جديد المدونة

جديد الرسائل

الثلاثاء، 2 فبراير 2016

الدرس الثالث عشر من / الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 24 من شهر ربيع الثاني 1437.



فصل ـ غزوة بدر الكبرى

نذكرُ فيه ملَخَصَ وقعةِ بدر الثانية، وهي الوقعةُ العظيمةُ التي فرَّق الله فيها بينَ الحق والباطل وأعزَّ الإسلامَ، ودمغ الكفرَ وأهلَه، وذلك أنه لما كان في رمضان من هذه السنة الثانية بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن عيراً مقبلةً من الشام صحبةَ أبي سفيان، صخرِ بنِ حرب، في ثلاثين أو أربعين رجلاً من قريشٍ وهي عيرٌ عظيمة، تحمِلُ أموالاً جزيلةً لقريش، فندب صلى الله عليه وسلم الناس للخروج إليها، وأمر من كان ظهرُه حاضراً بالنهوضِ، ولم يحتفلْ لها احتفالاً كثيراً، إلا أنه خرج في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، لثمان خلون من رمضان، واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم، فلما كان بالروحاء ردَّ أبا لبابة بن عبد المنذر واستعمله على المدينة.
ولم يكن معه من الخيل سوى فرس الزبير، وفرس المقداد بن الأسود الكندي، ومن الإبل سبعون بعيراً يعتقب الرجلان والثلاثة فأكثر على البعير الواحد، فرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبونَ بعيراً، وزيد بن حارثة وأنسة وأبو كبشة موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمزة يعتقبونَ جملاً، وأبو بكر وعمرُ وعبد الرحمن بن عوف على جمل آخر.. وهلم جرا.
ودفع صلى الله عليه وسلم اللواء إلى مصعب بن عمير، والراية الواحدة إلى علي بن أبي طالب، والراية الأخرى إلى رجل من الأنصار، وكانت راية الأنصار بيد سعد بن معاذ، وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة.
وسار صلى الله عليه وسلم فلما قرب من الصفراء بعث بسبس بن عمرو الجهني، وهو حليف بني ساعدة، وعديَّ بن أبي الزغباء الجهني حليف بني النجار إلى بدر يتحسَّسان أخبار العير.
*****************************
عندنا في هذا الفصل غزوة بدر الكبرى، وغزوات بدر ثلاث: غزوة بدر الأولى، وغزوة بدر الكبرى، وغزوة بدر الأخرى. وقد ذكرابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (1/ 125) عدد غزوات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم قال:" وَالْغَزَوَاتُ الْكِبَارُ الْأُمُّهَاتُ سَبْعٌ: بَدْرٌ، وَأُحُدٌ، وَالْخَنْدَقُ، وَخَيْبَرُ، وَالْفَتْحُ، وَحُنَيْنٌ، وَتَبُوكُ". اهـ.
غزوة بدر الكبرى كانت في رمضان وسببها أن أباسفيان قدم بعير  فخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لتلقي قافلة أبي سفيان ولم يخرج لقتال الكفار. وأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصحابه بالخروج، وقال للأنصار: من كان له ظهر فليخرج. ولم يأذنْ لمن كان ظهره بعوالي المدينة أن يأتي به وهذافي صحيح مسلم (1901). عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وفيه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:«إِنَّ لَنَا طَلِبَةً، فَمَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا فَلْيَرْكَبْ مَعَنَا»، فَجَعَلَ رِجَالٌ يَسْتَأْذِنُونَهُ فِي ظُهْرَانِهِمْ فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: «لَا، إِلَّا مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا». 
والظَّهْر: الإبلُ الَّتِي يُحمِل عَلَيْهَا وتُرْكب. يُقَالُ: عِنْدَ فُلَانٍ ظَهْرٌ: أَيْ إبلٌ كما في النهاية.
(خرج في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا )وهذافي صحيح مسلم (1763) عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا.
(فرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبونَ بعيراً)
 في مسند أحمد وهو في الصحيح المسند للولد رحمهما الله(831) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كُنَّا يَوْمَ بَدْرٍ كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ، كَانَ أَبُو لُبَابَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، زَمِيلَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَكَانَتْ عُقْبَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَقَالَا نَحْنُ نَمْشِي عَنْكَ، فَقَالَ: " مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي، وَلَا أَنَا بِأَغْنَى عَنِ الْأَجْرِ مِنْكُمَا " والحديث حسن.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (3/ 319)قُلْتُ: وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ أَبَا لُبَابَةَ مِنَ الرَّوْحَاءِ، ثُمَّ كَانَ زَمِيلَاهُ عَلِيٌّ وَمَرْثَدٌ بَدَلَ أَبِي لُبَابَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثم لما سار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقرب من الصفراء وهو موضعٌ مُجَاورُ بدْر كما في النهاية . بعث بسبس بن عمرو الجهني ـ يقال: بسبس، ويقال: بسبسة بزيادة تاء مربوطةـ وعدي بن أبي الزغباء بعثهما يتحسسان أخبار العير والعير: هي القافلة.
وهذا يستفاد منه جواز التجسس على الكفار للحاجة، أما التجسس على المسلم فهذا لا يجوز يقول تعالى: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا [الحجرات:12]. ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم "... مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ" أخرجه الترمذي في سننه (2032). والحديث في الصحيح المسند للوالد رحمه الله.
وبسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء صحابيان وكلاهما شهد بدرًا.
(وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة)الساقة مؤخرة القوم .
*****************************
وأما أبو سفيان فإنه بلغه مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده إياه، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة مستصرِخاً لقريش بالنفير إلى عيرهم ليمنعوه من محمد وأصحابه.
وبلغ الصريخُ أهلَ مكة، فنهضوا مسرعين وأوعبوا في الخروج، ولم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبي لهب، فإنه عَوَّض عنه رجلاً كان له عليه دين، وحشدوا ممن حولهم من قبائل العرب، ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدي، فلم يخرج معهم منهم أحد.
وخرجوا من ديارهم كما قال الله عز وجل: ﴿ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنفال:47]. وأقبلوا في تحمل وحنَقٍ عظيمٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابِه لما يريدون من أخذِ عيرهم، وقد أصابوا بالأمس عمرو بن الحضرمي والعير التي كانت معه.
فجمعهم الله على غير ميعاد لما أراد في ذلك من الحكمة كما قال تعالى ﴿وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا [الأنفال:42].
*****************************
لما بلغ أبا سفيان مخرجُ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لتلقي العير بعث ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة مستصرخًا مستنجدًا بقريش فنفر قريش مسرعين لحماية أبي سفيان وقافلته. ولم يتخلف من أشرافهم إلا أبو لهب، وبنوعدي من قريش وخرجوا بطرًا ورئاء الناس، وبعصبية، وحميَّة، وغضب على المسلمين، لِما يريدون من أخذ القافلة وقتل مَن فيها ومع ما قد أصابهم من قتل عمرو بن الحضرمي قبل أيام وأخذ العير التي معه، وجمعهم الله في بدرعلى غير ميعاد.﴿وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ [الأنفال:42]. وفي الصحيحين البخاري (4418) مسلم (2769) عن كَعْب بن مالك قال: "لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ، حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ ..." الحديث .
