بسم الله الرحمن الرحيم
مذاكرة:
غزوة خيبر وقعت في آخر محرم فمن أهل
العلم من استدل بذلك على جواز القتال في الشهر الحرام ولكن النبي صلى الله عليه
وعلى آله وسلم خرج إلى خيبر في آخر محرم وما كانت الغزوة إلا في صفر.
قال ابن القيم رحمه الله في زاد
المعاد (3/301)في سياق فوائد غزوة خيبر: مِنْهَا
مُحَارَبَةُ الْكُفَّارِ وَمُقَاتَلَتُهُمْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ؛ فَإِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ،
فَمَكَثَ بِهَا أَيَّامًا، ثُمَّ سَارَ إِلَى خَيْبَرَ فِي الْمُحَرَّمِ، كَذَلِكَ
قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عروة، عَنْ مروان وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَكَذَلِكَ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: خَرَجَ فِي أَوَّلِ سَنَةِ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَلَكِنْ
فِي الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ خُرُوجَهُ كَانَ فِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ،
لَا فِي أَوَّلِهِ،وَفَتْحُهَا إِنَّمَا كَانَ فِي صَفَرَ.
************************
فصل [فتحُ فَدك]
ولما بلغ أهلَ فدك ما فعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأهل
خيبر، بعثوا إليه يطلبون الصلح فأجابهم، فكانت مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا
ركاب، فوضعها صلى الله عليه وسلم حيث أراه الله عز وجل، ولم يقسمها.
************************
قال الحافظ ابن كثير
رحمه الله: فصل [فتح فدك]
العناوين ليست للحافظ ابن كثير رحمه
الله وإنما هي من غيره.
وفدك: قرية بالحجاز بينها وبين
المدينة يومان، وقيل ثلاثة، أفاءها الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم، في سنة
سبع صلحًا. اهـ. المرجع «معجم البلدان» (2/238).
(ولما بلغ أهلُ فدك ما
فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل خيبر)
لما بلغ أهلَ فَدَك ما حصل ليهود خيبر
من الإهانة والذلة واستسلامهم بعثوا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
ليصالحهم، فقد أصيبوا بالرعب والخوف، وأرادوا المصالحة كالصلح الذي وقع ليهود
خيبر، أن يعملوا في الأموال ولهم النصف، فأقرهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
وكانت أموال فَدَك فيئًا لأنها بدون قتال بخلاف غزوة خيبر فإن الأموال كان فيها
غنيمة.
(فكانت مما لم يوجف
المسلمون عليه بخيل ولا ركاب)
كانت أموال فدك فيئًا، كأموال بني
النضير، أموال بدون قتال مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب. والركاب:
الإبل.
قال
ابن الأثير في «النهاية» (2/256): الرُّكُبُ بِضَمِّ الرَّاءِ
وَالْكَافِ جَمْعُ رِكَابٍ، وَهِيَ الرَّواحِل مِنَ الْإِبِلِ. اهـ.
************************
فصل [فتح وادي القُرى]
ورجع إلى المدينة على وادي القرى فافتتحه، وقيل: إنه قاتل فيه. فالله
أعلم. وفي الصحيحين أن غلاماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يُدْعَى مِدْعَماً،
بينما هو يحطُّ رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهمٌ غربٌ فقتله، فقال
الناس: هنيئاً له الشهادة يا رسول الله، «فقال: كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة
التي أخذها من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً».
************************
هذا الفصل في فتح وادي القُرى، وهذه
الغزوة كانت عند رجوع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من خيبر إلى المدينة .روى
الإمام البخاري (4234) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ، وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلاَ
فِضَّةً، إِنَّمَا غَنِمْنَا البَقَرَ وَالإِبِلَ وَالمَتَاعَ وَالحَوَائِطَ،
ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
وَادِي القُرَى، وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ، أَهْدَاهُ لَهُ
أَحَدُ بَنِي الضِّبَابِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ، حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ
العَبْدَ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ
الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ المَغَانِمِ، لَمْ تُصِبْهَا
المَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا» فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ
مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ،
فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شِرَاكٌ - أَوْ شِرَاكَانِ - مِنْ نَارٍ».
(الحَوَائِطَ) البساتين.
(ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَادِي القُرَى) أي: لما رجعنا من
خيبر
(سَهْمٌ عَائِرٌ) قال ابن الأثير في
«النهاية» (3/ 328): هُوَ الَّذِي لَا يُدْرَى مَنْ
رَماه. اهـ.
