جديد المدونة

جديد الرسائل

الأحد، 1 نوفمبر 2020

اختصار الدرس الثاني والثلاثين من دروس التبيان في آداب حملة القرآن

 

من آداب حامل القرآن

عدم اتخاذ القرآن وسيلة للكسب والمعيشة

عن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ شِبلٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ، وَلَا تَجْفُوا عنهُ، وَلَا تَغْلُوا فِيهِ» أخرجه الإمام أحمد (24/439)، وابن أبي عاصم في «الآحاد» (2116) وصححه الألباني رحمه الله في «الصحيحة» (1/رقم260).

«وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ» قال الصنعاني في «التَّنويرُ»(2/608): لا تجعلونه مكسبًا تأكلون به أموال الناس، كما يفعله المرتزقة بتلاوته. اهـ.

«وَلَا تَجْفُوا عنهُ، وَلَا تَغْلُوا فِيهِ» قال أبو عبيد في «غريب الحديث» (3/483): الغالي فِيهِ هُوَ: المُتَعّمِقُ حَتَّى يُخرجهُ ذَلِك إِلَى إكفار النَّاس كنحوٍ من مَذْهَب الْخَوَارِج وَأهل الْبدع.  والجافي عنهُ: التارك لَهُ وللعمل بِهِ، وَلَكِن الْقَصْد من ذَلِك. اهـ.

وقال ابن كثير في «فضائل القرآن» (256): أي: لا تبالغوا في تلاوته بسرعة في أقصر مدة؛ فإن ذلك ينافي التدبر غالبًا. ولهذا قابله بقوله: «ولا تجفوا عنه» أي: لا تتركوا تلاوته.

وقال المناوي في «فيض القدير» (2/81): أي: تجاوزوا حده من حيث لفظه أو معناه؛ بأن تتأولوه بباطل. أو المراد: لا تبذلوا جهدكم في قراءته وتتركوا غيره من العبادات. فالجفاء عنه التقصير، والغلو التعمق فيه، وكلاهما شنيع. وقد أمر الله بالتوسط فقال: ﴿لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾ [الفرقان: 67]. اهـ المراد.

ونقل المناوي عن الطيبي: لا تجفوا عنه بأن تتركوا قراءته، وتشتغلوا بتأويله وتفسيره. «ولا تغلوا فيه» بأن تبذلوا جهدكم في قراءته وتجويده من غير تفكر. اهـ المراد.

نستفيد مما تقدم:

-الحث على تعاهد القرآن.

- الحث على الإخلاص في تعلُّم القرآن وتعليمه؛ فلا يكون لأجل المال والراتب والدنيا والسمعة، يقول الله: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) [الإسراء]. وقد بوب الإمام البخاري في «صحيحه»: بَابُ إِثْمِ مَنْ رَاءَى بِقِرَاءَةِ القُرْآنِ أَوْ تَأَكَّلَ بِهِ أَوْ فَخَرَ بِهِ.

والقليل من يسلم، والمعصوم من عصمه الله، وصدق ابن القيم رحمه الله إذ يقول عن الإرادة والنية في «الجواب الكافي» (ص 135): وَأَمَّا الشَّرَكُ فِي الْإِرَادَاتِ وَالنِّيَّاتِ، فَذَلِكَ الْبَحْرُ الَّذِي لَا سَاحِلَ لَهُ، وَقَلَّ مَنْ يَنْجُو مِنْه.. الخ.

-أن من ترك تلاوة القرآن أو ترك العمل به فقد جفا، وفي حديث سَمُرَةِ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه الطويل في الرؤيا قال النبي صلى الله عليه وسلم: قُلْتُ لَهُمَا: فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ عَجَبًا، فَمَا هَذَا الَّذِي رَأَيْتُ؟ قال: قالا لِي: أَمَا إِنَّا سَنُخْبِرُكَ، أَمَّا الرَّجُلُ الأَوَّلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالحَجَرِ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ القُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ وَيَنَامُ عن الصَّلاةِ المَكْتُوبَةِ» الحديث رواه البخاري (7047).

