قَالَ رَحِمَهُ اللهُ: اعلَم رَحِمَكَ اللهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ وَمُسلِمَةٍ تَعَلُّمُ ثَلَاثِ هَذِهِ المَسَائِلِ، وَالعَمَلُ بِهِنَّ. الأُولَى: أَنَّ اللهَ خَلَقَنَا وَرَزَقَنَا، وَلَم يَترُكنَا هَمَلًا، بَل أَرسَلَ إِلَينَا رَسُولًا؛ فَمَن أَطَاعَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَن عَصَاهُ دَخَلَ النَّارَ).
(أَنَّ اللهَ خَلَقَنَا) الخالق هو الله وحده، قال الله سبحانه: ﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [فاطر: 3].
وخَلْقُ الله للكائنات من عَدَمٍ، وأما خَلْقُ المخلوق فمن وجود. وخَلْقُه عن قوة وقُدرة، أما خلق المخلوق فعلى حاله يعتريه العجز والضعف والتعب والعَنَاء. وخلْقُ الله العُلْوي والسفلي عن تناسق وإحْكَام وإتقان. وخلق الله يدل على كمال علمِهِ وشموله، لا يخفى عليه شيء.
وقد كان كفار قريش يُقِرُّون بأن الله هو الخالق، كما قال الله: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ(61)﴾ [العنكبوت: 61].
والله يحاجُّهم إذا كنتم تقرون بأن الله هو الخالق، فيلزمكم أن تقروا بأن الله هو الواحد في ألوهيته لا شريك له، يقول الله: ﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) ﴾ [النحل: 17].
وإذا جاءت وسوسة وأفكار رديئة في الشك أن الله هو الخالق للكائنات، فعلينا بعلاجِه وقَطْعِهِ، روى الامام مسلم (134) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ: هَذَا خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ». وفي رواية: «فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ وَلْيَنْتَهِ».
وإذا دافعها المسلم فإنها لا تضرُّهُ؛ لأن هذا يدل على إيمانه وعقيدتِه، روى الإمام مسلم (132) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، قَالَ: «وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ».
«صَرِيحُ الْإِيمَانِ» أي: خالصه.
(وَرَزَقَنَا) الرزاق هو الله، كما قال ربنا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) ﴾ [الذاريات: 58].
ومن حكمة الله أن جَعَلَ أرزاق العباد متفاوتة، قال الله: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) ﴾ [الزخرف]. ﴿ سُخْرِيًّا ﴾ أي: يسخِّر بعضهم لبعض.
(وَلَم يَترُكْنَا هَمَلًا) فالله لم يخلق الخلق عبثًا، وإنما خلقهم لأمر عظيم وهو عبادة الله والتمسك بدينه وشرعه. قال الله: ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)﴾ [القيامة: 36].
نستفيد من هذا: الحث على توحيد الله، والتمسك بهذا الدين الحنيف؛ ولهذا نفى ربنا المساواة بين المسلم والفاسق، قال الله: ﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾ [السجدة: 18].
(بَل أَرسَلَ إِلَينَا رَسُولًا..) هذا بيان أن الله لم يتركنا همَلًا، فالله أرسل إلينا رسولًا؛ لنعبدَهُ ونطيعه، كما قال الله: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)﴾ [الجمعة: 2].
(فَمَن أَطَاعَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَن عَصَاهُ دَخَلَ النَّارَ)
يجب علينا وعلى هذه الأمة جميعًا طاعةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم واتِّبَاعُهُ، قال الله: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ(32)﴾ [آل عمران: 32]. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى» رواه البخاري (7280) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
نستفيد: أن طاعة النّبِيّ صلى الله عليه وسلم نجاة من النار، ومن لم يتَّبع النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فهو من أهل النار.
قوله رحمه الله: (وَالدَّلِيلُ قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)﴾[المزمل])
﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا﴾ يعني: نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ شَاهِدًا عَلَيْكُمْ ﴾، أي: أنه بلغ رسالة ربه إليكم.
﴿كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا﴾ أي: موسى عليه الصلاة والسلام أرسله الله إلى فرعون.
﴿فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا﴾ أي: شديدًا، أما في الدنيا فأغرقه الله، وأما في الآخرة فيدخله الله النارَ، قال الله: ﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)﴾ [غافر: 46]. وهذه الآية من أدلة عذاب القبر.
قَالَ رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّانِيَةُ: أَنَّ اللهَ لَا يَرضَى أَن يُشرَكَ مَعَهُ أَحَدٌ فِي عِبَادَتِهِ، لَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرسَلٌ. وَالدَّلِيلُ قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)﴾[الجن: 18].)
وهذا هو توحيد الألوهية، توحيد الله على ثلاثة أقسام:
توحيد الربوبية: إفراد الله بالملك والخلق والتدبير، أو توحيد الله في أفعاله.
توحيد الألوهية وهو: إفراد الله بالعبادة.
وتوحيد الأسماء والصفات وهو: ألَّا نسمِّيَ الله ولا نصفه إلا بما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
(لَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ) أي: من المقربين عِنْدَ الله، مثل: جبريل عليه الصلاة والسلام؛ لأن الملائكة تتفاوت مراتبهم.
فالله لا يرضى بالشرك، قال الله: ﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ﴾ [الزمر: 7].
فلا يجوز صرف العبادة لغير الله؛ لأن توحيد الألوهية توحيد الله في أفعال العباد، ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾[البينة: 5].
(وَالدَّلِيلُ قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)﴾) في هذه الآية: تطهير المساجد من الشركيات والبدعيات. يقول الله: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) ﴾ [النور: 36].
قَالَ رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَن أَطَاعَ الرَّسُولَ وَوَحَّدَ اللهَ لَا يَجُوزُ لَهُ مُوَالَاةُ مَن حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَلَو كَانَ أَقرَبَ قَرِيبٍ. وَالدَّلِيلُ قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ ﴾الآية)
هذه المسألة الثالثة: تجنب موالاة الكافرين، ولو كانوا أقرب قريب كالأب والأم كما في هذه الآية، وهذا من عقيدتنا: الحب في الله والبغض في الله.
ونستفيد من هذه الآية وما في معناها: أن رابطة العقيدة أقوى من رابطة النسب.
هناك محبة طبيعية هذه تجوز، يجوز للمسلم أن يحب الكافر غير المحارِب محبة طبيعية؛ لقرابتِهِ، أو لإحسانِهِ وَحُسْن معاملَتِهِ.
﴿ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ﴾ أي: أقرباءهم.
﴿ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ ﴾ ومن ثبت الإيمان في قلبه فلن يتزحزح بإذن الله عن دينِهِ، ولن تؤثِّر فيه الشبهات ولا الشهوات.
﴿وَأَيَّدَهُمْ﴾، أي: وقوّاهم ببرهان منه ونور وهدى.
﴿بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ أي: بنصرٍ منه.