جديد المدونة

جديد الرسائل

الجمعة، 4 سبتمبر 2020

اختصار الدرس الأول من الأمثال في القرآن



مؤلف الكتاب:

هو الإِمَامُ الْعَلامَةُ شَمسُ الدِّينِ أَبُو عَبدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكرِ بنِ أَيُّوبَ بنِ سَعدِ المَعرُوفُ بابْنِ القيمِ رحمه الله. وهو من كبار تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

تعريف المثَل:

قال ابن القيم رحمه الله: وَأَنَّهَا تشَبِيهُ شَيءٍ بِشَيءٍ فِي حُكمِهِ، وَتَقرِيبُ المَعقُولِ مِن المَحسُوسِ أَو أَحَدُ المَحسُوسَينِ مِنَ الآخَرِ وَاعتِبَارِ أَحَدِهِمَا بِالآخَرِ.

وفسَّر بعضهم المثَل بالصفة. قال الراغب في «مفردات القرآن»(759): قال بعضهم: وقد يعبَّر بهما عن وصف الشيء. نحو قوله:﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾[الرعد].وذكر ذلك الحافظ في «فتح الباري»(تحت رقم 4937).

(وَتَقرِيبُ المَعقُولِ مِن المَحسُوسِ) وهذا أبلغ في الفهم، لأنه يُقرِّب المعنى إلى الذهن.

المعقول: ما لا يدرك بالحِس، كالعلم، والجهل، والمرض، وغيره.

المحسوس: ما يُدرك بأحد الحواس الخمس.

‏(أَو أَحَدُ المَحسُوسَينِ مِنَ الآخَرِ). من أمثلته، قول الله تعالى:﴿ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [القمر]. شبه القمر بالعرجون القديم، القمر نراه بالحس -نشاهده بالبصر- والعرجون كذلك، والعرجون القديم: هو عذق النخلة اليابس إذا قَدِم استقوس.

الأمثالِ في القرآن:

الأمثال في القرآن الكريم من علوم القرآن وأجلِّها، فينبغي تعلمها وفهمها وتدريسها وشرحها، قال الله: ﴿ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾[إبراهيم].

والمؤمن يستنير ويهتدي ويتبصَّرُ بالأمثال بخلاف الكافر فإنه يَضِلُّ بها، قال الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [البقرة].

واختص الله أهل العلم بفهم وعقل الأمثال، قال تعالى: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾[العنكبوت].

وقد كان بعض السلف يبكي إذا قرأ مثلًا من الأمثال في القرآن ولم يفهمه، ويقول: لست من العالِمِين، يشير إلى هذه الآية.

وقد ذكر السيوطي في «الإتقان في علوم القرآن» (4/45) معاني كثيرة لضرب  الأمثال في القرآن نقتصر عليها في هذا المقام، قال رحمه الله: ضَرْبُ الْأَمْثَالِ فِي الْقُرْآنِ يُسْتَفَادُ مِنْهُ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ: التَّذْكِيرُ، وَالْوَعْظُ، وَالْحَثُّ، وَالزَّجْرُ، وَالِاعْتِبَارُ، وَالتَّقْرِيرُ، وَتَقْرِيبُ الْمُرَادِ لِلْعَقْلِ وَتَصْوِيرُهُ بِصُورَةِ الْمَحْسُوسِ، فَإِنَّ الْأَمْثَالَ تُصَوِّرُ الْمَعَانِيَ بِصُورَةِ الْأَشْخَاصِ، لِأَنَّهَا أَثْبَتُ فِي الْأَذْهَانِ لِاسْتِعَانَةِ الذِّهْنِ فِيهَا بِالْحَوَاسِّ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الْغَرَضُ مِنَ الْمَثَلِ تَشْبِيهُ الْخَفِيِّ بِالْجَلِيِّ والغائب بالشاهد، وَتَأْتِي أَمْثَالُ الْقُرْآنِ مُشْتَمِلَةً عَلَى بَيَانِ تَفَاوُتِ الْأَجْرِ، وَعَلَى الْمَدْحِ وَالذَّمِّ، وَعَلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَعَلَى تَفْخِيمِ الْأَمْرِ أَوْ تَحْقِيرِهِ، وَعَلَى تَحْقِيقِ أَمْرٍ أَوْ إِبْطَالِهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ فامتن -أي: الله عز وجل-علينا بذلك لما تضمنته من الفوائد. اهـ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عدد الأمثال التي في القرآن الكريم:

قال ابن القيم رحمه الله في «إعلام الموقعين» (1/101): وَقَدْ اشْتَمَلَ الْقُرْآنُ عَلَى بِضْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ مَثَلًا. اهـ.