وبينت الآية الحكمة من اتفاقهم في المجيء على غير ميعاد أنه لو كان بينهم ميعاد لاختلفوا وما يتم ما أراد الله سبحانه وتعالى ولله الحكمة البالغة.
*****************************
ولما بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خروجُ قريش استشار أصحابه، فتكلم كثير من المهاجرين فأحسنوا، ثم استشارهم وهو يريد ما يقول الأنصار، فبادر سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله! كأنك تُعرِّض بنا، فو الله يا رسول الله، لو استعرضت بنا البحر لخضناه معك، فسر بنا يا رسول الله على بركة الله. فَسُرَّ صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: «سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين» .
*****************************
لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خروج قريش لحماية ونصرة أبي سفيان وقافلته.
(استشار أصحابه، فتكلم كثير من المهاجرين فأحسنوا، ثم استشارهم وهو يريد ما يقول الأنصار...)
والحديث في صحيح مسلم (1779) عَنْ أَنَسٍ بن مالك رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاوَرَ حِينَ بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ: إِيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبَحْرَ لَأَخَضْنَاهَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا...) الحديث
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :قَالَ الْعُلَمَاءُ إِنَّمَا قَصَدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتِبَارَ الْأَنْصَارِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَايَعَهُمْ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ لِلْقِتَالِ وَطَلَبِ الْعَدُوِّ وَإِنَّمَا بَايَعَهُمْ عَلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ مِمَّنْ يَقْصِدُهُ فَلَمَّا عَرَضَ الْخُرُوجَ لِعِيرِ أَبِي سُفْيَانَ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُمْ يُوَافِقُونَ عَلَى ذَلِكَ فَأَجَابُوهُ أَحْسَنَ جَوَابٍ بِالْمُوَافَقَةِ التَّامَّةِ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ وَغَيْرِهَا .اهـ.
فالسبب في استشارة الأنصار أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بايع الأنصار على أن يؤووه، ويمنعوا منه كما يمنعون من نسائهم، وأنفسهم، وأموالهم، أي: في ديارهم. فلم يكن في البيعة الخروج من المدينة لغزو الكفار. فتكلم سعد بن معاذ رضي الله عنه بهذا الكلام الجميل أنهم مستعدون أتم الاستعداد للخروج مع الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم فَسُرَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك .
وقوله في رواية مسلم (فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ)الذي في كلام الحافظ ابن كثير(فبادر سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله!)
قال الحافظ ابنُ حجر رحمه الله في فتح الباري تحت رقم (3952)وَوَقَعَ فِي مُسْلِمٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ هُوَ الَّذِي قَالَ ذَلِك وَكَذَا أخرجه بن أَبِي شَيْبَةَ مِنْ مُرْسَلِ عِكْرِمَةَ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا وَإِنْ كَانَ يُعَدُّ فِيهِمْ لِكَوْنِهِ مِمَّنْ ضُرِبَ لَهُ بِسَهْمِهِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ فِي آخِرِ الْغَزْوَةِ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَشَارَهُمْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ مَرَّتَيْنِ الْأُولَى وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ أَوَّلَ مَا بَلَغَهُ خَبَرُ الْعِيرِ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَلَفْظُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاوَرَ حِينَ بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ وَالثَّانِيَةُ كَانَتْ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ ذَلِكَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَهَذَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ .اهـ.
وجاء أن المقداد بن الأسود قال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "لاَ نَقُولُ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ، وَلَكِنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ، وَبَيْنَ يَدَيْكَ وَخَلْفَكَ «فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَقَ وَجْهُهُ وَسَرَّهُ» يَعْنِي: قَوْلَهُ" رواه البخاري (3952).
(وقال: «سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين»)
اشارة إلى قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ [الأنفال:7].
(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) الطائفتان: العير والنفير. (العير) قافلة أبي سفيان، وكان معه عمرو بن العاص ومجموعة من أصحابه. (والنفير) الذي نفروا من مكة لحماية قافلة أبي سفيان.
(وَتَوَدُّونَ) أي تتمنون. (أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) وهي العير.
الشوكة :قال ابن الأثير في النهاية : شَوْكَةُ الْقِتَالِ شِدّته وحدَّته.اهـ.
 والصحابة يميلون إلى العير التجاريَّة قال الحافظ ابن كثيرفيما يأتي (وودوا أن لو كانا لعير أبي سفيان وأنه منهم قريب ليفوزوا به، لأنه أخف مؤونة من قتال النفير من قريش لشدة بأسهم واستعدادهم لذلك)  .
*****************************
ثم رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل قريباً من بدر، وركب صلى الله عليه وسلم مع رجل من أصحابه مستخبراً ثم انصرف، فلما أمسى بعث علياً وسعداً والزبير إلى ماء بدر يلتمسون الخبر، فقدموا بعبدين لقريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فسألهما أصحابه لمن أنتما.
؟ فقالا: نحن سقاة لقريش. فكره ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وودوا أن لو كانا لعير أبي سفيان وأنه منهم قريب ليفوزوا به، لأنه أخف مؤونة من قتال النفير من قريش لشدة بأسهم واستعدادهم لذلك. فجعلوا يضربونهما، فإذا آذاهما الضرب قالا: نحن لأبي سفيان. فإذا سكتوا عنهما قالا: نحن لقريش. فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته قال: والذي نفسي بيده إنكم لتضربونهما إذا صدقا وتتركونهما إذا كذبا. ثم قال لهما: أخبراني أين قريش؟ قالا: وراء هذا الكثيب.
قال: كم القوم؟ قالا: لا علم لنا. فقال: كم ينحرون كل يوم؟ فقالا: يوماً عشراً ويوماً تسعاً: فقال صلى الله عليه وسلم: «القوم ما بين التسعمائة إلى الألف».
*****************************
(فكره ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وودوا أن لو كانا لعير أبي سفيان وأنه منهم قريب ليفوزوا به، لأنه أخف مؤونة من قتال النفير من قريش لشدة بأسهم واستعدادهم لذلك)
فكان هذا هو السبب في ميل الصحابة لنيل عير أبي سفيان لأنه أخف مؤونة، ولأنه ليس عندهم استعداد للقتال، والقافلة فيها أموال كثيرة بخلاف الطائفة الأخرى النفير فإنهم جاءوا بعُدَّتِهم وقُوَّتهم وببأس شديد.
 (فجعلوا يضربونهما، فإذا آذاهما الضرب قالا: نحن لأبي سفيان...)
هذا في صحيح مسلم (1779) وفيه: "...فَنَدَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى نَزَلُوا بَدْرًا، وَوَرَدَتْ عَلَيْهِمْ رَوَايَا قُرَيْشٍ، وَفِيهِمْ غُلَامٌ أَسْوَدُ لِبَنِي الْحَجَّاجِ، فَأَخَذُوهُ، فَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَصْحَابِهِ، فَيَقُولُ: مَا لِي عِلْمٌ بِأَبِي سُفْيَانَ، وَلَكِنْ هَذَا أَبُو جَهْلٍ، وَعُتْبَةُ، وَشَيْبَةُ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ ضَرَبُوهُ، فَقَالَ: نَعَمْ، أَنَا أُخْبِرُكُمْ، هَذَا أَبُو سُفْيَانَ، فَإِذَا تَرَكُوهُ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ مَا لِي بِأَبِي سُفْيَانَ عِلْمٌ، وَلَكِنْ هَذَا أَبُو جَهْلٍ، وَعُتْبَةُ، وَشَيْبَةُ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، فِي النَّاسِ، فَإِذَا قَالَ هَذَا أَيْضًا ضَرَبُوهُ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ انْصَرَفَ، قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَضْرِبُوهُ إِذَا صَدَقَكُمْ، وَتَتْرُكُوهُ إِذَا كَذَبَكُمْ»، قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ»، قَالَ: وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ «هَاهُنَا، هَاهُنَا»، قَالَ: فَمَا مَاطَ أَحَدُهُمْ عَنْ مَوْضِعِ يَدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا فيه دليل من دلائل النبوة فقد تحقَّق ما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن هذين العبدين ماعندهما علم بأبي سفيان لأنهما من النفير.
