من آدَابِ القِرَاءةِ
◆◇◆◇◆◇
بعض أحكام الاستعاذة
يُشرَع الاستعاذة عند ىقراءة القرآن سواء كانت القراءة في أول السورة، أو وسطها، أو أي جزء منها؛ لقول الله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)﴾ [النحل].
وتكون قبل القراءة وهذا قول الجمهور وتقدير الآية عندهم: إذا أردت القراءة، كقوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ ﴾ [المائدة: 6]. أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة.
وحُكي عن بعض المتقدمين الاستعاذة بعد القراءة، منهم: أبو هريرة، وابن سيرين، وعطاء. كما في «فتح الباري» (4/384) لابن رجب. وحكاه أيضًا النووي في «المجموع» (3/271) عن النخعي.
وقد أنكر ثبوته عنهم ابن الجزري رَحِمَهُ الله في «النشر في القراءات العشر» (1/254)، وقال: مَحِلُّهَا –أي: الاستعاذة-هُوَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ إِجْمَاعًا، وَلَا يَصِحُّ قَوْلٌ بِخِلَافِهِ، عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ، وَإِنَّمَا آفَةُ الْعِلْمِ التَّقْلِيدُ. اهـ.
وقد ذكر الإمام ابن القيم رَحِمَهُ الله في «إغاثة اللهفان» (1/92) في فوائد الاستعاذة: حصول فائدة القرآن في القلب؛ لأنه شفاء لما في الصدور، ولأجل بقائها –أي بقاء ثمرة قراءة القرآن-وحفظها وثباتها.
ثم قال: وكأنَّ من قال: إن الاستعاذة بعد القراءة؛ لَحَظَ هذا المعنى، وهو لعَمْر الله مَلْحَظ جيد؛ إلا أن السنة وآثار الصحابة إنما جاءت بالاستعاذة قبل الشروع في القراءة، وهو قول جمهور الأمة من السلف والخلف، وهي محصِّلة للأمرين. اهـ.
ثم المعنى الذي شُرعت لأجله الاستعاذة يفيد أن الاستعاذة تكون قبل القراءة، وفي كتاب ابن القيم «إغاثة اللهفان»(1/92)بعض فوائد الاستعاذة قبل القراءة، منها:
القرآن شفاء لما في الصدور، مُذهِبٌ لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة، فهو دواء لما أَثَّره فيها الشيطان، فأمر أن يطرُدَ مادة الداء، ويُخلِي منه القلب؛ ليصادف الدواء محلًّا خاليًا، فيتمكَّن منه، ويؤثِّر فيه، كما قيل:
أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الهَوَى***فَصــــــــــــادَفَ قَلْبًا خَــــــــــــالِيًا فتمَكَّنَا
أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب، كما أن الماء مادة النبات، والشيطان نارٌ يحرق النبات أولًا فأولًا، فكلما أحسَّ بنبات الخير في القلب سعى في إفساده وإحراقه، فأُمر أن يستعيذ بالله منه؛ لئلا يُفسِد عليه ما يحصل له بالقرآن.
أن الشيطان يُجْلِب على القارئ بخيله ورَجله، حتى يَشْغَله عن المقصود بالقرآن، وهو تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد به المتكلم به سبحانه، فيحرص بجهده على أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن؛ فلا يكمل انتفاع القارئ به، فأُمر عند الشروع أن يستعيذ بالله منه.
أن الشيطان أحرصُ ما يكون على الإنسان عندما يهُمُّ بالخير، أو يدخل فيه، فهو يشتد عليه حينئذٍ؛ ليقطعه عنه، وفي «الصحيح» عنه صلى الله عليه وسلم: «إن شيطانًا تَفلَّتَ عليّ البارحة، فأراد أن يقطع عليّ صلاتي» الحديث. وكلما كان الفعل أنفع للعبد وأحب إلى الله، كان اعتراض الشيطان له أكثر. فالشيطان بالرَّصدِ للإنسان على طريق كل خير. فهو بالرَّصد، ولا سيما عند قراءة القرآن، فأمر سبحانه العبد أن يحارب عدُوَّه الذي يقطع عليه الطريق، ويستعيذ بالله منه أولًا، ثم يأخذ في السير، كما أن المسافر إذا عرض له قاطع طريق اشتغل بدفعه، ثم اندفع في سيره.
