جديد المدونة

جديد الرسائل

الخميس، 3 مارس 2016

الدرس السادس عشر من كتاب التوحيد من صحيح البخاري 23/من جمتدى الأُولى 1437.



بسم الله الرحمن الرحيم
قال الإمامُ البخاري رحمه الله 
بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28]. وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة: 116].
7403 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ، وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ المَدْحُ مِنَ اللَّهِ».
********************
(حَدَّثَنَا أَبِي)
حفص بن غياث
(حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ)
الأعمش: سليمان بن مهران أبو محمد الكوفي. كان الأغنياء أحقر ما يكون في مجلسه. وقد تقدم معنا شيءٌ عنه، وأنه كان فقيرًا صبورًا زاهدًا، وأنه كان عسرًا في الحديث.
وأخرج عبدالله بن أحمد في «زوائد العلل» (2/2549) من طريق أبي خالدٍ الأحمر قال: كنَّا عند الأعمش فسألوه عن حديث، فقال لابن المختار: ترى أحدًا من أصحاب الحديث؟ فغمض عينه، قال: ما أرى أحدًا يا أبا محمد فحدث به.
هذا أثر حسن من أجل أبي خالد الأحمر فإنه حسن الحديث .
وأخرجه البغوي في «زوائد الجعديات» (801) سندًا ومتنًا.
وقوله ( لم أر أحدًا) هذا من المعاريض  استعملها  ذلك الطالب  ليأخذ الحديث .
ومن الآثار الثابتة عنه ما أخرج الخطيب في شرف أصحاب الحديث: أنه مَرَّ رَجُلٌ بِالْأَعْمَشِ، وَهُوَ يُحَدِّثُ، فَقَالَ لَهُ: تُحَدِّثُ هَؤُلَاءِ الصِّبْيَانَ؟ فَقَالَ الْأَعْمَشُ: «هَؤُلَاءِ الصِّبْيَانُ يَحْفَظُونَ عَلَيْكَ دِينَكَ». وهذا من الاهتمام بتعليم الصغار وأنهم يحفظ الله بهم الدين.
ومن آثار الأعمش الثابتة ما ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا [الجن:11]: من طريق  أَبي مُعَاوِيَةَ قَالَ: سمعتُ الْأَعْمَشَ يَقُولُ: تَرَوَّحَ إِلَيْنَا جِنِّيٌّ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيْكُمْ؟ فَقَالَ الْأُرْزَ. قَالَ: فَأَتَيْنَاهُمْ بِهِ، فَجَعَلْتُ أَرَى اللُّقَمَ تُرْفَعُ وَلَا أَرَى أَحَدًا. فَقُلْتُ: فِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ الَّتِي فِينَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا الرَّافِضَةُ فِيكُمْ؟ قَالَ: شَرُّنَا.
(عَنْ شَقِيقٍ)
شقيق بن سلمة أبو وائل ، تقدم أن الحافظ رحمه الله تعالى قال عنه: مشهور بكنيته واسمه.
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ)
أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود بن غافل، عرفناه بتلميذه، وإلا فهناك عبادلة غيره يروون عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
- الحديث ليس فيه التصريح بموضع الشاهد ولكن فيه إشارة إلى ما جاء في بعض طرق الحديث  (فَلِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ)وهو عند البخاري (4624) ومسلم (2760). وقد نبَّه على ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله في الشرح فبعد أن ذكر ما وقع من الاستشكال لبعضهم في ذكر الحديث تحت هذا الباب الذي معنا في إثبات صفة النفس لله عزوجل قال: ( وَكُلُّ هَذَا غَفْلَةٌ عَنْ مُرَادِ الْبُخَارِيِّ فَإِنَّ ذِكْرَ النَّفْسِ ثَابِتٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدَهُ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقَعْ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ لَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ كَعَادَتِهِ فَقَدْ أَوْرَدَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ بِلَفْظِ لَا شَيْءَ وَفِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ بِلَفْظِ وَلَا أَحَدَ ثُمَّ اتَّفَقَا عَلَى أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ وَلِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الْمُطَابِقُ لِلتَّرْجَمَةِ وَقَدْ كَثُرَ مِنْهُ أَنْ يُتَرْجِمَ بِبَعْضِ مَا وَرَدَ فِي طُرُقِ الْحَدِيثِ الَّذِي يُورِدُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْقَدْرُ مَوْجُودًا فِي تِلْكَ التَّرْجَمَةِ) .اهـ.
وقد حيَّر بعض تراجم الإمام البخاري رحمه الله بعض العلماء. وجزى الله الحافظ ابن حجر رحمه الله خيرًا على هذا الشرح العظيم وعلى حلِّه وفكِّه للإشكالات . ويقول الشيخ الوالدمقبل  رحمه الله: إن الحافظ بن حجر وضع نفسه موضع المدافع عن صحيح البخاري .
في هذا الحديث من الفوائد:
- إثبات صفة الغيرة لله عز وجل، وسيأتي لهذه الصفة باب مستقل عند البخاري إن شاء الله بعد أربعة أبواب.
- وقوله (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ) أي: من أجل غيرة الله حرم الفواحش وفي الصحيحين البخاري (7416) مسلم (1499) عَنِ المُغِيرَةِ، قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، وَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي، وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلاَ أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ العُذْرُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ المُبَشِّرِينَ وَالمُنْذِرِينَ، وَلاَ أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ المِدْحَةُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللَّهُ الجَنَّةَ».
وفي الجمع بين الغيرة والعذرفي هذا الحديث فائدة ذكرها ابن القيم رحمه الله في الجواب الكافي (67) وقال:فَجَمَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيْنَ الْغَيْرَةِ الَّتِي أَصْلُهَا كَرَاهَةُ الْقَبَائِحِ وَبُغْضُهَا، وَبَيْنَ مَحَبَّةِ الْعُذْرِ الَّذِي يُوجِبُ كَمَالَ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ - مَعَ شِدَّةِ غَيْرَتِهِ - يُحِبُّ أَنْ يَعْتَذِرَ إِلَيْهِ عَبْدُهُ، وَيَقْبَلُ عُذْرَ مَنِ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ عَبِيدَهُ بِارْتِكَابِ مَا يَغَارُ مِنَ ارْتِكَابِهِ حَتَّى يَعْذُرَ إِلَيْهِمْ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ إِعْذَارًا وَإِنْذَارًا، وَهَذَا غَايَةُ الْمَجْدِ وَالْإِحْسَانِ، وَنِهَايَةُ الْكَمَالِ.
فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ تَشْتَدُّ غَيْرَتُهُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ تَحْمِلُهُ شِدَّةُ الْغَيْرَةِ عَلَى سُرْعَةِ الْإِيقَاعِ وَالْعُقُوبَةِ مِنْ غَيْرِ إِعْذَارٍ مِنْهُ، وَمِنْ غَيْرِ قَبُولٍ لِعُذْرِ مَنِ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ، بَلْ يَكُونُ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عُذْرٌ وَلَا تَدَعُهُ شِدَّةُ الْغَيْرَةِ أَنْ يَقْبَلَ عُذْرَهُ، وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَقْبَلُ الْمَعَاذِيرَ يَحْمِلُهُ عَلَى قَبُولِهَا قِلَّةُ الْغَيْرَةِ حَتَّى يَتَوَسَّعَ فِي طُرُقِ الْمَعَاذِيرِ، وَيَرَى عُذْرًا مَا لَيْسَ بِعُذْرٍ، حَتَّى يَعْتَذِرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِالْقَدَرِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا غَيْرُ مَمْدُوحٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
وَإِنَّمَا الْمَمْدُوحُ اقْتِرَانُ الْغَيْرَةِ بِالْعُذْرِ، فَيَغَارُ فِي مَحِلِّ الْغَيْرَةِ، وَيَعْذُرُ فِي مَوْضِعِ الْعُذْرِ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ الْمَمْدُوحُ حَقًّا.اهـ المراد.
 (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ)
فيه تحريم الفواحش. والفواحش: جمع فاحشة، وهو ما اشتد وقبح من الذنوب. فالفواحش هي من عظائم الذنوب وقد قال بعض العلماء: الفواحش المعاصي كلها، وهذا غير صحيح ،فإن ربنا سبحانه يذكر الذنوب ويفرد الفواحش بالذكر مما يدل أن لها معنى خاصًا قال سبحانه{ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا } وقال سبحانه { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }. ، ومن الفواحش فاحشة الزنا قال سبحانه: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]. ونكاح زوجة الأب: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا [النساء:22]. ومن الفواحش قتل النفس التي حرم الله بغير حق. والشيطان يؤزُّ الناسَ، ويدفعهم إلى الفواحش كما قال سبحانه: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268]. وقال: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة:169]. وهذا من جملة عداوة الشيطان وكيده.
ومما يحفظ من الفواحش تقوى الله عز وجل، والصلاة كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]. والمراد بالصلاة الصلاة التي صلاها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهذه هي التي تقي وتحفظ من الوقوع في الفحشاء. فمن أعظم الأسباب في اتقاء الفواحش الصلاة كما صلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذا مما يبيِّن أهمية تعلم كيفية الصلاة؛ لأن من ثمار الصلاة على الوجه المشروع أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، المنكر: ما أنكره الشرع.
(حَرَّمَ الفَوَاحِشَ)التحريم قسمان: تحريم كوني قدري ومنه قوله تعالى: ﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [الأنبياء:95]. وتحريم شرعي ديني ومنه قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ... [النساء:23]. وقوله عز وجل: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [المائدة: 3]. وقوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:145]. وقد ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله في شفاء العليل.
(وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ المَدْحُ مِنَ اللَّهِ)
فيه إثبات صفة المحبة لله عز وجل. والذين أوَّلُوا صفة المحبة قالوا: لأن المحبة رقة في القلب. فقاسوا صفات الخالق بصفات المخلوق، ولذلك أوَّلوا صفة المحبة وقالوا: هي إرادة الثواب والجزاء. والواجب إثباتها كما يليق بجلال الله وعظمته ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].
"والقول في الصفات كالقول في الذات" وهذه قاعدة في محاجَّة ومناقشة منكري الصفات. أي: كما أثبتم لله ذاتًا، وقلتم لا تشبه ذات المخلوقين فكذلك يقال في الصفات؛ لأن القول في الصفات كالقول في الذات.
-تعريف المدح: قال ابن القيم في بدائع الفوائد (2/92) المخبِر عن محاسن الغير إما أن يقترن بإخباره حب له وإجلال أو لا فإن اقترن به الحب فهو الحمد وإلا فهو المدح اهـ .
 عرفنا أن المدح قد يكون مقرونًا بمحبة، وقد يكون من غير محبة، مثل من يتزلف بالمدح للأثرياء والأمراء وهو يبغضهم، هذا يقال له مدح. أما الحمد: فهو الإخبار بمحاسن المحمود، ويكون مقرونًا بالمحبة والإجلال. ولهذا يقول أهل العلم (كل حمدٍ مدح وليس كلُّ مدح حمدًا)
إذا مدح أسدًا من الأسود هذا يقال له مدح؛ لأنه غير مقرون بمحبة. وأيضًا الحمد يكون علي الصفات الاختيارية.
وهنا مسألةٌ :يقول بعضهم إذا كان الله عز وجل يحب المدح فلماذا نحن لا نحب المدح؟
قال المباركفوري رحمه الله في تحفة الأحوذي (9/ 357): وَحُبُّ اللَّهِ الْمَدْحَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا يُعْقَلُ مِنْ حُبِّ الْمَدْحِ وَإِنَّمَا الرَّبُّ أَحَبَّ الطَّاعَاتِ وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَدْحُهُ لِيُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ فَيَنْتَفِعَ الْمُكَلَّفُ لَا لِيَنْتَفِعَ هُوَ بِالْمَدْحِ وَنَحْنُ نُحِبُّ الْمَدْحَ لِنَنْتَفِعَ وَيَرْتَفِعَ قَدْرُنَا فِي قَوْمِنَا .
فَظَهَرَ مِنْ غَلَطِ الْعَامَّةِ قَوْلُهُمْ إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْمَدْحَ فَكَيْفَ لَا نُحِبُّهُ نَحْنُ فَافْهَمْ  .اهـ.