 (فقال صلى الله عليه وسلم: القوم ما بين التسعمائة إلى الألف)
القوم: أي كفار قريش. وقد جاء في صحيح مسلم (1763) عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ»، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}... الحديث.
*****************************
وأما بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء فإنهما وردا ماء بدر فسمعا جارية تقول لصاحبتها: ألا تقضيني ديني؟ فقالت الأخرى: إنما تقدم العير غداً أو بعد غد فأعمل لهم وأقضيك.
فصدقها مجدي بن عمرو. فانطلقا مُقْبِلَيْن لما سمعا، ويَعْقُبهما أبو سفيان، فقال لمجدي بن عمرو: هل أحسسْتَ أحداً من أصحابِ محمد؟ فقال: لا إلا أن راكبين نزلا عند تلك الأكمة. فانطلق أبو سفيان إلى مكانهما وأخذ من بعر بعيرهما ففتَّه فوجد فيه النوى فقال: والله هذه علائفُ يثربَ، فعدل بالعير إلى طريق الساحل، فنجا، وبعث إلى قريش يُعْلِمهم أنه قد نجا هو والعير ويأمرهم أن يرجعوا. وبلغ ذلك قريشاً، فأبى أبو جهل وقال: والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر، ونقيم عليه ثلاثاً، ونشرب الخمر، وتضرب على رؤوسنا القيان، فتهابنا العرب أبداً، فرجع الأخنس بن شريق بقومه بني زهرة قاطبة، وقال: إنما خرجتم لتمنعوا عيركم وقد نجت، ولم يشهد بدراً زهري إلا عَمَّا مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله: والد الزهري، فإنهما شهداها يومئذ وقتلا كافرين.
*****************************
بسبس بن عمرو وعدي بعثهما النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم للاستطلاع على خبر قريش فسمعا جارية تقول لصاحبتها: ألا تقضيني ديني؟ كان عندها دين على صاحبتها. فقالت الأخرى: إنما تقدم العير غداً أو بعد غد فأعمل لهم وأقضيك.فصدَّقها مجدي بن عمرو.، أي قال لها: صدقت أنه سيأتي العير غدًا أو بعد غدًا. وما عرف مجدي الصحابيين، وهذا من حكمة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث من صحابته من ليس بمشهورين عند الناس.
(فانطلقا مقبلين لما سمعا)
انطلقا مقبلين لما سمعا أن القافلة قادمة.
(فانطلق أبو سفيان إلى مكانهما وأخذ من بعر بعيرهما ففتَّه فوجد فيه النوى فقال: والله هذه علائف يثرب)
وهذا من خبرة أبي سفيان، ومعرفته. وقد أسلم رضي الله عنه عام الفتح. وقد تخوَّف أبوسفيان أن يأتي من جهة بدرٍفعدل بالعير إلى طريق أخرى، فنجا بقافلته فأرسل إلى قريش ليعلمهم بالخبر أنه قد نجا وأمرَهم أن يرجعوا، فهمُّوا بالرجوع  إلا أن أبا جهل رفض ذلك وأبى إلا القدوم بمن معه إلى قتال المسلمين ببدر زَيَّنَ له الشيطان أنَّه سيكون لهم النصر، وأنه سيكون لهم الهيبة عند العرب.
أما الأخنس بن شريق فلم يقبل رأيَ أبي جهل ورجع بقومه بني زهرة قاطبة. ولما وقعت المعركة وكان فيها حصاد الكافرين والنصرة للمسلمين استعظم بنو زهرة رأي الأخنس بن شريق، ورأوا له مكانته العظيمة.
*****************************
فبادر رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً إلى ماء بدر، ونزل على أدنى ماء هناك، فقال له الحباب بن المنذر بن عمرو: يا رسول الله، هذا المنزل الذي نزلته أمرك الله به؟ أو منزل نزلته للحرب والمكيدِة؟ قال: «بل منزل نزلته للحرب والمكيدة». فقال: ليس هذا بمنزل، فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من مياه القوم فننزله، ونُغَوِّرُ ما وراءنا من القُلُب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه، فنشرب ولا يشربون. فاستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ذلك.
 وحال الله بين قريش وبين الماء بمطرٍ عظيم أرسله، وكان نقمةً على الكفار ونعمةً على المسلمين، مهَّد لهم الأرضَ ولبَّدَها، وبُنِيَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشٌ يكون فيه. ومشى صلى الله عليه وسلم في موضع المعركة، وجعل يريهم مصارعَ رؤوسِ القوم واحداً واحداً، ويقول: «هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله، وهذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان». قال عبد الله بن مسعود: فوالذي بعثه بالحق ما أخطأ واحد منهم موضعه الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة يصلي إلى جَذْمِ شجرة هناك، وكانت ليلة الجمعة السابع عشر من رمضان، فلما أصبح وأقبلت قريش في كتائبها، قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم هذه قريش قد أقبلت في فخرها وخيلائها، تحادُّك وتحادُّ رسولك». ورام الحكيم بن حزام وعتبة بن ربيعة أن يرجعا بقريش فلا يكون قتال، فأبى ذلك أبو جهل، وتقاول هو وعتبة، وأمر أبو جهل أخا عمرو بن الحضرمي أن يطلب دم أخيه عمرو، فكشف عن استه وصرخ: واعَمراه! واعَمراه! فحمي القوم ونشبت الحرب.
*****************************
(فقال له الحباب بن المنذر بن عمرو: يا رسول الله، هذا المنزل الذي نزلته أمرك الله به؟ أو منزل نزلته للحرب والمكيدة؟.. فاستحسن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منه ذلك)
هذه القصة في سيرة ابن إسحاق وليس لها سندقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ كما في السيرة لابن هشام (2/192): فحُدثت عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَلمة، أَنَّهُمْ ذَكَرُوا: أَنَّ الحُباب بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الجَموح ...
(ونُغَوِّرُ ما وراءَنا من القُلُب)في نسخة من الفصول ط مكتبة الهدي المحمدي(ونعور ) بالعين المهملة قال القاري في شرح الشفا (2/ 339) القُلُب : بضمتين جمع قليب وهو البئر ونعور بتشديد الواو المكسورة بعد عين مهملة وقيل معجمة فعلى الأول أي نفسدها عليهم وعلى الثاني نذهبها في الأرض وندفنها لئلا يقروا على الانتفاع بها وفي رواية السهيلي بضم العين المهملة وسكون الواو وهي لغة فيها .اهـ.
(قال عبد الله بن مسعود: فوالذي بعثه بالحق ما أخطأ واحد منهم موضعه الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم)
ما أخطأ: أي تجاوز.