وفي هذا الحديث تحريم الغلول وأنه من
الكبائر قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ
يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا
كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾
[آل عمران:161].
واختلف العلماء هل فُتِحَ وادي القرى
صلحًا أم فُتِحَ عنوة - أي: بقتال وقوة -؟ على قولين ،والله أعلم.
************************
فصل [عمرة القضاء]
ولما رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أقام بها إلى شهر ذي
القعدة فخرج فيه معتمراً عمرة القضاء التي قاضى قريشاً عليها. ومنهم من يجعلها
قضاء عن عمرة الحديبية حيث صُدَّ. ومنهم من يقول عمرة القصاص. والكل صحيح.
فسار حتى بلغ مكة فاعتمر وطاف بالبيت، وتحلَّل من عمرته، وتزوج بعد
إحلاله بميمونة بنت الحارث أم المؤمنين. وتمت الثلاثة الأيام، فبعث إليه المشركون
عليًّا رضي الله عنه يقولون له: اخرج من بلدِنا.
«فقال: (وما عليهم لو بنيت بميمونة عندهم؟) فأبوا عليه ذلك». وقد
كانوا خرجوا من مكة حين قدمها صلى الله عليه وسلم عداوةً وبغضاً له. فخرج عليه
الصلاة والسلام فبنى بميمونة بسرف ورجع إلى المدينة مؤيَّدًا منصورًا.
************************
هذا الفصل في عمرة القضاء لما رجع النبي صلى الله عليه وعلى
آله وسلم من غزوة الحديبية أقام بالمدينة عامًا فلما جاء الموعد وانتهت المدة
المحددة خرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم معتمرًا في ذي القعدة في السنة
السابعة من الهجرة فكانت قريش تقول: إنه سيقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب فأمر
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصحابه أن يرملوا ثلاثة أشواط ليرى المشركون
قوتهم .
قال البخاري بَابٌ: كَيْفَ كَانَ
بَدْءُ الرَّمَلِ ثم ذكرحديث ابْنِ عَبَّاسٍ(1602)وهو في «صحيح مسلم» (1266)
قَالَ: «قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ
مَكَّةَ، وَقَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ
يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ غَدًا قَوْمٌ قَدْ وَهَنَتْهُمُ الْحُمَّى، وَلَقُوا مِنْهَا
شِدَّةً، فَجَلَسُوا مِمَّا يَلِي الْحِجْرَ، وَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَيَمْشُوا مَا
بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ جَلَدَهُمْ، فَقَالَ
الْمُشْرِكُونَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْحُمَّى قَدْ
وَهَنَتْهُمْ، هَؤُلَاءِ أَجْلَدُ مِنْ كَذَا وَكَذَا». قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
«وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا، إِلَّا
الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ».
وبوب البيهقي في دلائل النبوة (4/322)
على هذا الحديث: بَابُ كَيْفَ كَانَ قُدُومُهُ بِمَكَّةَ
وَطَوَافُهُ بِالْبَيْتِ وَطَوَافُ أَصْحَابِهِ وَإِطْلَاعُ
اللهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا قَالَ الْمُشْرِكُونَ
.اهـ.
فيستفاد منه معجزة
للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث أخبر بقول قريش مع ما بينه وبينهم من
المسافات .
(وَهَنَتْهُمْ) قال ابن الأثير في «النهاية» (5/ 234): فِي
حَدِيثِ الطَّوَاف «قَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ» أَيْ: أضْعَفَتْهُم. اهـ.
ويستفاد منه استحباب إغاظة الكفار،
فإغاظة الكفار محمودة شرعًا، قال تعالى: ﴿وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ
وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ
اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [التوبة:120]. وقال تعالى: ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ [الفتح:29].
ولما دخل مكة كان عبدالله بن رواحة
يرتجز بين يديه . أخرج النسائي في سننه(2873) عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ رَوَاحَةَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ
... الْيَوْمَ نَضْرِبْكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ
... وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا ابْنَ رَوَاحَةَ
بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي حَرَمِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ، تَقُولُ الشِّعْرَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«خَلِّ عَنْهُ، فَلَهُوَ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ». والحديث حسنه الوالد
رحمه الله في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين (104).