أن الاستعاذة قبل القراءة عنوان وإعلام بأن المأتيَّ به بعدها القرآن، ولهذا لم تُشرَع الاستعاذة بين يدي كلام غيره، بل الاستعاذة مقدمة وتنبيه للسامع أن الذي يأتي بعدها هو التلاوة. اهـ المراد.
◆◇◆◇◆◇
صفة التعوذ بالله من الشيطان الرجيم
الصفة الأولى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وهذا ثابت في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)﴾ [النحل].
الصفة الثانية: أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
قد ورد هذا عن بعض الصحابة مرفوعًا مع بعض الاختلاف في الصيغة:
-عن أبي سعيد الخدري: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا قام إلى الصلاة كبر، ثم يقول: «أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ، وَنَفْخِهِ، وَنَفْثِهِ». أخرجه أبو داود (775)، والترمذي (242)، وأحمد (18/51)، من طريق جَعْفَر بن سليمان الضبعي، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَلِيٍّ الرِّفَاعِيِّ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.
قال أبو داود عقب هذا الحديث: هَذَا الْحَدِيثُ، يَقُولُونَ هُوَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَلِيٍّ، عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا الْوَهَمُ مِنْ جَعْفَرٍ.
وقال الترمذي: وَقَدْ تُكُلِّمَ فِي إِسْنَادِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، كَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ يَتَكَلَّمُ فِي عَلِيِّ بْنِ عَلِيٍّ الرِّفَاعِيِّ، وقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَصِحُّ هَذَا الحَدِيثُ. وضعف الحديث النووي في «المجموع» (3/269).
-عَنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي صَلَاةً فَقَالَ: الحديث، وفيه: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ مِنْ نَفْخِهِ وَنَفْثِهِ وَهَمْزِهِ». رواه أبو داود (764)، وابن ماجه (807)، وأحمد (27/339)، ولكن فيه عاصم بن عمير العنزي مجهول.
-عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَهَمْزِهِ، وَنَفْخِهِ، وَنَفْثِهِ» قَالَ: هَمْزُهُ: الْمُوتَةُ، وَنَفْثُهُ: الشِّعْرُ، وَنَفْخُهُ: الْكِبْرُ. روَاه ابن ماجه(808)، من طريق محمد بْنِ فُضَيْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، وسماع ابن فضيل من عطاء بن السائب بعد الاختلاط. .يراجع «الجرح والتعديل»(6/334)لابن أبي حاتم.
وله بعض الطرق الأُخرى؛ لكنها ضعيفة.
◆◇◆◇◆◇
حكم الاستعاذة
حكمها مستحب عند جمهور العلماء لكل قارئ في الصلاة وغيرها، وجزم به الإمام النووي رَحِمَهُ الله في «التبيان».
وقد حُكِيَ وجوب الاستعاذة عن عطاء والثوري وبعض الظاهرية، وهو قول ابن بطة من الحنابلة. كما في «فتح الباري» (4/386) لابن رجب، وهذا هو الصواب؛ لظاهر الأمر﴿فَاسْتَعِذْ﴾ ولا صارف له.
وهذا قول والدي رَحِمَهُ الله. وينظر: «المحلى» مسألة (363).
أما قراءة الاستعاذة عند الاستدلال بالآيات فكان يفيدنا والدي رحمه الله: أنه لا تُقرأ الاستعاذة عند الاستدلال؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يذكر الآية بدونها.
قلت: روى البخاري (4627) عن عبد الله بن عمر، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «﴿مَفَاتِحُ الغَيْبِ﴾ [الأنعام: 59] خَمْسٌ: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنْزِلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[لقمان: 34]».
