جديد الرسائل

الثلاثاء، 10 نوفمبر 2015

درس كتاب التوحيد / من صحيح البخاري يوم السبت 24 من شهر الله المحرم 1437.


7373 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، وَالأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ، سَمِعَا الأَسْوَدَ بْنَ هِلاَلٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى العِبَادِ؟» ، قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ؟» ، قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ».
**********************
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ)
 و هو بندار، لُقب بذلك لسعة حفظه. و يقال عنه هو و محمد بن المثنى إنهما كفرسي رهان. أي كالمتسابقين في الحفظ و القوة.
والإمام مسلم ـ رحمه الله تعالى- إذا روى عنهما فإنه يقدم محمد بن المثنى؛ فيقول :حدثنا محمد بن المثنى و ابن بشار.
(حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ)
هو محمد بن جعفر، ربيب شعبة بن الحجاج. يقول غندر: لازمت شعبة عشرين سنة.
هذه المدة لازم فيها غندر شيخه شعبة.
وبطول المدة يتمكن الطالب من أخذ علم شيخه في كثير منه - إذا صحبه توفيق من الله تعالى- وقد قال الإمام عبدالله بن الإمام أحمد رحمهما الله تعالى في «زوائد العلل» (2/124): حدثني عبيدالله القواريري، قال: قال لي عبدالرحمن بن مهدي: كنا عند شعبة، ومعنا غندر فحدث شعبة بحديث، فقال غندر: هكذا، ومدَّ عنقه يستمع، وقال له شعبة: مقتك قد سمع حديثي كله، وانظر كيف ينظر.
وسمعت الشيخ الوالد مقبل الوادعي ـ رحمه الله تعالى : ( الذي يلازمني يعرف بأي شيء أستدل في الموضوع، و بماذا أُجيب في المسألة).
وهنا من علو همة محمد بن جعفر، حريص على العلم، شهد له شعبة بهذه الشهادة قال ( قد أخذ حديثي كلَّه) فمعناه أنه استفاد كثيرا من شعبة بن الحجاج لكثرة ملازمته له .
وهذا من حرص السلف على العلم. مدّ عنقه ـ رحمه الله تعالى ـ لئلا يفوته شيء ، هذا من همَّة السلف، همتهم تحصيل العلم النافع، لم تكن قلوبهم متفرقة أو منصرفة إلى أمور الدنيا.

 (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ )
وهو ابن الحجاج بن الورد، أبو بسطام أمير المؤمنين في الحديث. قال ابن أبي حاتم ـ رحمه الله تعالى - في الجرح
والتعديل: ( أي سيد المحدثين في زمانه).
و هو القائل ـ رحمه الله تعالى : ( من طلب الحديث أفلس). لأن طالب العلم يشغل بالعلم عن المكاسب، وهذا من الأمور التي تعين على الحفظ؛ التقليل من الدنيا. كما قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ في شرح حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه. قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ( إنكم تقولون أكثر أبي هريرة - أي في الحديث النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ و عند الله الموعد.إن إخواني من الأنصار كانت تشغلهم أموالهم، و إن إخواني من المهاجرين كانت تشغلهم الصفق بالأسواق، فكنت أحضر ما لا يحضرون، و أعي ما لا يعون، و لقد كنت ألزم رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ على شبع بطني... الحديث .
يقول :فيه أن التقليل من الدنيا أمكن للحفظ .
 (عَنْ أَبِي حَصِينٍ )
 هو عثمان بن عاصم ، كما في فتح الباري. حَصين بفتح الحاء. وهذه من الأسماء المشتبهة، حَصين قد يشتبه بـ حُصين. فهنا هو بفتح الحاء.
 (وَالْأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ )
قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ في الشرح: هو أشعث بن أبي الشعثاء المحاربي. و أبوه مشهور بكنيته أكثرمن اسمه.
 (عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ )
معاذ بن جبل صحابي جليل ومن حفظة القرآن الكريم. وأرشد النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إلى أخذ القرآن منه. أخرج البخاري (3548 ) ومسلم (2464) عن مَسْرُوقٍ، قَالَ: ذُكِرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَقَالَ: ذَاكَ رَجُلٌ لاَ أَزَالُ أُحِبُّهُ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «خُذُوا القُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - فَبَدَأَ بِهِ -، وَسَالِمٍ، مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ» .
