عِنْدَهُمْ، حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الأَمْرِ) فيه أن قول الرجل لامرأته الحقي بأهلك ليس بطلاق إلا إذا نوى، النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» رواه البخاري (1)، ومسلم (1907)عن عمر. فهذه العبارة«الحَقِي بِأَهْلِكِ» من ألفاظ الكناية إذا نوى الطلاق يقع، وإذا لم ينو لم يقع.

- (فإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ) فيه الكناية في ألفاظ الاستمتاع.

- وفيه رفع الصوت للحاجة كعب بن مالك يقول: (سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ) أما عند عدم الحاجة فليس من الآداب، قال تعالى: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [لقمان:19].

- (فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ) فيه سجود الشكر لمن تجددت له نعمة وهذا مستحب.

- وفيه الفرج بعد الشدة، هؤلاء الثلاثة مرَّ عليهم خمسون ليلة وهم في ضيق وكرب ثم جاء الفرج لصدقهم وثباتهم ،والله عَزَّ وَجَلَّ يقول: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح:5-6]. الشاعر يقول:

عَسَى الْكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتَ فِيْهِ  ***  يَكُوْنُ وَرَاءَهُ فَـــرَجٌ قَـــــرِيْبُ

- (فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ) فيه استحباب البشارة بالخير.

- وفيه فرح الصحابة وسرورهم بتوبة الله على هؤلاء الثلاثة ولهذا ذهب أناس يبشرونهم فلم يكونوا يحسدون أو يشمتون.

- (لَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي، نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ، فَكَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا، بِبُشْرَاهُ)فيه الهدية للبشير والمكافأة ولو بالدعاء.

- وفيه المصافحة عند اللقاء مأخوذ من قوله: (فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّانِي) وهذا من مكفرات الذنوب يقول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ، إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا» أخرجه أبو داود في سننه (5212) من حديث البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .

- وفيه عدم نسيان المعروف، كعب يقول: (وَلاَ أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ).

- هذا الحديث من شمائل النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ وصفاته الكريمة أن السرور يظهر في وجهه...

- وفيه فضيلة التوبة مأخوذ من «أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ».

- يستفاد أن من نذر بماله كله لا يلزمه أن يخرجه كله، مأخوذ من قول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ».

- وفي قوله: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِ اللَّهِ) فيه استحباب الصدقة للتائب من الذنب.

- وفيه تفسير كعب بن مالك لقوله سبحانه: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [التوبة:118]، أنه ليس المراد التخلف عن الغزو، قال: (إِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا، وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا، عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْهُ) هذا هو المراد بقوله: ﴿خُلِّفُوا﴾ أي: خلفوا عن الحلف والكذب، وأُرجئ أمرهم: أُخِّر أمرهم.

وهذا دليلٌ على أن السيرة فيها عون كبير على فهم كلام الله عَزَّ وَجَلَّ،لأن لها علاقة قوية بعلم التفسير.