والقصص داخلة في الأمثال، قال شيخ الإسلام رحمه الله في «مجموع الفتاوى»(14/57): وَنَظِيرُ ذَلِكَ ذِكْرُ الْقَصَصِ؛ فَإِنَّهَا كُلَّهَا أَمْثَالٌ هِيَ أُصُولُ قِيَاسٍ وَاعْتِبَارٍ. اهـ.

والدليل على أن القصص التي ذكرها الله في كتابه أمثالٌ للعبرة قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مّبَيّنَاتٍ وَمَثَلًا مّنَ الّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً للْمُتّقِينَ﴾[النور].

ومن القصص الصريحة في الأمثال: قوله تعالى: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ﴾ [التحريم]. الآيات وقول الله عز وجل: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ إلى قوله ﴿ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف].

مِنْ صِيَغِ الأمثال في القرآن:

·      قد تأتي بلفظ (مثل) ثم إعادة (مثل) مقرونة بالكاف، مثل قوله تعالى: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ [البقرة].

·      وقد تأتي من غير إعادة (مثل) كقول الله سبحانه: ﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾[هود].

·      وقد تأتي بذكر الكاف من غير لفظ (مثل) كقوله تعالى: ﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ [المدثر].

·      وقد لا يُذكر شيءٌ من ذلك، ولكن المثل يفهم من سياق الآية كقوله تعالى: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾[البقرة].

عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَوْمًا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِيمَ تَرَوْنَ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ﴾؟ قَالُوا: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَغَضِبَ عُمَرُ، فَقَالَ: «قُولُوا نَعْلَمُ أَوْ لاَ نَعْلَمُ»، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، قَالَ عُمَرُ: «يَا ابْنَ أَخِي قُلْ وَلاَ تَحْقِرْ نَفْسَكَ»، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ضُرِبَتْ مَثَلًا لِعَمَلٍ، قَالَ عُمَرُ: «أَيُّ عَمَلٍ؟ » قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِعَمَلٍ، قَالَ عُمَرُ: «لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطَانَ، فَعَمِلَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ أَعْمَالَهُ» رواه البخاري (4538).

وكقول الله سبحانه: ﴿ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾ [الأعراف]. مثَّل سبحانه لاستحالة دخول الكافر الجنّة باستحالة دخول الجمل في سَمِّ الخياط، فكما لا يدخل الجمل في سمِّ الخياط فكذلك الكفار لا يدخلون الجنة.

تنبيهٌ:

ما جاء من النهي عن ضرب الأمثال لله في قول الله: ﴿ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[النحل] فهذا المراد به أي: لا نجعل صفات الله كصفات المخلوق، ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[النحل]. أي: الوصف الأعلى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المثل الأول: المثل الناري والمائي للمنافقين في سورة البقرة:

قال ابن القيم رحمه الله: فَضَرَبَ لِلمُنَافِقِينَ بَحَسَبِ حَالِهِم مَثَلَينِ: مَثَلًا نَارِيًّا وَمَثَلًا مَائِيًّا، لِمَا فِي المَاءِ وَالنَّارِ مِنَ الإِضَاءَةِ وَالإِشرَاقِ وَالحَيَاةِ، فَإِنَّ النَّارَ مَادَةُ النُّورِ وَالمَاءَ مَادَةُ الحَيَاةِ، وَقَد جَعَلَ اللهُ سُبحَانَهُ الوَحيَ الَّذِي أُنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مُتَضَمنًّا لِحَيَاةِ القُلُوبِ وَاستِنَارَتِهَا، وَلِهَذَا سَمَّاهُ رُوحًا وَنُورًا وَجَعَلَ قَابِلِيهِ أَحيَاءً فِي النُّورِ، وَمَن لَم يَرفَع بِهِ رَأسًا أَموَاتًا فِي الظُّلُمَاتِ. اهـ.

كما قال تعالى: ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) ﴾[النحل على أحدِ التفسيرَين أن هذا الموت موت كفر، فالله يصف المؤمن بالحياة وأنه على نور، ويصف الكافر بالموت وأنه في ظلمة.

المثل الناري: في قوله سبحانه: ﴿مثلهم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ(17)صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾.

﴿ صُمٌّ ﴾ آذانهم، فإنهم إذا سمعوا الحق لا يقبلونه.

﴿ بُكْمٌ ﴾ أي: عن النطق بالخير.

﴿ عُمْيٌ ﴾ أي: عن رؤية الخير والحق.

﴿ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾ وهذا معناه: أنه لا يقبلون الحق ولا يُذعِنون له.

قال ابن القيم رحمه الله في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (2/68) في شرح هذا المثل: فَشَبَّهَ نَصِيبَهُمْ مِمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ النُّورِ وَالْحَيَاةِ بِنَصِيبِ الْمُسْتَوْقِدِ لِلنَّارِ الَّتِي طُفِئَتْ عَنْهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهَا وَذَهَبَ نُورُهُ وَبَقِيَ فِي الظُّلُمَاتِ حَائِرًا تَائِهًا لَا يَهْتَدِي سَبِيلًا وَلَا يَعْرِفُ طَرِيقًا. اهـ.