وهذا من معجزات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر بموضع مصرع صناديد قريش فلم يتجاوز أحد منهم ذلك الموضع فهذا من معجزات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذه الغزوة وتقدم معنا (إنكم لتضربونهما إذا صدقا) أيضًا هذا من دلائل النبوة في هذه الغزوة الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لوقوع نفس ما في الأمر.
(وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة يصلي إلى جذم شجرة هناك...)
قال الجوهري في الصحاح : الجذم، بالكسر: أصل الشئ، وقد يفتح.
(تلك الليلة) أي: ليلة بدر الليلة التي سيصبح فيها المعركة ولم ينم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الليلة كلها بقي يذكرالله ويدعو حتى أصبح . ثبت في مسند أحمد (1161) عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُنَا لَيْلَةَ بَدْرٍ، وَمَا مِنَّا إِنْسَانٌ إِلا نَائِمٌ، إِلا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى شَجَرَةٍ، وَيَدْعُو حَتَّى أَصْبَحَ» ، وَمَا كَانَ مِنَّا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرَ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ. والحديث في الصحيح المسند للوالد رحمه الله.
والذي تقدم معنا في الفصول أنه يوجد فارسان في غزوة بدر الزبير والمقداد .
وقيل ثلاثة أفراس قال الزرقاني المالكي في شرح المواهب اللُّدَنية (2/ 260): وأجيب بحمل النفي على بعض الأحوال دون الباقي، لكن في التقريب للحافظ: لم يثبت أنه شهدها فارس غير المقداد.
وقال أبوالفرج الحلَبي في السيرة الحلبية (2/ 205) أقول: يجوز أن يكون المراد لم يقاتل يوم بدر فارسا إلا المقداد وغيره ممن له فرس قاتل راجِلا ..
ونستفيد من هذا أهمية الدعاء والذكر والتضرع إلى الله في الغزو، قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45]. وهذا من أسباب النصر على الأعداء الدعاء، والذكر، وكذلك الصلاة قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153]. وكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى. فالصلاة شأنها عظيم في التثبيت في دفع الضر وجلب الخير وهكذا الدعاء.
(ورام الحكيم بن حزام وعتبة بن ربيعة أن يرجعا بقريش فلا يكون قتال)
(ورام) أي: أراد. (أن يرجعا) أي: قبل المعركة تخوُّفًا من القتال فأبى أبو جهل وتقاوَل هو وعتبة أي بالكلام والخصام وأصرَّ على المُضِي وحرَّض أخا عمرو بن الحضرمي أن يطلب الثأرَ لأخيه.

(فكشف عن استه وصرَخ: واعمراه! واعمراه)

أي: كشف  عن عورته. وهذا موقف آخر لأبي جهل لأنه من الذين سيُقتلون ببدركما أخبر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم  وتقدم أنه لمَّا مضت قافلة أبي سفيان أمرهم أبو سفيان بالرجوع فأبى أبو جهل إلا القدوم، وهنا ليلة بدر أراد حكيم بن حزام الرجوع هو وعتبة بن ربيعة وأصر أبو جهل على البقاء وحرض أخا عمرو بن الحضرمي على طلب الثأر لأخيه وتفاعل المشركون ونشِبت الحرب .
 وحكيم بن حزام كان مشركًا ثم أسلم بعد ذلك، أما عتبة بن ربيعة فمات على الكفر، وقد قتِل في هذه الغزوة .
*****************************
وعدَّل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصفوف، ثم رجع إلى العريش هو وأبو بكر وحده، وقام سعد بن معاذ وقوم من الأنصار على باب العريش يحمُون رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج عتبةُ بن ربيعة، وشيبةُ بن ربيعة، والوليدُ بن عتبة، ثلاثتهم جميعاً يطلبون البراز، فخرج إليهم من المسلمين ثلاثة من الأنصار، وهم: عوف ومعوذ ابنا عفراء، وعبد الله بن رواحة، فقالوا لهم: من أنتم؟ فقالوا: من الأنصار، فقالوا: أكْفَاءٌ كرامٌ وإنما نريد بني عمِنا، فبرز لهم علي وعبيدة بن الحارث وحمزة رضي الله عنهم، فقتل عليٌّ الوليد، وقتل حمزةُ عتبة، وقيل: شيبة، واختلفَ عبيدة وقِرْنُه بضربتين، فأَجهدَ كلٌّ منهما صاحبه، فكرَّ حمزة وعلي فتمَّما عليه واحتملا عبيدةَ وقد قٌطعت رجله، فلم يزل طَمِثاً حتى مات بالصفراء رحمه الله تعالى ورضي عنه.
وفي الصحيح أن علياً رضي الله عنه كان يتأوَّل قوله تعالى: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج:19]. في بِرازِهم يوم بدر، ولا شك أن هذه الآية في سورة الحج، وهي مكيةٌ، ووقعة بدر بعد ذلك، إلا أن بِرازَهم من أَوَّلِ ما دخل في معنى الآية.
*****************************
قبلَ القتال عدَّل رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم  صفوف المسلمين ورتَّبها ووعظهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورغَّبهم في الغزو.
أخرج مسلم في صحيحه (1901) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وفيه قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ»، قَالَ: - يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: - يَا رَسُولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: بَخٍ بَخٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ: بَخٍ بَخٍ؟» قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا»، فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ .
وهذا من فضائل عمير بن الحمام، وهذا موقف الصحابة كلهم رضي الله عنهم المسابقة  إلى الجنة، ورغبتهم في الآخرة.
(وخرج عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، ثلاثتهم جميعاً يطلبون البِراز، فخرج إليهم من المسلمين ثلاثة من الأنصار، وهم: عوف ومعوذ ابنا عفراء، وعبد الله بن رواحة).
(يطلبون البِراز ) قال الجوهري في الصحاح : البِرازُ: المُبارَزَةُ في الحرب. والبِرازُ أيضاً: كنايةٌ عن ثُفْلِ الغِذاء، وهو الغائِط.اهـ .
هذه هي المبارزة في غزوة بدر، وطلبَ المبارزة هؤلاء الثلاثة: عتبة وشيبة والوليد بن عتبة. فخرج من المسلمين من الأنصار ثلاثة وهم عوف ومعوذ وعبد الله بن رواحة .
(فقالوا: أكفاء كرام وإنما نريد بني عمنا)
يريدون من قريش .
(فبرز لهم علي وعبيدة بن الحارث وحمزة رضي الله عنهم)
من خيار صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(فقتَل عليٌّ الوليد)
الوليد بن عتبة.
(وقتل حمزةُ عتبةَ، وقيل: شيبة)
يعني مختلف في ذلك هل قتل حمزةُ عتبةَ أم قتلَ شيبة .
(واختلف عبيدةُ وقِرْنُه بضر بتين)
القِرْن: قال ابن الأثير رحمه الله في النهاية : القِرْن بِالْكَسْرِ: الكُفْء والنَّظير فِي الشَّجاعة والحَرْب، ويُجْمَع عَلَى: أَقْران.
والأكثر أن شيبةَ برزَ له عبيدةُ بن الحارث رضي الله عنه .