-أن من الغلو في القرآن ما يأتي:

المبالغة في تلاوته بسرعة في أقصر مدة؛ فإن ذلك ينافي التدبر غالبًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ لَمْ يَفْقَهْهُ» رواه الإمام أحمد (6536) عن ابْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهمَا.

الغلو في تلاوته من حيث التمطيط الزائد، والزيادة في تزيين تلاوته.

تحميل آيات القرآن على غير المراد منها، كاستدلال الخوارج بالوعيد على تكفير أصحاب الكبائر، وتخليد أصحاب الكبائر الموحدين في النار.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قال: خَرَجَ عَلَيْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَفِينَا الْعَجَمِيُّ، وَالْأَعْرَابِيُّ، قال: فَاسْتَمَعَ، فَقال: «اقْرَءُوا فَكُلٌّ حَسَنٌ، وَسَيَأْتِي قَوْمٌ يُقِيمُونَهُ كَمَا يُقَامُ الْقِدْحُ يَتَعَجَّلُونَهُ وَلَا يَتَأَجَّلُونَهُ » رواه الإمام أحمد (23/415)،  وأبو داود (830). وعند البيهقي في «شعب الإيمان»(2399): وَفِينَا الْعَجَمِيُّ وَالْعَرَبِيُّ.

«الْقِدْحِ»: السَّهم الَّذِي كَانُوا يَسْتّقْسِمون بِهِ، أَوِ الَّذِي يُرْمى بِهِ عن القَوْس.

وفي«عون المعبود» (3/42): أي: يصلحون ألفاظه وكلماته، ويتكلفون في مراعاة مخارجه وصفاته.«كَمَا يُقَامُ الْقِدْحُ» أي: يبالغون في عمل القراءة كمال المبالغة؛ لأجل الرياء والسمعة والمباهاة والشهرة.

«اقْرَءُوا فَكُلٌّ حَسَنٌ» في«عون المعبود» (3/42): أَيْ: فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ قِرَاءَتِكُمْ حَسَنَةٌ مرجوة للثواب إِذَا آثَرْتُمُ الْآجِلَةَ عَلَى الْعَاجِلَةِ، وَلَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تُقِيمُوا أَلْسِنَتَكُمْ إِقَامَةَ الْقِدْحِ، وَهُوَ السَّهْمُ قَبْلَ أَنْ يُرَاشَ.

نستفيد:

-استنبط والدي رحمه الله في «الجامع الصحيح»(2398)من حديث جابر: فيه علم من أعلام النبوة؛ فقد كثر المتأكلون بالقرآن.اهـ

ومعنى «يَتَعَجَّلُونَهُ وَلَا يَتَأَجَّلُونَهُ» قال النووي رحمه الله: يَتَعَجَّلُونَ أَجرَهُ إِمَّا بِمَالٍ، وَإِمَّا بِسُمعَةٍ، أَو نَحوِهِمَا.

-الرد على الذين يتكلفون التجويد ومخارج الحروف، وهذا هو الغالب في حال الذين يتعلَّمون ويعلِّمون التجويد والمخارج إلا من رحم الله سبحانه وتعالى. وذكر الذهبي رحمه الله في «زغل العلم» كلامًا جميلًا في هذا يحتاج إليه المقرئون.

اقْرَءُوا فَكُلٌّ حَسَنٌ» نستفيد: أنه لا يجب تعلم التجويد؛ لأن الصحابة كان يقرأون وفيهم العربي والأعجمي.

 ومما يدل على ذلك أيضًا: عن عَائِشَةَ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، لَهُ أَجْرَانِ» رواه البخاري (4937 ومسلم (798).

فقوله: «وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ» دليل أن عنده صعوبة ومشقة في النطق والتجويد، ومع ذلك رغَّبَهُ النبي صلى الله عليه وسلم في القراءة، وقال: «لَهُ أَجْرَانِ».

وقد ذهب إلى ذلك من علمائنا وأئمتنا: والدي الشيخ مقبل، والشيخ ابن باز، وابن عثيمين ،وشيخه السعدي رَحِمَهُم الله جميعًا.

