جديد المدونة

جديد الرسائل

الأربعاء، 25 نوفمبر 2020

اختصار الدرس الخامس والثلاثين من دروس التبيان في آداب حملة القرآن


من آداب حامل القرآن

تعاهد القرآن والتحذير من تعريضه للنسيان

عَن أَبِي مُوسَى الأَشعَرِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ؛ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا!» البخاري (5033)، ومسلم (791).

وَعَن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ: إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ» (5031)، ومسلم (789).

«تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ» قال الطيبي رَحِمَهُ الله في «شرح مشكاة المصابيح» (5/1679): تعاهد الشيء وتعهُّده محافظته وتجديد العهد به، أي: واظبوا على تلاوته، وداوموا على تكراره ودرسه؛ كيلا ينسى. اهـ.

-وفي هذين الحديثين كما قال الحافظ في «فتح الباري» (9/83): الْحَضُّ عَلَى مُحَافَظَةِ الْقُرْآنِ بِدَوَامِ دِرَاسَتِهِ وَتَكْرَارِ تِلَاوَتِهِ، وضَرْبِ الْأَمْثَالِ لِإِيضَاحِ الْمَقَاصِدِ. اهـ.

-سرعة تفلت القرآن الكريم من الصدور.

-مشقة استرداد ما نُسي من القرآن الكريم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثلًا لنسيان القرآن بتفلت الإبل في عقلها، واستردادها فيه صعوبة.

فائدة: الإبل يُضربُ المثَلُ بطبعِها في سُرعة التفلت من رباطها، كما في هذا الحديث.

ويُضرب المثل بشرَاستِها وشدَّة حقدها، يقال: فلان أحقد من جمل. كما في «سراج الملوك»(112).

أما عن نسيان القرآن فعندنا أدلة وبعض الآثار:

-النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتعاهد القرآن حتى لا ينساه، كما تقدم.

-أدخل بعض المفسرين نسيان القرآن في قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) [طه].

-عن الضحاك بن مزاحم-أحد التابعين-: ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب يحدثه؛ لأن الله يقول: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عن كَثِيرٍ [الشورى: 30]. وإن نسيان القرآن من أعظم المصائب! رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في «فضائل القرآن» (ص104) بسند حسن.

وهذا فيمن تساهل وفرَّط في القرآن حتى نسيَهُ.

قال أبو عبيد في «غريب الحديث» (3/149-150) عن التحذير من نسيان القرآن: إِنَّمَا هَذَا على التّرْك، فَأَما الَّذِي هُوَ دائب فِي تِلَاوَته حَرِيص على حفظه إِلَّا أَن النسْيَان يغلبه فَلَيْسَ من ذَلِك فِي شَيْء. وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد كَانَ ينسى الشَّيْء من الْقُرْآن حَتَّى يذكرهُ. اهـ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نسيان القرآن أو بعضه عن عذر

 

أما إذا لم يُفرِّط فيه فهذا ليس فيه إثم؛ لِما يلي:

-يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إلا ما شَاءَ اللهُ [الأعلى].

-عن عَائِشَةَ رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ فِي سُورَةٍ بِاللَّيْلِ، قال: «يَرْحَمُهُ اللَّهُ! لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا، آيَةً كُنْتُ أُنْسِيتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا» رواه البخاري (5038ومسلم (788).

وهذا فيه نسيانه صلى الله عليه وسلم خارج الصلاة.

-عن عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي الْفَجْرِ فَتَرَكَ آيَةً، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: «أَفِي الْقَوْمِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ؟ قَالَ أُبَيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ، نُسِخَتْ آيَةُ كَذَا وَكَذَا، أَوْ نُسِّيتَهَا؟ قَالَ: نُسِّيتُهَا». رواه أحمد(24/80وصححه والدي رحمه الله في «الجامع الصحيح»(2515).

وهذا فيه نسيانه داخل الصلاة.

فإذا كان الذي أُنزلَ عليه القرآن قد ينسى بعض الآيات، فكيف بنا نحن؟!

والأعذار في نسيان القرآن عافانا الله وإياكم، مثل:

-من ابتُلي بمرضٍ فنسي بسببه.

-من ابتلي بمشاكل، أو مشاغل فوق طاقته وقدرته، كما سيأتي هذا في كلام والدي.

-من كان يغلب عليه النسيان.

-أو طارئ وقت قراءته التبس عليه بعض الآيات.

وبعد هذا فدونَكُم فتوى والدي رَحِمَهُ الله في هذه المسألة أنقلها لكم من «إجابة السائل» (ص399قال رَحِمَهُ الله: إن كان الشخص قصَّر وأهمل كتاب الله، فيأثم إثمًا الله أعلم بمقداره. وإن لم يقصر وابتلي بمرض، أو مشاكل، أو مشاغل فوق طاقته وقدرته، فأرجو ألا يأثم.

