جديد المدونة

جديد الرسائل

الثلاثاء، 1 مارس 2016

الدرس السادس عشر من / الفصول من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 22من جمادى الأولى 1437.

بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس السادس عشر
فصل ـ غزوة حمراء الأسد
ولما أصبح يوم الأَحد، ندب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى النُّهوضِ في طلب العدو، إرهاباً لهم، وهذه غزوة حمراء الأسد، وأمر ألا يخرجَ معه إلا من حضر أُحُداً، فلم يخرج إلا من شهد أُحداً، سوى جابر بن عبد الله، فإنه كان أبوه استخلَفه في بناتِه، فقتل أبوه يوم أحد، فاستأذن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في الخروجِ إلى حمراءِ الأسد، فأذِن له.
فنهضَ المسلمون كما أمرهم صلى الله عليه وسلم، وهم مثقلُون بالجراح، حتى بلغ حمراءَ الأسد وهي على ثمانية أميالٍ من المدينة، فذلك قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:172]. ومر معبد بن أبي معبد الخُزاعي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأجازه حتى بلغ أبا سفيان والمشركين بالروحاء، فأخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد خرجوا في طلبهم، ففت ذلك في أعداد قريش، وكانوا أرادوا الرجوع إلى المدينة فثناها ذلك واستمروا راجعين إلى مكة.
وظفر عليه الصلاة والسلام بمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص فأمر بضرب عنقه صبراً، وهو والد عائشة أم عبد الملك بن مران، فلم يُقتل فيها سواه.
********************************
هذا الفصل في غزوة حمراء الأسد،وقد كانت في السنة الثالثة عقب غزوةِ أُحُد ،وقعةُ أُحُد في يوم السبت ،وغزوة حمراء الأسد في يوم الأَحَد .
 وسببها أن قريشًا بعد انتهاء معركة أُحد يوم السبت انصرفوا راجعين إلى مكة، فلما كانوا في الطريق تلاوم بعضهم على بعض، وقالوا: قاتلتم محمدًا وأصحابه وكسرتم شوكتهم ولكن بقي فيهم رؤوس سيجمعون لكم، ثم يقاتلونكم فهمُّوا بالرجوع إلى المدينة، وعلم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك فندب أصحابه وأمرهم بالخروج إلى كفار قريش إلا من لم يشهد وقعة أحد ،وكانوا في غزوة أُحُد سبعمائة وقُتِلَ منهم سبعون واستأذنه جابر بن عبدالله وذكر له أنه تخلف عن غزوة أُحد لأمر أبيه عبدالله بن عمرو له أن يبقى في رعاية أخواته أي بنات عبدالله بن عمرو فأذن له ولم يأذن لغيره ممن لم يشهد غزوةَ أحد قال الزرقاني في شرحه على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (2/ 465) لعل حكمة ذلك وإن كان خروج المتخلفين فيه زيادة في إرهاب الأعداء وتقوية المسلمين، أنه أراد إظهار الشدة للعدو, فيعلمون من خروجهم مع كثرة جرحاتهم أنَّهم على غاية من القوة والرسوخ في الإيمان وحب الرسول, والزيادة في تعظيم من شهد أُحد، أو أنه خاف اختلاط المنافقين بهم فيَمُنُّون عليه بعد بخروجهم معهم وهم مسلمون ظاهرًا، فلا يرد أنه كان يمنعهم دون المسلمين.اهـ.
واستجاب الصحابة لأمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم  وهم منهكون بالجروح،فخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه بجراحاتهم وقد مدحهم الله بقوله: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:172]. (الْقَرْحُ): الجروح.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: (إرهاباً لهم) وأن المسلمين لم يوهِنْهِم الحرب، وفي صحيح البخاري (4077)عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172]، قَالَتْ لِعُرْوَةَ: يَا ابْنَ أُخْتِي، كَانَ أَبَوَاكَ مِنْهُمْ: الزُّبَيْرُ، وَأَبُو بَكْرٍ، لَمَّا أَصَابَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَصَابَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَانْصَرَفَ عَنْهُ المُشْرِكُونَ، خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا، قَالَ: «مَنْ يَذْهَبُ فِي إِثْرِهِمْ» فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا، قَالَ: كَانَ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ، وَالزُّبَيْرُ ».