وأخرج البخاري (597)، ومسلم (684) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ نَسِيَ صَلاةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا، لا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ، ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: 14]».
والشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ الاستعاذة عند الاستدلال.
وهذا الذي رجحه السيوطي في رسالته «الْقُذَاذَةُ فِي تَحْقِيقِ مَحَلِّ الِاسْتِعَاذَةِ» (ص 306) ضمن «الحاوي».
تعريف الاستعاذة: قال ابن كثير رَحِمَهُ الله في «تفسيره»(1/114): هِيَ الِالْتِجَاءُ إِلَى اللَّهِ وَالِالْتِصَاقُ بِجَنَابِهِ مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ. قال: وَالْعِيَاذَةُ تَكُونُ لِدَفْعِ الشَّرِّ.
◆◇◆◇◆◇
حكم الاستعاذة في الركعة الثانية
اختلف أهل العلم في هذا على أقوال:
القول الأول: الوجوب في كل ركعة وهو قول ابن حزم.كما في«المحلى» (مسألة363).
القول الثاني: لا يتعوذ في الصلاة أصلًا بل يقرأ بعد التكبير الفاتحة من غير استعاذة ولا بسملة ولا استفتاح وهو قول مالك وأصحابه وهو قول غريب جدًّا، واستدلوا بحديث أنس بْنِ مَالِكٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلاَةَ بِـ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2]». رواه البخاري (743)، ومسلم (399).
والجواب عن هذا الحديث: أن المراد بذلك الجهر، «يَفْتَتِحُونَ» أي: يجهرون بــ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾، وأما الاستعاذة والبسملة ودعاء الاستفتاح فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأهما سرًّا.
القول الثالث: الاكتفاء بالاستعاذة في الركعة الأُولى
وهذا القول استظهره ابن القيم رَحِمَهُ الله في «زاد المعاد» (1/242)، وقال: وَالِاكْتِفَاءُ بِاسْتِعَاذَةٍ وَاحِدَةٍ أَظْهَرُ . قال: وإنما يكفي استعاذة واحدة؛ لأنه لم يتخلل القراءتين سكوت بل تخللهما ذكر، فهي كالقراءة الواحدة إذا تخلَّلها حمد الله أو تسبيح أو تهليل أو صلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونحو ذلك. اهـ.
وهو قول والدي رَحِمَهُ الله فقد سألته، فأفادني: أنه يكفي الاستعاذة في الركعة الأولى.
وهو قول الشيخ ابن عثيمين في «مجموع الفتاوى» (13/110)، قال رحمه الله: قراءة الصلاة واحدة، فتكون الاستعاذة في أول ركعة. اهـ
ودليل هذا القول حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عند مسلم (599) كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا نهض من الركعة الثانية، استفتح القراءة بالحمد لله رب العالمين، ولم يسكت.
-ومنهم من ذهب إلى استحباب التعوذ في كل ركعة. وهو الصحيح عند الشافعية، وهذا قول أحمد في رواية عنه.
والذي يظهر هو مشروعية الاستعاذة في كل ركعة؛ لعموم الآية ،﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)﴾ [النحل]. وهذا ترجيح الألباني رَحِمَهُ الله في «تمام المنة» (176)، وقال عن حديث أبي هريرة: «ولم يسكت» ليس صريحًا في أنه أراد مطلق السكوت، بل الظاهر أنه أراد سكوت السكتة المعهودة عنده، وهي التي فيها دعاء الاستفتاح، وهي سكتة طويلة، فهي المنفية في حديثه هذا. وأما سكتة التعوذ والبسملة فلطيفة لا يحس بها المؤتم؛ لاشتغاله بحركة النهوض إلى الركعة. اهـ المراد.
◆◇◆◇◆◇
حكم الاستعاذة في التكبيرة الأولى من صلاة الجنازة
إذا كبَّر التكبيرة الأُولى يستعيذ؛ لأنه يقرأ سورة الفاتحة بعد التكبيرة الأُولى، فيشمله قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)﴾،. وهذا قول الشيخ ابن عثيمين في «مجموع الفتاوى» (17/119).
