جديد المدونة

جديد الرسائل

الجمعة، 25 أغسطس 2023

(17)إن من الشعر لحكمة

 

قال الوزير أبو علي ابن مقلة

ما سئمت الحياة، لكن توثقت للحياة. . . بِأَيْمَانِهِمْ، فَبَانَتْ يَمِينِي

بِعْتُ دِينِي لَهُمْ بِدُنْيَايَ حتى. . . حرموني دنياهم بعد ديني

ولقد حفظت مَا اسْتَطَعْتُ بِجَهْدِي. . . حِفْظَ أَرْوَاحِهِمْ، فَمَا حَفَظُونِي

لَيْسَ بَعْدَ الْيَمِينِ لَذَّةُ عَيْشٍ. . . يَا حَيَاتِي بَانَتْ يَمِينِي فَبِينِي

وهذه الأبيات كان يرددها والدي رحمه الله؛ للعبرة. وهي للوزير أبي علي ابن مقلة الذي تولى ثلاث وزارات، ثُم عُزل وذاق ذُلًّا وشقاءً شديدًا، حتى إن يده اليمنى الخطَّاطة قُطِعَت، فأنشد في ذلك هذه الأبيات.

وقد ترجم له الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية» (11/ 195)، وقال: وَقَدْ كَانَ فِي أَوَّلِ عُمْرِهِ ضَعِيفَ الْحَالِ، قليل المال، ثُمَّ آلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ وَلِيَ الوزارة لثلاثة من الخلفاء: الْمُقْتَدِرُ، وَالْقَاهِرُ، وَالرَّاضِي. وَعُزِلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَقُطِعَتْ يده ولسانه في آخر عمره، وَحُبِسَ فَكَانَ يَسْتَقِي الْمَاءَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَأَسْنَانِهِ، وكان مع ذلك يكتب بيده اليمنى مع قطعها، كما كان يكتب بها وَهِيَ صَحِيحَةٌ. وَقَدْ كَانَ خَطُّهُ مِنْ أَقْوَى الْخُطُوطِ، كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُ.

إلى أن قال: عُزِل ابن مقلة عن وزارة بغداد وخربت داره وانقلعت أشجاره وقطعت يده، ثم قطع لسانه وصودر بألف ألف دينار، ثم سجن وحده ليس معه من يخدمه مع الكبر والضعف والضرورة وانعدام بعض أعضائه، حتى كان يستقى الماء بنفسه من بئر عميق، فكان يدلى الْحَبْلَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَيُمْسِكُهُ بِفِيهِ. وَقَاسَى جَهْدًا جهيدًا بعد ما ذاق عيشا رغيدًا. ثم ذكر الأبيات السابقة، ثم قال ابن كثير: وَكَانَ يَبْكِي عَلَى يَدِهِ كثيرًا ويقول: كتبت بها القرآن مرتين، وخدمت بها ثلاثة من الخلفاء تُقْطَعُ كَمَا تُقْطَعُ أَيْدِيَ اللُّصُوصِ ثُمَّ يُنْشِدُ:

إِذَا مَا مَاتَ بَعْضُكَ فَابْكِ بَعْضًا. . . فَإِنَّ البعض من بعض قريب

 

وقد مات عفا الله عنه فِي مَحْبِسِهِ هَذَا وَدُفِنَ فِي دَارِ السُّلْطَانِ، ثُمَّ سَأَلَ وَلَدَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ أَنْ يُحَوَّلَ إلى عنده فَأُجِيبَ فَنَبَشُوهُ وَدَفَنَهُ وَلَدُهُ عِنْدَهُ فِي دَارِهِ. ثُمَّ سَأَلَتْ زَوْجَتُهُ الْمَعْرُوفَةُ بِالدِّينَارِيَّةِ أَنْ يُدْفَنَ في دارها فأجيبت إلى ذلك فنبش ودفن عندها. فهذه ثلاث مرات. توفي وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ سِتٌّ وَخَمْسُونَ سَنَةً.

وقال الذهبي في «تاريخ الإسلام» (7/ 558) عن قطع يد الوزير ابن مقلة: فكان ذلك لعلَّ بدعاء ابن شَنَبُوذ المقرئ عليه بقطع اليد.

وقصة ابن شنبوذ أنه كان يقرئ القرآن بالشواذ، فمُنع ثم أُحضر، وهذه قصته مختصرة.

 قال الذهبي رَحِمَهُ الله  في «معرفة القراء الكبار» (158) نقل ابن الجوزي وغير واحد، في حوادث سنة ثلاث هذه، أن ابن شنبوذ، أُحضر. وأُحضر عمر بن محمد بن يوسف القاضي، وابن مجاهد، وجماعة من القراء.

ونُوظر فأغلظ للوزير في الخطاب، وللقاضي، ولابن مجاهد، ونسبهم إلى قلة المعرفة، وأنهم ما سافروا في طلب العلم، كما سافر.

فأمر الوزير بضربه سبع درر، وهو يدعو على الوزير، بأن يقطع الله يده، ويُشتت شمله، ثم أوقف على الحروف التي يقرأ بها، فأَهدر منها ما كان شنِعا. وتوَّبوه عن التلاوة بها غصبا، وقيل: إنه أُخرج من بغداد، فذهب إلى البصرة، وقيل: إنه لما ضرب بالدرة، جُرد وأقيم بين الهبَّارين، وضرب نحو العشر، فتألم وصاح وأَذعن بالرجوع.

وقد استُجيب دعاؤه على الوزير، وقُطعت يده وذاق الذُّل، توفي ابن شنبوذ، في صفر سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، وفيها هلك ابن مقلة.