وهذا فيه أيضًا خوف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يرجع كفارُ قريش .
قال الحافظ ابنُ كثير في البداية والنهاية (4/52) وَهَذَا السِّيَاقُ غَرِيبٌ جِدًّا، فَإِنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَ أَصْحَابِ الْمَغَازِي أَنَّ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ كُلُّ مَنْ شَهِدَ أُحُدًا، وَكَانُوا سَبْعَمِائَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ وَبَقِيَ الْبَاقُونَ.اهـ.
قال محمد بن يوسف الصالحي في سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (4/314) : الظاهر والله أعلم أنه لا تخالف بين قول عائشة وما ذكره أصحاب المغازي، لأنّ معنى قولها: «فانتدب منهم سبعون» أنهم سبقوا غيرهم، ثم تلاحق الباقون، ولم ينبّه على ذلك الحافظ في الفتح.اهـ.
فلما بلغ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حمراء الأسد. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: (وهي على ثمانية أميال من المدينة).
 ومر معبد بن أبي معبد الخزاعي وكان كافرًا، وذكر ابن القيم رحمه الله أنه أسلم ففي زاد المعاد (3/ 216، 217): وَأَقْبَلَ معبد بن أبي معبد الخزاعي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ بأبي سفيان، فَيُخَذِّلُهُ، فَلَحِقَهُ بِالرَّوْحَاءِ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِإِسْلَامِهِ، فَقَالَ مَا وَرَاءَكَ يَا معبد؟ فَقَالَ: مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ قَدْ تَحَرَّقُوا عَلَيْكُمْ، وَخَرَجُوا فِي جَمْعٍ لَمْ يَخْرُجُوا فِي مِثْلِهِ، وَقَدْ نَدِمَ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِمْ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ: مَا أَرَى أَنْ تَرْتَحِلَ حَتَّى يَطْلُعَ أَوَّلُ الْجَيْشِ مِنْ وَرَاءِ هَذِهِ الْأَكَمَةِ. القصة.
كذا ذكر ابنُ القيم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو الذي أمر معبدالخزاعي أن يثبط كفار قريش فمر معبد بأبي سفيان وجماعته بالروحاءفثبطهم وكسر شوكتهم. بينما في سيرة ابن إسحاق(2/ 102)وغيرها ما نصه: وَكَانَتْ خُزَاعَةُ، مُسْلِمُهُمْ وَمُشْرِكُهُمْ عَيْبَةَ  نُصْحٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِتِهَامَةَ، صَفْقَتُهُمْ  مَعَهُ، لَا يُخْفُونَ عَنْهُ شَيْئًا كَانَ بِهَا، وَمَعْبَدٌ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ عَزَّ عَلَيْنَا مَا أَصَابَكَ، وَلَوَدِدْنَا أَنَّ اللَّهَ عَافَاكَ فِيهِمْ، ثُمَّ خَرَجَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ، حَتَّى لَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَمَنْ مَعَهُ بِالرَّوْحَاءِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا الرَّجْعَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالُوا: أَصَبْنَا حَدَّ أَصْحَابِهِ وَأَشْرَافَهُمْ وَقَادَتَهُمْ، ثُمَّ نَرْجِعُ قَبْلَ أَنْ نَسْتَأْصِلَهُمْ! لَنَكُرَنَّ عَلَى بَقِيَّتِهِمْ، فَلَنَفْرُغَنَّ مِنْهُمْ. فَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ مَعْبَدًا، قَالَ: مَا وَرَاءَكَ يَا مَعْبَدُ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قَدْ خَرَجَ فِي أَصْحَابِهِ يَطْلُبُكُمْ فِي جَمْعٍ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ، يَتَحَرَّقُونَ  عَلَيْكُمْ تَحَرُّقًا، قَدْ اجْتَمَعَ مَعَهُ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ فِي يَوْمِكُمْ، وَنَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا  ، فِيهِمْ مِنْ الْحَنَقِ  عَلَيْكُمْ شَيْءٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ، قَالَ: وَيْحكَ! مَا تَقُولُ؟ قَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَرَى أَنْ تَرْتَحِلَ حَتَّى أَرَى نَوَاصِيَ الْخَيل، قَالَ: فو الله لَقَدْ أَجْمَعْنَا الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ، لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيَّتَهُمْ: قَالَ: فَإِنِّي أَنْهَاكَ عَنْ ذَلِكَ .
