جديد المدونة

جديد الرسائل

الأحد، 17 فبراير 2019

(52) دُرَرٌ مِنَ النَّصَائِحِ


          
          الظاهر عنوان الباطن وارتباط أحدهما بالآخر



هذه مسألة مهمَّة مرت معي في فتح الباري تحت رقم(742)وهي:أن الظاهر عنوان الباطن.

 هذه العبارة ذكرها ابنُ حجر رحمه الله في مسألة الخشوع وأن من سكنَ بدنُه الذي هو ظاهره كان دليلًا على خشوع قلبه.

قال البخاري رحمه الله : بَابُ الخُشُوعِ فِي الصَّلاَةِ.

ثم أخرج حديثين:

الأول:عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ برقم(741)أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:«هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا هُنَا، وَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ رُكُوعُكُمْ وَلاَ خُشُوعُكُمْ، وَإِنِّي لأَرَاكُمْ وَرَاءَ ظَهْرِي».

الثاني: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ برقم(742)عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:«أَقِيمُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَوَ اللَّهِ إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ بَعْدِي وَرُبَّمَا قَالَ: مِنْ بَعْدِ ظَهْرِي إِذَا رَكَعْتُمْ وَسَجَدْتُمْ».

أما مناسبة الحديث الأول للباب فواضح.

وأما حديث أنس فقال الحافظ :اسْتَشْكَلَ إِيرَاد البُخَارِيّ لحَدِيث أنس هَذَا لكَونه لا ذكر فِيهِ لِلْخُشُوعِ الَّذِي تَرْجَمَ لَهُ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ الْخُشُوعَ يُدْرَكُ بِسُكُونِ الْجَوَارِحِ إِذِ الظَّاهِرُ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ(في الكبرى(2/392)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ كَانَ ابن الزُّبَيْرِ إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ كَأَنَّهُ عُودٌ وَحَدَّثَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقِ كَانَ كَذَلِكَ.قَالَ:وَكَانَ يُقَالُ ذَاكَ الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ.اهـ



وقد تكلم على المسألة الشاطبي رحمه الله في الموافقات(1/367)فقال:مَنِ الْتَفَتَ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ عَلَامَةً عَلَى الْأَسْبَابِ فِي الصِّحَّةِ أَوِ الْفَسَادِ، لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَقَدْ حَصَلَ عَلَى قَانُونٍ عَظِيمٍ يَضْبُطُ بِهِ جَرَيَانَ الْأَسْبَابِ عَلَى وِزَانِ مَا شُرِعَ،أَوْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَمِنْ هُنَا جُعِلَتِ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ فِي الشَّرْعِ دَلِيلًا عَلَى مَا فِي الْبَاطِنِ، فَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مُنْخَرِمًا حُكِمَ عَلَى الْبَاطِنِ بِذَلِكَ،أَوْ مُسْتَقِيمًا حُكِمَ عَلَى الْبَاطِنِ بِذَلِكَ أَيْضًا،وَهُوَ أَصْلٌ عَامٌّ فِي الْفِقْهِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ الْعَادِيَّاتِ وَالتَّجْرِيبِيَّاتِ،بَلِ الِالْتِفَاتُ إِلَيْهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ نَافِعٌ فِي جُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ جِدًّا،وَالْأَدِلَّةُ عَلَى صِحَّتِهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا،وَكَفَى بِذَلِكَ عُمْدَةً أَنَّهُ الْحَاكِمُ بِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِ،وَكُفْرِ الْكَافِرِ، وَطَاعَةِ الْمُطِيعِ، وَعِصْيَانِ الْعَاصِي،وَعَدَالَةِ الْعَدْلِ، وَجَرْحَةِ الْمُجَرَّحِ، وَبِذَلِكَ تَنْعَقِدُ الْعُقُودُ وَتَرْتَبِطُ الْمَوَاثِيقُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ، بَلْ هُوَ كلية التشريع، وعمدة التكليف بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِقَامَةِ حُدُودِ الشَّعَائِرِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ.اهـ

 وقال الشيخ الألباني رحمه الله:من فوائد السنة وثمارها اليانعة الجَنِيَّةُ أن المسلم بها تستقيم حياته مع الناس جميعًا، وبخاصَّةٍ من كان منهم طلابَ علم.