ولما انتهت المدة وقد سبق أنهم
اشترطوا أن لا يبقى إلا ثلاثة أيام، فلما انتهت المدة أتوا عليًّا، وقالوا: قل
لصاحبك يخرج فقد مضى الأجل. فلما خرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تبعتهم ابنة
حمزة بنت عبد المطلب فجعلت تنادي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: يا عم يا
عم - تقول ياعم لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحمزة أخوان من الرضاعة - وكانت
الطفلة في مكة عند أمها فحملها علي بن أبي طالب وأخذها فلما وصل المدينة تنازع في
حضانتهاعلي بن أبي طالب وجعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة. ولفظ الحديث في «صحيح
البخاري» (2699)
عَنِ البَرَاءِ
بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي القَعْدَةِ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ
يَدْخُلُ مَكَّةَ حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ،
فَلَمَّا كَتَبُوا الكِتَابَ، كَتَبُوا هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ
رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالُوا: لاَ نُقِرُّ بِهَا، فَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ
اللَّهِ مَا مَنَعْنَاكَ، لَكِنْ أَنْتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:
«أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ»، ثُمَّ قَالَ
لِعَلِيٍّ: «امْحُ رَسُولُ اللَّهِ»، قَالَ: لاَ وَاللَّهِ لاَ أَمْحُوكَ أَبَدًا،
فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكِتَابَ، فَكَتَبَ
هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، لاَ يَدْخُلُ مَكَّةَ
سِلاَحٌ إِلَّا فِي القِرَابِ، وَأَنْ لاَ يَخْرُجَ مِنْ أَهْلِهَا بِأَحَدٍ، إِنْ
أَرَادَ أَنْ يَتَّبِعَهُ، وَأَنْ لاَ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَرَادَ أَنْ
يُقِيمَ بِهَا، فَلَمَّا دَخَلَهَا وَمَضَى الأَجَلُ، أَتَوْا عَلِيًّا فَقَالُوا:
قُلْ لِصَاحِبِكَ اخْرُجْ عَنَّا، فَقَدْ مَضَى الأَجَلُ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَبِعَتْهُمْ ابْنَةُ حَمْزَةَ: يَا عَمِّ يَا
عَمِّ، فَتَنَاوَلَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَالَ لِفَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ: دُونَكِ ابْنَةَ
عَمِّكِ، حَمَلَتْهَا، فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ، وَزَيْدٌ، وَجَعْفَرٌ، فَقَالَ
عَلِيٌّ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّي، وَقَالَ جَعْفَرٌ: ابْنَةُ
عَمِّي وَخَالَتُهَا تَحْتِي، وَقَالَ زَيْدٌ: ابْنَةُ أَخِي، فَقَضَى بِهَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالَتِهَا، وَقَالَ: «الخَالَةُ
بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ»، وَقَالَ لِعَلِيٍّ: «أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ»،
وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: «أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي»، وَقَالَ لِزَيْدٍ: «أَنْتَ
أَخُونَا وَمَوْلاَنَا».
وقول زيد بن حارثة: هي ابنة أخي .كان النبي
صلى الله عليه وعلى آله وسلم آخى بين زيد بن حارثة وحمزة.
وقوله(الخالة بمنزلة الأم)، أي: أن الخالة
قريبة في العطف والشفقة من الأم .
(وتزوج بعد إحلاله
بميمونة بنت الحارث أم المؤمنين)
(إحلاله)
أي: بعد تحلله من العمرة. وهذا في «صحيح مسلم» (1411) عَنْ مَيْمُونَةُ بِنْتِ الْحَارِثِ
«أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ
حَلَالٌ».
وجاء في «سنن الترمذي» (841) من حديث أَبِي رَافِعٍ قَالَ:
«تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ
حَلَالٌ، وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ»، وَكُنْتُ أَنَا الرَّسُولَ فِيمَا
بَيْنَهُمَا. (الرَّسُولَ) أي: الواسطة.
أما ما جاء في البخاري (4258) مسلم
(1410)عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلاَلٌ، وَمَاتَتْ بِسَرِفَ».
فهذا عدُّه أهل العلم من أوهام ابن
عباس. وميمونة صاحبة القصة أدرى بها وكذلك أبو
رافع فإنه السفير بين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وميمونة ، فهذا من أوهام
ابن عباس .وقد ذهب إلى ذلك جمهورُ العلماء ،وقد جاء النهي في ذلك .ثبت في «صحيح
مسلم» (1409) عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، أَنَّ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا يَنْكِحُ
الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحُ، وَلَا يَخْطُبُ».
