جديد المدونة

جديد الرسائل

الثلاثاء، 16 أغسطس 2022

(127)سِلْسِلَةُ التَّوْحِيْدِ وَالعَقِيْدَةِ

 

من معاني اسم الله: اللطيف

لقد ذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هذا الاسم العظيم في أكثر من موضعٍ من كتابه، كقوله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)[الأنعام].

وقال سبحانه:﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)﴾[الأحزاب].

ومِن أجمل ما اطلعتُ عليه في معنى هذا الاسم، وما يحويه من المعاني الجليلة كلام السعدي رَحِمَهُ الله في «تفسير أسماء الله الحُسنى»(225)، فقال في معنى هذا الاسم:  الذي لطف علمه حتى أدرك الخفايا، والخبايا، وما احتوت عليه الصدور، وما في الأراضي من خفايا البذور.

وقال ابن القيم في «شفاء العليل»(34):  واسمه اللطيف يتضمن علمه بالأشياء الدقيقة، وإيصاله الرحمة بالطرق الخفية، ومنه التلطف كما قال أهل الكهف: ﴿وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا[الكهف:19].

ثم ذكر الإمام السعدي رَحِمَهُ الله أشياء كثيرة تدخل في هذا الاسم، منها:

- ولطف بأوليائه، وأصفيائه، فيسرهم لليسرى وجنبهم العسرى، وسهل لهم كل طريق يوصل إلى مرضاته وكرامته، وحفظهم من كل سبب ووسيلة توصل إلى سخطه، من طرق يشعرون بها، ومن طرق لا يشعرون بها، وقدر عليهم أمورًا يكرهونها؛ ليُنيلهم ما يحبون، فلطف بهم في أنفسهم فأجراهم على عوائده الجميلة، وصنائعه الكريمة، ولطف لهم في أمور خارجة عنهم لهم فيها كل خير وصلاح ونجاح، فاللطيف متقارب لمعاني الخبير، الرؤوف، الكريم.

-ومن لطفه بعبده ووليه الذي يريد أن يتم عليه إحسانه، ويشمله بكرمه ويرقيه إلى المنازل العالية فييسره لليسرى، ويجنبه العسرى، ويجري عليه من أصناف المحن التي يكرهها وتشق عليه وهي عين صلاحه، والطريق إلى سعادته، كما امتحن الأنبياء بأذى قومهم وبالجهاد في سبيله، وكما ذكر الله عن يوسف عليه السلام وكيف ترقت به الأحوال، ولطف الله به وله بما قدره عليه من تلك الأحوال، التي حصلت له في عاقبتها حسن العقبى في الدنيا والآخرة، وكما يمتحن أولياءه بما يكرهونه؛ ليُنيلهم ما يحبون، وكم لله من لطف، وكرم لا تدركه الأفهام ولا تتصوره الأوهام، وكم استشرف العبد على مطلوب من مطالب الدنيا من ولاية ورياسة أو سبب من الأسباب المحبوبة فيصرفه الله عنها ويصرفها عنه رحمة به؛ لئلا تضره في دينه، فيظل العبد حزينا من جهله وعدم معرفته بربه، ولو علم ما ادخر له في الغيب وأريد إصلاحه لحمد الله وشكره على ذلك، فإن الله بعباده رؤوف رحيم، لطيف بأوليائه!

واعلم أن اللطف الذي يطلبه العباد من الله بلسان المقال، ولسان الحال هو من الرحمة، بل هو رحمة خاصة، فالرحمة التي تصل العبد من حيث لا يشعر بها أو لا يشعر بأسبابها هي اللطف، فإذا قال العبد: يا لطيف الطف بي أو لي، وأسألك لطفك، فمعناه تولني ولاية خاصة بها تصلح أحوالي الظاهرة، والباطنة وبها تندفع عني جميع المكروهات من الأمور الداخلية والأمور الخارجية، فالأمور الداخلية لطف بالعبد، والأمور الخارجية لطف للعبد، فإذا يسر الله عبده وسهل طريق الخير وأعانه عليه فقد لطف به، وإذا قيض الله له أسبابًا خارجية غير داخلة تحت قدرة العبد فيها صلاحه فقد لطف له؛ ولهذا لما تنقلت بيوسف عليه السلام تلك الأحوال، وتطورت به الأطوار من رؤياه، وحسد إخوته له، وسعيهم في إبعاده جدا، واختصامهم بأبيهم، ثم محنته بالنسوة، ثم بالسجن، ثم بالخروج منه؛ بسبب رؤيا الملك العظيمة، وانفراده بتعبيرها، وتبوءه من الأرض حيث يشاء، وحصول ما حصل على أبيه من الابتلاء، والامتحان، ثم حصل بعد ذلك الاجتماع السار وإزالة الأكدار، وصلاح حالة الجميع، والاجتباء العظيم ليوسف، عرف عليه السلام أن هذه الأشياء وغيرها لطفٌ لطف الله لهم به، فاعترف بهذه النعمة فقال: ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، أي: لطفه تعالى خاص لمن يشاء من عباده ممن يعلمه تعالى محلا لذلك وأهلاً له، فلا يضعه إلا في محله، الله أعلم حيث يضع فضله، فإذا رأيت الله تعالى قد يسر العبد لليسرى، وسهل له طريق الخير، وذلَّل له صعابه، وفتح له أبوابه، ونهج له طرقه، ومهد له أسبابه، وجنبه العسرى فقد لطف به.

