قوله رَحِمَهُ اللهُ: (وَالرَّبُّ هُوَ المَعبُودُ) أي: المستحق للعبادة وحده لا شريك له.
(وَالدَّلِيلُ قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾إلى قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 21-22])
سورة البقرة مدنية، وقد نادى الله سبحانه بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾، والغالب في مناداة الله لخلقه أن ما كان بلفظ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ فهو مكي، وما كان فيه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فهو مدني.
﴿ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ﴾ أي: وحدوه وأطيعوه.
﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾ الخلق: هو الإيجاد والتكوين.
﴿ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ أي: وخلق الذين من قبلكم.
﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ «لعل» للتعليل، أي: لتطيعوه وتتقوه.
التقوى لغة: اتخاذ حاجز بينك وبين ما تكره. واصطلاحًا: عبارة عن امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه.
﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا ﴾«جعل» في هذه الآية محتمل أن تكون بمعنى: خلق، ويكون ﴿ فِرَاشًا ﴾ حال، ومحتمل أنها بمعنى: صير، ويكون ﴿ فِرَاشًا ﴾ المفعول الثاني.
﴿الْأَرْضَ فِرَاشًا ﴾ هذا فيه أن الله جعل الأرض للخلق فراشًا، يسكنون فيها، ويرتاحون، وينامون، ويمشون، ويعملون، فراش وذلول ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا ﴾ [الملك: 15]، وقرار ﴿ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا ﴾ [النمل: 61]، ومهادًا ﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6)﴾ [النبأ: 6]، وبساطًا، قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) ﴾ [نوح:19].
﴿ وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ﴾ أي: سقفًا لمساكنكم.
﴿ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ﴾ السماء المراد بها ههنا: السحاب، قاله المفسرون.
﴿ فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ﴾ أي: رزقًا لكم ولمواشيكم.
﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ الند: الشبيه والنظير.
﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)﴾ أي: تعلمون أن الله خالقكم ورازقكم ومدبركم، فلماذا تشركون به وتعبدون غيره؟!
ونستفيد:
-الأمر بعبادة الله وحده، واجتناب الشرك.
-محاجة من يشرك بالله، كيف يشرك بالله وهو الذي خلقه وخلق الأولين والآخرين؟!
-أن من عبد الله فقد اتقاه.
-هذه الآية ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا ﴾ استدل بها بعض من قال: إن الأرض مبسوطة، أي: مسطحة وليست كروية؛ لقوله: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا ﴾، والآية كما ذكر أبو حيان الأندلسي: لا تدل على ذلك، وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، والذي رجحه شيخ الإسلام رَحِمَهُ اللهُ وهو الذي عليه جمهور أهل العلم أن الأرض كروية الشكل وليست مسطحة؛ لقوله تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) ﴾ [الانشقاق: 3]. يعني: يوم القيامة. وأما من قال: الأرض مسطحة فاستدلوا بقوله تَعَالَى: ﴿ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)﴾ [الغاشية: 20]. والجواب عن هذه الآية: أنها لا تنافي أن تكون الأرض كروية.
كما نستفيد من هاتين الآيتين: الإيمان بالبعث والنشور من ثلاثة أوجه:
الأول: خلْقُ الخلق، فإن خلق الخلق دليل على البعث، وكما قال الله: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [الروم: 27].
الثاني: خلق الأرض والسماء، قال الله: ﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) ﴾ [النازعات: 27]. هذا برهان آخر على الإيمان بالبعث، وأن الله قادر على ذلك.
الثالث: إخراج النباتات ومن أرض قد تكون يابسة، وتنبت بالزرع والنباتات، هذا دليل على إحياء الله عَزَّ وَجَل الخلق بعد مماتهم، قال الله: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) ﴾ [فصلت: 39] .
واشتملت الآيتان على رُكنَي لا إله إلَّا الله: ﴿ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ﴾ إثبات، ﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا ﴾ نفي.
(قَالَ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: الخَالِقُ لِهَذِهِ الأَشيَاءِ هُوَ المُستَحِقُّ لِلعِبَادَةِ) الخالق لهذه الأشياء خلق الأولين والآخرين، خلق الأرض والسماء، إخراج النباتات من الأرض الميتة دليل على أن الله عَزَّ وَجَل مستحق للعبادة وحده لا شريك له، ودليل على البعث والنشور.