(لَا يَنْكِحُ) الياءُ
مَفْتُوحَة وَالْكَاف مَكْسُورَة من نكح ينكِح إِذا تزوج .(وَلَا يُنْكِحُ) الياءُ
مَضْمُومَة وَالْكَاف مَكْسُورَة أَيْضا وَهُوَ من أنكح ينْكح إذا زوَّج غَيْرَهُ ،وَمن
لَا يعلم يرويهِ لَا ينكِح وَلَا يُنكَح بِفَتْح الْكَاف من الثَّانِي ،وَهُوَ خطأٌ
،وَالْمعْنَى أَنه لَا يتزوج وَلَا يُزَوّج غَيره .يراجع: تصحيفات المحدثين(1/272)للعسكري
رحمه الله.
وتُراجع المسألةفي:«زاد المعاد»
(1/109)لابن القيم ،وتنقيح التحقيق(3/474)لابن عبدالهادي .
والحاصل في زواج النبي صلى الله عليه
وعلى آله وسلم بميمونة رضي الله عنها أن في المسألة ثلاثة أقوال ذكرها ابن القيم
في«زاد المعاد»(3/330) أَحَدُهَا: أَنَّهُ
تَزَوَّجَهَا بَعْدَ حِلِّهِ منَ الْعُمْرَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ميمونة نَفْسِهَا، وَقَوْلُ
السَّفِيرِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- وَهُوَ أبو رافع، وَقَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَجُمْهُورِ أَهْلِ النَّقْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ
مُحْرِمٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ وَجَمَاعَةٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ
أَنْ يُحْرِمَ.اهـ.
والصحيح قول الجمهور أنه تزوجها وهو
حلال بعد العمرة .أخرج أبو داود في سننه (1843)بسندٍ صحيح عَنْ مَيْمُونَةَ، قَالَتْ:
«تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ حَلَالَانِ
بِسَرِفَ» وأًصله في مسلم كما تقدم.
وأخرجه أحمد في المسند(44/397)عَنْ مَيْمُونَةَ،
قَالَتْ: " تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ
حَلَالٌ بَعْدَمَا رَجَعْنَا مِنْ مَكَّةَ ".
وميمونة آخر من تزوج بها النبي صلى الله
عليه وعلى آله وسلم، ومما قدره الله سبحانه أن ميمونة رضي الله عنها بنى بها النبي
صلى الله عليه وعلى آله وسلم بسرف ودفنت بسرف. روى البخاري (5067) من طريق عَطَاءٍ، قَالَ: حَضَرْنَا
مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ جِنَازَةَ مَيْمُونَةَ بِسَرِفَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
هَذِهِ زَوْجَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا رَفَعْتُمْ
نَعْشَهَا فَلاَ تُزَعْزِعُوهَا، وَلاَ تُزَلْزِلُوهَا، وَارْفُقُوا فَإِنَّهُ
«كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعٌ، كَانَ يَقْسِمُ
لِثَمَانٍ، وَلاَ يَقْسِمُ لِوَاحِدَةٍ».قال ابن القيم رحمه الله في«زاد المعاد»
(3/329)وَقَدَّرَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ قَبْرُ ميمونة بِسَرِفَ حَيْثُ بَنَى بِهَا.
(وقد كانوا خرجوا من مكة
حين قدمها صلى الله عليه وسلم عداوة وبغضاً له. فخرج عليه الصلاة والسلام فبنى
بميمونة بسرف ورجع إلى المدينة مؤيداً منصوراً)
هذا جاء في بعض الروايات أن كبار قريش
غيظًا وعداوةً خرجوا من مكة لئلا يروا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحابته
وفي حديث ابن عباس عند البخاري(1602)ومسلم (1266) الحديث وفيه :قَالَ
الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ غَدًا قَوْمٌ قَدْ وَهَنَتْهُمُ الْحُمَّى،
وَلَقُوا مِنْهَا شِدَّةً، فَجَلَسُوا مِمَّا يَلِي الْحِجْرَ.. فينظر في هذه
الرواية التي ذكرها ابن كثير، والله أعلم.
وذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في
مطلع الكلام على عمرة القضاء أن (منهم من يجعلها قضاء
عن عمرة الحديبية حيث صُدَّ. ومنهم من يقول عمرة القصاص. والكل صحيح.)
بعضهم يقول: عمرة القضاء، وبعضهم
يقول: عمرة القصاص.
