جديد المدونة

جديد الرسائل

الثلاثاء، 11 فبراير 2020

(77)سِلْسِلَةُ التَّفْسِيْرِ


(1) تفسير سورة الحج رقم السورة(22) :الآيات 1 إلى2


﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)﴾.
﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ﴾ اختلف المفسرون في زلزلة الساعة على قولين:
  • القول الأول: أن هذه الزلزلة في الدنيا قبل قيام الساعة، وهذا قول جماعة من المفسرين، وهو قول علقمة والشعبي وعبيد بن عمير وآخرين، ورجحه البغوي في «تفسيره».وذكر القرطبي في تفسير هذه الآية أن هذا قول الجمهور. واحتج أهل هذا القول بأحاديث ضعيفة،وأيضًا لديهم حجة أخرى وذلك في قوله سبحانه:﴿يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)﴾ قالوا: هذا دليل على أن هذه الزلزلة تكون في الدنيا؛ لأنه بعد البعث لا يكون حمل ولا إرضاع.
  • القول الثاني: أن هذا الزلزال يكون بعد قيام الساعة في عرصات يوم القيامة وهذا القول اختاره ابن جرير كما ذكره ابن كثير عنه في تفسيره.
وهذا التفسير معتمد على جملة من الأحاديث ،منها:حديث أبي سعيد الخدري المتفق عليه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيُنَادَى بِصَوْتٍ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ، قَالَ: يَا رَبِّ وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ- أَرَاهُ قَالَ- تسعمائة وتسعة وتسعون، فَحِينَئِذٍ تَضَعُ الْحَامِلُ حَمْلَهَا وَيَشِيبُ الْوَلِيدُ وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى تَغَيَّرَتْ وُجُوهُهُمْ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ ومنكم واحد، أَنْتُمْ فِي النَّاسِ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جَنْبِ الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ، أَوْ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جَنْبِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ- فَكَبَّرْنَا ثُمَّ قَالَ- ثُلُثُ أَهْلِ الْجَنَّةِ- فَكَبَّرْنَا ثُمَّ قَالَ- شَطْرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ».
قال الشنقيطي رحمه الله في تفسير هذه الآية في« أضواء البيان» (4 / 260):حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ كَمَا رَأَيْتَ فِيهِ التَّصْرِيحُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي تَضَعُ فِيهِ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، بَعْدَ الْقِيَامِ مِنَ الْقُبُورِ كَمَا تَرَى، وَذَلِكَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ.
وأجاب الشنقيطي عن حجة القائلين بأنه هذا يكون في الدنيا لأن بعد قيام الساعة لا يكون حمل ولا إرضاع أجاب عن ذلك من وجهين(4 / 260):
الْأَوَّلُ: هُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْ أَنَّ مَنْ مَاتَتْ حَامِلًا تُبْعَثُ حَامِلًا، فَتَضَعُ حَمْلَهَا مِنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ وَالْفَزَعِ، وَمَنْ مَاتَتْ مُرْضِعَةً بُعِثَتْ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ هَذَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:﴿يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾ وَمِثْلُ ذَلِكَ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ.اهـ
ونؤمن بأن هذه الزلزلة التي تكون يوم القيامة حقيقة .
﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾قال ابن كثير:أي أمر عظيم، وَخَطْبٌ جَلِيلٌ، وَطَارِقٌ مُفْظِعٌ، وَحَادِثٌ هَائِلٌ، وَكَائِنٌ عَجِيبٌ، وَالزِّلْزَالُ هُوَ مَا يَحْصُلُ لِلنُّفُوسِ مِنَ الرعب والفزع، كَمَا قَالَ تَعَالَى:هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً [الْأَحْزَابِ: 11].
﴿يَوْمَ تَرَوْنَها﴾ في ضمير النصب وهو الهاء قولان للمفسرين.أحدهما: أنه يعود إلى الساعة،والثاني إلى الزلزلة.