قال الحافظ ابنُ حجر في فتح الباري (3970)أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ تَقَدَّمَ عُتْبَةُ وَتَبِعَهُ ابْنُهُ وَأَخُوهُ فَانْتَدَبَ لَهُ شَبَابٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ لَا حَاجَةَ لَنَا فِيكُمْ إِنَّمَا أَرَدْنَا بَنِي عَمِّنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُمْ يَا حَمْزَةُ قُمْ يَا عَلِيُّ قُمْ يَا عُبَيْدَةُ فَأَقْبَلَ حَمْزَةُ إِلَى عُتْبَةَ وَأَقْبَلْتُ إِلَى شَيْبَةَ وَاخْتُلِفَ بَيْنَ عُبَيْدَةَ وَالْوَلِيدِ ضَرْبَتَانِ فَأَثْخَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ ثُمَّ مِلْنَا عَلَى الْوَلِيدِ فَقَتَلْنَاهُ وَاحْتَمَلْنَا عُبَيْدَةَ .
 قلت : وهذ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ لَكِنَّ الَّذِي فِي السِّيَرِ مِنْ أَنَّ الَّذِي بَارَزَهُ عَلِيٌّ هُوَ الْوَلِيدُ هُوَ الْمَشْهُورُ وَهُوَ اللَّائِقُ بِالْمَقَامِ لِأَنَّ عُبَيْدَةَ وَشَيْبَةَ كَانَا شَيْخَيْنِ كَعُتْبَةَ وَحَمْزَةَ بِخِلَافِ عَلِيٍّ وَالْوَلِيدِ فَكَانَا شَابَّيْنِ وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ أَعَنْتُ أَنَا وَحَمْزَةُ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ فَلَمْ يَعِبِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ عَلَيْنَا وَهَذَا مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ . اهـ .
فهؤلاء ثلاثة : شيبة وعتبة أخوان ، وولد عتبة وهو الوليد قتلوا في غزوة بدرٍ  .
(فكرَّ حمزة وعلي فتمَّما عليه واحتملا عبيدة وقد قُطعت رجله، فلم يزل طمثاً حتى مات بالصفراء رحمه الله تعالى ورضي عنه)

(فتمما عليه) يعني: أجهزا قتله. وعبيدة بن الحارث رضي الله عنه قطعت رجله فلم يزل (طمثاً) أي: فاسدًا . يراجع تاج العروس.
وهذه المبارزة أول مبارزة وقعت في الإسلام كما في فتح الباري (3970).
*****************************
ثم حمي الوطيس، واشتد القتال، ونزل النصر، واجتهد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء، وابتهل ابتهالاً شديداً، حتى جعل رداؤُه يسقط عن منكبيه، وجعل أبو بكر يصلحه عليه ويقول: يا رسول الله، بعضَ مناشدتك ربك، فإنه منجزٌ لك ما وعدك. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» فذلك قوله تعالى {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} ثم أغفَى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءةً، ثم رفع رأسه وهو يقول: «أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع» .
*****************************
هنا بيان أنه لما اشتد القتال بين المسلمين والمشركين اجتهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الدعاء، وكان مما قال: «اللهم إن تهلِك هذه العصابة لا تعبد في الأرض»  وفي هذا الحديث النبوي دليلٌ على أن الخضر نبي الله قد مات؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: (إن تهلك هذه العصابة) . وهناك قولٌ أن الخضر لم يمت. وهذا الحديث يردُّ ذلك ،مع أيضا عمومات في المسألة .
(أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءةً)
(أغفى) الإغفاء هو النوم الخفيف . يراجع النهاية .
 وفي هذه الغزوة ألقى الله عز وجل على المسلمين النعاس رحمةً بهم، فإنه يدل على طمأنينة وراحة نفسية قال سبحانه: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ [الأنفال:11]. فغشيهم النعاسُ في غزوة بدر ، وأنزل الله عز وجل من السماء ماءً تطهيرًا لهم وشدًّا لقلوبهم وتثبيتًا لأقدامهم.
(أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع)
النقع: وهو الغبار.
*****************************
وكان الشيطان قد تبدَّى لقريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم زعيم مدلِج، فأجارهم، وزيَّن لهم الذهاب إلى ما هم فيه، وذلك أنهم خشُوا بني مدلج أن يخلفوهم في أهاليهم وأموالهم، فذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ [الأنفال:48]. وذلك أنه رأى الملائكة حين نزلت للقتال، ورأى ما لا قِبَل له به، ففرَّ وقاتلت الملائكة كما أمرها الله، وكان الرجل من المسلمين يطلب قِرْنه، فإذا به قد سقط أمامَه.
*****************************
وهذا من تزيين الشيطان لأهل الباطل جاءهم وظهر لهم على صورة سراقة بن مالك بن جعشم زعيم مدلج أي: سيد مدلج. فإن قريشا خافت على نسائها وأموالها  من بني مدلج لخلافٍ كان بينهم، فجاءهم الشيطان في صورة سراقة ليطمئنُّوا، ثم هرب لما اشتد القتال ﴿فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ هرب وتبرأ منهم وهذا من كيد الشيطان، يسعى جادًّا في الحث على الباطل وعلى الوقوع في المحرم وعلى مالا ينبغي ثم يترك من أغواه وشأنه ،كما أنه في الآخرة يتبرَّأُ ممن أطاعه .
وللمقداد بن الأسود رضي الله عنه قصة في وسوسة الشيطان له على شرب نصيب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من اللبن ثم تأنِيبُه على شُرْبِهِ .والحديث في صحيح مسلم (2055) عَنِ الْمِقْدَادِ، وفيه فَأَتَانِي الشَّيْطَانُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَقَدْ شَرِبْتُ نَصِيبِي، فَقَالَ: مُحَمَّدٌ يَأْتِي الْأَنْصَارَ فَيُتْحِفُونَهُ، وَيُصِيبُ عِنْدَهُمْ مَا بِهِ حَاجَةٌ إِلَى هَذِهِ الْجُرْعَةِ، فَأَتَيْتُهَا فَشَرِبْتُهَا، فَلَمَّا أَنْ وَغَلَتْ فِي بَطْنِي، وَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ إِلَيْهَا سَبِيلٌ، قَالَ: نَدَّمَنِي الشَّيْطَانُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ، مَا صَنَعْتَ أَشَرِبْتَ شَرَابَ مُحَمَّدٍ، فَيَجِيءُ فَلَا يَجِدُهُ فَيَدْعُو عَلَيْكَ فَتَهْلِكُ فَتَذْهَبُ دُنْيَاكَ وَآخِرَتُكَ، وَعَلَيَّ شَمْلَةٌ إِذَا وَضَعْتُهَا عَلَى قَدَمَيَّ خَرَجَ رَأْسِي، وَإِذَا وَضَعْتُهَا عَلَى رَأْسِي خَرَجَ قَدَمَايَ، وَجَعَلَ لَا يَجِيئُنِي النَّوْمُ ) الحديث .
فهذه عادة الشيطان الحث على المخالفة، وأن الفعل هو عين الصواب، فإذا وقع فيه ندَّمه وأنَّبَه لماذا فعلت؟ هذا لا يجوز، أو هذا لا يليق ، ليس حبًا في الخير، ولكنه من كيد الشيطان، ومن مكره، وخداعه وخُبثه ، أنه في أول الأمر يحث ويحرِّض وبعد الوقوع فيه يُحَزِّن ويُؤَنِّب على أن الفعل خطاٌ ، ولا مفر ولا عصمة لنا منه إلا بذكر الله عز وجل .