-وهناك قول آخر وهو المنع، وحجتهم أن صلاة الجنازة مبنية على الحذف والاختصار، كما في «المهذب» (5/232). وهذا التعليل مردود بالدليل.
ورده أيضًا الإمام النووي في «المجموع» (5/234)، وذكر: أَنَّهُ مُخْتَصَرٌ -أي: التعوذ-لَا تَطْوِيلَ فِيهِ فَهُوَ يُشْبِهُ التَّأْمِينَ. اهـ.
◆◇◆◇◆◇
عداوة الشيطان
الشيطان أمر الله عَزَّ وَجَل بالاستعاذة منه؛ لأنه لا يدفع شره إلا الله عَزَّ وَجَل، ولا ينفع فيه الإحسان ولا المداراة، بخلاف العدو الإنسي؛ ولهذا في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم فيها الاستعاذة بالله من الشيطان، ومداراة العدو الإنسي بالصفح والعفو.
قال تعالى في سورة الأعراف: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)﴾. هذه مداراة العدو الإنسي، ثم قال بعدها: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) ﴾أمر سبحانه بالاستعاذة من العدو الشيطاني.
وقال تعالى في سورة المؤمنون: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) ﴾.
وقال سبحانه في سورة فصلت: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) ﴾.
وقد ذكر هذا الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ الله في «تفسيره» (1/110)، وقال عن الآيات السابقة: فَهَذِهِ ثَلَاثُ آيَاتٍ لَيْسَ لَهُنَّ رَابِعَةٌ فِي مَعْنَاهَا، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِمُصَانَعَةِ الْعَدُوِّ الْإِنْسِيِّ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ؛ لِيَرُدَّهُ عَنْهُ طبعُهُ الطَّيب الْأَصْلِ إِلَى الْمُوَادَّةِ وَالْمُصَافَاةِ، وَيَأْمُرُ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِهِ مِنَ الْعَدُوِّ الشَّيْطَانِيِّ لَا مَحَالَةَ؛ إِذْ لَا يَقْبَلُ مُصَانَعَةً وَلَا إِحْسَانًا، وَلَا يَبْتَغِي غَيْرَ هَلَاكِ ابْنِ آدَمَ؛ لِشِدَّةِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ آدَمَ مِنْ قَبْلُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ﴾ [الْأَعْرَافِ: 27]. اهـ المراد.
فالإنسان يدفع شر هذا العدو بالاستعاذة بالله منه، فينبغي الحرص على كل موضِعٍ شُرع فيه الاستعاذة بالله منه، مثل: الاستعاذة بالله منه عند دخول الخلاء وعند الغضب... فنعوذ بالله من الشيطان.
◆◇◆◇◆◇
البسملة
قول الإمام النووي: (فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ سِوَى بَراءَةٍ)
التقييد بأول السورة يفيد أن البسملة ما تقرأ في أثناء السورة، فالبسملة تُقْرَأُ في أوائل السوَر كما جاءت في القرآن سوى سورة براءة، وفي أثناء السورة يُكتفى بالاستعاذة، ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل: 98]
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في «لقاء الباب المفتوح»: الصحيح أن البسملة إذا قرأ الإنسان من أثناء السورة لا تستحب؛ لأن الله قال في كتابه: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل: 98]، ولم يأمر بسوى ذلك. اهـ
هل البسملة آية حيث كتبت في المصحف أم لا؟
اتفق المسلمون على أن البسملة في سورة النمل من القرآن، كما في «الفتاوى الكبرى» لشيخ الإسلام (2/182).
واختلفوا في البسملة في أوائل السور حيث كُتبت على ثلاثة أقوال:
أحدها: ليست من القرآن لا في الفاتحة ولا غيرها وإنما ذُكرت فيه للتبرك. وهذا قول مالك والأوزاعي وأبي حنيفة وداود، وحُكي عن أحمد، قال شيخ الإسلام: لا يصح عنه.