ثم قال: بقي التفريط وعدم المبالاة بالقرآن، هذا يأثم، وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «رحم الله فلانًا! لقد ذكرني آية كذا وكذا؛ أنسيتها».

فالشخص إذا نسي وذاكر، هذا أمر محمود، لكن إذا نسي وأهمل وفرط فهو يعتبر آثمًا إثمًا الله أعلم بمقداره. اهـ المراد.

فعلى حافظ القرآن أن يحذر من نسيان القرآن تفريطًا منه وإهمالًا، قال القرطبي في «المفهم» (2/419): من جمع القرآن فقد علت رتبتُه ومرتبته، وشرف في نفسه وقومه شرفًا عظيمًا، وكيف لا يكون ذلك، ومن حفظ القرآن قد صار ممن يقال فيه: هو من أهل الله وخاصته، وإذا كان كذلك فمن المناسب تغليظ العقوبة على من أخل بمرتبته الدينية، ومؤاخذته بما لا يؤاخذ به غيره، كما قال تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَف لَهَا العَذَابُ ضِعفَينِ﴾؛ لا سيما إذا كان ذلك الذنب مما يحبط تلك المنزلة ويسقطها؛ كترك معاهدة القرآن المؤدي به إلى الرجوع إلى الجهالة. اهـ.

فهذا ليس بهين أن يرجع إلى الجهل بعد العلم.

تنبيه

أنبِّه هنا على حالِ مَن تأتي له أفكار أن لا يحفظ القرآن؛ لئلَّا ينساه، فيحمل إثمًا.

 وهذا من مداخل الشيطان؛ ليُحرم من الخير ومن بركات القرآن وفضائله، فعلى الإنسان أن يحسن الظن بالله، وأن يعزم على حفظ القرآن، ويجتهد فيه ليلًا ونهارًا، ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾[مريم].

وإذا قدَّر الله ونسي بعض الآيات لا عن تساهل أو نسي القرآن لعذر، فإنه لا حرج عليه ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾[الطلاق: 7والله أعلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من نام عن ورده

 

الورد: المقدار المعلوم، يقال لفلان كل ليلة ورد من القرآن يقرؤه، والورد: الجزء من الليل يكون على الرجل يصليه. ينظر: «لسان العرب» (3/458).

عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَامَ عن حِزْبِهِ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ عن شَيْءٍ مِنْهُ، فَقَرَأَهُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ، الظُّهْرِ كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْلِ» رَوَاهُ مُسلِمٌ(747).

(عن حِزْبِهِ) في «المصباح المنير» (1/133): الْحِزْبُ: الْوَرْدُ يَعْتَادُهُ الشَّخْصُ مِنْ صَلَاةٍ وَقِرَاءَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. اهـ. وَالْمُرَادُ هُنَا: الْوَرْدُ مِنْ الْقُرْآنِ، كما في «نيل الأوطار»(3/60)للشوكاني.

(أَوْ عن شَيْءٍ مِنْهُ) أي: بعضًا منه.

في هذا الحديث من الفوائد:

- الحث على اتخاذ ورد في الليل من العبادات.

-الحث على المحافظة على الورد المحدود والجد والحزم، وعدم التفريط فيه والتسويف في العمل. وقد عدوا من تلاعب الشيطان التسويف في العمل، حتى قال بعضهم: احذروا سوف؛ فإنها أكبر جنود إبليس! يراجع آخر كتاب: «تلبيس إبليس».

-أنه إذا فاته ورده من الليل لغلبة نوم قضاه ما بين صلاه الفجر وصلاة الظهر.

-تفضُّل الله على عباده ولطفه بهم.

وإذا فاتته صلاة الليل لغلبة نوم فيصليها شفعًا؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: وَكَانَ إِذَا غَلَبَهُ نَوْمٌ، أَوْ وَجَعٌ عن قِيَامِ اللَّيْلِ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً. رواه مسلم (746).

فإذا كان يصلي في الليل ثلاثًا فيصليها أربعًا، وإذا كان يصلي خمسًا فيصليها ستًّا من أجل الشفع، وهكذا.

ثم ذكر النووي رَحِمَهُ الله في كتاب «التبيان» بعض الرُّؤى المنامية في الحث على المداومة على الورد في الليل،نقتصر على ذكر رؤيا :

وَعن ابنِ أَبِي الدُّنيَا، عن بَعضِ حُفَّاظِ القُرآنِ، أَنَّهُ نَامَ لَيلَةً عن حِزبِهِ، فَرَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ:

عَجِبتُ مِن جِسمٍ وَمِن صِحَّةٍ...وَمِن فَتًى نَامَ إِلَى الفَجرِ

وَالمَوتُ لَا تُؤمَنُ خَطَفَاتُهُ...فِي ظُلَمِ اللَّيلِ إِذَا يَسرِي