جديد المدونة

جديد الرسائل

الاثنين، 2 أكتوبر 2023

(1)اختصار تفسير سورة النور

 [سورة النور (24): الآيات 1 الى 2]

قَولُهُ تَعَالَى: ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا﴾ «سُورَةٌ» خبر لمبتدأ محذوف، أي: هذه سورة.

﴿وَفَرَضْنَاهَا﴾ فيها قولان: القول الأول: أي: بينا الحلال والحرام والحدود.

والقول الثاني: أي: أن الله سُبحَانَهُ فرض فرائض في هذه السورة على من نزلت عليهم وعلى من بعدهم حتى تقوم الساعة.

﴿وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ ﴾ الآية في اللغة: العلامة.

﴿بَيِّناتٍ﴾ قال ابن كثير: أَيْ: مُفَسَّرَاتٍ وَاضِحَاتٍ.

﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ أي: تتعظون بهذه الآيات البينات والمواعظ والأحكام.

من الفوائد:

·    أن سورة النور منزلة من عند الله، وفي هذا شرف لهذه السورة حيث ذكر الله أنه هو الذي أنزلها، ولهذا يقول الحافظ ابن كثير: (فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِهَا وَلَا يَنْفِي مَا عَدَاهَا) لما فيها من الأحكام والفرائض. ولا ينفي هذا ما عداها من السور، فينبغي الاعتناء بالقرآن العظيم كله.

·    وفيه دليل على علوِّ الله.

·    وفيه أن من حِكَم إنزال هذه الآيات الاتعاظ بما فيها والارتداع عن الفواحش وجرائم الذنوب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قَولُهُ تَعَالَى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي  فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾

ليس المراد بالجلد: الضرب المبرح الذي يكسر العظم، أو يجرح الجلد، ولكن يُضرَبُ بالسوط ونحوه ضربًا موجعًا.

هذه الآية في حد الزاني البكر. قال ابن كثير: وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ تَفْصِيلٌ وَنِزَاعٌ، فَإِنَّ الزَّانِيَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِكْرًا وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَتَزَوَّجْ، أَوْ مُحْصَنًا وَهُوَ الَّذِي قَدْ وَطِئَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ حُرٌّ بَالِغٌ عَاقِلٌ.

وقول الحافظ ابن كثير: في نكاح صحيح، أخرج نكاح الشبهة، والنكاح الفاسد.

(وَهُوَ حُرٌّ) أخرج العبد.

وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن العبد ذكرًا أو أنثى حَدُّهما الجلد، متزوجين أو غير متزوجين على نصف جلد البكر الحُرِّ، قال تَعَالَى: ﴿ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾[النساء: 25]. والآية وإن كانت في الإماء، ولكن الحكم واحد في الأرقَّاء الذكور والإناث بجامع الرق.

ومفهوم الآية المذكورة أن غير المحصنات لا يُجلدن، ولكنه مفهوم عارضه منطوق، والمنطوق يقدم على المفهوم.

أخرج البخاري (2152ومسلم (1703) عن أبي هريرة، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا زَنَتِ الأَمَةُ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا وَلاَ يُثَرِّبْ، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا، وَلاَ يُثَرِّبْ، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ، فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ».

ولم يُفرِّق بين المتزوجة وغير المتزوجة في الحكم.

مسألة: أما رجم المملوك فلا نزاع بين العلماء أنه لا يرجم.

(بَالِغٌ عَاقِلٌ) أخرج غير المكلف، فالصبي والمجنون لا يقام عليهما حد الزنا؛ لعدم التكليف.

وأيضًا ألَّا يكون مكرهًا.

قال ابن كثير: فَأَمَّا إِذَا كَانَ بِكْرًا لَمْ يَتَزَوَّجْ، فَإِنَّ حَدَّهُ مِائَةُ جَلْدَةٍ كَمَا فِي الْآيَةِ. وَيُزَادُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يُغَرَّبَ عَامًا عَنْ بَلَدِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.

وحجة الجمهور قصة العسيف روى البخاري (6859ومسلم (1697)عَن أَبِي هُرَيْرَةَ وفيه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ-لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ-إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارجُمهَا»، وأيضًا حديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَالرَّجْمُ» رواه مسلم (1690).