وهذا ظاهره أن معبدًا الخزاعي كان يحترم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأنه قام بتثبيط أبي سفيان وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو الذي أمره بذلك .
ثم الإسناد غير متصل .
وجاء أن المشركين  رأوا واحدا ذاهبًا إلى المدينة. فقالوا: قل لمحمد إننا نجمع له فبلغ النبي وصحابته فزادهم إيمانًا وقوة، كما قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]. إنما هذا تخويف الشيطان للمسلمين مِن أوليائه وقد قال تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]. (يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) أي: يخوفكم أولياءَه.

فازداد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحابته إيمانًا، ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾.
وهذه الكلمة كلمة عظيمة بالغةُ الأثر .وقد ثبت صحيح البخاري (4563) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، «قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» حِينَ قَالُوا: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا، وَقَالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ [آل عمران: 173].
(حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم حين ألقي في النار فكانت عليه بردًا وسلاما .وقالها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فجعل كيد عدوه هباءًمنثورًا.
معنى (حسبنا الله ونعم الوكيل)، حسبنا الله: أي: كافينا الله، الحسب الكافي. ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:36]. ونعم الوكيل: نعم الحفيظ و الموكول إليه الأمور. قال البغوي رحمه الله في تفسيره (2/ 138): " {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} أَيْ: كَافِينَا اللَّهُ، {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} أَيِ: الْمَوْكُولُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ".
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في منهاج السنة (7/ 204)أَي: اللَّهُ وَحْدَهُ كَافِينَا كُلَّنَا. وقال القرطبي في تفسير هذه الآية :أَيْ كَافِينَا اللَّهُ. وَحَسْبُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِحْسَابِ، وَهُوَ الْكِفَايَةُ.
وقال الإمام السعدي رحمه الله في تفسيره : "(وقالوا حسبنا الله) أي: كافينا كل ما أهمَّنا (ونعم الوكيل) المفوض إليه تدبير عباده، والقائم بمصالحهم".وبنحوه يقول الشيخ ابنُ عثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين .
هذا ما ذكره أهل العلم عن هذه الكلمة، وهي كلمةٌ معناها الاستعانة بالله والالتجاء إلى الله والتوكل عليه، وليس معناها الدعاء. وإذا نوى قد تكون له نيته ،ولكن الأصل ليست دعاء.
هذه الكلمة تقال عند الشدائد، عند الأذى، عند الكُربة، عند الحزن، عند الشدة،الظلم ،المرض، تقال أيضًا في جلب الخيروالنِّعَم، قال سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [التوبة:59]. وقد تقولها الأم لأولادها وتقصد الاستعانة بالله على صلاح الأولاد واللطف من عنده تعالى.
 ويجوز للمظلوم أن يدعو على من ظلمه . والأَولى أن يقتصر على (حسبنا الله ونعم الوكيل) أو (الله المستعان). قال يعقوب عليه السلام: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ[يوسف:18]. ومثل: (إنا لله وإنا إليه راجعون) فهذا هو الأولى .وأما الجواز فيجوز أن يدعو المظلوم على ظالمه، كما قال تعالى: ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا [النساء:148]. ويدخل فيه الدعاء.
ومن ذلك قصة سعد بن أبي وقاص كما في صحيح البخاري (755) عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: شَكَا أَهْلُ الكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَعَزَلَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا، فَشَكَوْا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لاَ يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ إِنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لاَ تُحْسِنُ تُصَلِّي، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ «فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَخْرِمُ عَنْهَا، أُصَلِّي صَلاَةَ العِشَاءِ، فَأَرْكُدُ فِي الأُولَيَيْنِ وَأُخِفُّ فِي الأُخْرَيَيْنِ»، قَالَ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلًا أَوْ رِجَالًا إِلَى الكُوفَةِ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الكُوفَةِ وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلَّا سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ قَالَ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لاَ يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ، وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلاَ يَعْدِلُ فِي القَضِيَّةِ، قَالَ سَعْدٌ: أَمَا وَاللَّهِ لَأَدْعُوَنَّ بِثَلاَثٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالفِتَنِ، وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ، قَالَ عَبْدُ المَلِكِ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ، قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الكِبَرِ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ .
( لا يسير بالسرية) أي: لا يسير مع الجيش ،وصفه بالجبن.
قصة سعيد بن زيد أحد المبشرين بالجنة في صحيح مسلم (1610) عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، أَنَّ أَرْوَى خَاصَمَتْهُ فِي بَعْضِ دَارِهِ، فَقَالَ: دَعُوهَا وَإِيَّاهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ، طُوِّقَهُ فِي سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، اللهُمَّ، إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَأَعْمِ بَصَرَهَا، وَاجْعَلْ قَبْرَهَا فِي دَارِهَا، قَالَ: " فَرَأَيْتُهَا عَمْيَاءَ تَلْتَمِسُ الْجُدُرَ تَقُولُ: أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، فَبَيْنَمَا هِيَ تَمْشِي فِي الدَّارِ مَرَّتْ عَلَى بِئْرٍ فِي الدَّارِ، فَوَقَعَتْ فِيهَا، فَكَانَتْ قَبْرَهَا " .
«اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» الحذر من الظلم. ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا [طه:111]. ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21].
وثبت عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: غَلَا السِّعْرُ بِالْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، غَلَا السِّعْرُ، سَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ، الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ، وَلَا مَالٍ» .أخرجه أحمد في مسنده(14057) .
(فِي دَمٍ) قتل النفس التي حرم الله. (وَلَا مَالٍ) أخذ أموال الناس بالباطل.
من نجا من الشرك، ومَن نجا مِنْ ظُلم المسلمين في أعراضهم وأموالهم ودمائهم فهو على خير. لا تلصُّص ولا سرقة ولا اختلاس أموال الناس مثل الضرائب والجمارك ،والرشاوى.
الرشوة: ما أعطي لإحقاق باطل أوإبطال حق. هذا ما أخذناه من الوالد رحمه الله، وذكر لنا رحمه الله لما أخرجت كتبه من المدينة احتُجزت قالوا :كتبٌ وهابية وظن مَن جاء بها أنه لو أعطاهم مالًا يكون رشوة وما عرف أن الرشوة : ما أعطي لإحقاق باطل أولإبطال حق .
الرشوة هنا لا تنطبق على المعطِي  تنطبق على المُعْطَى .ثم سُلِّمتْ له رحمه الله بعد عناء وتعبٍ ومضَضٍ.
عرفنا شؤم الظلم ومضارَّه ، فالابتعاد عن الظلم نعمةٌ عظيمة ،لا لصغيرولا كبير، ومن كانت لها كلمة وقوة لا تظلم من تحتها ،لا تظلم يتيمةً، لا تظلم زوجة ولد، حتى أزواج الأولاد بعضهن يظلمن، ولكن﴿لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] .ومن الأدعية عندالخروج ما أخرج أبوداود في سننه (5094) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: مَا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْتِي قَطُّ إِلَّا رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ، أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ، أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ، أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ، أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ». (أَوْ أَظْلِمَ، أَوْ أُظْلَمَ)
أن نظلم غيرنا أو نُظْلم في أنفسنا.فقد يفتن الإنسان إذا ظُلِم، وبعض الناس يدعو على نفسه ( اللهم اجعلنا من المظلومين) هذا خطأ لا يدعو على نفسه بالفتنة.

وقوله (فَفَتَّ في أعضاد قريش) قال الصالحي في سبل الهدى والرشاد(4/316):أي كسر.
(وظفر عليه الصلاة والسلام بمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص فأمر بضرب عنقه صبراً، وهو والد عائشة أم عبد الملك بن مران).
قتل الصبر قال ابنُ الأثير في النهاية : هُوَ أَنْ يُمسَك شيءٌ من ذوات الرُّوح حيَّا ثم يُرْمى بِشَيْءٍ حَتَّى يَمُوتَ.