 علمنا أن االله عز وجل يحب المدح لا لينتفع بذلك، ولكن لمصلحة العبد نفسه؛ ولهذا في الصحيحين «... وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللَّهُ الجَنَّةَ» قال النووي في شرح صحيح مسلم شرح حديث المغيرة : وَمَعْنَى (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ الْجَنَّةَ) أَنَّهُ لَمَّا وَعَدَهَا وَرَغَّبَ فِيهَا كثر سؤال العباد إياها منه وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ .وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فلأجل أن يتقرب العباد إلى الله بالأعمال الصالحة، ويثنوا على الله فيحصل لهم النفع. بخلاف العبد فإنه يحب المدح ليرتفع، وليكون له منزلة ،وهذا ضرر في حق العبد؛ ولهذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَدَّاحِينَ، فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمِ التُّرَابَ» رواه مسلم (3002). وسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِي المِدْحَةِ فَقَالَ: «أَهْلَكْتُمْ، أَوْ: قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ».رواه البخاري (2663،6060) مسلم (3001). فالمدح ومحبته عرضة للفتنة وللغرور والعجب، وقد نهى ربنا سبحانه عن مدح الإنسان نفسه فقال: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32]. وهذا لغير الحاجة، أما إذا احتاج الإنسان إلى تزكية نفسه ومدحها فهذا جائز،قال تعالى عن نبيه يوسف {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ  إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية : ﻣَﺪَﺡَ ﻧَﻔْﺴَﻪُ، ﻭَﻳَﺠُﻮﺯُ ﻟِﻠﺮَّﺟُﻞِ ﺫَﻟِﻚَ ﺇِﺫَا ﺟُﻬِﻞ ﺃَﻣْﺮُﻩُ، ﻟِﻠْﺤَﺎﺟَﺔِ. ﻭَﺫَﻛَﺮَ ﺃَﻧَّﻪُ {ﺣَﻔِﻴﻆٌ} ﺃَﻱْ: ﺧَﺎﺯِﻥٌ ﺃَﻣِﻴﻦٌ، {ﻋَﻠِﻴﻢٌ} ﺫُﻭ ﻋِﻠْﻢٍ ﻭﺑﺼﺮَ ﺑِﻤَﺎ ﻳَﺘَﻮَﻻَّﻩُ .اهـ.
وقد جاء أن عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ حُوصِرَ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ، وَلاَ أَنْشُدُ إِلَّا أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَفَرَ رُومَةَ فَلَهُ الجَنَّةُ»؟ فَحَفَرْتُهَا، أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ العُسْرَةِ فَلَهُ الجَنَّةُ»؟ فَجَهَّزْتُهُمْ، قَالَ: فَصَدَّقُوهُ بِمَا قَالَ وَقَالَ عُمَرُ فِي وَقْفِهِ: «لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَقَدْ يَلِيهِ الوَاقِفُ وَغَيْرُهُ فَهُوَ وَاسِعٌ لِكُلٍّ» رواه البخاري (2778). فإذا احتاج الإنسان إلى تزكية نفسه جازله ذلك.
- ومما يناسب ذكره في هذا ما جاء عن الإمام مالك بن أنس فيما أخرجه أبونعيم رحمه الله في حلية الأولياء(6/ 321 )ترجمة مالك من طريق  إِبْرَاهِيمَ الْحِزَامِيِّ، ثَنَا مُطَرِّفٌ، قَالَ: قَالَ لِي مَالِكٌ: مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيَّ؟ قُلْتُ: أَمَّا الصَّدِيقُ فَيُثْنِي وَأَمَّا الْعَدُوُّ فَيَقَعُ، قَالَ: مَا زَالَ النَّاسُ كَذَا لَهُمْ صَدِيقٌ وَعَدُوٌّ وَلَكِنْ نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ تَتَابُعِ الْأَلْسِنَةِ كُلِّهَا .
ومطرف :ابن عبدالله اليساري بالتحتانية والمهملة المفتوحتين أبو مصعب المدني ابن أخت مالك ثقة لم يصب ابن عدي في تضعيفه كما في تقريب التهذيب .
وكان الوالد الشيخ مقبل من ضمن ما يذكر في ترجمة مالكٍ هذا الأثر .
********************
7404 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ وَهُوَ يَكْتُبُ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ وَضْعٌ عِنْدَهُ عَلَى العَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي» .
********************
(حَدَّثَنَا عَبْدَانُ) عبد الله بن عثمان بن جبلة.
(عَنْ أَبِي حَمْزَةَ) وهو محمد بن ميمون السكري.
(عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان السمَّان.
- في هذا الحديث أن الخالق للكون هو الله عز وجل ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر:3]. وهذا داخل في توحيد الربوبية، توحيد الربوبية: إفراد الله بالملك والخلق والتدبير.
- وفيه إثبات صفة الكتابة لله عز وجل، وفي البخاري(6614) ومسلم (2652) من حديث أبي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الجَنَّةِ، قَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلاَمِهِ، وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى " ثَلاَثًا .
وفي سنن أبي داود(4701) بلفظ (وَخَطَّ لَكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ) .
(فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى) أي: غلبه بالحجة.
والكتابة قسمان: كتابة كونية قدرية، وكتابة شرعية دينية.
 الكونية القدرية: مثل قول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]. وقوله تعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21].
والكتابة الشرعية كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]. وقوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ إلى قوله: ﴿ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء:23،24]. وقد ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله في شفاء العليل (281).
صفة الكتابة صفة فعلية يكتب الله متى شاء، وفيما شاء سبحانه. فالكتابة تتعلق بالإرادة والمشيئة.
- وفيه الإيمان بالعرش، والعرش سقف الجنة كما في صحيح البخاري (7423) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «... فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ، وَأَعْلَى الجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ».
(فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الفِرْدَوْسَ) هذا إرشاد أننا إذا سألنا الله عز وجل الجنة نسأله الفردوس الأعلى. وجاءت أدلة في سؤال الله عز وجل الجنة بدون ذكر الفردوس، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَأَلَ اللهَ الْجَنَّةَ ثَلَاثًا، قَالَتِ الْجَنَّةُ: اللهُمَّ أَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ اسْتَعَاذَ بِاللهِ مِنَ النَّارِ ثَلَاثًا، قَالَتِ النَّارُ: اللهُمَّ أَعِذْهُ مِنَ النَّارِ». مسند الإمام أحمد (13173).
(فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ) أي: خيار الجنة.
(وَأَعْلَى الجَنَّةِ) الفردوس أعلى الجنة. وفوق الفردوس العرش، وفوق العرش الرحمن سبحانه وتعالى. قال  الله عز وجل: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]. نؤمن بذلك وهذا من نعمة الله  الاستسلام والإيمان بما يدلُّ عليه شرعنا ولا نحكِّم العقل، العقل لا دخل له في الأحكام الشرعية .
المبتدعة مثل الجهمية والمعتزلة ينكرون العرش، ويقولون: المراد به المُلْك من أجل أن يفروا من إثبات صفة العلو لله عز وجل.
