جديد المدونة

جديد الرسائل

الثلاثاء، 20 نوفمبر 2018

(62)سِلْسِلَةُ التَّفْسِيْرِ





                      فوائد ومسائل من دروس تفسير ابن كثير

                     [سورة الأنبياء (21)الآية: 39 -40]


لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)﴾.



قال ابن كثير رحمه الله في تفسير القرآن العظيم:يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ يَسْتَعْجِلُونَ أَيْضًا بِوُقُوعِ الْعَذَابِ بِهِمْ تَكْذِيبًا وَجُحُودًا وَكُفْرًا وَعِنَادًا وَاسْتِبْعَادًا،فَقَالَ:﴿ويَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾.

﴿لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ﴾ أَيْ لَوْ تَيَقَّنُوا أَنَّهَا وَاقِعَةٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ لَمَا اسْتَعْجَلُوا بِهِ.فَالْعَذَابُ محيط لهم مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِمْ.

﴿وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ أَيْ لَا نَاصِرَ لَهُمْ،كَمَا قَالَ:﴿وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ﴾

﴿بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً﴾أَيْ:فَجْأَةً.

﴿فَتَبْهَتُهُمْ﴾ أَيْ تَذْعَرُهُمْ،فَيَسْتَسْلِمُونَ لَهَا حَائِرِينَ ولا يَدْرُونَ مَا يَصْنَعُونَ.

﴿فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها﴾ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ حِيلَةٌ فِي ذَلِكَ.

﴿وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ أَيْ وَلَا يُؤَخَّرُ عَنْهُمْ ذَلِكَ سَاعَةً واحدة.اهـ


* من الفوائد:

·     فيه التخويف من النار وأنها محيطة بالكافرين من جميع جهاتهم،وكما قال سبحانه:﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)﴾[التوبة:49]،وقال سبحانه:﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) ﴾[الكهف:29]﴿ سُرَادِقُهَا ﴾ أي حيطان النار. وقال تعالى:﴿ يومَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ لَهُمْ﴾.

وقال عزوجل في ظلِّ أهل النار:﴿لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾ [الزُّمَرِ:16]، وقال الله تعالى:﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44)﴾[الواقعة: 41 - 44]. وقال الله تعالى:﴿انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) ﴾ [المرسلات: 30، 31]. ثلاث شعب:أي طوائف.

وقال سبحانه في فراش أهل النار ولُحُفِهِم:﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ[الْأَعْرَافِ:41].﴿ مِهادٌ ﴾: أي: فراش.﴿ غَواشٍ ﴾ أي:لحاف.فأهل النار فراشهم من نار ولحافهم من نار.



وهذا غاية في  الترهيب من النار وشدَّة عذابها وأنها محيطة بهم من كلِّ مكان.

ومِنْ شدَّة عذابِها أنها مع سعتها تُضيَّقُ عليهم زيادةً في العذاب قال سبحانه:﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا(13)﴾[الفرقان:13]﴿ ثُبُورًا ﴾أي:هلاكًا.



وأنَّ  منافذها مغلقة،كما قال تعالى:﴿ إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) ﴾[الهمزة:8]﴿ مُؤْصَدَةٌ ﴾ أي:مطبقة.

ومن شدة عذابها بُعد أسفلها،فقعرها بعيد مسافةُ بُعْدِهِ أربعين عامًا .كما روى الإمام مسلم(2844) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،إِذْ سَمِعَ وَجْبَةً،فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«تَدْرُونَ مَا هَذَا؟» قَالَ:قُلْنَا:اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،قَالَ:«هَذَا حَجَرٌ رُمِيَ بِهِ فِي النَّارِ مُنْذُ سَبْعِينَ خَرِيفًا،فَهُوَ يَهْوِي فِي النَّارِ الْآنَ،حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَعْرِهَا».

ومن شدَّة هولِها وعذابها أنها قد امتلأت غيظًا على أهلِها،قال تعالى: ﴿إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)[الفرقان]،وقال تعالى:﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)﴾[الملك].

ومن شدّة عذابها أن حريقَها دائم لا ينقطع عن أهلها،قال تعالى:﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) [الزخرف].



فعلينا أن نقيَ أنفسنا من عذاب الله عز وجل باجتناب الشرك بالله وتحقيق توحيده والاستقامة على دينه،قال تعالى:﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ[التحريم:7]،وقال النّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث الذي رواه البخاري (1417) عن عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:«اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ».


ولا يطيق أحدٌ منا عذاب الله أبدًا.روى البخاري(3265)،ومسلم (2843)واللفظ له- عن أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،قَالَ:«نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا،مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ» قَالُوا:وَاللهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً،يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ:«فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا،كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا».

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: قَوْلُهُ:«إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً» إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ.أَيْ: إِنَّ نَارَ الدُّنْيَا كَانَتْ مُجْزِئَةً لِتَعْذِيبِ الْعُصَاةِ.اهـ

وإذا كانت نار الدنيا لا تُطاق ،ولا يطيق  أحدٌ لذعة واحدة مِن نارها فكيف بنار جهنم التي قد زادت على نار الدنيا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا ،ولهذا قال الصحابة رضوان الله عليهم في نار الدنيا:وَاللهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً.

أي:مجزئة في عقوبة العصاة لقوَّة الحرارة واللهب والتحطيم وإحراق الدم واللحم والعظم ،أعاذنا الله وإياكم من النار وما قرَّب إليها من قولٍ أو عمل.  


·     حالُ الكفار إذا غشيهم العذاب وأحاط بهم أنهم لا ناصرَ لهم ولا مغيث،وأن النارَ تذعرهم وتبهتهم فلا حيلة لهم في ردِّها إذ هم أحقر من ذلك،وأنهم لا يُمهلون للتوبة والاعتذار،لأن الوقت قد فات فلا ينفع الندامة والاعتذار،قال تعالى:﴿وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾.