جديد الرسائل

الأربعاء، 9 يونيو 2021

(31)أَوصَافُ طالبِ العلمِ الشرعِي

   الحذر من التسويف

عن كعب بن مالك رضي الله عنه، في سياق غزوة تبوك وتخلُّفِهِ عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كَانَ مِنْ خَبَرِي: أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ، فِي تِلْكَ الغَزَاةِ، وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ، حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الغَزْوَةِ، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا، حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الغَزْوَةُ، غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا، وَمَفَازًا وَعَدُوًّا كَثِيرًا، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ، وَالمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرٌ، وَلاَ يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ، يُرِيدُ الدِّيوَانَ، قَالَ كَعْبٌ: فَمَا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلَّا ظَنَّ أَنْ سَيَخْفَى لَهُ، مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيُ اللَّهِ، وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلالُ، وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالمُسْلِمُونَ مَعَهُ، فَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ، فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أَنَا قَادِرٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الجِدُّ، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئًا، فَقُلْتُ أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ، فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لِأَتَجَهَّزَ، فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، ثُمَّ غَدَوْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الغَزْوُ، وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ، وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ، فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ، فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطُفْتُ فِيهِمْ، أَحْزَنَنِي أَنِّي لاَ أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ، أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ: وَهُوَ جَالِسٌ فِي القَوْمِ بِتَبُوكَ: «مَا فَعَلَ كَعْبٌ» فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ، وَنَظَرُهُ فِي عِطْفِهِ، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الحديث. رواه البخاري(4418 ومسلم(2769).

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في « شرح رياض الصالحين»(1/134): في هذا دليل على أن الإنسان إذا لم يبادر بالعمل الصالح، فإنه حري أن يحرم إياه، كما قال الله سبحانه: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 110 فالإنسان إذا علم الحق ولم يقبله ويذعن له من أول وهلة، فإن ذلك قد يفوته ويحرم إياه- والعياذ بالله كما أن الإنسان إذا لم يصبر على المصيبة من أول الأمر فإنه يحرم أجرها، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إنما الصبر عند الصدمة الأولي».

فعليك- يا أخي - أن تبادر بالأعمال الصالحة، ولا تتأخر فتتمادى بك الأيام، ثم تعجز وتكسل، ويغلب عليك الشيطان والهوى فتتأخر، فها هو- رضي الله عنه- كلَّ يوم يقول: أخرج، ولكن تمادى به الأمر ولم يخرج. اهـ.

فاحذر يا من تُسوِّف في طلب العلم والاجتهاد فيه، تقول: سأحفظ القرآن إذا توقَّفت عن عملي، أو تقول المرأة: سأحفظ القرآن إذا كبِر أولادي، سأطلب العلم إذا تفرَّغت من شواغلي!!

مماطلة في الأعمال، والعمر بيد الله وفي ملكِه يتصرَّف فيه كما يريد، فما يدرينا أن مَن هو اليوم على وجه الأرض يكون غدًا في جوفِها، ومن هو بعافية اليوم يكون غدًا من جملة المرضى.

ثم صفاء الذاكرة يتلاشى مع  مرور الأيام، والحفظ يضعف ويثقل، وإن حفظ قد لا يرتسخ في ذهنه كما كان في صِغَرِهِ وشبَابه.

وشغل اليوم هو شغل غدٍ، إنها الدنيا لا تترك أحدًا من فتنتها إلا من سلَّم الله، تفتن  بزخارفها، وتخدع بملذاتها، وتصوِّر الشيء التافه ذا أهمية وقيمة، فتشغل الأوقات وتأكلها أكلًا، وقد تتزايد الشواغل. عافانا الله وإياكم.

فعلينا بالعزيمة، والحرص على منافعنا التي من أجلِّها التفقه في دين الله، ولا نؤجل عمل اليوم لغدٍ، فإن الأعمال تتراكم، والصوارف تتوارد.

قال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)﴾[العنكبوت].

وقال عزوجل: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ. الحديث رواه مسلم.

وما أحسن ما قيل:

ولا أؤخر شُغْل اليوم عن كَسَلٍ ... إلى غَدٍ إِنَّ يَوْمَ العَاجزينَ غَدُ

وأحسن من ذلك قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا» الحديث رواه مسلم.

قال ابن القيم رحمه الله في «طريق الهجرتين» (274): فليس للعبد أنفع من قصر الأمل، ولا أضر من التسويف وطول الأمل.

وقال ابن القيم رحمه الله في «مدارج السالكين»(1/468): الْجِدُّ هُوَ صِدْقُ الْعَمَلِ، وَإِخْلَاصُهُ مِنْ شَوَائِبِ الْفُتُورِ، وَوُعُودِ التَّسْوِيفِ وَالتَّهَاوُنِ، وَهُوَ تَحْتَ السِّينِ وَسَوْفَ، وَعَسَى، وَلَعَلَّ، فَهِيَ أَضَرُّ شَيْءٍ عَلَى الْعَبْدِ، وَهِيَ شَجَرَةٌ ثَمَرُهَا الْخُسْرَانُ وَالنَّدَامَاتُ.

اللهم احفظ لنا ديننا، اللهم اعزم لنا على رُشد أمرنا وقنا شرَّ أنفسِنا.