والتغريب عام للمرأة والرجل البكرَين، ولكن المرأة يكون معها محرمها؛ لأنها منهية عن السفر بغير محرم، ولأنها بدون محرم قد يعينها على معاودة الفاحشة. ولا يُلزم محرمها بالسفر، ولكن إذا تطوع بذلك.

وأما الأرِقَّاء فلا يُغربون؛ لأن هذا إضرار بالسيد.

أما قول أبي حنيفة أن التغريب يرجع إلى رأي الإمام إن شاء غرب وإن شاء تركه، وهذا مخالف للدليل.

وأما حكم المحصن، قال ابن كثير: فَأَمَّا إِذَا كَانَ مُحْصَنًا وَهُوَ الَّذِي قَدْ وَطِئَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ حُرٌّ بَالِغٌ عَاقِلٌ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ.

وهذا ثابت كما قال عمر بن الخطاب: أَمَّا بَعدُ، أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا، وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى أَنْ يَطَولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: لَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ قَدْ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، فَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوِ الْحَبَلُ أَوِ الِاعْتِرَافُ. رواه البخاري (6830ومسلم (1691). وآية الرجم من المنسوخ لفظه، وبقي حكمه، وهي: « الشَّيخُ وَالشَّيخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ» والمراد بالشيخ والشيخة: من كان محصَنًا.

الفوائد:

·    اختلاف العلماء هل المحصن إذا زنى يجلد ثم يرجم، أم يكتفَى بالرجم؟ جمهور العلماء على أنه ليس فيه الجلد، فقالوا: حده الرجم حتى يموت، ودليلهم قصة ماعز والغامدية، و أيضًا قصة الأجير الذي تقدم، فلم يذكر الجلد.

وذهب الامام أحمد إلى أنه يجمع بين الجلد والرجم؛ عملًا بالآية في الجلد، وعملًا بالسنة في الجلد والرجم. وجاء هذا عن علي بن أبي طالب، وهو قول والدي.

من المسائل:

·    كثرة الأحكام في سورة النور التي تتعلق بالأعراض.

·    أن جريمة الزنا من أبشع الجرائم وأفظعها.

·    جلد البكر الحُرِّ مائة جلدة.

·    تغريب البكر الزاني وهذا قول جمهور العلماء، ومِنَ الحِكم في ذلك أن يهدأ كلامُ الناس بخروجه.

·    أن حد الزاني الثيب الرجم حتى يموت.

·    أن الرجم ثابت في كتاب الله، ولكنه مما نسخ لفظه وبقي حكمه.

·    وهل يجمع بين الجلد والرجم؟ هذا مختلف فيه على قولين.

·    كما نستفيد: أن الذي يقيم الحدود الأمير أو نائبه، فإقامة الحدود ليست لأي فرد من الأفراد؛ فإن هذا يفتح بابَ الفوضى.

مسألة: ينبغي لمن وقع في الزنا أن يستر نفسه ولا يفضحها؛ فلهذا النّبِيّ صلى الله عليه وسلم لما جاءه ماعز أعرض عنه ثلاث مرات وفي الرابعة تكلم معه.

كما يجب عليه أن يتوب إلى الله توبة صادقة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قَولُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾ قال ابن كثير: أَي: فِي حُكمِ اللهِ.

﴿ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ ﴾ فيه قولان مشهوران: أحدهما النهي عن رحمة من ارتكب الحد رحمة تؤدي إلى ترك إقامة الحد، والقول الثاني: لا تأخذكم الرأفة فتخففوا الجلد، فيصير ضربًا خفيفًا، لا يردع عن المأثم، أي: ارتكاب الإثم. وهي جريمة الزنا.

وقد جمع القرطبي رحمه الله بين القولين ولم يفصل أحدهما من الآخر.

ثم لنعلم أن إقامة حد الزنا وغيره من الحدود من الرحمة بالجاني وأمثاله، فلا يتنافى مع أدلة فضل الرحمة والرأفة بالمخلوقين.  