مِن هذه الأحاديث -التي كنت أنا وغيري في وقت في غفلة عنها ولم نتنبه لها إلا بعد أن هدانا الله تبارك وتعالى إليها -حديث أبي ثعلبة

الخشني رضي الله عنه قال:«كنا إذا سافرنا مع النبي صلى الله عليه وآلِهِ وسلم فنزلنا منزلًا من تلك المنازل في الوديان والشعاب  تفرقنا فيها».

وإذا كان التفرق في مجالس العلم حقيقةً واقعةً،ولكنها مُرَّةٌ ،فأولى وأولى

أن يتفرقوا في الصحراء حينما ينزلون في بعض المنازل،مع ذلك لم

 يرضَ ذلك لهم رسول الله صلى الله عليه وآلِهِ وسلم فقال لهم ذات

يوم لما نزلوا مرة في سفرة من أسفارهم مع النبي صلى الله عليه وعلى آلِهِ وسلم وتفرقوا كما جاء عادتهم قال لهم عليه الصلاة والسلام: «إنما تفرقكم في هذه الوديان والشعاب من عمل الشيطان».


 أمرٌ عجيب تفرُّق لا يلاحظ فيه تباعد بين القلوب،لأن أصحاب الرسول عليه السلام كانوا بحقٍّ إخوانًا على سرر متقابلين،مع ذلك فنبينا صلوات الله وسلامه عليه يقول لهم:«إنما تفرقكم هذا من عمل الشيطان» يعني بذلك أنه من عمل الشيطان الذي قد يؤدي بالأحبَّة المتوادِّين المتحابِّين إلى التباغض وإلى التنافر،ومن أجل ذلك وصف الله عز وجل أنَّ شرب الخمر هو من عمل الشيطان،لأنه يلقي العداوة والبغضاء بين الناس .

قال أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه:«فكنا بعد ذلك إذا نزلنا منزلًا اجتمعنا حتى لو جلسنا على بِساط لوسِعَنا» في الصحراء لو اجتمعنا على بساط لوسعنا.

إذا كان هذا في ذلك المجلس فأولى وأولى أن يكون الناس مجتمعين في

مجالس العلم،وألَّا يكونوا عِزِين متباعدين متفرقين لأن(الظاهر عِنوان الباطن )،رُبَّما يتوهَّم بعض الناس أن هذه الكلمة( الظاهر عنوان الباطن)

 كلمة صوفية،ومن تمام التوهُّمِ عند بعض الناس أيضًا أن يُظن أن كل شيء يتكلم به بعض الصوفية يكون إيش؟ منبوذًا إسلاميا.


 ليس الأمر كذلك ،هم طائفة من المسلمين يُحاسَبُون و يؤاخَذون كغيرهم

 يوزَنون بميزان الشرع ،فهذه الكلمة كذلك ينبغي أن توزَنَ بميزان الشرع.

(الظاهر عنوان الباطن)هل هذا كلام صحيح أم هو كلام باطل؟

 نقول:لا،هو كلام صحيح،ذلك لأن هناك أحاديثَ كثيرة تؤكد هذا المعنى.


 مِن أشهر هذه الأحاديث قوله عليه الصلاة و السلام في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه الذي أوله:«إنَّ الحَلاَلَ بَيِّنٌ، وَالحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أمور مُشتَبِهَاتٌ» إلى آخره. ثم قال عليه الصلاة و السلام :«أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ»فإذَن صلاح الظاهر بصلاح الباطن.


لكن من العجائب الغيبية الدقيقة التي لَوْ لَمْ نُؤتَ بهذا الشرع السَّمح لَمَا عرفناها أن كلًا من(الظاهر والباطن) يتفاعلان ويتعاونان،إذا قوي القلب صلُح الظاهر،إذا صلُح الظاهر ازداد القلب قوة،وهكذا دواليك، ولذلك نخرج بنتيجةٍ هامَّة جدًّا وهي: أن على كل مسلم يهتمُّ بأحكام دينه أنْ يُعْنَى بظاهره كما يُعنَى بباطنه.

ولا يقول كما تقول الجهلة حينما تأمرهم بالإتيان بما فرضه الله عليهم من الفروض والواجبات كالصلاة مثلًا يقول لك: العبرة ليست بالصلاة،العبرة بما في القلب.