 و هذا يفيد الحث على تلقي القرآن من أهله، من الحاذقين المتقنين للقرآن الكريم.
و قد جاء عن غير واحد من السلف: ( لا تأخذوا العلم عن صُحُفي، و لا تأخذوا القرآن عن مُصحَفي) .
(لا تأخذوا العلم عن صحفي)  الذي يأخذ العلم من الكتب فقد يخطئ في الفهم، و قد يقع في التصحيف.
(و لا تأخذوا القرآن عن مُصحَفي) و هو الذي يأخذ القرآن من المصحف تلقائيا من نفسه .
ومن نعمة الله سبحانه و تعالى أخذ العلم عن أهله المتقنين، و أخذ العلم عن أهله و لا سيما أخذ العلم عن الكبار.
فهذا أكثر نفعا؛ وأبعد عن الزلل و لهذا شعبة بن الحجاج ـ رحمه الله تعالى ـ يقول: ( خذوا العلم عن المشهورين).
(يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ)
أي أتعلم ما حق الله على العباد.
(أَنْ يَعْبُدُوهُ)
 أي يطيعوه كما قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:21] وكما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56]
العبادة لغة: التذلل، يقال طريق معبد أي مذلل.
وشرعاً: قال شيخ الإسلام :هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
(وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)
الشرك بالله سبحانه وتعالى  قسمان: شرك أكبر وشرك أصغر.
الشرك الأكبر: مساواة غير الله بالله سبحانه فيما هو خاص بالله سبحانه وتعالى . كما قال سبحانه عن أهل النار (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(98) [الصافات]
و الشرك الأصغر: مثل الحلف بغير الله سبحانه إذا لم يعتقد تعظيم المخلوق كتعظيمه لله أو أشد هذا يكون شركاً أصغر. أما لو اعتقد تعظيم المخلوق كما يعظم الله سبحانه وتعالى هنا ساواه بالله يكون شِرْكاً أكبر. (أوأشد )من تعظيمه لله .
 قال الشوكاني ـ رحمه الله تعالى ـ في نيل الأوطار شرح حديث علي ابن أبي طالب من كتاب الجنائز (ألا أدع قبرا مشرفاً إلا سويته ) ...إذَا تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ مِنْ جِهَةِ خَصْمِهِ حَلَفَ بِاَللَّهِ فَاجِرًا، فَإِذَا قِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: احْلِفْ بِشَيْخِك وَمُعْتَقَدِكَ الْوَلِيِّ الْفُلَانِيِّ تَلَعْثَمَ وَتَلَكَّأَ وَأَبَى وَاعْتَرَفَ بِالْحَقِّ. وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ شِرْكَهُمْ قَدْ بَلَغَ فَوْقَ شِرْكِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ تَعَالَى ثَانِيَ اثْنَيْنِ أَوْ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ .
إذن إذا عظّمه كتعظيمه لله سبحانه أو أشد يكون شركاً أكبر و العياذ بالله.
 و من أمثلة الشرك الأصغر يسير الرياء.
و الشرك الأصغر خطير فهو أكبر الكبائر بعد الشرك الأكبر.
 فتعلم التوحيد يجنبنا الوقوع في الشرك  جنبنا ربي الشرك به سبحانه.
- من فوائد الحديث -
1- إلقاء العلم بصيغة السؤال.
وفائدة هذا التنبيه لما يقال حتى يسمع و يصغي.
هذا فائدة إلقاء المسائل والعلم بصيغة سؤال، حتى يتنبه. قد يكون غافلا غير منتبه، فإذا نبهه يستعد لما يلقى إليه و لما يقال له.
وبوّب الإمام البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ في صحيحه في كتاب العلم (بَاب طَرْحِ الْإِمَامِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ لِيَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ)  ثم ذكر حديث ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ حَدِّثُونِي مَا هِيَ قَالَ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَاسْتَحْيَيْتُ ثُمَّ قَالُوا حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ هِيَ النَّخْلَةُ ).وأخرجه مسلم .
وهذا من حسن التعليم؛ إلقاء المسألة بصورة سؤال.
و ذات مرةٍ كنت في جلسة مع الشيخ الوالد ـ رحمه الله تعالى ـ وألقى بعض الأسئلة فلم نُجِب فقلت له:الأسئلة فوق مستوانا .
فابتسم ـ رحمه الله تعالى ـ وقال: هذا من باب إلقاء العلم على صورة سؤال وأشارإلى هذا الحديث (يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ ) .
