حجة الوداع
هذه الحجة يقال لها: حجة الوداع؛ لأن النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ ودَّع الناس فيها، ولم يحج بعدها كما روى مسلم (1297) عن جَابِر، يَقُولُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَيَقُولُ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ».
وذكر الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللهُ أنه يقال لها: حجة البلاغ؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ بلَّغ الناس شرع الله عَزَّ وَجَل في الحج قولًا وفعلًا، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ وقواعده شيء إلا وقد بينه عليه السلام، فَلَمَّا بَيَّنَ لَهُمْ شَرِيعَةَ الْحَجِّ، وَوَضَّحَهُ وَشَرَحَهُ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دينا﴾ [الْمَائِدَةِ: 3].
ويقال لها: حجة الإسلام؛ لأن النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ لم يحج من المدينة غيرها. راجعي «البداية والنهاية»(5/126).
روى الإمام مسلم(1218) من طريق مُحَمَّدٍ بن علي بن حسين، وفيه: قال لجابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: بِيَدِهِ فَعَقَدَ تِسْعًا، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ، ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فِي الْعَاشِرَةِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجٌّ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ، كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ، حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ: «اغْتَسِلِي، وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي» الحديث.
الفوائد والمسائل:
-فيه أن النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ مكث في المدينة تسع سنين لم يحج، فحجة النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ كانت في السنة العاشرة؛ ولهذا جابر بن عبدالله عقد تسعًا؛ والسبب في تأخيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ الحج: أن مكة كانت بيد المشركين من قريش؛ إذ لم يتم فتح مكة إلا في السنة الثامنة من الهجرة، ولم يحج في السنة التاسعة لأمرين:
أن المشركين حجوا مع المسلمين بشركياتهم وضلالاتهم وتعريهم وتعري النساء، ومن لم يجد ثوبًا يطوف به من الحُمْس يطوف عريانًا، وفي أواخر السنة التاسعة أرسل النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أبا بكر الصديق أن ينادي فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُونَ فِي النَّاسِ: «أَنْ لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالبَيْتِ عُرْيَانٌ» رواه البخاري (4657)، ومسلم (1347) عَنِ أبي هُرَيْرَةَ.
والثاني: أن النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ كان مشغولًا باستقبال الوفود.
(ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فِي الْعَاشِرَةِ) قال النووي رَحِمَهُ اللهُ في «شرح صحيح مسلم»(8/172): مَعْنَاهُ أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ وَأَشَاعَهُ بَيْنَهُمْ؛ لِيَتَأَهَّبُوا لِلْحَجِّ مَعَهُ وَيَتَعَلَّمُوا الْمَنَاسِكَ وَالْأَحْكَامَ، وَيَشْهَدُوا أَقْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ، وَيُوصِيهِمْ لِيُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، وَتَشِيعَ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ، وَتَبْلُغَ الرِّسَالَةُ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ.
قال: وَفِيهِ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إِيذَانُ النَّاسِ بِالْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ؛ لِيَتَأَهَّبُوا لَهَا.
-وفيه حرص الصحابة على التأسي بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
-وفيه أن ميقات أهل المدينة ذو الحليفة، وكذلك من مرَّ بها من غير أهلها، وفي حديث ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ذكر أربعة مواقيت للبلدان روى البخاري (1524)، ومسلم (1181) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ المَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّأْمِ الجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنَازِلِ، وَلِأَهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ، فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ».
وفي قصة أسماء بنت عميس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا من الفوائد:
-خروج الحامل للحج قرب ولادتها.
-فضل أسماء بنت عميس؛ فإنها خرجت للحج كغيرها لتؤدي حجها مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
-البركة الإلهية التي جعلها الله في أسماء؛ فإن المرأة تكون في أشد الضعف والوهن في أواخر حملها وبعد وضعها.
-الاستفتاء في أمور الحج، فلا ينبغي أن يقدُمَ الحاج على شيء حتى يعرف الحكم الشرعي، فالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ يقول: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ».
-وفيه إرسال السؤال إلى أهل العلم، فإذا لم يتيسر أن يلقي سؤاله بنفسه يرسل به مع مؤتمَن؛ ليأتي له بالجواب.
-صحة إحرام النفساء، قال النووي رَحِمَهُ اللهُ في شرح هذا الحديث(8/172): وَفِيهِ صِحَّةُ إِحْرَامِ النُّفَسَاءِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. اهـ.
فالنفاس والحائض تحرمان ولا يلزمهما الرجوع، كما أن من حصل لها ذلك وقد أحرمت فإنها تستمر ولا تخرج من إحرامها.
-استنبط الشيخ ابن عثيمين رَحِمَهُ اللهُ في «مجموع الفتاوى»(24/508) جواز الإحرام ممن عليه جنابة.
قال: وجه ذلك أنه أمر النفساء أن تحرم، والنفاس موجب للغسل. اهـ.
وإذا شُرع للنفاس أن تحرم وحدَثها أشد فيجوز للجنب من باب أولى.
- اغتسال النفاس والحائض عند الإحرام، وهذا من مستحبات الإحرام لمن أراد الحج والعمرة. روى البزار كما في «كشف الأستار» (1084) من حديث ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أنه قَالَ: «مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ» الحديث في «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين» (715) لوالدي رَحِمَهُ اللَّهُ.
-استثفار النفاس والحائض والمستحاضة بخرقة حتى تمنع نزول شيء من الدم، ويقوم مقام ذلك الحفائظ النسائية المعروفة في هذا العصر، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسألة متى فرض الحج؟
من أهل العلم من قال: فرض الحج في السنة التاسعة، وهذا قول الشيخ ابن عثيمين في «الشرح الممتع»، والشيخ صالح الفوزان في «الملخص الفقهي»(1/391)، وعزاه إلى الجمهور، وقال الشيخ الألباني في «حاشية حجة النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ»(48): أقربها للصواب أنها سنة تسع أو عشر.
ومن أهل العلم من قال: فرض سنة ست؛ لقوله تَعَالَى: ﴿وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 196]. وكان نزول هذه الآية سنة ست يوم الحديبية.
ـــــــــــــــــــــــ
مسألة هل الحج على الفور في حق المستطيع أم على التراخي؟
من أهل العلم من ذهب إلى أن الحج على التراخي؛ لأن النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ لم يحج إلا في السنة العاشرة، وهذا قول الشافعي ومحمد بن الحسن الشيباني وجماعة، واستدلوا بقوله تَعَالَى: ﴿وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 196]. وهذه الآية كانت في السنة السادسة.
وأيضًا قياسًا على الصلاة، فالصلاة لا تجب في أول الوقت.
والقول الثاني: أن الحج على الفور في حق المستطيع؛ لقوله تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97].
ولقول النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ الله عَلَيْكُمُ الحَجَّ، فَحُجُّوا»، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ، يَا رَسُولَ الله؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ » الحديث رواه مسلم(1337) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
ولأنَّ الأصل في الأوامر أنها على الفور.
وهذا القول هو الصحيح في المسألة، وقد عزاه شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ في «الفتاوى الكبرى»(5/381) إلى أكثر العلماء، وقال: وَالْحَجُّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ.
وهذا أيضًا قول والدي الشيخ مقبل رَحِمَهُ اللهُ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