(فلم يقتل فيها سواه) أي: لم يقتل سوى معاوية بن المغيرة في غزوة حمراء الأسد.
********************************
فصل ـ بعث الرَّجيع
ثم بعث صلى الله عليه وسلم بعدَ أُحد بعثَ الرجيع، وذلك في صفر من السنة الرابعة، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى عَضَلٍ والقَارَةِ بسؤالهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ذلك حين قدموا عليه وذكروا أن فيهم إسلاماً، فبعث ستةَ نفر في قول ابن إسحاق، وقال البخاري في صحيحه كانوا عشرة. وقال أبو القاسم السهيلي: وهذا هو الصحيح.
وأمَّر عليهم مرثد بن أبي مرثدالغنوي رضي الله عنهم. ومنهم خبيب بن عدي، فذهبوا معهم، فلما كانوا بالرجيع، وهو ماءٌ لهذيل بناحية الحجاز بالهدْأَة غدروا بهم، واستصرَخوا عليهم هُذَيلاً، فجاؤوا فأحاطوا بهم فقتلوا عامَّتهم،وكانَ في شأنهم آياتٌ رضي الله عن جميعهم ، واسْتُأْسِر منهم خبيب بن عدي ورجل آخر وهو زيد بن الدَّثِنة فذهبوا بهما فباعوهما بمكة، وذلك بسبب ما كانا قتلا من كفار قريش من يوم بدر. فأما خبيب رضي الله عنه فمكث عندهم مسجوناً ثم أجمعوا لقتله فخرجوا به إلى التنعيم ليصلُبوه فاستأذنهم أن يصلي ركعتين فأذنوا له: فصلاهما ثم قال: والله لولا أن تقولوا أن ما بي جزعٌ لزدت، ثم قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً ... على أي جنب كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
ثم وكلوا به من يحرسه، فجاء عمرو بن أمية فاحتمله بخدعة ليلاً فذهب به فدفنه.
وأما زيد بن الدَّثنة رضي الله عنه فابتاعَه صفوان بن أمية فقتله بأبيه. وقد قال له أبو سفيان: أيسرك أن محمداً عندنا تُضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ فقال: والله ما يسرني أني في أهلي وأن محمداً في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكةٌ تؤذيه.
********************************
عندنا هنا بعث الرجيع قال الحافظ في فتح الباري :الرَّجِيعُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ هُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلرَّوْثِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاسْتِحَالَتِهِ .وَالْمُرَادُ هُنَا اسْمُ مَوْضِعٍ مِنْ بِلَادِ هُذَيْلٍ كَانَتِ الْوَقْعَةُ بِقُرْبٍ مِنْهُ فَسُمِّيَتْ بِهِ .اهـ.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: (وذلك في صفر من السنة الرابعة) وبعضهم ذكرها في سنة ثلاث كابن إسحاق  كما في سيرة ابن هشام (2/169).وقد نقل ذلك الحافظ في فتح الباري عن ابن إسحاق أنه ذكر غزوة الرجيع في أواخرسنة ثلاث .اهـ.
 وسبب غزوة الرجيع  أن عضل والقارة وهما قبيلتان قال الحافظ في فتح الباري(3905)عن القارة:وَهِيَ قَبِيلَةٌ مَشْهُورَة من بني الْهون بِالضَّمِّ وَالتَّخْفِيف بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ وَكَانُوا حُلَفَاءَ بَنِي زُهْرَةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَانُوا يُضْرَبُ بِهِمُ الْمَثَلَ فِي قُوَّةِ الرَّمْيِ قَالَ الشَّاعِرُ قَدْ أَنْصَفَ الْقَارَةَ مَنْ رَامَاهَا .اهـ.
وقال ابن حجر رحمه الله في  المواهب اللُّدنية بالمنح المحمدية (1/259):عضَل والقارة- بفتح الضاد المعجمة بعدها لام- بطن من بنى الهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، ينسبون إلى عضل بن الديش.
وأما القارة، فبالقاف وتخفيف الراء، بطن من الهون ينسبون إلى الديش المذكور، قال ابن دريد: القارة: أكمة سوداء فيها حجارة، كأنهم نزلوا عندها فسموا بها.اهـ.
سألوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يبعث من يعلمهم ويقرؤهم القرآن فأرسل إليهم مجموعة من أصحابه في صحيح البخاري أنهم عشرة.
وقوله (وأمَّر عليهم مرثد بن أبي مرثدالغنوي)وفي صحيح البخاري (3045)وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ قال الحافظ في فتح الباري : قَوْلُهُ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ كَذَا فِي الصَّحِيحِ وَفِي السِّيرَةِ أَنَّ الْأَمِيرَ عَلَيْهِمْ كَانَ مَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ وَمَا فِي الصَّحِيحِ أَصَحُّ .اهـ.
و في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث هؤلاء العشرة عينًا أي جواسيس لبعض الأمور.فالروايات مختلفة .والله أعلم.وللاستفادة نسوق الحديث بلفظه من البخاري (4086) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ» وَهُوَ جَدُّ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو لَحْيَانَ، فَتَبِعُوهُمْ بِقَرِيبٍ مِنْ مِائَةِ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حَتَّى أَتَوْا مَنْزِلًا نَزَلُوهُ، فَوَجَدُوا فِيهِ نَوَى تَمْرٍ تَزَوَّدُوهُ مِنَ المَدِينَةِ، فَقَالُوا: هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ، فَتَبِعُوا آثَارَهُمْ حَتَّى لَحِقُوهُمْ، فَلَمَّا انْتَهَى عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ، وَجَاءَ القَوْمُ فَأَحَاطُوا بِهِمْ، فَقَالُوا: لَكُمُ العَهْدُ وَالمِيثَاقُ إِنْ نَزَلْتُمْ إِلَيْنَا، أَنْ لاَ نَقْتُلَ مِنْكُمْ رَجُلًا، فَقَالَ عَاصِمٌ: أَمَّا أَنَا فَلاَ أَنْزِلُ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ، فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى قَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةِ نَفَرٍ بِالنَّبْلِ، وَبَقِيَ خُبَيْبٌ وَزَيْدٌ وَرَجُلٌ آخَرُ، فَأَعْطَوْهُمُ العَهْدَ وَالمِيثَاقَ، فَلَمَّا أَعْطَوْهُمُ العَهْدَ وَالمِيثَاقَ نَزَلُوا إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ حَلُّوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ، فَرَبَطُوهُمْ بِهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ الَّذِي مَعَهُمَا: هَذَا أَوَّلُ الغَدْرِ، فَأَبَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَلَمْ يَفْعَلْ فَقَتَلُوهُ، وَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ، وَزَيْدٍ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ، فَاشْتَرَى خُبَيْبًا بَنُو الحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الحَارِثَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَمَكَثَ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا، حَتَّى إِذَا أَجْمَعُوا قَتْلَهُ، اسْتَعَارَ مُوسًى مِنْ بَعْضِ بَنَاتِ الحَارِثِ لِيَسْتَحِدَّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ، قَالَتْ: فَغَفَلْتُ عَنْ صَبِيٍّ لِي، فَدَرَجَ إِلَيْهِ حَتَّى أَتَاهُ فَوَضَعَهُ عَلَى فَخِذِهِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ فَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَ ذَاكَ مِنِّي وَفِي يَدِهِ المُوسَى، فَقَالَ: أَتَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ ذَاكِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَكَانَتْ تَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ وَمَا بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ ثَمَرَةٌ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِي الحَدِيدِ، وَمَا كَانَ إِلَّا رِزْقٌ رَزَقَهُ اللَّهُ، فَخَرَجُوا بِهِ مِنَ الحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ: دَعُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: لَوْلاَ أَنْ تَرَوْا أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ مِنَ المَوْتِ لَزِدْتُ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ القَتْلِ هُوَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، ثُمَّ قَالَ: [البحر الطويل]
مَا أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًــــــا *** عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي،
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ *** يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ عُقبَةُ بْنُ الحَارِثِ فَقَتَلَهُ، وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ إِلَى عَاصِمٍ لِيُؤْتَوْا بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ يَعْرِفُونَهُ، وَكَانَ عَاصِمٌ قَتَلَ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِثْلَ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ، فَحَمَتْهُ مِنْ رُسُلِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ".