فهذا الحديث له تعلق بآداب التعليم، والله تعالى أعلم .
2- عدم القول على الله بغيرعلم. و قد قال الله تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[ الإسراء:36]. لا تقف: أي لا تقل و لا تتبع.
 و كان النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في عدة مواطن إذا سُئل يسكت عن الإجابة حتى يأتيه الوحي.
 و من هذا ما جاء في صحيح البخاري(125)ومسلم (2794) عن عبدالله بن مسعود قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَرِبِ المَدِينَةِ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ اليَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ تَسْأَلُوهُ، لاَ يَجِيءُ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنَسْأَلَنَّهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ يَا أَبَا القَاسِمِ مَا الرُّوحُ؟ فَسَكَتَ، فَقُلْتُ: إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقُمْتُ، فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ، قَالَ: « (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتُوا مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) »
وهذا من الأدب مع الله عز و جل؛ ألا نتكلم بغير علم .
وأخرج الفسَوِي في «المعرفة والتاريخ» (1/490)من طريق عقبة بن مسلم أن ابن عمر سئل عن شيء فقال: لا أدري ثم أتبعها فقال: أتريدون أن تجعلوا ظهورنا لكم جسورًا  في جهنم أن تقولوا: أفتانا ابن عمر بهذا.
وذلك أنه ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال : ( إنما إثمه على من أفتاه).
لكن كان والدي الشيخ مقبل الوادعي ـ رحمه الله تعالى ـ ينبه ويقول: ( لا تقل قد جعلتها في رقبة عالم والواجب عليك أن تتثبت) وقد كان الأعرابي يأتي النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يقول: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك اهـ.
وهذا تنبيه بعض الناس يفرح حتى ولو تبين له خطأ المفتي يقول قد أفتانا فلان لذا يقول ـ رحمه الله تعالى-: (لا تقل قد جعلتها في رقبة عالم) الواجب علينا أن نتثبت في أمور ديننا.
ومما جاء عن السلف في السكوت عن الشيء الذي لا يعلمه .
أخرج الآجري في أخلاق العلماء (100)من طريق أحمد بن حنبل أبا عبدالله قال: سمعت الشافعي قال: سمعت مالكًا قال: سمعت ابن عجلان قال: إذا أغفل العالم لا أدري، أصيبت مقاتله.
 يعني مثل لو قُتل لأنه عرَّض نفسه للهلكة.
وأخرج أبوزرعة الدمشقي رحمه الله في «تاريخه» (1018) من طريق الهيثم بن جميل، قال: شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال: في اثنتين وثلاثين منها لا أدري.
المسائل ثمانٍ وأربعون و لم يجب الإمام مالك عن اثنتين وثلاثين، يكون أجابه في ستة عشر سؤالاً.
هذا هدي السلف السكوت عما لا يعلمون.
وأخرج عبدالرحمن بن أبي حاتم في «مقدمة الجرح والتعديل» (1/ص18) من طريق عبدالرحمن بن مهدي يقول: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال: يا أبا عبدالله جئتك من مسيرة ستة أشهر حمَّلني أهل بلادي مسألة أسألك عنها، قال: فسل، قال: فسأل الرجل عن أشياء فقال: لا أحسن، قال: فقُطع بالرجل كأنه قد جاء إلى من يعلم كل شيء قال: وأي شيء أقول لأهل بلادي إذا رجعت إليهم قال: تقول لهم: قال مالك بن أنس: لا أحسن.
وأخرج يعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (1/655) من طريق مالك بن أنس أنه سمع عبدالله بن يزيد بن هرمز يقول: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده لا أدري، حتى يكون ذلك أصلًا في أيديهم يفزعون إليه إذا سئل أحدهم عما لا يدري قال: لا أدري.
والآثار كلها ثابتة ذكرتها ولله الحمد في (الجامع الصحيح في العلم وفضله) .
الإمام النووي رحمه الله في مقدمة «المجموع» (1/60) يقول:
بعد أن ذكر: أنه إذا سئل عن شيء لا يعرفه أو عرض في الدرس ما لا يعرفه فليقل: لا أعرفه ولا أتحققه ولا يستنكف عن ذلك.