قال الشيخ ابن باز في «فتاوى نور على الدرب» (11/480)في الجواب عن سؤال: أنا أصلي بمجموعة من الناس إمامًا في أحد المساجد، لكنى أعترف أنني لا أجيد قراءة القرآن بشكل جيد، فهل أكون آثمًا؟ علمًا بأنه لا يوجد غيري إمامًا لهؤلاء الناس، وجهوني جزاكم الله خيرًا.

ج: إذا كنت تقيم القراءة ولو كنت غير مجود فالتجويد ليس بواجب، بل مستحب، إذا كنت تقيم القراءة، تقيم الحروف، تخرجها فلا بأس بذلك ولو كنت لم تقرأ التجويد، ما دمت تقرأ الآيات باللغة العربية قراءة واضحة، والحروف واضحة فلا بأس عليك، والحمد لله.

وقال الشيخ ابن عثيمين في «مجموع الفتاوى» (26/206):لا أرى وجوب الالتزام بأحكام التجويد التي فُصلت بكتب التجويد، وإنما أرى أنها من باب تحسين القراءة، وباب التحسين غير باب الإلزام، وقد ثبت في «صحيح البخاري» عن أنس بن مالك رضي الله عنهما أنه سئل كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كانت مدًّا، ثم قرأ «بسم الله الرحمن الرحيم» يمد ببسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم.

والمد هنا طبيعي لا يحتاج إلى تعمده، والنص عليه هنا يدل على أنه فوق الطبيعي.

ولو قيل بأن العلم بأحكام التجويد المفصلة في كتب التجويد واجب للزم تأثيم أكثر المسلمين اليوم، ولقلنا لمن أراد التحدث باللغة الفصحى: طبق أحكام التجويد في نطقك بالحديث وكتب أهل العلم وتعليمك ومواعظك.

وليُعلم أن القول بالوجوب يحتاج إلى دليل تبرأ به الذمة أمام الله عز وجل في إلزام عباده بما لا دليل على إلزامهم به من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو إجماع المسلمين، وقد ذكَّرنا شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في جواب له أن التجويد حسب القواعد المفصلة في كتب التجويد غير واجب. اهـ.

وكان والدي رحمه الله ينتقد قول ابن الجزري:

وَالأَخْذُ بِالتَّجْوِيدِ حَتْمٌ لازِمُ...مَنْ لَمْ يُجَـوِّدِ الْقُـرَآنَ آثِـمُ

ويقول: هذا ليس بصحيح. اهـ.

 ولا شك أن الأفضل القراءة بالتجويد،النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ» فلا يعني ما تقدم التزهيد في علم التجويد، لكن من غير غلو ولا تكلف، والتكلف داخل في التنطع، فعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» قالهَا ثَلَاثًا، رواه مسلم (2670).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن

قال النووي: اختَلَفَ العُلَمَاءُ فِيه: فَحَكَى الإمَامُ أَبُو سُلَيمَانَ الخَطَّابِيُّ مَنعَ أَخذِ الأُجرَةِ عَلَيهِ عن جَمَاعَةٍ مِنَ العُلَمَاءِ، مِنهُم: الزُّهرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةٌ.

وهو قول إسحاق، كما في «شرح السنة» (8/268) للبغوي. وأحمد في رواية عنه أخذ بها جمهور أصحابه، كما في «الإنصاف»(6/35) للمرداوي. وقال الشيخ ابن عثيمين في «الشرح الممتع»(10/10): لو استأجره ليعلمه القرآن فهو أيضًا حرام على المذهب. اهـ. أي: مذهب الحنابلة.

من أدلة المانعين:

قوله تعالى: ﴿ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)﴾ [البقرة].

 ومن حجتهم: أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من طريقتهم وهديهم التعليم بغير أجرة، قال تعالى: ﴿ وَيَقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [هود: 29]. وقال تَعَالَى: ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) [ص]. وغير ذلك من الآيات.

وهكذا القرون الثلاثة المفضلة وغيرهم من أهل العلم كانوا يعلمون القرآن من غير أجرة، كما ذكر هذا شيخ الإسلام رحمه الله في «مجموع الفتاوى» (30/204).