(وأمَّر عليهم مرثد بن أبي مرثدالغنوي رضي الله عنهم)
وهذا فيه الإمارة في السفر أما الإمارة في الحضر هذا ما عليه دليل.
وهذا ما استفدناه من والدي الشيخ مقبل رحمه الله أن الإمارةَ في الحضر غير مشروعة لا تجوز وأن الإمارة في الحضر تشتت شمل المسلمين قال:وعندما نزلنا مصر رُبَّ ثلاثة ولهم أمير، إلا إذا كان منصوبا من قبل الرئيس .
قال أما الإمارة في السفر فهي مشروعة فقد روى أبوداود (2608)عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ».هذا ما أفاده الوالد رحمه الله وكان يكررُ في دروسه إنكاره على الحزبيين .
قلت :وفي فتاوى اللجنة الدائمة(23/402):هل تجوز إمارة الحضر؟ أي: معلوم أنه يكون من السنة إذا كان ثلاثة في سفر أن يكون أحدهم عليهم أميرا، فهل يجوز أن يكون هناك أمير على مجموعة في بلدهم، وليسوا بمسافرين بل هم مقيمون؟
ج: صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا خرج ثلاثة في سفرفليؤمروا أحدهم » رواه أبو داود بإسناد حسن.
وهذا كما هو ظاهر الحديث في السفر، أما الحضر فإن الإمارة تكون لمن ولي أمر البلد بولاية شرعية وكل أمير بحسبه.اهـ.
فلما وصلوا إلى الرجيع غدروا بهم وقتل عامتهم واستأسروا خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فذهبوا بهما وباعوهما في مكة.
(وذلك بسبب ما كانا قتلا من كفار قريش من يوم بدر)
مجازاة لهما لأن خبيبًا وزيد بن الدثنة كانا من الأبطال في غزوة بدر. فمكث عندهم خبيب مسجونًا. وكان له من الكرامات مافي صحيح البخاري: (4086) " لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ وَمَا بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ ثَمَرَةٌ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِي الحَدِيدِ، وَمَا كَانَ إِلَّا رِزْقٌ رَزَقَهُ اللَّهُ" .
القطف :العنقود من العنب.
ثم أجمعوا على قتله فخرجوا به إلى التنعيم. وهذا يستفاد منه أن كفار قريش يعتقدون حرمة مكة ولهذا خرجوا إلى التنعيم إلى الحل، فاستأذن أن يصلي ركعتين فأذنوا له فصلاهما وفي صحيح البخاري "فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ القَتْلِ" فيستحب لمن يقام عليه القصاص أن يركع ركعتين.
(ثم قال: والله لولا أن تقولوا أن ما بي جزع لزدت)
 أي: زدت على هذين الركعتين، وهذا دليل على شجاعته. ودعا عليهم بدعوات (قَالَ: اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، وَاقْتُلْهُمْ بَدَدًا، وَلاَ تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا) كما في صحيح البخاري (3989) فاستجاب الله دعوته في كثير منهم قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري(4086):وَفِي رِوَايَةِ بُرَيْدَةَ بْنِ سُفْيَانَ فَقَالَ خُبَيْبٌ اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أَجِدُ مَنْ يُبَلِّغُ رَسُولَكَ مِنِّي السَّلَامَ فَبَلِّغْهُ وَفِيهِ فَلَمَّا رُفِعَ عَلَى الْخَشَبَةِ اسْتَقْبَلَ الدُّعَاءَ قَالَ فَلَبَدَ رَجُلٌ بِالْأَرْضِ خَوْفًا مِنْ دُعَائِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا وَاقْتُلْهُمْ بَدَدًا قَالَ فَلَمْ يَحُلِ الْحَوْلُ وَمِنْهُمْ أَحَدٌ حَيٌّ غَيْرَ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي لبد بِالْأَرْضِ.اهـ.
ثم أنشد رضي الله عنه هذين البيتين
مَا أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًــــــا *** عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي،
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ *** يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (7/384): "قَوْلُهُ (أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ) الْأَوْصَالُ: جَمْعُ وَصْلٍ وَهُوَ الْعُضْوُ، وَالشِّلْوُ: بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ الْجَسَدُ وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْعُضْوِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا الْجَسَدُ، وَالْمُمَزَّعُ: بِالزَّايِ ثُمَّ الْمُهْمَلَةِ الْمُقَطَّعُ وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَعْضَاءُ جَسَدٍ يُقَطَّعُ". اهـ.
