جديد الرسائل

الثلاثاء، 10 سبتمبر 2019

(69)سِلْسِلَةُ التَّفْسِيْرِ



تفسير قوله تعالى:﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَكُونُ مِقْلَاتًا فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ، فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ فَقَالُوا: لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة: 256] " رواه أبوداود(2682).والحديث صحيح.


 قَالَ أَبُو دَاوُدَ: " الْمِقْلَاتُ: الَّتِي لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ ".


هذا الحديث فيه سبب نزول هذه الآية المذكورة،ومعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية.

قال ابن القيم في «أحكام أهل الذمة»(1/199): هُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ تَهَوَّدَ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ غَيْرَ يَهُودِيٍّ فَإِنَّهُ مِثْلُهُمْ.

وقال رحمه الله في «هداية الحيارى»(237): هَذَا نَفْيٌ فِي مَعْنَى النَّهْيِ، أَيْ لَا تُكْرِهُوا أَحَدًا عَلَى الدِّينِ، نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رِجَالٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَ لَهُمْ أَوْلَادٌ، قَدْ تَهَوَّدُوا وَتَنَصَّرُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَسْلَمَ الْآبَاءُ وَأَرَادُوا إِكْرَاهَ الْأَوْلَادِ عَلَى الدِّينِ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونُوا هُمُ الَّذِينَ يَخْتَارُونَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ.اهـ


وفي حديث ابن عباس بيان أن أهل الكتاب  لا يُكرهون على الدخول في الإسلام،ولكن عليهم دفع الجزية وهم صاغرون ذليلون،كما قال تعالى:﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾[التوبة:29].


ومن عداهم  من المشركين فالحكم فيهم الإسلام أو القتل،كما روى البخاري(25)،ومسلم(22) عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ».


وأما الحديث الذي رواه مسلم (1731)عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه،الحديث..وفيه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:إِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَقَاتِلْهُمْ..».

هذا الحديث ظاهره العموم في أخذ الجزية من أيِّ كافر.

قال الشيخ ابن باز رحمه الله في «مجموع الفتاوى»5/409)في الجواب عنه: وهذا محمول على أهل الكتاب ومن في حكمهم كالمجوس عند جمهور أهل العلم جمعا بين هذا الحديث وبين آية التوبة المتقدم ذكرها وما في معناها.اهـ


فالحاصل:أنه لا شبهة لمن قال: هو حُرٌّ له أن يختار الإسلام وله أن يختار غيره.

فالآية الكريمة في أهل الكتاب وكذا المجوس إذا دفعوا الجزية لا يُكرهون على الدخول في الإسلام،ومن عداهم لا بُد إما الإسلام أو القتل.


 والواجب على الجميع الدخول في الإسلام لقول الله تعالى:﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)﴾[آل عمران].

 وروى الإمام مسلم (1/134) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ قَالَ:وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ، يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ.

قال النووي في «شرح صحيح مسلم» (1/342): فيه نسخ الملل كلها برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم، وفي مفهومه دلالة على أن من لم تبلغه دعوة الإسلام فهذا معذور.

وقوله صلى الله عليه وسلم: <لا يسمع بي أحد من هذه الأمة>، أي: ممن هو موجود في زمني، وبعدي إلى يوم القيامة، فكلهم يجب عليه الدخول في طاعته، وإنما ذكر اليهودي والنصراني تنبيهًا على من سواهما، وذلك لأن اليهود والنصارى لهم كتاب، فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتابًا فغيرهم ممن لا كتاب له أولى، والله أعلم. اهـ


ومن أهل العلم من يرى أن قوله سبحانه:﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ ﴾ كان في أول الإسلام ثمَّ نُسِخ بآية السيف.


ونسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين ويذل الشرك والمشركين.

اللهم إنا نسألك أن تحفظ لنا ديننا وأن تتوفانا مسلمين.