-ومن لطفه بعباده المؤمنين أنه يتولاهم بلطفه فيخرجهم من الظلمات إلى النور من ظلمات الجهل، والكفر، والبدع، والمعاصي إلى نور العلم والإيمان والطاعة.

-ومن لطفه بعبده أن يقدر له أن يتربَّى في ولاية أهل الصلاح، والعلم، والإيمان وبين أهل الخير؛ ليكتسب من أدبهم، وتأديبهم، ولينشأ على صلاحهم وإصلاحهم، كما امتن الله على مريم في قوله تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا إلى آخر قصتها.

 ومن ذلك إذا نشأ بين أبوين صالحين وأقارب أتقياء، أو في بلد صلاح، أو وفقه الله لمقارنة أهل الخير وصحبتهم، أو لتربية العلماء الربانيين، فإن هذا من أعظم لطفه بعبده، فإن صلاح العبد موقوف على أسباب كثيرة، منها بل من أكثرها وأعظمها نفعًا هذه الحالة.

 ومن ذلك إذا نشأ العبد في بلد أهله على مذهب أهل السنة والجماعة، فإن هذا لطف له، وكذلك إذا قدر الله أن يكون مشايخه الذين يستفيد منهم الأحياء منهم والأموات أهل سنة وتقي، فإن هذا من اللطف الرباني.

-ومن لطف الله بعبده أن يجعل رزقه حلالًا في راحة وقناعة يحصل به المقصود، ولا يشغله عما خلق له من العبادة والعلم والعمل، بل يعينه على ذلك ويفرغه ويريح خاطره وأعضاءه؛ ولهذا من لطف الله تعالى لعبده أنه ربما طمحت نفسه لسبب من الأسباب الدنيوية، التي يظن فيها إدراك بغيته، فيعلم الله تعالى أنها تضره وتصده عما ينفعه فيحول بينه وبينها، فيظل العبد كارهًا، ولم يدر أن ربه قد لطف به حيث أبقى له الأمر النافع وصرف عنه الأمر الضار؛ ولهذا كان الرضا بالقضاء في مثل هذه الأشياء من أعلى المنازل.

-ومن لطف الله بعبده إذا قدر له طاعة جليلة لا تُنال إلا بأعوان، أن يقدر له أعوانًا عليها ومساعدين على حملها، قال موسى عليه السلام: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ،  وكذلك امتن على عيسى بقوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ .

وامتن على سيد الخلق في قوله {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} 3 وهذا لطف لعبده خارج عن قدرته.

-ومن لطف الله بعبده أن يعطي عبده من الأولاد، والأموال، والأزواج ما به تقرُّ عينه في الدنيا، ويحصل له السرور، ثم يبتليه ببعض ذلك ويأخذه، ويعوضه عليه الأجر العظيم إذا صبر واحتسب، فنعمة الله عليه بأخذه على هذا الوجه أعظم من نعمته عليه في وجوده وقضاء مجرد وطره الدنيوي منه، وهذا أيضًا خير وأجر خارج عن أحوال العبد بنفسه، بل هو لطف من الله له قيض له أسبابًا، أعاضه عليها الثواب الجزيل والأجر الجميل.

-ومن لطف الله بعبده أن يفتح له بابًا من أبواب الخير لم يكن له على بال، وليس ذلك لقلة رغبته فيه، وإنما هو غفلة منه وذهول عن ذلك الطريق، فلم يشعر إلا وقد وجد في قلبه الداعي إليه والملفت إليه، ففرح بذلك وعرف أنها من ألطاف سيده وطرقه التي قيض وصولها إليه، فصرف لها ضميره، ووجه إليها فِكْره، وأدرك منها ما شاء الله.اهـ المراد.