 (ثم وكلوا به من يحرسه، فجاء عمرو بن أمية فاحتمله بخدعة ليلاً فذهب به فدفنه)
قتلوه ووكلوا بحراسة جُثَّته ثم جاء متسللا عمرو بن أمية وهو عمرو بن أمية الضمري كان شجاعًا بطلًا فجاءه فأخذه ثم ذهب به ودفنه.
وقد جاءفي مسند الإمام أحمد(28/ 489)من طريق  جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، " أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ وَحْدَهُ عَيْنًا إِلَى قُرَيْشٍ "، قَالَ: جِئْتُ إِلَى خَشَبَةِ خُبَيْبٍ وَأَنَا أَتَخَوَّفُ الْعُيُونَ، فَرَقِيتُ فِيهَا، فَحَلَلْتُ خُبَيْبًا، فَوَقَعَ إِلَى الْأَرْضِ، فَانْتَبَذْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ الْتَفَتُّ، فَلَمْ أَرَ خُبَيْبًا، وَلَكَأَنَّمَا ابْتَلَعَتْهُ الْأَرْضُ، فَلَمْ يُرَ لِخُبَيْبٍ أَثَرٌ حَتَّى السَّاعَةِ .وسنده ضعيف .
ودفن المؤمن يعتبر كرامة من الله فهذه كرامة لخبيب ستر جثته بالتراب فقد قال الله: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ (25) كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) [المرسلات]. وقال سبحانه: ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس:21]. ويعتبر القبر دارًا لصاحبه، كما في صحيح مسلم (974) عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّمَا كَانَ لَيْلَتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَقُولُ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا، مُؤَجَّلُونَ، وَإِنَّا، إِنْ شَاءَ اللهُ، بِكُمْ لَاحِقُونَ، اللهُمَّ، اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ».
(وأما زيد بن الدثنة رضي الله عنه فابتاعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه)
(فابتاعه) أي: اشتراه صفوان بن أمية بن خلف فقتله بأبيه؛ لأن أباه قتل في غزوة بدر. هذا حاصل بعث الرجيع.

وقد استنبط الحافظ ابن حجر فوائد من قصة خبيب وأصحابه وذكر منها : وَفِيهِ الْوَفَاءُ لِلْمُشْرِكِينَ بِالْعَهْدِ وَالتَّوَرُّعُ عَنْ قَتْلِ أَوْلَادِهِمْ وَالتَّلَطُّفُ بِمَنْ أُرِيدَ قَتْلُهُ ،وَإِثْبَاتُ كَرَامَةِ الْأَوْلِيَاءِ ،وَالدُّعَاءُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِالتَّعْمِيمِ ،وَالصَّلَاةُ عِنْدَ الْقَتْلِ ،وَفِيهِ إِنْشَاءُ الشِّعْرِ وَإِنْشَادُهُ عِنْدَ الْقَتْلِ ،وَدَلَالَةٌ على قُوَّةِ يَقِينِ خُبَيْبٍ وَشِدَّتِهِ فِي دِينِهِ ،وَفِيهِ أَنَّ اللَّهَ يَبْتَلِي عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ بِمَا شَاءَ كَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ لِيُثِيبَهُ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ، وَفِيهِ اسْتِجَابَةُ دُعَاءِ الْمُسْلِمِ وَإِكْرَامُهُ حَيًّا وَمَيِّتًا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ مِمَّا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ ،وَإِنَّمَا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ فِي حِمَايَةِ لَحْمِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ قَتْلِهِ لِمَا أَرَادَ مِنْ إِكْرَامِهِ بِالشَّهَادَةِ ،وَمِنْ كَرَامَتِهِ حِمَايَتُهُ مِنْ هَتْكِ حُرْمَتِهِ بِقَطْعِ لَحْمِهِ، وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ مِنْ تَعْظِيمِ الْحَرَمِ وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ .اهـ.