﴿تَذْهَلُ كُلُ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾
﴿ تَذْهَلُ ﴾ أي تشغل ، وقيل:تنسى، وقيل: تلهو ،والمعنى متقارب كما قال القرطبي في تفسير هذه الآية.
 فائدة إلحاق التاء في مرضعة:قال ابن كثير : ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} : هَذَا مِنْ بَابِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ؛ وَلِهَذَا قَالَ مُفَسِّرًا لَهُ: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} أَيْ: تَشْتَغِلُ لِهَوْلِ مَا تَرَى عَنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهَا، وَالَّتِي هِيَ أَشْفَقُ النَّاسِ عَلَيْهِ، تَدْهَشُ عَنْهُ فِي حَالِ إِرْضَاعِهَا لَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {كُلُّ مُرْضِعَةٍ} ، وَلَمْ يَقِلْ: "مُرْضِعٍ" وَقَالَ: {عَمَّا أَرْضَعَتْ} أَيْ: عَنْ رَضِيعِهَا قَبْلَ فِطَامِهِ.اهـ
هذه فائدة توضح فائدة إلحاق التاء بمرضعة ولم يقل مرضع لأن التاء تفيد أن هذا في حال إرضاعها، أي: في حال مباشرتها لإرضاع ولدها بخلاف مرضع.وقد ذكر هذا المعنى ابن القيم في «بدائع الفوائد» (4/ 21)وقال:المرضع من لها ولد ترضعه والمرضعة من ألقمت الثدي للرضيع وعلى هذا فقوله تعالى:{يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} أبلغ من مرضع في هذا المقام فإن المرأة قد تذهل عن الرضيع إذا كان غير مباشر للرضاعة فإذا التقم الثدي واشتغلت برضاعه لم تذهل عنه إلا لأمر أعظم عندها من اشتغالها.
﴿وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها﴾ أَيْ قَبْلَ تَمَامِهِ لشدة الهول(ابن كثير).
الحمل بِالْفَتْحِ: مَا كَانَ فِي بَطْنٍ مِنْ جَنِينٍ، أَوْ عَلَى رَأْسِ شَجَرَةٍ مِنْ ثَمَرٍ. اهـ من«أضواء البيان» (4/ 256) للشنقيطي.
﴿ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ﴾ أي: كل صاحبة.وذكر ابن القيم رَحِمَهُ الله فائدة من ذكر لفظة ذات في «بدائع الفوائد» (4 / 22) فقال: وتأمل - رحمك الله تعالى - السر البديع في عدوله سبحانه عن كل حامل إلى قوله: {ذَاتِ حَمْلٍ} فإن الحامل قد تطلق على المهيأة للحمل وعلى من هي في أول حملها ومبادئه فإذا قيل: ذات حمل لم يكن إلا لمن ظهر حملها وصلح للوضع كاملا أو سقطا كما يقال ذات ولد فأتى في المرضعة بالتاء التي تحقق فعل الرضاعة دون التهيؤ لها وأتى في الحامل بالسبب الذي يحقق وجود الحمل وقبوله للوضع والله تعالى أعلم. اهـ.
وَقَوْلُهُ: ﴿ وَتَرَى النَّاسَ سُكارى﴾  أَيْ مِنْ شِدَّةِ الْأَمْرِ الَّذِي قَدْ صَارُوا فِيهِ قَدْ دَهِشَتْ عُقُولُهُمْ، وَغَابَتْ أَذْهَانُهُمْ، فَمَنْ رَآهُمْ حَسَبَ أَنَّهُمْ سُكَارَى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ.(ابن كثير).
                       من فوائد الآيَتَيْنِ:
(1)                   الحث على تقوى الله عز وجل.
(2)                   التعليل للأمر بتقوى الله سبحانه بأن زلزلة الساعة شيء عظيم، وهذا يفيد الحث على التهيؤ والاستعداد ليوم القيامة بالعمل الصالح والتقرب إلى الله عَزَّ وَجَل .
(3)                   حال الناس عند هذه الزلزلة العظيمة.
- الذهول الشديد وغياب العقول حتى إن المرضع من الدهشة الشديدة تترك رضيعها مع ما عليه الأم من الشفقة والرحمة بولدها وخاصة في هذا الحال الذي يكون طفلها يحتاج إليها ولا يعيش إلا بها.
-وضع الحامل قبل تمام حملها .
 -يحسب من يراهم أنهم سكارى لاختلاط عقولهم وحيرتهم وليسوا بسكارى، أثبت الله سبحانه لهم السكر  في قوله ﴿ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى﴾ ثم نفاه عنهم بقوله ﴿ وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) ﴾ نفى سبحانه حقيقة ذلك فليس هذا السكر سكر شرب الخمر وإنما الواقع فظاعة ذلك الأمر وشدته ولكن عذاب الله شديد، قال الشوكاني رحمه الله في «فتح القدير» (3 / 515) فَصَارُوا كَالسُّكَارَى، بِجَامِعِ سَلْبِ كَمَالِ التَّمْيِيزِ وَصِحَّةِ الْإِدْرَاكِ.. والله واعلم.