ومن أُحصِر عن أداء العمرة فتحلَّل فليس عليه قضاء إذا كان تطوُّعًا ،فإن
كان عليه واجبًا لزمه. وهذا قول الجمهور مالك والشافعي وأحمد . والدليل أنَّ الَّذِينَ
صُدُّوا يوم الحديبية كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَاَلَّذِينَ اعْتَمَرُوا
مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
في عمرة القضاء كَانُوا نَفَرًا يَسِيرًا،
وَلَوْ كَانَتْ قَضَاءً لَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ أَحَدٌ ،وَلَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَرَ أَحَدًا بِالْقَضَاءِ. وقالوا الْقَضَاءُ هُنَا مِنَ الْمُقَاضَاةِ،-أي
المصالحة- لِأَنَّهُ قَاضَى أَهْلَ مَكَّةَ عَلَيْهَا، لَا أَنَّهُ مِنْ قَضَى قَضَاءً.
قَالُوا: وَلِهَذَا سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ.
واختارهذا القول ابن القيم رحمه الله في«زاد
المعاد» (2/86) وقال:وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ مَنْ كَانَ مَعَهُ بِالْقَضَاءِ. اهـ.
وهو قول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله
في الشرح الممتع (7/420)ونص العبارة:مسألة حكم قضاء المحصَر: الصحيح أن القضاء ليس بواجب إن
كان الحج أو العمرة تطوعاً ..
ومن أهل العلم من ذهب إلى أن عمرة
القضاء واجب .وَهذا جاء رواية عَنْ أَحْمَدَ
ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالشَّعْبِيِّ. وَبِهِ قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا تَحَلَّلَ
زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، قَضَى مِنْ قَابِلٍ،واحْتَجُّوا بِأَنَّهَا سُمِّيَتْ عُمْرَةَ
الْقَضَاءِ، وَهَذَا الِاسْمُ تَابِعٌ لِلْحُكْمِ.
يراجع /«المغني»رقم (2427)لابن
قدامة،و«زاد المعاد» (2/86) .
(ومنهم من يقول عمرة القصاص)
قال ابن هشام في «السيرة» (2/370): (سَبَبُ تَسْمِيَتِهَا بِعُمْرَةِ
الْقِصَاصِ): وَيُقَالُ لَهَا عُمْرَةُ الْقِصَاصِ، لِأَنَّهُمْ صَدُّوا رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فِي الشَّهْرِ
الْحَرَامِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ، فَاقْتَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْهُمْ، فَدَخَلَ مَكَّةَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فِي الشَّهْرِ
الْحَرَامِ الَّذِي صَدُّوهُ فِيهِ، مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ. اهـ.
************************
فصل [بعث مؤتة]
ولما كان في جمادى الآخرة من سنة ثمان بعث صلى الله عليه وسلم
الأمراء إلى مؤتة، وهي قرية من أرض الشام، ليأخذوا بثأر من قُتل هناك من المسلمين.
فأمَّر على الناس زيدَ بن حارثة مولاه صلى الله عليه وسلم «وقال:
إن أُصيب زيد فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة».
فخرجوا في نحو من ثلاثة آلاف، وخرج صلى الله عليه وسلم معهم يودِّعهم
إلى بعض الطريق، فساروا حتى إذا كانوا بمَعَان بلغهم أن هرقل ملك الروم قد خرج
إليهم في مائة ألف ومعه مالك بن زافلة في مائة ألف أخرى من نصارى العرب من لخم
وجذام وقبائل قضاعة من بهراء وبَلي، وبلقين فاشتورَ المسلمون هناك وقالوا: نكتب
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بأمره أو يُمِدُّنا.
فقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: يا قوم! والله إن الذي خرجتم
تطلبون: أمامكم ـ يعني الشهادة ـ وإنكم ما تقاتلون الناس بعدد ولا قوة، وما
نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمَنا الله به، فانطلقوا، فهي إحدى الحسنيين: إما
ظهور، وإما شهادة. فوافقه القوم، فنهضوا.
فلما كانوا بتخوم البلقاء لقوا جموعَ الروم فنزل المسلمون إلى جنب
قرية مؤتة، والروم على قرية يقال لها مشارف، ثم التقوا فقاتلوا قتالا عظيماً.