من أدلتهم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي»الحديث. رواه مسلم (395). والشاهد ليس فيه قراءة البسملة في أول سورة الفاتحة.
الثاني: أنها آية من أول كل سورة حيث كُتبت وهذا مذهب الشافعية. قال الحافظ ابن كثير في «تفسير سورة الكوثر»: كثير من الفقهاء على أن البسملة من السورة، وأنها منزلة معها.
من أدلتهم: عن أنس بن مالك، قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا، فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ» فَقَرَأَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ. إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ [الكوثر: 2]». رواه مسلم (400).
الثالث: هي آية من القرآن حيث كتبت، إلا أنها ليست من أول كل سورة. وهذا قول ابن المبارك وأحمد بن حنبل، واختاره شيخ الإسلام؛ لأن كتابتها في المصحف تدل على أنها من القرآن، وكتابتها مفردة مفصولة عما قبلها وعما بعدها تدل على أنها ليست من السورة. وهذا قول الشيخ ابن عثيمين رَحِمَهُ الله في «الشرح الممتع» (3/59).
وهذا هو القول الوسط في المسألة أنها ليست من أول كل سورة، وأنها آية من القرآن مستقلة، ويدل لهذا ما تقدم في حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ» ما ذكر البسملة.
ولحديث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ، ثَلَاثُونَ آيَةً، شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ، وَهِيَ: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ [الملك: 1]» رواه أحمد (7975)، وابن ماجه (3786)، وأبو داود (1400). قال: ثلاثون آية وما أدخل البسملة في عد آي سورة الملك.
وبالنسبة لسورة الفاتحة عدد آياتها سبع، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) ﴾ [الحجر]. الآية السابعة تبدأ من قول الله عز وجل: ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة]. وأما عدها في المصحف سبعًا بإدخال البسملة، فهذا أجاب عنه الشيخ ابن عثيمين رَحِمَهُ الله في «الشرح الممتع» (3/59)، وقال: هذا الترقيم على قول بعض أهل العلم: أنَّ البسملة آية من الفاتحة. ولهذا في بقية السُّور لا تُعدُّ مِن آياتها ولا تُرقَّم. والصَّحيحُ أنها ليست مِن الفاتحة، ولا مِن غير الفاتحة، بل هي آية مستقلَّة. اهـ.
ونستفيد من هذا: الحث على المحافظة على قراءة البسملة، وعدم التفريط في ذلك.
◆◇◆◇◆◇
هذا، وينبغي أن يُعتنَى بـقول: بسم الله في كل المواضع التي أرشد إليها الشرع فهي من ذكر الله عزوجل ومن أجلِّ العبادات. أخرج أحمد عن أَبي تَمِيمَةَ عَنْ رَدِيفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : عَثَرَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمَارُهُ. فَقُلْتُ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُلْ تَعِسَ الشَّيْطَانُ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ تَعِسَ الشَّيْطَانُ تَعَاظَمَ وَقَالَ: بِقُوَّتِي صَرَعْتُهُ، وَإِذَا قُلْتَ: بِاسْمِ اللَّهِ تَصَاغَرَ حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ الذُّبَابِ».
قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» في الكلام على فضل البسملة: فَهَذَا مِنْ تَأْثِيرِ بَرَكَةِ بِسْمِ اللَّهِ، وَلِهَذَا تُسْتَحَبُّ فِي أَوَّلِ كُلِّ عَمَلٍ وَقَوْلٍ.
وقال البخاري: بَابُ التَّسْمِيَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَعِنْدَ الوِقَاعِ. ثم أخرج (141)، وهو كذلك عند مسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرُّهُ».
فاحرصوا على قول باسم الله وعلِّموها أولادكم، ففيه إغاظة وإذلال للشيطان الرجيم، وفيه بركة عظيمة في الأمور الدينية والدنيوية. وفقنا الله وإياكم لكل خير.