الجواب: الذي تعرفونه،لو كان هذا قلبُه سليمًا صحيحا لنضحت

جوارحه بما يُنبي عن صلاح قلبه،لكن الواقع أن الأمر على

 العكس تمامًا،هو يقول: العبرة بما في القلب.طيب الرسول يقول: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ»إذن علينا أن نهتم بإصلاح الظواهر كما نهتم بإصلاح البواطن،و لا نغتر بهذه الكلمة التي تصدر من بعض الجهلة،وهي أن العبرة بما في الباطن فقط ،لا،لأن الظاهر و الباطن مترابطان متعاونان أشد التعاون،وأحدهما يقوي الآخر، كما ذكرنا آنفا.


من أجلِ ذلك كان من آداب مجالس العلم هو التقارب،لأن هذه الظاهرة هي ظاهرة التي لها علاقة بالقلب، لكن هذا التجمع وهذا التقارب في مجلس

العلم يوجد ارتباطا وثيقا في القلوب أيضا.

و يؤكد لكم هذه الحقيقة العلمية الشرعية تلك السُّنَّة التي هجرها

وأعرض عنها أكثر أئمة المساجد،ولا يحافظ عليها إلا من كان متمسكا بالسنة،وهي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله  سلم كان من هديه و سنته أنه لا يكبر تكبيرة الإحرام إلا بعد أن يأمر بتسوية الصفوف و أن يسويها كما جاء في الحديث كما تُسَوَّى الأقداح،فيقول لهذا تقدم و لذاك تأخر،حتى يصبح الصف كالبنيان المرصوص ،و يُوعِدهم عليه السلام و يؤدِّبُهم بمثل قوله:«لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ»إذن تسوية الصفوف و عكسها كل منهما يؤثر في القلب صلًاحا أو فسادا.

«لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ»فإذن هذا أيضا مما

يؤكد أن الظاهر له تأثير في الباطن ،حتى ظواهر الأشخاص

المتعددين ،فضلا عن ظاهر الشخص نفسه و ذاته فهو عليه الصلاة

والسلام يجعل اختلاف الناس في الصف الواحد تقدُّمًا و تأخرا سببًا لفساد القلوب ،والعكس بالعكس، تسوية الصفوف سبب شرعي لإصلاح

ما في القلوب.



لهذا ينبغي الاهتمام كل الاهتمام بإصلاح الظواهر،ومنها عند القيام إلى الصلاة بتسوية الصفوف كما كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله و سلم يسوِّيها و يأمر بتسويتها ..

[مرجع كلام الشيخ رحمه الله سلسلة الهدى والنور رقم الشريط 201].



نكون استفدنا مما تقدم:

صحة عبارة:الظاهر عنوان الباطن.

أن الظاهرَ دليلٌ على ما في الباطن من خيرٍ وشرٍّ وحُسْنٍ وسوءٍ وصلاحٍ وفساد.

فإذا كان الرجل يحلق لحيته كان عنوانًا على فسادٍ ومرضٍ في قلبه إذ لو كان قلبه سليمًا  لظهر ذلك على جوارحه وظاهرِه وجسده.أو امرأة تخرج متبرجة كان دليلًا على فساد ومرضٍ  في قلبها لأنها لم تبغض ما أبغضه الله ووقعت فيما حرَّم الله،أو تخرج متطيِّبة ثم تمر بالرجال هذا كذلك..فأي فسادٍ في الظاهر فإنه يدل على فسادٍ في الباطن،لأن القلب السليم جوارحه تنبع بالخير والرُّشد.


التلازم بين الظاهر والباطن فالظاهر يؤثِّر على الباطن كما تقدم في حديث إن تفرقكم من الشيطان،وحديث تسوية الصفوف،والباطن يؤثِّر على الظاهر كما في حديث النعمان.


الرد على من يكون عنده مخالفات للشرع ويشير إلى قلبه يعني:أن نيته طيبة،فلو كان قلبه سليمًا نقيًّا لظهر على جوارحه الاستقامة والمحاسن،ولكنه من تلاعب الشيطان بهم.

اللهم ربنا أصلِحنا ظاهرًا وباطنًا.