وقُتل أمير المسلمين زيد بن حارثة رضي الله عنه والراية في يده،
فتناولها جعفر، ونزل عن فرس له شقراء فعقرها، وقاتل حتى قُطعت يده اليمنى، فأخذ
الراية بيده الأخرى فقطعت أيضاً، فاحتضن الرايةَ ثم قتل رضي الله عنه عن ثلاث
وثلاثين سنة على الصحيح. فأخذ الراية عبدُ الله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه،
وتلوَّم بعض التلوم ثم صمَّم وقاتل حتى قُتل، فيقال: إن ثابت بن أقرم أخذ الراية
وأراد المسلمون أن يؤمِّروه عليهم فأبى، فأخذ الراية خالد بن الوليد رضي الله عنه
فانحاز بالمسلمين، وتلطَّف حتى خلص المسلمون من العدو، ففتح الله على يديه كما
أخبر بذلك كلِّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه الذين بالمدينة يومئذ وهو
قائم على المنبر، فنعى إليهم الأمراءَ، واحداً واحداً وعيناه تذرفان صلى الله عليه
وسلم، والحديث في الصحيح. وجاء الليل فكفَّ الكفار عن القتال.
ومع كثرة هذا العدو وقلة عدد المسلمين بالنسبة إليهم لم يُقتَل من
المسلمين خلقٌ كثير على ما ذكره أهل السير، فإنهم لم يذكروا فيما سَمَّوا إلا نحو
العشرة. وكرَّ المسلمون راجعين، ووقى الله شر الكفرة وله الحمد والمنة، إلا أن هذه
الغزوة كانت إرهاصًا لما بعدها من غزو الروم، وإرهابًا لأعداء الله ورسوله.
************************
هذا الفصل في بعث مؤتة، وكان في جمادى
الآخر من سنة ثمان، والبعث غير الغزوة. قال الزرقاني في «شرح المواهب اللدنية» (2/220): وقد جرت عادةُ المحدثين وأهل السير
واصطلاحاتهم غالبا أن يسموا كل عسكر حضره النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة
غزوة، وما لم يحضره بل أرسل بعضا من أصحابه إلى العدو سرية وبعثا. اهـ.
وبعضهم يُطْلِقُ على البعث غزوة.
قال الحافظ في «فتح الباري» (7/ 279) شرح أول كتاب المغازي: الْمُرَادُ
بِالْمَغَازِي هُنَا مَا وَقَعَ مِنْ قَصْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْكُفَّارَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِجَيْشٍ مِنْ قِبَلِهِ. اهـ.
و السَّرِيَّة:
قال ابن الأثير في «النهاية» (2/ 363): هِيَ طائفةٌ مِنَ الجَيش يبلغُ
أَقْصَاهَا أربَعمائة تُبْعث إِلَى العَدوّ، وجمعُها السَّرَايَا، سُمُّوا بِذَلِكَ
لِأَنَّهُمْ يكونُون خُلاصةَ العسْكر وخيارَهم، مِنَ الشَّيء السَّرِيِّ
النَّفِيس. وَقِيلَ سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ ينْفذُون سِرًّا وخُفْية،
وَلَيْسَ بالوجْه، لِأَنَّ لامَ السِّرِّ رَاءٌ، وَهَذِهِ ياءٌ. اهـ.
أي: اختلفوا لأي شيء قيل لها سرِيَّة
فقيل لأنها مختارة نفيسة، وقيل: لأنها تسري بخفية.
وقال النووي رحمه الله في «شرح
صحيح مسلم» (12/ 37) شرح حديث بريدة رضي الله عنه: «كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا..» السَّرِيَّةُ:
قِطْعَةٌ مِنَ الْجَيْشِ تَخْرُجُ مِنْهُ تُغِيرُ وَتَرْجِعُ إِلَيْهِ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ هِيَ الْخَيْلُ تَبْلُغُ أَرْبَعَمِائَةٍ وَنَحْوَهَا
قَالُوا سُمِّيَتْ سَرِيَّةً لِأَنَّهَا تَسْرِي فِي اللَّيْلِ وَيَخْفَى
ذَهَابُهَا وَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ يُقَالُ سَرَى وَأَسْرَى إِذَا
ذَهَبَ لَيْلًا.
وقال رحمه الله في «تحرير ألفاظ
التنبيه» (315): السّريَّة الَّتِي يبعثها الإِمَام
من الْجَيْش قبل دُخُوله إِلَى دَار الْحَرْب مُقَدّمَة لَهُ.
ومؤتة
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: (وهي قرية من أرض
الشام).
(ليأخذوا بثأر من قتل هناك
من المسلمين)
(الثأر) طلب الدم. وفي هذا إشارة إلى سبب بعث
مؤتة فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جاء أنه بعث بعض صحابته برسالة فتعرَّض
له بعض المشركين وقتلوه فبعث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذا البعث.