العرش من أوصافه العظيمة أن الله عز وجل قال فيه: ﴿وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة:129]، وقال: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:116]، وقال سبحانه: ﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [85:15]، المجيد:هو الشرف والكرم. وهذه صفات عظيمة لعرش الرحمن. وهو من أعظم مخلوقات الله عز وجل، فالعرش مربوب مخلوق لله عز وجل وداخل في جملة قوله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]. واستدل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بالحديث الذي رواه مسلم في صحيحه (2726) عَنْ جُوَيْرِيَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ، وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى، وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ: «مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟» قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ»على أَنَّ زِنَةَ الْعَرْشِ أَثْقَلُ الْأَوْزَانِ. مجموع الفتاوى (6/ 553) .
وقد سألتُ الوالد الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله عن وجه الاستنباط من الحديث فقال: لأنه ذكر العرش دون غيره . والله أعلم.
(وَهُوَ وَضْعٌ عِنْدَهُ عَلَى العَرْشِ)
فيه إثبات صفة العلو لله عز وجل؛ لأن الله عز وجل مستوٍ على عرشه .ومن أسماء الله عز وجل العلي قال سبحانه: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23] وقال {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} .ومن أسمائه الأعلى قال تعالى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} . وعلو الله عز وجل يشمل علو الذات وعلو القهر وعلو القدر.
- علو الذات: الله عز وجل عالٍ على خلقه بائنٌ عنهم ،ومع علوه فهو لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء .
- علو القهر: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾[يوسف:21]. علو القهر والغلبة لله عز وجل: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18] فنواصي الخلق كلهم تحت قهره وملكوته وتدبيره وتصرفه سبحانه .
-علوالقدرأي علو القدر والمكانة وهذا هو علو الصفات فلا يماثل صفاته شيء من صفات المخلوقين ،بل ولا نحيط بها { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } .
والمبتدعة لا يثبتون من العلو إلا علو القهر وعلوالقدر أما علو الذات فينفونه لأنهم لا يؤمنون بعلوالله عزوجل .
وقد قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (1/ 55): وَكَذَلِكَ اسْمُ الْعَلِيِّ، وَاسْمُ الْحَكِيمِ وَسَائِرُ أَسْمَائِهِ، فَإِنَّ مِنْ لَوَازِمِ اسْمِ الْعَلِيِّ الْعُلُوَّ الْمُطْلَقَ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ، فَلَهُ الْعُلُوُّ الْمُطْلَقُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ: عُلُوُّ الْقَدْرِ، وَعُلُوُّ الْقَهْرِ، وَعُلُوُّ الذَّاتِ، فَمَنْ جَحَدَ عُلُوَّ الذَّاتِ فَقَدْ جَحَدَ لَوَازِمَ اسْمِهِ الْعَلِيِّ.اهـ.
فالله عزوجل له العلو المطلق  من جميع الوجوه وهي علو الذات ،وعلوالقهر،وعلوالقدر .
- وفيه إثبات صفة الرحمة لله (إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي).
- في هذا الحديث شبهة لمن قال بفناء النار، قالوا: رحمة الله واسعة، ورحمة الله تغلب غضبه، فلا يمكن أن يبقي أهل النار مخلدين فيها. ولكن الأدلة متكاثرة في خلود أهل النار، وبقاء النار مثل قوله: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37]. ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]. وقول الله عن أهل النار: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [الأحزاب:65]. وفي صحيح البخاري (4730) وصحيح مسلم (2849) عن أبي سعيدٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا المَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِي: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: وهَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا المَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ [مريم: 39]، وَهَؤُلاَءِ فِي غَفْلَةٍ أَهْلُ الدُّنْيَا ﴿وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [مريم: 39]». هناك رسالة للإمام الصنعاني رحمه الله (رفع الأستار في إبطال أدلة القائلين بفناء النار). وهذه الرسالة ذكر فيها الإمام الصنعاني رحمه الله الشبه الواردة في هذه المسألة، وردَّ عليها.
- فيه إثبات صفة الغضب لله عز وجل كما يليق بالله سبحانه: ﴿فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [البقرة:90]. ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [المائدة:60]. وفي الصحيحين البخاري (1712) مسلم (149) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في قصة إثبات الشفاعة الطويل: «... إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ...».
منكرو الصفات يؤولون هذه الصفة، ويقولون: غضب الله هو إرادة الانتقام. قالوا: لأن الغضب فَوَران الدم، قالوا: وهذا مستحيل في حق الله عز وجل، ولكن كما تقدم لا يقاس صفات الخالق بصفات المخلوق.
********************
7405 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» .
********************
(حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ) ابن غياث، هو المتقدم.
- هذا الحديث من الأحاديث القدسية التي يرويها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ربه.
 وفيه من الفوائد
الحث على حسن الظن بالله عز وجل (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي) .وأخرج أحمد في مسنده (16016) عن واثلةَ بنِ الأسقع سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ " .
والحديث صحيح .وهو في الصحيح المسند لوالدي رحمه الله (2/243) .
 ومن تمام التوحيد حسن الظن بالله.
وسوء الظن بالله عز وجل من صفات المنافقين، ونقص في التوحيد قال الله عز وجل في المنافقين: ﴿الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ [الفتح:6].
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في الجواب الكافي 138: أَنَّ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ إِسَاءَةُ الظَّنِّ بِهِ، فَإِنَّ الْمُسِيءَ بِهِ الظَّنَّ قَدْ ظَنَّ بِهِ خِلَافَ كَمَالِهِ الْمُقَدَّسِ، وَظَنَّ بِهِ مَا يُنَاقِضُ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ، وَلِهَذَا تَوَعَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الظَّانِّينَ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ بِمَا لَمْ يَتَوَعَّدْ بِهِ غَيْرَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [سُورَةُ الْفَتْحِ: 6] .
وَقَالَ تَعَالَى لِمَنْ أَنْكَرَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سُورَةُ فُصِّلَتْ: 23] .
قَالَ تَعَالَى عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: {مَاذَا تَعْبُدُونَ - أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ - فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصَّافَّاتِ: 85 - 87] .
