جديد المدونة

جديد الرسائل

الجمعة، 25 يونيو 2021

(49)سنينٌ من حياتي مع والديْ وشيخي مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله

     عدمُ الركون إلى المناصب والرئاسة

كان والدي الشيخ مقبل رحمه الله يذكر أن الرئيس لا يغتر برئاسته، وصاحب المنصب لا يغتر بمنصبه، وما يكون فيه من الترف ورغد العيش.

وكان رحمه الله مما يذكر لنا في هذا قصَّتين:

الأولى: قصة الوزير أبي علي ابن مقلة الذي تولى ثلاث وزارات، ثُم عُزل وذاق ذُلًّا وشقاءً شديدًا، حتى إن يده اليمنى الخطَّاطة قُطِعَت، فأنشد في ذلك أبياتًا، وقال:

ما سئمت الحياة، لكن توثقت للحياة ... بِأَيْمَانِهِمْ، فَبَانَتْ يَمِينِي

بِعْتُ دِينِي لَهُمْ بِدُنْيَايَ حتى ... حرموني دنياهم بعد ديني

ولقد حفظت مَا اسْتَطَعْتُ بِجَهْدِي ... حِفْظَ أَرْوَاحِهِمْ، فَمَا حَفَظُونِي

لَيْسَ بَعْدَ الْيَمِينِ لَذَّةُ عَيْشٍ ... يَا حَيَاتِي بَانَتْ يَمِينِي فَبِينِي

 قلت: هذه الأبيات كان يرددها والدي رحمه الله للعبرة.

وقد ترجم له الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية»(11/195 وقال: وَقَدْ كَانَ فِي أَوَّلِ عُمْرِهِ ضَعِيفَ الْحَالِ، قليل المال، ثُمَّ آلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ وَلِيَ الوزارة لثلاثة من الخلفاء: الْمُقْتَدِرُ، وَالْقَاهِرُ، وَالرَّاضِي. وَعُزِلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَقُطِعَتْ يده ولسانه في آخر عمره، وَحُبِسَ فَكَانَ يَسْتَقِي الْمَاءَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَأَسْنَانِهِ، وكان مع ذلك يكتب بيده اليمنى مع قطعها، كما كان يكتب بها وَهِيَ صَحِيحَةٌ. وَقَدْ كَانَ خَطُّهُ مِنْ أَقْوَى الْخُطُوطِ، كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُ.

إلى أن قال: عُزِل ابن مقلة عن وزارة بغداد وخربت داره وانقلعت أشجاره وقطعت يده، ثم قطع لسانه وصودر بألف ألف دينار، ثم سجن وحده ليس معه من يخدمه مع الكبر والضعف والضرورة وانعدام بعض أعضائه، حتى كان يستقى الماء بنفسه من بئر عميق، فكان يدلى الْحَبْلَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَيُمْسِكُهُ بِفِيهِ. وَقَاسَى جَهْدًا جهيدًا بعد ما ذاق عيشا رغيدًا. ثم ذكر الأبيات السابقة، ثم قال ابن كثير: وَكَانَ يَبْكِي عَلَى يَدِهِ كثيرًا ويقول: كتبت بها القرآن مرتين، وخدمت بها ثلاثة من الخلفاء تُقْطَعُ كَمَا تُقْطَعُ أَيْدِيَ اللُّصُوصِ ثُمَّ يُنْشِدُ:

إِذَا مَا مَاتَ بَعْضُكَ فَابْكِ بَعْضًا ... فَإِنَّ البعض من بعض قريب

وقد مات عفا الله عنه فِي مَحْبِسِهِ هَذَا وَدُفِنَ فِي دَارِ السُّلْطَانِ، ثُمَّ سَأَلَ وَلَدَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ أَنْ يُحَوَّلَ إلى عنده فَأُجِيبَ فَنَبَشُوهُ وَدَفَنَهُ وَلَدُهُ عِنْدَهُ فِي دَارِهِ. ثُمَّ سَأَلَتْ زَوْجَتُهُ الْمَعْرُوفَةُ بِالدِّينَارِيَّةِ أَنْ يُدْفَنَ في دارها فأجيبت إلى ذلك فنبش ودفن عندها. فهذه ثلاث مرات. توفي وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ سِتٌّ وَخَمْسُونَ سَنَةً. اهـ.

 

القصة الثانية: قصة المعتمد وقد كان أميرًا فسُلبت عنه وصار أسيرًا:

 

فيما مَضى كُنتَ بِالأَعيادِ مَسرورا ...فَساءَكَ العيدُ في أَغماتَ مَأسورا

تَرى بَناتِكَ في الأَطمارِ جائِعَةً... يَغزِلنَ لِلناسِ ما يَملِكنَ قَطميرًا

 بَرَزنَ نَحوَكَ لِلتَسليمِ خاشِعَةً... أَبصارُهُنَّ حَسراتٍ مَكاسيرا

 يَطأنَ في الطين وَالأَقدامُ حافيَة... كَأَنَّها لَم تَطأْ مِسكًا وَكافورا

لا خَدَّ إِلّا تَشكي الجَدبَ ظاهِرهُ... وَلَيسَ إِلّا مَعَ الأَنفاسِ مَمطورا

أَفطَرتَ في العيدِ لا عادَت إِساءَتُهُ... فَكانَ فِطرُكَ لِلأكبادِ تَفطيرا

قَد كانَ دَهرُكَ إِن تأمُرهُ مُمتَثِلًا... فَرَدّكَ الدَهرُ مَنهيًّا وَمأمورا

مَن باتَ بَعدَكَ في مُلكٍ يُسرُّ بِهِ...فَإِنَّما باتَ بِالأَحلامِ مَغرورا

قال والدي رحمه الله: في هذه الأبيات عبرة للأُمراء وغيرهم .اهـ

وسببُ قولِ المعتمد بن عباد: أنه دخل عليه من بنيه، من يسلم عليه ويهنيه، وفيهم بناته وعليهن أطمار، كأنها كسوف وهن أقمار، يبكين عند التساؤل، ويبدين الخشوع بعد التخايل، والضياع قد غيَّر صورهن، وحيَّر نظرهن، وأقدامهن حافية .. المرجع: « نفح الطيب» (4/273).