جديد الرسائل

الخميس، 4 فبراير 2016

(19) سِلْسِلَةُ التَّوْحِيْدِ وَالعَقِيْدَةِ

                                  

                                      تحريم القول على الله بغيرعلم

قال الله تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[ الإسراء:36]. لا تقف: أي لا تقل و لا تتبع.

وقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .

وقال تعالى  {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ }[ص :86] . والقول على الله عز وجل بغيرعلم من

التكلف  .


 و كان النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في عدة مواطن إذا سُئل يسكت عن الإجابة حتى يأتيه الوحي.

 و من هذا ما جاء في صحيح البخاري(125)وصحيح مسلم (2794) عن عبدالله بن مسعود قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَرِبِ المَدِينَةِ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ اليَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ تَسْأَلُوهُ، لاَ يَجِيءُ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنَسْأَلَنَّهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ يَا أَبَا القَاسِمِ مَا الرُّوحُ؟ فَسَكَتَ، فَقُلْتُ: إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقُمْتُ، فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ، قَالَ: « (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتُوا مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) » .

قال الطحاوي رحمه الله في متن العقيدة الطحاوية : فَمَن رَام عِلْمَ ما حُظِرَ عَنْهُ عِلْمُهُ، وَلَمْ يَقْنَعْ بِالتَّسْلِيمِ فَهْمُهُ؛ حَجَبَهُ مَرَامُهُ عَنْ خَالِصِ التَّوْحِيدِ وَصَافِي الْمَعْرِفَةِ وَصَحِيحِ الإِيمَانِ . اهـ .

وهذا من الأدب مع الله عز و جل؛ أننا لا نتكلم  إلا بعلم ، في التوحيد والعقيدة وفي غيرهما .

وأخرج الفسَوِي في «المعرفة والتاريخ» (1/490)من طريق عقبة بن مسلم أن ابن عمر سئل عن شيء فقال: لا أدري ثم أتبعها فقال: أتريدون أن تجعلوا ظهورنا لكم جسورًا  في جهنم أن تقولوا: أفتانا ابن عمر بهذا.

وذلك أنه ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال : ( إنما إثمه على من أفتاه).

لكن كان والدي الشيخ مقبل الوادعي ـ رحمه الله تعالى ـ ينبه ويقول: ( لا تقل قد جعلتها في رقبة عالم والواجب عليك أن تتثبت) وقد كان الأعرابي يأتي النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يقول: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك اهـ.


ومما جاء عن السلف في السكوت  عما لا يعلم  .

أخرج الآجري في أخلاق العلماء (100)من طريق أحمد بن حنبل أبا عبدالله قال: سمعت الشافعي قال: سمعت مالكًا قال: سمعت ابن عجلان قال: إذا أغفل العالم لا أدري، أصيبت مقاتله.



وأخرج أبوزرعة الدمشقي رحمه الله في «تاريخه» (1018) من طريق الهيثم بن جميل، قال: شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال: في اثنتين وثلاثين منها لا أدري.

المسائل ثمانٍ وأربعون وأجابه الإمام مالك في ستة عشر سؤالاً . ولم يجب عن اثنتين وثلاثين .

هذا هدي السلف السكوت عما لا يعلمون.

وأخرج عبدالرحمن بن أبي حاتم في «مقدمة الجرح والتعديل» (1/ص18) من طريق عبدالرحمن بن مهدي يقول: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال: يا أبا عبدالله جئتك من مسيرة ستة أشهر حمَّلني أهل بلادي مسألة أسألك عنها، قال: فسل، قال: فسأل الرجل عن أشياء فقال: لا أحسن، قال: فقُطع بالرجل كأنه قد جاء إلى من يعلم كل شيء قال: وأي شيء أقول لأهل بلادي إذا رجعت إليهم قال: تقول لهم: قال مالك بن أنس: لا أحسن.

وأخرج يعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (1/655) من طريق مالك بن أنس أنه سمع عبدالله بن يزيد بن هرمز يقول: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده لا أدري، حتى يكون ذلك أصلًا في أيديهم يفزعون إليه إذا سئل أحدهم عما لا يدري قال: لا أدري.

والآثار كلها ثابتة  .


قال الإمام النووي رحمه الله في مقدمة «المجموع» (1/60) وليعلم أن معتقد المحققين أن قول العالم لا أدري لا يضع منزلته بل هو دليل على عظم محله وتقواه وكمال معرفته، لأن المتمكن لا يضره عدم معرفته مسائل معدودة بل يستدل بقوله: لا أدري على تقواه وأنه لا يجازف في فتواه، وإنما يمتنع من لا أدري من قل علمه وقصرت معرفته وضعفت تقواه؛ لأنه يخاف لقصوره أن يسقط من أعين الحاضرين، وهو جهالة فإنه بإقدامه على الجواب فيما لا يعلم يبوء بالإثم العظيم، ولا يرفعه ذلك عما عرف له من القصور بل يستدل به على قصوره، لأنا إذا رأينا المحققين يقولون في كثير من الأوقات لا أدري وهذا القاصر لا يقولها أبدًا علمنا أنهم يتورعون؛ لعلمهم وتقواهم، وأنه يجازف لجهله وقلة دينه، فوقع فيما فر عنه واتصف بما احترز منه لفساد نيته وسوء طويته، وفي «الصحيح» عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: <المتشبع بما لم يعطَ كلابس ثوبي زور>. اهـ .