أَيْ فَمَا ظَنُّكُمْ أَنْ يُجَازِيَكُمْ بِهِ إِذَا لَقِيتُمُوهُ وَقَدْ عَبَدْتُمْ غَيْرَهُ؟ وَمَا ظَنَنْتُمْ بِهِ حِينَ عَبَدْتُمْ مَعَهُ غَيْرَهُ؟
وَمَا ظَنَنْتُمْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ مِنَ النَّقْصِ حَتَّى أَحْوَجَكُمْ ذَلِكَ إِلَى عُبُودِيَّةِ غَيْرِهِ؟ فَلَوْ ظَنَنْتُمْ بِهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ مِنْ أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ عَلَى خَلْقِهِ، وَأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَالْعَالِمُ بِتَفَاصِيلِ الْأُمُورِ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَالْكَافِي لَهُمْ وَحْدَهُ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مُعِينٍ، وَالرَّحْمَنُ بِذَاتِهِ، فَلَا يَحْتَاجُ فِي رَحْمَتِهِ إِلَى مَنْ يَسْتَعْطِفُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الرُّؤَسَاءِ، فَإِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَى مَنْ يُعَرِّفُهُمْ أَحْوَالَ الرَّعِيَّةِ وَحَوَائِجَهُمْ، وَيُعِينُهُمْ إِلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، وَإِلَى مَنْ يَسْتَرْحِمُهُمْ وَيَسْتَعْطِفُهُمْ بِالشَّفَاعَةِ، فَاحْتَاجُوا إِلَى الْوَسَائِطِ ضَرُورَةً، لِحَاجَتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَعَجْزِهِمْ وَقُصُورِ عِلْمِهِمْ.
فَأَمَّا الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، فَإِدْخَالُ الْوَسَائِطِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ نَقْصٌ بِحَقِّ رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَظَنٌّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَهَذَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَشْرَعَهُ لِعِبَادِهِ، وَيَمْتَنِعُ فِي الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ جَوَازُهُ، وَقُبْحُهُ مُسْتَقِرٌّ فِي الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ فَوْقَ كُلِّ قَبِيحٍ. اهـ المراد.
وقد ذكر ابن القيم مع ما ذُكِر أنواعِا من سوء الظن بالله في زاد المعاد (3/ 205) نذكر منها ما يلي :
مَنْ ظَنَّ بِأَنَّهُ لَا يَنْصُرُ رَسُولَهُ، وَلَا يُتِمُّ أَمْرَهُ، وَلَا يُؤَيِّدُهُ وَيُؤَيِّدُ حِزْبَهُ، وَيُعْلِيهِمْ وَيُظْفِرُهُمْ بِأَعْدَائِهِ، وَيُظْهِرُهُمْ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَنْصُرُ دِينَهُ وَكِتَابَهُ، وَأَنّهُ يُدِيلُ الشِّرْكَ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ إدَالَةً مُسْتَقِرَّةً يَضْمَحِلُّ مَعَهَا التَّوْحِيدُ وَالْحَقُّ اضْمِحْلَالًا لَا يَقُومُ بَعْدَهُ أَبَدًا، فَقَدْ ظَنَّ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَنَسَبَهُ إِلَى خِلَافِ مَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ وَصِفَاتِهِ وَنُعُوتِهِ .
أَكْثَرُ النَّاسِ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ السَّوْءِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِمْ وَفِيمَا يَفْعَلُهُ بِغَيْرِهِمْ، وَلَا يَسْلَمُ عَنْ ذَلِكَ إلَّا مَنْ عَرَفَ اللَّهَ وَعَرَفَ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ، وَعَرَفَ مُوجِبَ حَمْدِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَمَنْ قَنَطَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَأَيِسَ مِنْ رَوْحِهِ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَنْ جَوَّزَ عَلَيْهِ أَنْ يُعَذِّبَ أَوْلِيَاءَهُ مَعَ إحْسَانِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ وَيُسَوِّي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَنْ ظَنَّ بِهِ أَنْ يَتْرُكَ خَلْقَهُ سُدًى مُعَطَّلِينَ عَنِ الْأَمْرِ وَالنَّهْي، وَلَا يُرْسِلَ إلَيْهِمْ رُسُلَهُ، وَلَا يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كُتُبَهُ، بَلْ يَتْرُكُهُمْ هَمَلًا كَالْأَنْعَامِ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ لَنْ يَجْمَعَ عَبِيدَهُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي دَارٍ يُجَازِي الْمُحْسِنَ فِيهَا بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ، وَيُبَيِّنَ لِخَلْقِهِ حَقِيقَةَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَيُظْهِرَ لِلْعَالَمِينَ كُلِّهِمْ صِدْقَهُ وَصِدْقَ رُسُلِهِ، وَأَنَّ أَعْدَاءَهُ كَانُوا هُمُ الْكَاذِبِينَ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُضَيِّعُ عَلَيْهِ عَمَلَهُ الصَّالِحَ الَّذِي عَمِلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَيُبْطِلُهُ عَلَيْهِ بِلَا سَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ، أَوْ أَنَّهُ يُعَاقِبُهُ بِمَا لَا صُنْعَ فِيهِ وَلَا اخْتِيَارَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا إرَادَةَ فِي حُصُولِهِ، بَلْ يُعَاقِبُهُ عَلَى فِعْلِهِ هُوَ سُبْحَانَهُ بِهِ، أَوْ ظَنَّ بِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَيِّدَ أَعْدَاءَهُ الْكَاذِبِينَ عَلَيْهِ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي يُؤَيِّدُ بِهَا أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ، وَيُجْرِيَهَا عَلَى أَيْدِيهِمْ يُضِلُّونَ بِهَا عِبَادَهُ، وَأَنَّهُ يَحْسُنُ مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى تَعْذِيبُ مَنْ أَفْنَى عُمْرَهُ فِي طَاعَتِهِ فَيُخَلِّدُهُ فِي الْجَحِيمِ أَسْفَلَ السَّافِلِينَ، وَيُنَعِّمُ مَنِ اسْتَنْفَدَ عُمُرَهُ فِي عَدَاوَتِهِ وَعَدَاوَةِ رُسُلِهِ وَدِينِهِ، فَيَرْفَعُهُ إِلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ عِنْدَهُ فِي الْحُسْنِ سَوَاءٌ، وَلَا يُعْرَفُ امْتِنَاعُ أَحَدِهِمَا وَوُقُوعُ الْآخَرِ إلَّا بِخَبَرٍ صَادِقٍ، وَإِلَّا فَالْعَقْلُ لَا يَقْضِي بِقُبْحِ أَحَدِهِمَا وَحُسْنِ الْآخَرِ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَنْ ظَنَّ بِهِ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ بِمَا ظَاهِرُهُ بَاطِلٌ وَتَشْبِيهٌ وَتَمْثِيلٌ وَتَرَكَ الْحَقَّ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ، وَإِنَّمَا رَمَزَ إِلَيْهِ رُمُوزًا بَعِيدَةً، وَأَشَارَ إِلَيْهِ إشَارَاتٍ مُلْغِزَةً لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ، وَصَرَّحَ دَائِمًا بِالتَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَالْبَاطِلِ، وَأَرَادَ مِنْ خَلْقِهِ أنْ يُتْعِبُوا أَذْهَانَهُمْ وَقُوَاهُمْ وَأَفْكَارَهُمْ فِي تَحْرِيفِ كَلَامِهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَتَأْوِيلِهِ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَيَتَطَلَّبُوا لَهُ وُجُوهَ الِاحْتِمَالَاتِ الْمُسْتَكْرَهَةِ، وَالتَّأْوِيلَاتِ الَّتِي هِيَ بِالْأَلْغَازِ وَالْأَحَاجِي أَشْبَهُ مِنْهَا بِالْكَشْفِ وَالْبَيَانِ، وَأَحَالَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى عُقُولِهِمْ وَآرَائِهِمْ لَا عَلَى كِتَابِهِ، بَلْ أَرَادَ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَحْمِلُوا كَلَامَهُ عَلَى مَا يَعْرِفُونَ مِنْ خِطَابِهِمْ وَلُغَتِهِمْ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَنْ يُصَرِّحَ لَهُمْ بِالْحَقِّ الَّذِي يَنْبَغِي التَّصْرِيحُ بِهِ، وَيُرِيحَهُمْ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُوقِعُهُمْ فِي اعْتِقَادِ الْبَاطِلِ، فَلَمْ يَفْعَلْ بَلْ سَلَكَ بِهِمْ خِلَافَ طَرِيقِ الْهُدَى وَالْبَيَانِ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ .
وَمَنْ ظَنَّ بِهِ أَنْ يَكُونَ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يَشَاءُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَنْ ظَنَّ بِهِ أَنَّهُ كَانَ مُعَطَّلًا مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ عَنْ أَنْ يَفْعَلَ، وَلَا يُوصَفُ حِينَئِذٍ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ، ثُمَّ صَارَ قَادِرًا عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَنْ ظَنَّ بِهِ أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ، وَلَا يَعْلَمُ الْمَوْجُودَاتِ، وَلَا عَدَدَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا النُّجُومِ وَلَا بَنِي آدَمَ وَحَرَكَاتِهِمْ وَأَفْعَالَهُمْ، وَلَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ فِي الْأَعْيَانِ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ لَا سَمْعَ لَهُ وَلَا بَصَرَ وَلَا عِلْمَ لَهُ وَلَا إرَادَةَ وَلَا كَلَامَ يَقُولُ بِهِ، وَأَنّهُ لَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ وَلَا يَتَكَلَّمُ أَبَدًا، وَلَا قَالَ وَلَا يَقُولُ، وَلَا لَهُ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ يَقُومُ بِهِ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَنْ ظَنَّ بِهِ أَنَّهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنًا مِنْ خَلْقِهِ، وَأَنّ نِسْبَةَ ذَاتِهِ تَعَالَى إِلَى عَرْشِهِ كَنِسْبَتِهَا إِلَى أَسْفَلِ السّافِلِينَ، وَإِلَى الْأَمْكِنَةِ الَّتِي يُرْغَبُ عَنْ ذِكْرِهَا، وَأَنّهُ أَسْفَلُ كَمَا أَنَّهُ أَعْلَى فَقَدْ ظَنّ بِهِ أَقْبَحَ الظّنّ وَأَسْوَأَهُ.
وَمَنْ ظَنَّ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ يُحِبُّ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَيُحِبُّ الْفَسَادَ كَمَا يُحِبُّ الْإِيمَانَ وَالْبِرَّ وَالطَّاعَةَ وَالْإِصْلَاحَ فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَنْ ظَنَّ بِهِ أَنَّهُ لَا يُحِبُّ وَلَا يَرْضَى، وَلَا يَغْضَبُ وَلَا يَسْخَطُ، وَلَا يُوَالِي وَلَا يُعَادِي، وَلَا يَقْرُبُ مِنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا يَقْرُبُ مِنْهُ أَحَدٌ، وَأَنَّ ذَوَاتَ الشَّيَاطِينِ فِي الْقُرْبِ مِنْ ذَاتِهِ كَذَوَاتِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَأَوْلِيَائِهِ الْمُفْلِحِينَ فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَنْ ظَنَّ بِهِ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ لِأَجْلِهِ شَيْئًا لَمْ يُعَوِّضْهُ خَيْرًا مِنْهُ أَوْ مَنْ فَعَلَ لِأَجْلِهِ شَيْئًا لَمْ يُعْطِهِ أَفْضَلَ مِنْهُ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَنْ ظَنَّ بِهِ أَنَّهُ إذَا صَدَقَهُ فِي الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، وَتَضَرَّعَ إلَيْهِ وَسَأَلَهُ، وَاسْتَعَانَ بِهِ وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُخَيِّبُهُ وَلَا يُعْطِيهِ مَا سَأَلَهُ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَظَنَّ بِهِ خِلَافَ مَا هُوَ أَهْلُهُ.
إلى أن قال: فَلْيَعْتَنِ اللَّبِيبُ النَّاصِحُ لِنَفْسِهِ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، وَلْيَتُبْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلِيَسْتَغْفِرْهُ كُلَّ وَقْتٍ مِنْ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَلْيَظُنَّ السَّوءَ بِنَفْسِهِ الَّتِي هِي مَأْوَى كُلَّ سُوءٍ، وَمَنْبَعُ كُلَّ شَرٍّ الْمُرَكَّبَةِ عَلَى الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ، فَهِيَ أَوْلَى بِظَنِّ السَّوءِ مِنْ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَأَعْدَلِ الْعَادِلِينَ وَأَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ، الْغَنِيِّ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ الْغِنَى التَّامُّ وَالْحَمْدُ التَّامُّ وَالْحِكْمَةُ التَّامُّةُ، الْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ سَوْءٍ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَسْمَائِهِ، فَذَاتُهُ لَهَا الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَصِفَاتُهُ كَذَلِكَ، وَأَفْعَالُهُ كَذَلِكَ، كُلُّهَا حِكْمَةٌ وَمَصْلَحَةٌ وَرَحْمَةٌ وَعَدْلٌ، وَأَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا حُسْنَى.
فَلَا تَظُنَّنَّ بِرَبِّكَ ظَنَّ سَوْءٍ ... فَإِنَّ اللَّهَ أَوْلَى بِالْجَمِيلِ .اهـ المراد.
هذه نماذج من سوء الظن برب العالمين ذكرناها لنعرفَ سعةَ أبواب سوءِ الظن بالله وأنه ليس في كلمةٍ أو كلمتين ،ولنكون على حذرٍ من سوء الظن بالله ،وأن نكون على حُسْنِ ظنٍ به سبحانه فالله عند ظن عبده به .