(وقاتلت الملائكة كما أمرها الله، وكان الرجل من المسلمين يطلب قِرْنَه، فإذا به قد سقط أمامَه).
بمَدَدٍ من الله سبحانه لا يطلب المسلمُ واحدًا من المشركين إلا ويسقط قبل أن يصل إليه؛ لأن الملائكة جنود من جنود الرحمن نزلوا في غزوة بدر تأييدًا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونصرة للدين مع أن المسلمين كانوا قلة لكن هذا من رحمة الله عز وجل قال الله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) [آل عمران]
(أَذِلَّةٌ) أي: قلة. (إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ) أي: بشارة لكم. (وما النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ): لا بكثرة عَدَدٍ ولا عُدَدٍ  .
وأخرج مسلم في صحيحه (1763) الحديث وفيه: بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ وَصَوْتَ الْفَارِسِ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، فَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ، وَشُقَّ وَجْهُهُ، كَضَرْبَةِ السَّوْطِ  فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ، فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ».
*****************************
منح الله المسلمين أكتاف المشركين، فكان أول من فرَّ منهم خالد بن الأعلم فأُدرك فأُسر، وتبعهم المسلمون في آثارهم، يقتلون ويأسرون، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين، وأخذوا غنائمهم. فكان من جملة من قُتل من المشركين ممن سمَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم موضعَه بالأمس: أبو جهل، وهو أبو الحكم عمرو بن هشام لعنه الله، قتله معاذ بن عمرو بن الجموح، ومُعَوِّذ بن عفراء، وتمَّم عليه عبد الله بن مسعود، فاحتزَّ رأسه وأتى به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فسُرَّ بذلك.
وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، فأمر بهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فسُحبوا إلى القليب، ثم وقف عليهم ليلاً، فبكَّتهم وقرَّعهم، وقال: «بئس عشيرةُ النبي كنتم لنبيكم، كذَّبتموني وصدَّقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس ـ وأخرجتموني وآواني الناس» .
*****************************
هذه هزيمة عظيمة للمشركين انهزموا، وفرُّوا، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون.
(فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين، وأخذوا غنائمهم)
هذا عدد قتلى المشركين يوم بدر وعدد أسرى المشركين يوم بدر.
(فكان من جملة من قتل من المشركين ممن سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم موضعه بالأمس)
بعد أن ذكررحمه الله  أنه قُتل من المشركين سبعون ذكر هنا عددًا ممن قُتل .
أبو جهل قُتل في موضعه ومصرعه الذي كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد أخبر أنه سيُقتل فيه.
(أبو جهل وهو أبو الحكم عمرو بن هشام لعنه الله، قتله معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعوذ بن عفراء، وتمَّم عليه عبد الله بن مسعود، فاحتزَّ رأسه وأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسُر بذلك)
(أبو جهل وهو أبو الحكم) كانوا يكنونه أبا الحكم وكناه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبا جهل.
(احتزَّ) أي: قطع.
وقصةُ قتل أبي جهل في البخاري (3141) ومسلم(1752) عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: " بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بِغُلاَمَيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ - حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا - فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَئِنْ رَأَيْتُهُ لاَ يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الآخَرُ، فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، قُلْتُ: أَلاَ إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي، فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلاَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَاهُ فَقَالَ: «أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟» ، قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ: «هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟» ، قَالاَ: لاَ، فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ: «كِلاَكُمَا قَتَلَهُ، سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ» ، وَكَانَا مُعَاذَ ابْن عَفْرَاءَ، وَمُعَاذ بْن عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ " .
وهذا دليلٌ أن الذي أثخن قتل أبي جهلٍ هو معاذ بن عمرو بن الجموح لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قضى بالسلَبِ له ،ومعاذ بن عفراء شاركه في قتل أبي جهلٍ .
وظاهرروايةُ الصحيحين يخالف ما ذكره ابنُ كثيرأن الذي قتل أباجهل معاذُ بن عمرو ومعوِّذ ابن عفراء ففيه (وَكَانَا مُعَاذَ ابْن عَفْرَاءَ، وَمُعَاذَ بْن عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ) .
قال الحافظ في فتح الباري (3964) :يُحْتَمَلُ أَنْ يكون معَاذ بن عَفْرَاءَ شَدَّ عَلَيْهِ مَعَ مُعَاذِ بْنِ عَمْرٍو كَمَا فِي الصَّحِيحِ وَضَرَبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُعَوِّذٌ حَتَّى أثْبته ثمَّ حزَّ رَأسَه ابنُ مَسْعُودٍ فَتُجْمَعُ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا .اهـ.
وفي البخاري(3963) ومسلم (1800) عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: «مَنْ يَنْظُرُ مَا فَعَلَ أَبُو جَهْلٍ» . فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، فَقَالَ: أَنْتَ أَبَا جَهْلٍ؟ قَالَ: وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ أَوْ قَالَ: قَتَلْتُمُوهُ .
في هذه الرواية جعلهما ابنين لعفراء قال الحافظ في فتح الباري (3964) وعفراء والدة معاذ واسم أبيه الحارث وأما ابن عمرو بن الجموح فليس اسم أمه عفراء ثم ذكر أنه إنما أُطلق عليه –أي أُطلِق على معاذ بن عمرو- تغليبا وذكر بعض الاحتمالات الأُخرى .
و لما فرَّ المشركون مهزومِين، وبردت الحرب، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: من ينظر لنا أبو جهل .روى البخاري(3962) ومسلم  (1800) عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَنْظُرُ مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ» . فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ، قَالَ: أَأَنْتَ أَبُو جَهْلٍ؟ قَالَ: فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، قَالَ: وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ، أَوْ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ .
يقولُ ابن مسعودٍ (أَأَنْتَ أَبُو جَهْلٍ؟)قال الحافظ : وَخَاطَبَهُ بِذَلِكَ مُقَرِّعًا لَهُ وَمُتَشَفِّيًا مِنْهُ لِأَنَّهُ كَانَ يُؤْذِيهِ بِمَكَّةَ أَشَدَّ الْأَذَى .اهـ.
وقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ كما في السيرة لابن هشام(1/ 636) : وَزَعَمَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ:قَالَ لِي: لَقَدْ ارْتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعَ الْغَنَمِ قَالَ: ثمَّ احتززت رَأْسَهُ ثُمَّ جِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحديث .
وهذا فيه من لم يُسَمَّ فإسناده ضعيف  .
ومن الذين قُتلوا في غزوة بدرٍعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف.
وهؤلاء كلهم من رؤساء كفارقريش وهم الذين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين تمالئوا عليه وكان يصلي فانبعث أشقاهم وهو عقبة بن أبي معيط ووضع السَّلَى على ظهر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يصلي فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقال: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ، وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ» الحديث.
وقد قتلوا في بدر شر قِتْلَة .
و أمية بن خلف، قد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر أنه سيقتله كما في صحيح البخاري (3632)وفيه دليلٌ من دلائل النبوة أخبر أنه سيقتلُ أميةَ بن خلف فقُتِلَ في غزوة بدرٍ .
ولما رآه بلال بن رباح رضي الله عنه في غزوة بدر قَالَ: «لاَ نَجَوْتُ إِنْ نَجَا أُمَيَّةُ» رواه البخاري (3971).
*****************************
ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرْصة ثلاثاً.