عن عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ أَنَّه عَلَّمَ رَجُلًا مِن أَهلِ الصُّفَّةِ القُرآنَ؛ فَأَهدَى لَهُ قَوسًا، فَقال لَهُ النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنْ سَرَّكَ أَنْ تُطَوَّقَ بِهَا طَوْقًا مِنَ النَّارِ، فَاقْبَلْهَا»، والحديث ضعيف.

قالوا إذا كان هذا في منع الهدية لمعلم القرآن فأحرى بالمنع من أخذ الأجرة على تعليم القرآن.

 القول الثاني: قال النووي: (وَعن جَمَاعَةٍ أَنَّه يَجُوزُ إِذَا لَم يَشرِطهُ، وَهُوَ قَولُ: الحَسَنِ البَصرِيِّ، وَالشَّعبِيِّ، وَابنِ سِيرِينَ)

وهذا قول أحمد في رواية عنه، قال ابن قدامة في «المغني» مسألة (4324): فَإِنْ أُعْطِيَ الْمُعَلِّمُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ جَوَازُهُ.

وهذا الذي استفدناه من والدي رحمه الله أنه لا يشترط، فإذا لم يشترط يجوز له، وهذا نص فتوى له.

ما حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن؟

الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول وقد اختلف اثنان: «اقرأوا القرآن فكلاكما محسن؛ فإنه سيأتي أقوام يتعجلونه ولا يتأجلونه»، وأيضًا يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا تستكثروا بالقرآن».

 فإذا كان يُدرِّس من أجل المال فهو آثم، وإذا كان يُعطَى شيئًا من بيت مال المسلمين، أو يُعطى من فاعل خير فلا بأس بهذا.

 أما أن يقول للطالب: أنا لا أدرِّسك حتى تعطيني في الشهر مائة ريال أو خمسين ريالًا أو أقل أو أكثر فهذا لا يجوز، وما كان على عهد السلف رضوان الله عليهم، بل ما كان على عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، والله عز وجل وتعالى يقول في شأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفي شأن الأنبياء: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم عليه مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾[سبأ: 47 يعني: ما كان يُبلِّغ ويطلب شيئًا من المال، بل يُبلِّغ لله عز وجل، والله المستعان.

[نقلته من فتاوى في آخر شريط: «الأحداث الفاضحة» لوالدي رحمه الله]

القول الثالث: قال النووي: (وَذَهَبَ عَطَاءٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَآخَرِونَ إِلَى جَوَازِهَا إِذَا شَارَطَهُ وَاستَأجَرَهُ إجَارَةً صَحِيحَةً. وَقَد جَاءَت بِالجَوَازِ الأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ).

هذا قول أكثر العلماء، كما ذكر ذلك القرطبي في «تفسيره»، وحكى الإباحة عن العلماء كافة القاضي عياض في «إكمال المعلم»، ونصر قول الجمهور ابن حزم في «المحلى»، وهو قول داود الظاهري.

ومن أدلة هذا القول:

عن سهل بن سعد في قصة الواهبة، الحديث وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هَلْ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ شَيْءٌ؟» قال: نَعَمْ، قال: «اذْهَبْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ». رواه البخاري (5132 ومسلم (1425).

 قال ابن عبد البر في «الاستذكار»(5/416): فِي هَذَا الْحَدِيثِ: جَوَازُ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَأَخْذِ الْبَدَلِ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا جَازَ أَنْ يُؤْخَذَ عَلَيْهِ الْعِوَضُ فِي كُلِّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْهُ. اهـ.

هذا قولٌ في المراد بهذا الحديث أنه يعلِّمها بما يحفظ من القرآن ويكون ذلكَ صداقًا لها، وقد أُجيب بأنه زوَّجها بغير مهر إكرامًا له؛ لكونه يحفظُ بعضًا من القرآن، ولكن هذا مردود بروايةٍ لمسلم «انْطَلِقْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا فَعَلِّمْهَا مِنَ الْقُرْآنِ». فهذا يدل أنه يعلمها من القرآن ويكون ذلك صداقًا لها.