(فأمَّر على الناس زيد بن حارثة مولاه صلى الله عليه وسلم «وقال:
إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة»)
وهذا
في «صحيح البخاري» (4261) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، وَإِنْ قُتِلَ
جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كُنْتُ فِيهِمْ
فِي تِلْكَ الغَزْوَةِ، فَالْتَمَسْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ،
فَوَجَدْنَاهُ فِي القَتْلَى، وَوَجَدْنَا مَا فِي جَسَدِهِ بِضْعًا وَتِسْعِينَ،
مِنْ طَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ.
(فخرجوا في نحو من ثلاثة آلاف)
هذا عدد الصحابة الذين بعثهم النبي
صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
(وخرج صلى الله عليه وسلم معهم يودعهم إلى بعض الطريق)
وهذا هدي النبي صلى الله عليه وعلى
آله وسلم أنه إذا بعث الجيش يخرج معهم ويودعهم ويوصيهم وخاصةأميرالجيش.أخرج الإمام
مسلم في صحيحه (1731)عن بريدة رضي الله عنه كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى
اللهِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا.. الحديث.
(فاشتور المسلمون)
أي: تشاور المسلمون هناك.
(وقتل أمير المسلمين
زيد بن حارثة رضي الله عنه والراية في يده)
أمير المسلمين في بعث مؤتة زيد بن
حارثة رضي الله عنه قتل والراية بيده.
(فتناولها جعفر، ونزل
عن فرس له شقراء فعقرها، وقاتل حتى قطعت يده اليمنى، فأخذ الراية بيده الأخرى
فقطعت أيضاً، فاحتضن الراية ثم قتل رضي الله عنه عن ثلاث وثلاثين سنة على الصحيح)
(فعقرها )قال ابن الأثير في النهاية (3/271)أصل
العقرضَرْب قوائِم الْبَعِيرِ أَوِ الشاةِ بالسيفِ وَهُوَ قائمٌ.
وعقر جعفر لفرسه عند أبي داود (2573)
وحسنه الشيخ الألباني .
قال السهيلي في الروض الأنف (7/172):أَمّا
عَقْرُ جَعْفَرٍ فَرَسَهُ وَلَمْ يَعِبْ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَدَلّ عَلَى جَوَازِ
ذَلِكَ إذَا خِيفَ أَنْ يَأْخُذَهَا الْعَدُوّ، فَيُقَاتِلَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمِينَ
فَلَمْ يَدْخُلْ هَذَا فِي بَابِ النّهْيِ عَنْ تَعْذِيبِ الْبَهَائِمِ وَفِعْلِهَا
عَبَثًا .اهـ.
(فاحتضن الراية)جاء أنه احتضن الراية بعضديه.
(فأخذ الراية عبد الله
بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه، وتلوَّم بعض التلوم ثم صمم وقاتل حتى قتل)
عبدالله بن رواحة من شعراء النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم.
(تلوم) أي: تردد.
هؤلاء الثلاثة زيد بن حارثة وجعفربن
أبي طالب وعبدالله بن رواحة من شهداء معركة بعث مؤتة رضي الله عنهم.
(ففتح الله على يديه
كما أخبر بذلك كله رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين بالمدينة يومئذ وهو
قائم على المنبر، فنعى إليهم الأمراء، واحداً واحداً وعيناه تذرفان صلى الله عليه
وسلم، والحديث في الصحيح)
وهذا علم من أعلام النبوة أخبر النبي
صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما جرى لزيد وأصحابه. والحديث في «صحيح البخاري» (1246) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ
أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ - وَإِنَّ عَيْنَيْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتَذْرِفَانِ - ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ
بْنُ الوَلِيدِ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ».
(لَتَذْرِفَانِ) أي: تسيل بالدموع. (خَالِدُ
بْنُ الوَلِيدِ) سيف من سيوف الله. (فَفُتِحَ لَهُ) كان الفتح على يديه رضي الله
عنه.
ويستفاد من هذا أخذ الإمارة من غير أن يؤمَّر للحاجة. أما لغير
حاجة ففيه نهي .أخرج البخاري (7146) ومسلم
(1652) من حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه عن النبي صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لاَ تَسْأَلِ
الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا،
وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ
عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ،
وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ».