ثم ارتحل بالأُسارى والمغانم، وقد جعل عليها عبد الله بن كعب بن عمرو النجاري. وأنزل الله في غزوة بدر سورة الأنفال، فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفراء قسم المغانم كما أمره الله تعالى، وأمر بالنضر بن الحارث فضُربت عنقه صبْراً، وذلك لكثرة فساده وأذاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرثَتْه أخته، وقيل ابنته قتيلة بقصيدة مشهورة ذكرها ابن هشام، فلما بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما زعموا: «لو سمعتُها قبل أن أقتله لم أقتله» .
ولما نزل عِرْقَ الظُّبْية أمر بعقبة بن أبي معيط فضربت عنقه أيضاً صبراً.
*****************************
(بالعرْصة ثلاثا) أي: ساحة بدر .
 بعد أن انصرف المشركون وبردت الحرب أقام صلى الله عليه وعلى آله وسلم  في ساحة بدر ثلاثة أيام ثم رجع إلى المدينة .
وهذا كان يفعله النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا ظَهَرَ وانتصَرَ على قومٍ .
كما في صحيح البخاري(3065)عَنْ أَبِي طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ كَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالعَرْصَةِ ثَلاَثَ لَيَالٍ».
قال الحافظ ابن حجر : قَالَ الْمُهَلَّبُ حِكْمَةُ الْإِقَامَةِ لِإِرَاحَةِ الظَّهْرِ وَالْأَنْفُسِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّهُ إِذَا كَانَ فِي أَمْنٍ مِنْ عَدُوٍّ وَطَارِقٍ .وَقَالَ ابن الْجَوْزِيِّ إِنَّمَا كَانَ يُقِيمُ لِيُظْهِرَ تَأْثِيرَ الْغَلَبَةِ وَتَنْفِيذَ الْأَحْكَامِ وَقِلَّةَ الِاحْتِفَالِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ مَنْ كَانَتْ فِيهِ قُوَّةٌ مِنْكُمْ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْنَا وَقَالَ ابن الْمُنَيِّرِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ تَقَعَ ضِيَافَةُ الْأَرْضِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا الْمَعَاصِي بِإِيقَاعِ الطَّاعَةِ فِيهَا بِذِكْرِ اللَّهِ وَإِظْهَارِ شِعَارِ الْمُسْلِمِينَ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الضِّيَافَةِ نَاسَبَ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهَا ثَلَاثًا لِأَنَّ الضِّيَافَةَ ثَلَاثَةٌ .اهـ .
و قبل الخروج من بدرٍ ألقيَتْ جيفُهم في بئرٍ لئلا يتأذى بنتنهم الناس أخرج الإمامُ مسلم (2874) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَنَادَاهُمْ، فَقَالَ: «يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا» فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ يَسْمَعُوا وَأَنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا؟ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا» ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا، فَأُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ .
و فيه أنه لم يخرج صلى الله عليه وعلى آله وسلم من بدرٍ حتى وبَّخَ وقرَّع قتلى كفار قريش . وأخرج البخاري(3976) عن أبي طلحة الحديث وفيه : فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ اليَوْمَ الثَّالِثَ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا، ثُمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَالُوا: مَا نُرَى يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: «يَا فُلاَنُ بْنَ فُلاَنٍ، وَيَا فُلاَنُ بْنَ فُلاَنٍ، أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟» قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لاَ أَرْوَاحَ لَهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ» .
(وأنزل الله في غزوة بدر سورة الأنفال)
وهذه فائدة أن سورة الأنفال نزلت في وقعة بدر وهذا ثابت في صحيح البخاري (4645) عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: سُورَةُ الأَنْفَالِ، قَالَ: «نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ».
وههنا بعضُ الأمور التي كانت في أثناء رجوع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من غزوة بدرٍ .
ولما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالصفراء قسم المغانم كما أمر الله تعالى في قوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنفال:41].
(وأمر بالنضر بن الحارث فضُربت عنقُه صَبراً)
الصبر:  قال ابنُ الأثير في النهاية : هُوَ أَنْ يُمسَك شيءٌ من ذوات الرُّوح حيَّا ثم يُرْمى بِشَيْءٍ حَتَّى يَمُوتَ.
وهذا من أشدِّ أنواع التعذيب لأنه قد تتأخر وفاتُه .
 النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند ارتحاله من بدر إلى المدينة كان النضر بن الحارث وعقبة ابنُ أبي معيط ممن حُمِلَ أَسيرا  وفي الطريق أَمر بضرب عنُقِهما أمر بضرب عنق النضر بن الحارث وقدكان شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وللصحابة فأمربه فضربت عنقه صبرًا.
ولما نزل عرق الظُّبية وعِرْقُ الظُّبْيَة بِضَمِّ الظَّاءِ موضعٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أميالِ مِنَ الرَّوحَاء، بِهِ مَسْجدٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في النهاية.
أمربضرب عنق عقبة بن أبي معيط، وعقبة بن أبي معيط كان شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو الذي انبعث ووضع السَّلَى على ظهر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جاء التصريحُ باسمه في صحيح مسلم (1794)عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ، إِذْ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ بِسَلَا جَزُورٍ، فَقَذَفَهُ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ الحديث .وهو عند البخاري لكن من دون ذكر مَن فعل ذلك .
ومرةً خنقَ رسولَ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خنقا شديدا وهو يصلي أخرج البخاري في صحيحه (3678،3856،4815) عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، عَنْ أَشَدِّ مَا صَنَعَ المُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: رَأَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي، " فَوَضَعَ رِدَاءَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقًا شَدِيدًا، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَفَعَهُ عَنْهُ، فَقَالَ:﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ [غافر: 28].
قال الحافظ ابنُ كثير رحمه الله في البداية والنهاية (3/ 306 )قُلْتُ: كَانَ هَذَانِ الرَّجُلَانِ مِنْ شَرِّ عِبَادِ اللَّهِ وَأَكْثَرِهِمْ كُفْرًا وَعِنَادًا وَبَغْيًا وَحَسَدًا وَهِجَاءً لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ لَعَنَهُمَا اللَّهُ وَقَدْ فَعَلَ.اهـ .
*****************************
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه في الأسارى: ماذا يصنع بهم؟ فأشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأن يُقتلوا، وأشار أبو بكر رضي الله عنه بالفِداء، وهوِي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، فحلَّلَ لهم ذلك وعاتب الله في ذلك بعض المعاتبة في قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌالآيات.
وقد روى مسلم في صحيحه «عن ابن عباس رضي الله عنهما حديثاً طويلاً فيه بيان هذا كله، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أربعمائة أربعمائة» .
ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مؤَيَداً مظَفَّراً منصُوراً، قد أعلى الله كلمته، ومكَّن له، وأعزَّ نصره، فأسلم حينئذ بشرٌ كثيرٌ من أهل المدينة .
ومن ثَمَّ دخل عبد الله بن أبي بن سلول وجماعتُه من المنافقين في الدين تقية.
*****************************
وبعد ذلك استشار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصحابه في الأسارى ماذا يفعل بهم، والأسارى سبعون موثقون إلا أنه قد قُتل منهم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط أثناء الرجوع إلى المدينة. فاستشار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصحابه ماذا يصنع بهم .