فهذا المثل يفيد ضربَ مثَلٍ للمنافقين وتشبيه حالهم بمن استوقد نارًا، أي: أوقدها أو طَلب من يوقدها، فلما أضاءت ما حوله وعرف مأمنَه ومخاوفه وسُرَّ بذلك أطفأها الله وهو أحوج ما يكون إليها. فذهب الله بنورهم ولم يقل بنارهم، لأن النار فيها الإضاءة والإحراق، فأذهب الله الإضاءة وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق.

وكذلك المنافقون عرفوا الحق والهدى والنور وتلفظوا بالشهادة، ومع ذلك لم ينتفعوا بالنور الذي عرفوه، ولا بالخير الذي سمعوه، فهم ﴿فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾.

قال ابن القيم رحمه الله: فَهَذَا حَالُ مَن أَبصَرَ ثُمَّ عَمِيَ وَعَرَفَ ثُمَّ أَنكَرَ وَدَخَلَ فِي الإِسلَامِ ثُمَّ فَارَقَهُ بِقَلبِه لَا يَرجِعُ إِلَيهِ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المثل المائي: في قوله سبحانه: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾.

﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾ الصيِّب: المطر، والمراد أصحاب صيب من السماء بدليل سياق الآية في قوله: ﴿ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ﴾.

﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ﴾ ظلمات متعددة: ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة المطر، كما في «تفسير السعدي» (44).

﴿ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ أي: جامعهم، قال القرطبي في «تفسيره» (1/221):وَخَصَّ الْكَافِرِينَ بِالذِّكْرِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِمْ فِي الْآيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ أي: وقفوا متحيِّرين لا يدرون أين يتجهون.

 ﴿لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ قال ابن جرير رحمه الله في «تفسيره»(1/381): وَإِنَّمَا خَصَّ جَلَّ ذِكْرُهُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ بِأَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَذْهَبَهَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ دُونَ سَائِرِ أَعْضَاءِ أَجْسَامِهِمْ لِلَّذِي جَرَى مِنْ ذِكْرِهَا فِي الْآيَتَيْنِ، أَعْنِي قَوْلَهُ: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ [البقرة: 19 وَقَوْلَهُ: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾[البقرة: 20]. اهـ.

هذا المثل يُفيدُ تشبيه حال المنافقين في تكذيبهم القرآن وإعراضهم عنه بحال من جاءه مطر شديد في ليلة مظلمة ورعد وبرق،فهذا مثَل للمنافقين أنهم في ظلمات الكفر والنفاق، وهم مع القرآن وأدلة الوعيد والتهديد والزجر التي جاءت فيه هي عليهم كالرعد والبرق وجلون ينفرون منها،مع أن القرآن مؤَثِّرٌ ومع ذلك لا يؤثر فيهم ولا ينتفعون بمواعظه وزواجره.

واختلفوا في (أو) في قوله سبحانه: ﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ (19)﴾:

-      فمنهم من قال: (أو) للتخيير، أي: ان شئت مثِّلْهم بمن استوقد نارًا، أو بحال من أصابه المطر.

-      ومنهم من قال: هي عاطفة بمعنى الواو، وقيل غير ذلك.

ولهذا اختُلف هل المثَلان في صنف واحد من المنافقين أم أن الصنف الأول غير الثاني؟

ابن القيم رحمه الله ظاهر طريقته أن هذين المثلَين لصنف واحد من المنافقين.

والذي اختاره الحافظ ابن كثير رحمه الله أن الثاني غير الأول، قال رحمه الله في «تفسيره» (1/192): فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا صَارَ النَّاسُ أَقْسَامًا: مُؤْمِنُونَ خُلّص، وَهُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِالْآيَاتِ الْأَرْبَعِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، وَكُفَّارٌ خُلَّصٌ، وَهُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِالْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَمُنَافِقُونَ، وَهُمْ قِسْمَانِ: خُلَّصٌ، وَهُمُ الْمَضْرُوبُ لَهُمُ الْمَثَلُ النَّارِيُّ، وَمُنَافِقُونَ يَتَرَدَّدُونَ، تَارَةً يَظْهَرُ لَهُمْ لُمَعٌ مِنَ الْإِيمَانِ وَتَارَةً يَخْبُو وَهُمْ أَصْحَابُ الْمَثَلِ الْمَائِيِّ، وَهُمْ أَخَفُّ حَالًا مِنَ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ. اهـ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

طوائف من أهل الأهواء تشترك مع المنافقين في الإعراض عن الدليل وثِقَل سماعِه عليهم:

الطائفة الأولى: الجهمية وهم أتباع جهم بن صفوان، يخافون من سماع نصوص الصفات، وهذا كما جاء عن ابن عباس، قال: حدث رجل بحديث أبي هريرة، فانتفض، قال ابن عباس: ما بال هؤلاء يجدون عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه. رواه ابن أبي عاصم في «السنة» (1/212 والأثر صحيح.