قال: وليعلم أن معتقد المحققين أن قول العالم لا أدري لا يضع منزلته بل هو دليل على عظم محله وتقواه وكمال معرفته، لأن المتمكن لا يضره عدم معرفته مسائل معدودة بل يستدل بقوله: لا أدري على تقواه وأنه لا يجازف في فتواه، وإنما يمتنع من لا أدري من قل علمه وقصرت معرفته وضعفت تقواه؛ لأنه يخاف لقصوره أن يسقط من أعين الحاضرين، وهو جهالة فإنه بإقدامه على الجواب فيما لا يعلم يبوء بالإثم العظيم، ولا يرفعه ذلك عما عرف له من القصور بل يستدل به على قصوره، لأنا إذا رأينا المحققين يقولون في كثير من الأوقات لا أدري وهذا القاصر لا يقولها أبدًا علمنا أنهم يتورعون؛ لعلمهم وتقواهم، وأنه يجازف لجهله وقلة دينه، فوقع فيما فر عنه واتصف بما احترز منه لفساد نيته وسوء طويته، وفي «الصحيح» عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: <المتشبع بما لم يعطَ كلابس ثوبي زور>. اهـ
والقول على الله عز وجل بغيرعلم من التكلف  وقد قال تعالى  {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ }[ص :86] .
و الله المستعان.
3- قول الصحابة (اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) فيما لا يعلمون .
و زيادة (ورسوله) استفدت من والدي ـ رحمه الله تعالى ـ (أن هذا خاص بزمن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ خاص بالصحابة.
 قال: أما بعد وفاة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فيقال الله أعلم، لأن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ حي في قبره حياة برزخية الله أعلم بحقيقتها. وقد ثبت أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يقول في الذين يؤخذ بهم إلى الشمال فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي، فَيُقَالُ: لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا، مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117] إِلَى قَوْلِهِ {شَهِيدٌ} [المائدة: 117] فَيُقَالُ: إِنَّ هَؤُلاَءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ " أخرجه البخاري (4625) ومسلم (2860)عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وهذه فائدة أنه يقتصر على ( الله أعلم ) و لايضاف ( ورسوله ) فهذا خاص بزمن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
4- أن حق الله على عباده أن يعبدوه ولايشركوا به شيئاً.
5- إثباتُ حقٍ للعباد على الله سبحانه وتعالى؛ وهو ألا يعذب سبحانه من لا يشرك به شيئاً.
والأدلة التي فيها إثبات حق للعباد على الله سبحانه مثل قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}[الروم:47] وفي سورة يونس {كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}[يونس:103] وحديث معاذ هذا .
هذا الحق هو تفضل من الله سبحانه و منَّة وإحسان.
وإلا فالعباد ليس لهم حق على الله سبحانه كما يجب للمخلوق على المخلوق، هذا قول أهل السنة والجماعة.
فإذا قال القائل: للعبد حق على الله عز وجل باعتبار ما وعد الله به فهذا القول صحيح، باعتبارما وعد الله به من النجاة من النار و الفوز بالجنة والنصرللمؤمنين ونحو ذلك فهو بهذا المعنى صحيح لأن الله سبحانه لايخلف وعده {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}[آل عمران:9] {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ}[التوبة:111].
قال شيخ الإسلام كما في مجموع فتاواه(1/ 217) مَنْ قَالَ: بَلْ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى اللَّهِ حَقٌّ فَهُوَ صَحِيحٌ إذَا أَرَادَ بِهِ الْحَقَّ الَّذِي أَخْبَرَاللَّهُ بِوُقُوعِهِ فَإِنَّ اللَّهَ صَادِقٌ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَهُوَ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِحِكْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَرَحْمته اهـ.
وإذا قال القائل: ليس للعبد حق على الخالق باعتبار ما يجب للمخلوق على المخلوق، فهذا صحيح.