مسألة: الحدود إذا بلغت الإمام فإنها تنفذ ولا تحل فيها الشفاعة، وكما قال النّبِيّ صلى الله عليه وسلم لأسامة: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» رواه البخاري (3475). وقول النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «تَعَافَوُا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ» والحديث من طريق ابن جريج عن عمرو بن شعيب، ولم يسمع منه، وللحديث شاهد عن ابن مسعود، وقد ذكر الحديث الشيخ الألباني رحمه الله في «الصحيحة» (١٦٣٨).

مسألة: اختلف أهل العلم في خلع ثياب الزاني وتجريده عند الجلد على أقوال، وقد جاء عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَا يَحِلُّ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ التَّجْرِيدُ، وَلَا مَدٌّ، وَلَا غَلٌّ، وَلَا صَفْدٌ. رواه عبدالرزاق في «المصنف» (3/373).

 قال ابن قدامة رَحِمَهُ الله  في «المغني» (9/167) عن المد والربط: وَلَا نَعْلَمُ عَنْهُمْ فِي هَذَا خِلَافًا. اهـ. ورجح ابن قدامة في مسألة نزع الثياب أنها لا تنزع.

فلا يجرد الزاني المجلود عن ثيابه، ولكن ينزع عنه الملابس الثخينة والصوف؛ ليصل إليه الضرب الموجع، وفي الحديث الصحيح، في شأن المرأة التي رجمت «فَأَمر بِهَا فَشُدَّ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ» رواه ابن حبان (4403وشد الثياب من أجل لا تنكشف، خاصة عند الاضطراب والتقلُّب عند الموت.

﴿إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أي: فأقيموا الحدود. والحكمة من إقامة الحد على الزاني؛ لردعه وزجره عن اقتراف هذه الجريمة والفاحشة، وليرتدع أيضًا أمثاله من ذلك، وهذا من حماية الأعراض، ومن تقبيح الزنا والتغليظ فيه.

﴿وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: يحضر عذابهما طائفة من المسلمين، وهذا من باب التوبيخ والتنكيل للزانيين جلدهما بحضرة الناس.

﴿طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ فيه أقوال في مقدار عدد الطائفة، ومنها: أن الطائفة الرجل فما فوق.

من الفوائد:

·    تكلم أهل العلم على السبب في تقديم الزانية على الزاني، منها: أن الشهوة في المرأة أكثر من الرجل، وهذا منتقد.

ومنها: أن الزنا عند العرب كان متفشًيا في النساء، وإلى غير ذلك.

·    وفيه أن جلد الزاني البكر مائة جلدة، وأيضًا تغريب عام كما في السُّنة.

·    النهي عن العطف والرحمة بأهل الفواحش، بعدم بإقامة الحد عليهم أو التخفيف عنهم بضرب خفيف لا يؤلم، فإن إقامة الحد عليهم والضرب الموجع فيه الرحمة بهم، والتعاون على البر والتقوى.

·    واستفدنا أن الرأفة الطبيعية لا يلام عليها، إنما يلام إذا حملت الرأفة على ترك إقامة الحد أو تخفيف الجلد بحيث يصير خفيفًا لا يردعه ويزجره.

·    وفيه تذكير المؤمنين بالله واليوم الآخر؛ لأن المؤمن بالله واليوم الآخر هو الذي ينتفع بالمواعظ والتخويف.

·    وفيه أن الإيمان يزيد وينقص.

·    إظهار إقامة الحدود، فلا تكون مخفية، وشهود طائفة من المؤمنين إقامة الحد على الزاني.

والإسلام فيه الحث على الستر، الله تَعَالَى  يقول: ﴿ إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾[النور: 20 ] وروى البخاري (2442ومسلم (2580) عن ابْن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ».

ولكن هنا للمصلحة-وهو الانكفاف عن جرائم الفواحش منه ومن أمثاله-شُرع إظهار إقامة الحد.

 وإقامة الحدود فيها خير كبير، فيها ردع لفعل هذه الجرائم؛ لأنه إذا عرف أنه سيكون عبرة ونكالًا يحجزه عن القدوم.

 وأي بلد لا يقام فيها الحدود فإنه ينتشر فيها الفواحش والقتل والقتال والظلم والبغي.