إذا سمعوا مثل قول الله سبحانه: ﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ، وقوله: ﴿ غضب الله عليهم ، وقوله: ﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ يرتعدون ويصابون بالرعب. قال ابن القيم رحمه الله: لِثِقَلِ مَعرِفَةِ الرَّبِّ سُبحَانَهُ وتَعَالَى وَأَسمَائِهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى عُقُولِهِم وَقُلُوبِهِم.

الطائفة الثانية: المشركون على اختلاف أنواع شركهم إذا تُليت عليهم آيات التوحيد تشمئز قلوبهم وينفرون غاية النفور، فإذا سمعوا مثل قول الله سبحانه:﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)﴾، وقوله: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)﴾. يكون ثقيلًا عليهم،وتنفر منه قلوبهم.

الطائفة الثالثة: أعداء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الروافض، إذا سمعوا نصوص الأدلة في فضائل الصحابة، ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ﴾ الآية.وقوله:﴿ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ،وقوله:﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ الآية يثقل عليهم ذلك جدًّا.

تشابهت واشتركت قلوب هذه الفرق الضالة وقلوب المنافقين في العناد وعدم الإذعان للحق فتشابهت أعمالهم في الخوف والنفور من سماع الدليل وثقله عليهم، والله أعلم.

من الفوائد:

·      التحذير من صفات المنافقين، وقد ذكر الله كثيرًا من صفاتهم، بل وأنزل فيهم وفي صفاتهم بعض السور، مثل: سورة براءة التي تسمى الفاضحة؛عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ التَّوْبَةِ، قَالَ: «التَّوْبَةُ هِيَ الفَاضِحَةُ، مَا زَالَتْ تَنْزِلُ، وَمِنْهُمْ وَمِنْهُمْ، حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهَا لَنْ تُبْقِيَ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا ذُكِرَ فِيهَا»، رواه البخاري (4882 ومسلم (3031).

 وأنزل الله في المنافقين سورة المنافقين، وذكر بعض صفاتهم في سور متفرقة، مثل: سورة آل عمران، والنساء، والنور، والحج، والعنكبوت إلى آخره.

وفي سورة البقرة ذكر الله في أوائلها ثلاثة أصناف: عن مجاهد، قَالَ: «أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين وآيتان في نعت الكافرين وثلاث عشرة في المنافقين» رواه ابن جرير في «تفسيره» (1/245).

ولما كان أمر المنافقين ملتبسًا فصَّل سبحانه وأطال في ذكرهم للحذر منهم، قال ابن القيم رحمه الله في «الوابل الصيب» (57): لعموم الابتلاء بهم وشدة المصيبة بمخالطتهم، فإنهم من الجلدة، مظهرون الموافقة والمناصرة، بخلاف الكافر الذي قد تأبد بالعداوة وأظهر السريرة ودعا لك بما أظهره إلى مزايلته ومفارقته. اهـ.

والنفاق لم يكن بمكة قبل الهجرة، إنما كفر وإسلام، وظهر في المدينة لما قويَ الإسلام وخافوا على أنفسهم ونسائهم وذراريهم وأموالهم فأظهروا الإسلام نفاقًا، ذكر هذا المعنى الحافظ ابن كثير في «تفسير سورة البقرة».

وأما المهاجرون فليس فيهم أحد من المنافقين، قال ابن كثير رحمه الله: فَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُهَاجِرُ مكرَهًا، بَلْ يُهَاجِرُ وَيَتْرُكُ مَالَهُ، وَوَلَدَهُ، وَأَرْضَهُ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.

·      أن من صفات المنافقين الإعراض عن القرآن وعن النور والهدى، فعلى المؤمن أن يحذر من هذه الصفة الخطيرة، وأن يربِّي نفسه على الإذعان لنصوص الوحيَيْنِ.

·      ومما استفدنا ضرب مثالين للمنافقين: مثلًا ناريًّا، ومثلًا مائيًّا.

·      تشبيه الوحي بالنور المحسوس لما فيه من الإضاءة لمن آمن به وتمسك به.

·      تشبيه الوحي بالصيب وهو المطر لما فيه من الحياة للعباد والبلاد.

·      تشبيه قوارع الأدلة وزواجرها بالرعد والبرق على المنافقين وأشباههم.

·      خطر الإعراض عن الهدى والنور وأنه قد يكون سببًا للبقاء على الضلال،لقوله سبحانه:﴿فهم لا يرجعون﴾، بخلاف الجاهل فإنه يكون أقرب إلى الحق.