ويستفاد منه جواز النعي - النعي:
الإخبار بموت الميت - وهذا جائز للحاجة إما لتكثير المصلين أو لإخبار الأصحاب
والأهل .وفي «الصحيحين» البخاري (1327-1328) ومسلم (951)عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، قَالَ: نَعَى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
النَّجَاشِيَّ صَاحِبَ الحَبَشَةِ، يَوْمَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ:
«اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ»، وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ
بْنُ المُسَيِّبِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «إِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفَّ بِهِمْ بِالْمُصَلَّى فَكَبَّرَ
عَلَيْهِ أَرْبَعًا».
قال ابن العربي :إِعْلَامُ الْأَهْلِ وَالْأَصْحَابِ وَأَهْلِ الصَّلَاحِ هذَا سُنَّةٌ
كما في تحفة الأحوذي (4/52).
النعي على قسمين جائز ومنهي عنه
.الجائز تقدم .
المنهي عنه :هوالذي ليس لغرض ديني كطريقة
أهل الجاهلية في ذكر المفاخر والمحاسن ،والإعلام لأجل النياحة .
وقد حزن النبي صلى الله عليه وعلى آله
وسلم حزنًا شديدًا لموت هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم جاء في البخاري (1299) ومسلم (935) من حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا، قَالَتْ: لَمَّا جَاءَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرٍ، وَابْنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ يُعْرَفُ فِيهِ
الحُزْنُ وَأَنَا أَنْظُرُ مِنْ صَائِرِ البَابِ شَقِّ البَابِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ
فَقَالَ: إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ، فَأَمَرَهُ أَنْ
يَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، لَمْ يُطِعْنَهُ، فَقَالَ:
«انْهَهُنَّ» فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ، قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ غَلَبْنَنَا يَا
رَسُولَ اللَّهِ، فَزَعَمَتْ أَنَّهُ قَالَ: «فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ
التُّرَابَ» فَقُلْتُ: أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ، لَمْ تَفْعَلْ مَا أَمَرَكَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ تَتْرُكْ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ العَنَاءِ.
ثم أمهل النبي صلى الله عليه وعلى آله
وسلم آل جعفر ثلاثًا ثم أتاهم ناصحًا ومتفقدًا لهم .
أخرج أبوداود في«سننه» (4192) عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَمْهَلَ آلَ جَعْفَرٍ ثَلَاثًا أَنْ يَأْتِيَهُمْ، ثُمَّ أَتَاهُمْ، فَقَالَ:
«لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ»، ثُمَّ قَالَ: «ادْعُوا لِي بَنِي
أَخِي»، فَجِيءَ بِنَا كَأَنَّا أَفْرُخٌ، فَقَالَ: «ادْعُوا لِي الْحَلَّاقَ»،
فَأَمَرَهُ فَحَلَقَ رُءُوسَنَا.
ويستفاد من الحديث استحباب الكف عن
البكاء بعد الثلاثة الأيام.
أفرخ
أي: صغار.
من فوائد بعث مؤتة
1-منقبة وفضيلة عظيمة لهؤلاء الصحابة رضي
الله عنهم الذين شهدوا بعث مؤتة سواء من أكرمه الله بالشهادة أو مَن رجع سالمًا
كعبد الله بن عمر فإنه رجع سالمًا.
2-توجيه الجيش وتوعيتهم .
3-الإمارة في السفر .
4-عدد بعث مؤتة ثلاثة آلاف .
5- الفرج بعد الشدة فقد أصيب المسلمون
بشدة ومحنة عظيمة حتى قُتِلَ أُمراؤهم الثلاثة ثم
تناولها خالد بن الوليد وكان الفتح على يديه ،والله عزوجل قادرٌ أن ينتقم من
أعدائه من غير مواجهة ولا قتال ولكنه ابتلاء قال تعالى { وَلَوْ
يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)}.
6-أن النصر ليس بالكثرة ولا بالعَدَد
ولا بالعُدَد فالمسلمون يعتبرون قلة أمام أعدائهم فقد خرج إليهم نحو مائة ألف وصدق
الله إذ يقول { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}.
7-معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه
وعلى آله وسلم إذ أخبر بحال أصحابه في غزوة مؤتة وقَتْلِ الثلاثة الأُمراء من
أصحابه .
8- الحزن لموت الأفاضل والأصحاب ،وجواز
البكاء.
9-جواز النعي .
10- الوثوب على الإمارة عند فقد المسلمين أميرًا لهم لمن علم من
حالِه القدرة سدًّا لفجوة الخلل وحفاظًا على الصف والكلمة .والله أعلم.