فمما يشمله قوله (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي) إذا دعا يحسن الظن بالله، ويكون على يقين أن الله عز وجل يستجيب دعاءه. إذا أصيب بكربة وشدة يحسن الظن بربه أن العسر لا يدوم، وقد قال تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)﴾ [الشرح]. وما أكثر الابتلاء بالقنوط من رحمة الله، وهذا كبيرة من الكبائر فقد قال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾ [الحجر:56]. وقال سبحانه: ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف:87]. إذا أصيب بمرض يحسن الظن بربه أن الله سينزل الشفاء، من طُلِّقت من زوجها تحسن الظنَّ بربها أن الله لن يضيعها، ولن يضيع أولادها، ولا تسيء الظن بأرحم الراحمين. الله سبحانه عند ظن عبده به، إذا ظن به خيرًا وجده، وإذا ظن به سوء فلا يلومنَّ إلا نفسه. ما أعظم مدى خطورة سوء الظن بالله سبحانه على الحياة.
فلنُرَوِّض أنفسنا على حُسْنِ الظن بالله عزوجل ،وحسن الظن بالله عز وجل زينة الباطن وجماله، وقد مدح الله سبحانه وتعالى من اتصف بذلك فقال سبحانه: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9]. وقال سبحانه: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16]. وقال سبحانه: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء:90].
ويتحتم أكثر حسن الظن بالله في حالة الاحتضار لما رواه الإمام مسلم في صحيحه (2877) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، يَقُولُ: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ».
ومن الآداب وحق المسلم على أخيه المسلم تذكير المحتضر بعفو الله سبحانه، وسعة رحمته حتى يقوَى حسنُ الظن عنده بالله. وتذكيره بمحاسن أعماله وفي صحيح مسلم (121) عَنِ ابْنِ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ، قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ، يَبَكِي طَوِيلًا، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ، أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا؟ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا؟ قَالَ: فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، إِنِّي قَدْ كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلَاثٍ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِّي، وَلَا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ، فَقَتَلْتُهُ، فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي، قَالَ: «مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟» قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ: «تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟» قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟» وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ، وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا، فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ، وَلَا نَارٌ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا، حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي.
وقوله (أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا؟) وكان مما بشره كما في الأحاديث الأخرى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ابْنَا الْعَاصِ مُؤْمِنَانِ: عَمْرٌو وَهِشَامٌ» مسند أحمد (8042) وهو في الجامع الصحيح لوالدي (1344).
(إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ) الشهادة كلمة التوحيد أفضل ما يعده الإنسان لآخرته ومماته.
وفي هذا الحديث انتفاع عمرو بن العاص رضي الله عنه بتذكير ولده له، وبشارة ولده له. وهذا من نعمة الجليس الصالح ومن الانتفاع بمجالسته في تذكيرِ الغافل ،وتنبيهِ الساهي ،ورفع الهمَّة، ثم ساق لهم عمرو  قصةً له وهو في سياق الكرب رضي الله عنه.
فهذا من الآداب لجليس المحتضَر أن يذكره بما يقوَى به حسن الظن عنده بالله عز وجل.
حسن الظن بالله يكون مع تقوى الله عز وجل، أما حسن ظن بالله وهو على معاصي فهذا غرور، وهذا من الشيطان. وقد بين سبحانه حسن الظن الممدوح ممن يكون فقال عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:218].
حسن الظن الممدوح يكون من أهل العمل الصالح، ولا يكون من أهل المعاصي. يعصي الله ويقول: الله غفور رحيم، هذا متلاعب بشرع الله، وقد أرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين.
العاصي يحسن الظن بالله في قبول توبته إذا تاب، ولا يقنط من رحمة الله ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
عرفنا أهمية حسن الظن بالله، وأنه من كمال التوحيد وتمامه فهو داخل في توحيد الله. وهذا بفضل الله ثم بفضل العلم، فالعلم  من ثماره أنه يقود إلى طريق  الخير والهدى ويجنب طريق الشر والردى  .
 ومن تزكية أنفسنا الابتعاد عن سوء الظن بالله عز وجل، والابتعاد عن سوء الظن بالمسلم الذي ظاهره السلامة، فلنحقق هذا ولنجاهد ليكمل لنا التوحيد .والله المستعان.
- وفيه فضل الذكر. فمن ذكر الله سبحانه، ذكره الله، قال عز وجل: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]. وهذا دليل على أن الجزاء من جنس العمل. من ذكر الله ذكره الله عند حاجته وعند كربه وحزنه، ذكره الله في سائر أحواله في سرائه وضرائه.
ويقول سبحانه في الحث على الذكر: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]. أَي: أكبر مِمَّا سواهُ من الْأَعْمَال الصَّالِحَة. كما قال الشوكاني رحمه الله في تحفة الذاكرين (16).
ورتب سبحانه الفلاح على كثرة ذكر الله ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45]. وحياة القلب بذكر الله كما في الصحيحين
عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ» .
وصلاح القلب واللسان بذكر الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» مسند أحمد (17698). والقرآن الكريم من ذكر الله والدعاء من ذكر الله سبحانه.
عرفنا شيئًا من فضل الذكر، وأن ذكر الله حياة وسعادة، وفيه صلاح القلوب، و به يحصل السعادة في دار الدنيا والآخرة.
 (فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي)
قال شيخ الإسلام رحمه الله في بيان تلبيس الجهمية(7/ 485): وذكر العبد ربه في نفسه نوعان أحدهما :في نفسه من غير حروف يسمعها هو. الثاني :ذكرٌ بلفظ خفي يسمعه هو دون غيره قال تعالى وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [الأعراف 205] وذكر العبد في نفسه يتناول القسمين جميعًا .اهـ.
- وفيه إثبات صفة المعية لله عز وجل ومعية الله نوعان:
معية عامة: لجميع الخلق أي أن الله معنا بسمعه وبصره وقدرته وعلمه كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد:4]. وكما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7]. هذه المعية عامة لجميع الخلق.
ومعية خاصة: وهي تقتضي الحفظ والعناية والنصرة وهذه خاصة بأولياء الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128]. وفي الحديث هنا (وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي) معية خاصة.
أدلة المعية فيها شبهة للجهمية الذين يقولون: أن الله في كل مكان، فأخذوا بها وتركوا أدلة العلو لله عز وجل، وأهل السنة يقولون: (الله سبحانه في العلو مستوٍ على عرشه، وهو معنا بسمعه وبصره وقدرته وعلمه).
فالإنسان يحمدُ الله ويفرح بالعقيدة الطيبة؛ لأن الله عز وجل يقول: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]. نفرح بالعلم والعقيدة الصحيحة والمسابقة إلى طاعة الله وإلى الدار الآخرة ﴿هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾.
وذكر ابن عثيمين رحمه الله: (أن معية الله حقيقة). وهذه فائدة، نثبت لله المعية، وأنها قسمان وأن إثبات المعية لله حقيقة لا نقول هذا مجاز.
إثبات صفة المعية لله عز وجل حقيقة؛ لأنه لا يلزم من إثبات المعية لله أن يكون مختلطًا بين الناس. يقول القائل: لا نزال نسير والقمر معنا. والقمر في السماء.
- استدل بهذا الحديث من قال بتفضيل الملائكة على صالحي البشرلقوله (ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ). وقد ذهب إلى هذا القول الفلاسفة والمعتزلة وبعض الظاهرية. وجمهور أهل السنة على تفضيل صالحي البشر على الملائكة، وسألت الوالد الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله عن هذه المسألة فقال: بقول الجمهور ثم قال: الكلام في هذه المسألة معدود في فضول المسائل. اهـ.هذه من المسائل المعدودة في فضول المسائل، مثل مسألة الاسم والمسمى -كما تقدم معنا- لأنها ما جاءت في كلام الله ولا كلام رسوله ولا تكلم فيها الصحابة.
وقد ناقش المسألة وذكر أدلة القولين شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى، والحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري ،وابن أبي العز في شرح الطحاوية. والله تعالى أعلم.
- وفيه صفة القرب لله عز وجل وقد قال تعالى: ﴿إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ [سبأ:50]. وتقدم معنا حديث أبي موسى في الصحيحين البخاري (6384) مسلم (2704) أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، وَلَكِنْ تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا».
فالله عز وجل يقرب إلى  عابديه وهو في علُوِّهِ، وهذه خاصة بأولياء الله سبحانه، وفي صحيح مسلم (1348) عن عَائِشَةَ رضي الله عنها: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟» وَإِنَّهُ لَيَدْنُو: أي يقرب سبحانه وتعالى.
قال ابنُ القيم رحمه الله في طريق الهجرتين 22:  وأما القرب المذكور فى القرآن والسُّنَّة فقرب خاص من عابديه وسائليه وداعيه، وهو من ثمرة التعبد باسمه الباطن قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] ، فهذا قربه من داعيه، وقال تعالى: {إِنّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] ، فوجد الخبر وهو قريب عن لفظ الرحمة وهى مؤنثة [إيذاناً] بقربه تعالى من المحسنين، فكأنه قال: إِن الله برحمته قريب من المحسنين. وفى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ"، و"أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ فِى جَوْفِ اللَّيْلِ"، فهذا قرب خاص غير قرب الإِحاطة وقرب البُطون.اهـ المراد.
أما قربُ الإحاطة فهذه عامة ومن أسماء الله الظاهر والباطن .
(وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا)
الشبر:قال في القاموس : الشِّبْرُ، بالكسر: ما بين أعْلَى الإِبْهامِ وأعْلَى الخِنْصَرِ، مُذَكَّرٌ
ج: أشْبارٌ. اهـ.
الذراع : قال الخليل بن أحمد في كتاب العين : الذِّراعُ من طَرَف المِرْفَق إلى طرف الإِصْبَع الوُسْطَى.اهـ.
والباع ما بين يديك إذا مددتهما، ويذكرون أن الباع بمقدار قامة صاحبه .
- وفيه صفة الإتيان لله عز وجل، فالله عز وجل يأتي قال سبحانه: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [البقرة:210].
(وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)
الهرولة: المشي السريع، وفيه إثبات صفة الهرولة لله عز وجل، نؤمن بذلك.
وهذا الحديث من أدلة فضل الله عز وجل على عباده، وأنه يعطي أكثر مما يعمل العامل، وقد قال تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160]. ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النمل:89].
وثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قَالَ: مَا عَلَى الأَرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ إِلاَّ آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا أَوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ: اللَّهُ أَكْثَرُ. سنن الترمذي (3573).
بعض الناس يقول إنه يدعو ويدعو ولا يجد الإجابة من الله، قد يكون فيه موانع للاستجابة، وقد يكون استعجل يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي» البخاري (6340) مسلم (2735).
وقد يكون من رحمة الله أنه صرف عنه من الشر ما لا يعرفه، فالله عز وجل لا يضيع أجر من أحسن عملًا ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف:30].
هذا الباب  الذي قرأناه في إثبات صفة النفس لله عز وجل، نؤمن بذلك ولا نؤول وقد قال بعض أهل التأويل :نفسه أي غيره .
وقد  ذكر هذه المسألة ابن خزيمة في كتابه العظيم " كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل "(1/ 19) وذكر قول المؤولة وردَّ عليهم وقال : زَعَمَ بَعْضُ جَهَلَتِهِمْ-أي بعض جهلة الجهمية - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَضَافَ النَّفْسَ إِلَيْهِ عَلَى مَعْنَى إِضَافَةِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ، وَزَعَمَ أَنَّ نَفْسَهُ غَيْرُهُ، كَمَا أَنَّ خَلْقَهُ غَيْرُهُ , وَهَذَا لَا يَتَوَهَّمُهُ ذُو لُبٍّ وَعِلْمٍ , فَضْلًا عَنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ قَدْ أَعْلَمَ اللَّهُ فِي مُحْكَمِ تَنْزِيلِهِ أَنَّهُ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ , أَفَيَتَوَهَّمُ مُسْلِمٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَى غَيْرِهِ الرَّحْمَةَ؟ وَحَذَّرَ اللَّهُ الْعِبَادَ نَفْسَهُ , أَفَيَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ [ص:20] يَقُولَ: أَنَّ اللَّهَ حَذَّرَ الْعِبَادَ غَيْرَهُ؟ أَوَ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ لِكَلِيمِهِ، مُوسَى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41] , فَيَقُولُ مَعْنَاهُ: وَاصْطَنَعْتُكَ لِغَيْرِي مِنَ الْخُلُوقِ، أَوْ يَقُولَ: أَرَادَ رُوحَ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] أَرَادَ وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي غَيْرِكَ؟ هَذَا لَا يَتَوَهَّمُهُ مُسْلِمٌ , وَلَا يَقُولُهُ إِلَّا مُعَطِّلٌ كَافِرٌ.اهـ.
والنفس من الصفات الذاتية لله عزوجل  .

والله تعالى أعلم.