قال شيخ الإسلام كما في مجموع فتاواه (1/ 214) : مَنْ قَالَ لَيْسَ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَالِقِ حَقٌّ فَهُوَ صَحِيحٌ إذَا أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَخْلُوقِ عَلَيْهِ حَقٌّ بِالْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ عَلَى خَلْقِهِ كَمَا يَجِبُ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ وَهَذَا كَمَا يَظُنُّهُ جُهَّالُ الْعُبَّادِ مِنْ أَنَّ لَهُمْ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ حَقًّا بِعِبَادَتِهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّ النُّفُوسَ الْجَاهِلِيَّةَ تَتَخَيَّلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ بِعِبَادَتِهِ وَعِلْمِهِ يَصِيرُ لَهُ عَلَى اللَّهِ حَقٌّ مِنْ جِنْسِ مَا يَصِيرُ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ كَاَلَّذِينَ يَخْدِمُونَ مُلُوكَهُمْ وَمُلَّاكَهُمْ فَيَجْلِبُونَ لَهُمْ مَنْفَعَةً وَيَدْفَعُونَ عَنْهُمْ مَضَرَّةً وَيَبْقَى أَحَدُهُمْ يَتَقَاضَى الْعِوَضَ وَالْمُجَازَاةَ عَلَى ذَلِكَ وَيَقُولُ لَهُ عِنْدَ جَفَاءٍ أَوْ إعْرَاضٍ يَرَاهُ مِنْهُ: أَلَمْ أَفْعَلْ كَذَا؟ يَمُنُّ عَلَيْهِ بِمَا يَفْعَلُهُ مَعَهُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْهُ بِلِسَانِهِ كَانَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ. وَتَخَيُّلُ مِثْلِ هَذَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ جَهْلِ الْإِنْسَانِ وَظُلْمِهِ وَلِهَذَا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ عَمَلَ الْإِنْسَانِ يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَيْهِ وَأَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْخَلْقِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} وقَوْله تَعَالَى {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} اهـ المراد .
ويبقى الإشكال بين الحديث الذي في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( قَارِبُوا وَسَدِّدُوا وَاعْلَمُوا ، أَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ " ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَلَا أَنْتَ ؟ ، قَالَ : " وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ).  الجنة - جعلنا الله من أهلها - ليست عوضاً عن العمل. ليست من باب المعاوضة.
وقوله عز وجل { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }[النحل:32] الباء سببية، أي بسبب أعمالكم .
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى(1/ 217) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ} لَا يُنَاقِضُ قَوْله تَعَالَى {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . فَإِنَّ الْمَنْفِيَّ نُفِيَ بِبَاءِ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ كَمَا يُقَالُ بِعْت هَذَا بِهَذَا وَمَا أُثْبِتَ أُثْبِتَ بِبَاءِ السَّبَبِ فَالْعَمَلُ لَا يُقَابِلُ الْجَزَاءَ وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِلْجَزَاءِ اهـ.
أقسام الناس في هذه المسألة
قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين(2/ 322) وَالنَّاسُ فِيهِ ثَلَاثُ فِرَقٍ.
فِرْقَةٌ :رَأَتْ أَنَّ الْعَبْدَ أَقَلُّ وَأَعْجَزُ مِنْ أَنْ يُوجِبَ عَلَى رَبِّهِ حَقًّا. فَقَالَتْ: لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ. وَأَنْكَرَتْ وُجُوبَ مَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ.
وَفِرْقَةٌ :رَأَتْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أُمُورًا لِعَبْدِهِ. فَظَنَّتْ أَنَّ الْعَبْدَ أَوْجَبَهَا عَلَيْهِ بِأَعْمَالِهِ، وَأَنَّ أَعْمَالَهُ كَانَتْ سَبَبًا لِهَذَا الْإِيجَابِ. وَالْفِرْقَتَانِ غَالِطَتَانِ.
وَالْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ: أَهْلُ الْهُدَى وَالصَّوَابِ، قَالَتْ: لَا يَسْتَوْجِبُ الْعَبْدُ عَلَى اللَّهِ بِسَعْيِهِ نَجَاةً وَلَا فَلَاحًا. وَلَا يُدْخِلُ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ أَبَدًا، وَلَا يُنْجِيهِ مِنَ النَّارِ. وَاللَّهُ تَعَالَى - بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ، وَمَحْضِ جُودِهِ وَإِحْسَانِهِ - أَكَّدَ إِحْسَانَهُ وَجُودَهُ وَبِرَّهُ بِأَنْ أَوْجَبَ لِعَبْدِهِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ حَقًّا بِمُقْتَضَى الْوَعْدِ. فَإِنَّ وَعْدَ الْكَرِيمِ إِيجَابٌ، وَلَوْ بِعَسَى، وَلَعَلَّ.
وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: عَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ اهـ المراد.
6- فضل التوحيد وأنه نجاة من عذاب الله عز وجل.
وينبغي أن نعرف أسباب عذاب الله حتى نتجنبها ونتقيها فإن ربنا عزوجل يقول { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} .

جعلنا ربي من أهل التوحيد وأعاذنا من عذابه سبحانه.