روى الإمامُ مسلم في صحيحه (1763) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا أَسَرُوا الْأُسَارَى، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ: «مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى؟» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا نَبِيَّ اللهِ، هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ، أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ، فَعَسَى اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟» قُلْتُ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ، وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَّا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنِّي مِنْ فُلَانٍ نَسِيبًا لِعُمَرَ، فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا، فَهَوِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جِئْتُ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمِ الْفِدَاءَ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ - شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الأنفال: 67] إِلَى قَوْلِهِ ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا [الأنفال: 69] فَأَحَلَّ اللهُ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ .
وكان اختيار الفداء رحمةً ورغبة في الخير فإنهم قد يسلمون وينصرون الإسلام فبعد ذلك أنزل الله عز وجل القرآن عتابًا، فقال سبحانه: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:67]. وكان الله سبحانه وتعالى يريد إثْخانَ الأعداء بالقتل ولهذا أنزل العتاب .
وفي غزوة أُحُدٍ قال سبحانه { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } مثليها أي في غزوة بدرٍ قُتِل من المشركين سبعون وأُسِر سبعون . وسيأتي إن شاءالله في غزوة أُحُدٍ
 وكان من جملة من فدى نفسَه العباس بن عبد المطلب فإنه كان من الأسارى.
وثبت في صحيح البخاري (3048) عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رِجَالًا مِنَ الأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ فَلْنَتْرُكْ لِابْنِ أُخْتِنَا عَبَّاسٍ فِدَاءَهُ، فَقَالَ: «لاَ تَدَعُونَ مِنْهَا دِرْهَمًا» .
ففدى العباسُ نفسَه وفدى عقيلَ ابن أبي طالب وهذا في صحيح البخاري (421) معلقا .لكن قد وصله أبونعيم في مستخرجه والحاكم في مستدركه كما فتح الباري . قال الحافظ وكانَ عقيلٌ أُسِر مع عمه العباس في غزوة بدرٍ .
وجاء جماعةٌ من المشركين يطلبون فداء أُسارى بدرٍ منهم جبير بن مطعم وحديثه في البخاري (3050) .
ولم ينسَ صلى الله عليه وعلى آله وسلم الجميل للمطعم بن عدي والد جبير ثبت في صحيح البخاري (3139)عن جبير بن مطعم  رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: «لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاَءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ».وذلك لأن المطعم بن عدي أجار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أي جعله في جواره لما رجع من الطائف فدخل صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أمان كافر.
وأيضا كان له يدٌ في نقض الصحيفة وقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كريما يكافئ المعروف بالمعروف والجميل بالجميل  فأراد لو كان المطعم حيا لأَطلَقَ الأسارى من أجله من غير فداءٍ، وهذا من حفظه للمعروف حتى مع الأعداء .وقد تقدم هذا في أوائل البِعْثةِ النبوية من الفصول .
وقد قيل هذا وقيل هذا قيل : السبب هو الجُوار وقيل : السبب نقض الصحيفة قال الزرقاني رحمه الله في شرحه على المواهب اللُّدنية(2/67) ولا مانع أنه لكليهما .قال :وسماهم نتنى لكفرهم؛ كما في النهاية وغيرها. قال :وهذا من شيمه صلى الله عليه وسلم الكريمة تذكَّر وقت النصر والظفَر للمطعم هذا الجميل .اهـ .

(ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مؤيَّداً مظفَّراً منصُوراً)

غزوة بدر الكبرى فيها نصر الله دينه وأعلى كلمته وأذل الكفر وأهله .
(ومن ثمَّ دخل عبد الله بن أبي بن سلول وجماعته من المنافقين في الدين تقية)
أي: بعد وقعة بدر الكبرى دخل عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه في الدين تقية، أسلموا في الظاهر تقية خوفًا على أنفسهم، وأموالهم، وأولادهم، ونسائهم. وقد تقدم معنا أنه أول ما ظهر النفاق بعد غزوة بدر.
*****************************
فصل ـ عدة أهل بدر
وجملة من حضر بدراً من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً: من المهاجرين ستة وثمانون رجلا، ومن الأوس أحد وستون رجلاً ومن الخزرج مائة وسبعون رجلاً. وإنما قل عدد رجال الأوس عن عدد الخزرج وإن كانوا أشد منهم وأصبر عند اللقاء، لأن منازلهم كانت في عوالي المدينة فلما ندبوا للخروج تيسر ذلك على الخزرج لقرب منازلهم.
وقد اختلف أئمة المغازي والسير في أهل بدر: في عدتهم، وفي تسمية بعضهم، اختلافاً كثيراً، وقد ذكرهم الزهري، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحق بن يسار، ومحمد بن عمر الواقدي، وسعيد بن يحيى الأموي في مغازيه، والبخاري، وغير واحد من المتقدمين، وقد سردهم ـ كما ذكرتهم ـ ابن حزم في كتاب السيرة له، وزعم أن ثمانية منهم لم يشهدوا بدراً بأنفسهم وإنما ضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسهمهم، فذكر منهم: عثمان وطلحة وسعيد بن زيد. ومن أجَلِّ من اعتنى بذلك من المتأخرين الشيخ الإمام الحافظ ضياء الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي رحمه الله تعالى، فأفرد لهم جزءاً وضمَّنه في أحكامه أيضاً. وأما المشركون فكانت عدتهم كما قال صلى الله عليه وسلم ما بين التسعمائة إلى الألف. وقُتل من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلاً: ستة من المهاجرين، وستة من الخزرج، واثنان من الأوس. وكان أول قتيل يومئذ مِهْجع مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل رجل من الأنصار اسمه حارثة بن سراقة. وقتل من المشركين سبعون، وقيل: أقل، وأسر منهم مثل ذلك أيضاً. وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأن بدرٍ والأسرى في شوال.
*****************************
في هذا الفصل عدد من حضر بدرا من المسلمين والمشركين.
انتهينا من غزوة بدرٍ الكبرى  ونسأل الله البركة.
واستفدنا فوائد عظيمة من هذه الغزوة .
منها :
1- بيان أن المآل للمتقين فكم تكبَّر كفارُ قريش وآذوا وفتنوا وكان مآلهم إلى الذلة وإلى القتل والسبي ثم النار أعاذنا الله منها.
2-إثبات عدة معجزات لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
3-أنه ليس الغلبة والنُّصرةُ بالكثرة وقد قال تعالى { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }.فعدد المسلمين في غزوة بدرٍ ثلاثمائة وبضعة عشر وعددالمشركين ألف .
4-أن غزوة بدرٍ كانت على غير ميعاد وإنما خرج رسول الله لتلقي عير قريش فجمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد.
5-الخبرة والسياسة في أمر الحروب واستشارة الإمام أصحاب الرأي من أصحابه ووعظهم وتوعيتهم وترغيبهم قبل البدء في القتال .
6-الابتهال والتضرع وكثرة الذكر والدعاء عند الجهاد .
7-فضيلة للأنصار، سعد بن معاذ يقول للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه .
8-فضيلة لعلي وحمزة وعُبيدة رضي الله عنهم وأن مبارزتهم أول مبارزةٍ وقعت  في الإسلام .
9-نزولُ المدد الإلهي للجيش وتعزيزهم بالملائكة فكان مِن المشركين مَن يسقط  أمام المسلم قبل أن يقتله وهذا من آيات الله .
إلى غير ذلك مما سنذكره إن شاء الله في المختصَر وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبنا ونعم الوكيل .