قال الشوكاني في «نيل الأوطار»(5/345): وَقَدْ أَجَابَ الْمَانِعُونَ مِنْ الْجَوَازِ عن هَذَا الْحَدِيثِ-حديث سهل-بِأَجْوِبَةٍ، مِنْهَا: أَنَّهُ زَوَّجَهَا بِهِ بِغَيْرِ صَدَاقٍ إكْرَامًا لَه؛ لِحِفْظِهِ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ مِنْ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَجْعَلْ التَّعْلِيمَ صَدَاقًا، وَهَذَا مَرْدُودٌ بِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد الْمَذْكُورَةِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ وَذَلِكَ الرَّجُلِ وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عن أَبِي النُّعْمَانِ الْأَزْدِيِّ «أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم زَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ قال: «لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ بَعْدَكَ مَهْرًا».. الخ.

 قلت: ادعاء الخصوصية معتمد على حديث «لَا تَكُونُ لِأَحَدٍ بَعْدَكَ مَهْرًا». وهو حديث ضعيف؛ قال الحافظ في «فتح الباري»(9/212): وَهَذَا مَعَ إِرْسَالِهِ فِيهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ.

وذكر الحديث الشيخ الألباني رحمه الله في «الضعيفة»(982فنبقى على القاعدة المعروفة: الأصل عدم الخصوصية.

-عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» أخرجه البخاري (5737 وفي أوله قصة في أخذ الصحابي الأجرة على رقية اللديغ. قالوا  وإن كان سببُ ورودِ الحديث الرقية، فالعبرة بعموم اللفظ  لا بخصوص السبب.

-عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، يَقُولُ: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعْطِينِي العَطَاءَ، فَأَقُولُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقال: «خُذْهُ إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا المَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ، فَخُذْهُ وَمَا لا فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ». رواه البخاري(1473 ومسلم (1045).

وقد أجاب المانعون -من أخذ الأجرة على تعليم القرآن- عن حديث: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» أن هذا في الرقية كما يُشعر به السياق، قال ابن قدامة في «المغني» (6/ص157): الفرق بينه-أي: بين الرقية وبين ما اختُلف فيه-: أن الرقية نوع مداواة، والمأخوذ عليها فعل، والمداواة يباح أخذ الأجرة عليها، وقوله عليه السلام: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله» يعني به الجعل أيضًا في الرقية؛ لأنه ذكر ذلك أيضًا في سياق خبر الرقية. اهـ المراد ـ

وهذا قول الشوكاني في «نيل الأوطار»(5/346 وقول والدي فقد سألته فأجابني: هذا في الرقية. وقول الشيخ الألباني، كما في «جامع تراث فقه الإمام الألباني»(13/294) وعزاه لعلماء الحنفية.

أخذ راتب من بيت المال على تعليم القرآن

قال ابن قدامة في «المغني» (6/158): أما الرزق من بيت المال فيجوز على ما يتعدى نفعه من هذه الأمور؛ لأن بيت المال لمصالح المسلمين فإن كان بذله لمن يتعدى نفعه إلى المسلمين محتاجًا إليه كان من المصالح، وكان للآخذ له أخذه؛ لأنه من أهله وجرى مجرى الوقف على من يقوم بهذه المصالح، بخلاف الأجر. اهـ.

فالراتب الذي يكون من الدولة هذا لا بأس به، ولا يدخل في النهي، والله أعلم.

حكم أخذ المال على تلاوة القرآن فقط من غير تعليم

قال شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى»(31/316): الِاسْتِئْجَارُ عَلَى مُجَرَّدِ التِّلَاوَةِ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمُوا فِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَى التَّعْلِيمِ.

وقال الشيخ ابن باز في «مجموع الفتاوى»(24/375): أخذ الأجرة على مجرد التلاوة في أي مناسبة هذا لا يجوز أخذ الأجرة عليه. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه لا يعلم نزاعًا بين أهل العلم في تحريم ذلك. اهـ.