قال تَعَالَى:﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾.
فيه أنه يجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلِّغَ رسالةَ ربّهِ، وقد بلَّغ صلى الله عليه وسلم الرسالة أتمَّ التبليغ وأكمله.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يُشهِدُ اللهَ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بأنه بلغ الرسالة. وكان الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم يشهدون أنه بلَّغَ الرسالة، كحديث جابر الطويل عند مسلم في حجة الوداع.
هذه الآية الكريمة من أدلة وجوب تبليغ العلم، وعدمِ كتمانِهِ. فالأمر عامٌّ لحملَة هذا الدين.
قوله تَعَالَى: ﴿وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ أي: إن لم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما أُنزل إليه فما بلغ رسالة ربّهِ.
وهذا لا يلزم منه الوقوع؛ لأنه شرط، والتعليق بالشرط لا يلزم منه الوقوع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)﴾
الشاهد في الآية: قال الحافظ ابن حجر رَحِمَهُ اللهُ في شرح هذا الباب(13/506): وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْهِدَايَةَ نَوْعٌ مِنَ التَّبْلِيغِ. اهـ.
والتبليغ من عمل الرسول وفعله.
روى البخاري (7530)عن المُغِيرَة: أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا: «أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الجَنَّةِ». وروى البخاري (7531) عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الوَحْيِ فَلَا تُصَدِّقْهُ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ [المائدة: 67].
والشاهد من هذه الأدلة: تبليغ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم الرسالة.
وروى البخاري (7532) عن عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ»، قَالَ: ثُمَّ أَيْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ؛ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ»، قَالَ: ثُمَّ أَيْ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهَا: ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ﴾ [الفرقان: 69] الآيَةَ.
قال الحافظ ابن حجر رَحِمَهُ اللهُ في «فتح الباري»(13/507) عن مناسبة هذا الحديث للترجمة: وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ التَّبْلِيغَ عَلَى نَوْعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَصْلُ أَنْ يُبَلِّغَهُ بِعَيْنِهِ وَهُوَ خَاصٌّ بِمَا يُتَعَبَّدُ بِتِلَاوَتِهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَثَانِيهُمَا: أَنْ يُبَلِّغَ مَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ أُصُولِ مَا تَقَدَّمَ إِنْزَالُهُ، فَيَنْزِلُ عَلَيْهِ مُوَافَقَتَهُ فِيمَا اسْتَنْبَطَهُ: إِمَّا بِنَصِّهِ وَإِمَّا بِمَا يَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَتِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى كَهَذِهِ الْآيَةِ؛ فَإِنَّهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِي حَقِّ مَنْ أَشْرَكَ، وَهِيَ مُطَابِقَةٌ لِلنَّصّ، وَفِي حَقِّ مَنْ قَتَلَ النَّفْسَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهِيَ مُطَابِقَةٌ لِلْحَدِيثِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا، لَكِنَّ قَتْلَ الْوَلَدِ أَشَدُّ قُبْحًا من قَتْلِ مَنْ لَيْسَ بِوَلَدٍ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الزُّنَاةِ؛ فَإِنَّ الزِّنَا بِحَلِيلَةِ الْجَارِ أَعْظَمُ قُبْحًا مِنْ مُطْلَقِ الزِّنَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِنْزَالُ هَذِهِ الْآيَةِ سَابِقًا عَلَى إِخْبَارِهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا أَخْبَرَ بِهِ، لَكِنْ لَمْ يَسْمَعْهَا الصَّحَابِيُّ إِلَّا بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ نَزَلَ تَعْظِيمُ الْإِثْمِ فِيهِ سَابِقًا، وَلَكِنِ اخْتَصَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِمَجْمُوعِ الثَّلَاثَةِ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ مَعَ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالتَّصْدِيقِ الْمُوَافَقَةُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَيْهَا، فَعَلَى هَذَا فَمُطَابَقَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ ظَاهِرَةٌ جِدًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.
واستفدنا من هذا الباب: نسبة فعل ابن آدم إليه حقيقة.