هنا سؤالان من بعض الطالبات وفقها الله:
أحدهما قوله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) هل هما وصف للملائكة أم اسمان؟
الثاني: وهل ثابت أنهما عن يمين الإنسان والآخر عن شماله، أحدهما يكتب الحسنات والآخر السيئات؟
الجواب:
أما تسمية الملَكين الموكَّلَيْن بكتابة الحسنات والسيئات بـ «رقيب، وعتيد» فهذا فهمه بعضهم من قوله تعالى: ﴿ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)﴾[ق].
ولكن هذا وصفٌ للملكين وليسا باسمَينِ، فالله سبحانه وتعالى وصف هذَيْنِ الملَكين بالحفظ والمراقبة، يكتبان أعمال العباد وأقوالهم.
قال ابن جرير في « تفسيره »(21/424): يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا يَلْفِظُ الْإِنْسَانُ مِنْ قَوْلٍ فَيَتَكَلَّمُ بِهِ، إِلَّا عِنْدَمَا يَلْفِظُ بِهِ مِنْ قَوْلٍ رَقِيبٌ عَتِيدٌ، يَعْنِي: حَافِظٌ يَحْفَظُهُ، عَتِيدٌ مُعَدٌّ.
وقال الحافظ ابن كثير في « تفسيره »(رقم الآية17-18من سورة ق): يعني: الملكين الذين يَكْتُبَانِ عَمَلَ الْإِنْسَانِ.
﴿ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ﴾ أَيْ: مُتَرَصِّدٌ، مَا يَلْفِظُ أَيِ: ابْنُ آدَمَ مِنْ قَوْلٍ. أَيْ: مَا يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ. أَيْ: إِلَّا وَلَهَا مَنْ يُرَاقِبُهَا مُعَدٌّ لِذَلِكَ يَكْتُبُهَا لَا يَتْرُكُ كَلِمَةً وَلَا حَرَكَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِرامًا كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾. اهـ.
وليس معناه أنه ليس هناك حفظة غير هذَين الملكَين، فقد قال سبحانه: ﴿ له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ﴾ [الرعد: 11].
وقال سبحانه: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)﴾[ الانفطار].
وأما الجواب عن سؤال: هل ثابت أنهما عن يمين الإنسان وشماله، أحدهما يكتب الحسنات والآخر السيئات؟
ظاهر الآية المتقدمة: ﴿ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) ﴾ أن أحدَ الملَكَين عن يمينه والآخر عن يساره.
قال الشنقيطي في « أضواء البيان »(7/426): وَالْمُتَلَقِّيَانِ هُمَا الْمَلَكَانِ اللَّذَانِ يَكْتُبَانِ أَعْمَالَ الْإِنْسَانِ، وقد دلت الآية الكريمة على أن مقعد أحدهما عن يمينه، ومقعد الآخر عن شماله اهـ المراد.
ولم يقل: قعيدان، وهما اثنان؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ عَنِ الْيَمِينِ قَعِيدٌ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ، فَحُذِفَ الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ، قال الشاعر:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وأنت بما عندك ... رَاضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: فَعِيلٌ وَفَعُولٌ مِمَّا يَسْتَوِي فيه الواحد والاثنان والجمع، كقوله تعالى: ﴿ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ ﴾، وَقَوْلِهِ: ﴿ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ﴾.
والمراد بالقعيد ها هنا: الْمُلَازِمُ الثَّابِتُ لَا ضِدَّ الْقَائِمِ.
يراجع/ « زاد المسير»(4/159)، و « تفسير القرطبي»(17/11).
وأما أن الذي يكتب الحسنات يكون عن يمين الإنسان، والذي يكتب السيئات يكون عن يساره.
فهذا قد دل عليه الدليل، فأحد الملكين الموكَّلَين بكتابة أعمال ابن آدم يكتب الحسنات، وهو الذي عن يمين الإنسان، والآخر عن شمال الإنسان وهو الذي يكتب السيئات:
عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، أَنَّ شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ، بَزَقَ فِي قِبْلَتِهِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ، أَوْ قَالَ الرَّجُلُ، فِي صَلَاتِهِ يُقْبِلُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ، فَلَا يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ فِي قِبْلَتِهِ، وَلَا يَبْزُقَنَّ عَنْ يَمِينِهِ، فَإِنَّ كَاتَبَ الْحَسَنَاتِ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ لِيَبْزُقْ عَنْ يَسَارِهِ». رواه محمد بن نصر المروزي في « تعظيم قدر الصلاة»( 122). وذكره الإمامان: الشيخ الألباني في «سلسلة الأحاديث الصحيحة»(1062)، والشيخ الوالد الوادعي في «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين»( 297).
قال ابن رجب في «جامع العلوم والحكم»(368): وقد أجمع السَّلفُ الصَّالحُ على أنَّ الذي عن يمينه يكتُبُ الحسناتِ، والذي عن شِماله يكتبُ السيئات. اهـ.
وقد يكون هناك إشكال مع ما تقدم، وهو حديث البصق في الصلاة عن اليسار دون اليمين، مع أن عن يساره ملكًا:
عن أبي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاةِ، فَلاَ يَبْصُقْ أَمَامَهُ، فَإِنَّمَا يُنَاجِي اللَّهَ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ، وَلا عَنْ يَمِينِهِ، فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ، فَيَدْفِنُهَا» رواه البخاري(416).
فقوله: « فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا » قال الحافظ في « فتح الباري» شرح الحديث المذكور: اسْتَشْكَلَ اخْتِصَاصُهُ بِالْمَنْعِ مَعَ أَنَّ عَنْ يَسَارِهِ مَلَكًا آخَرَ، وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِمَلَكِ الْيَمِينِ؛ تَشْرِيفًا لَهُ وَتَكْرِيمًا هَكَذَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُدَمَاءِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ.
وَأَجَابَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّ الصَّلَاةَ أُمُّ الْحَسَنَاتِ الْبَدَنِيَّةِ فَلَا دَخْلَ لِكَاتِبِ السَّيِّئَاتِ فِيهَا وَيشْهد لَهُ مَا رَوَاهُ بن أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مَوْقُوفًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: وَلَا عَنْ يَمِينِهِ فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ كَاتِبَ الْحَسَنَاتِ، وَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ يَقُومُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَمَلَكُهُ عَنْ يَمِينِهِ وَقَرِينُهُ عَنْ يَسَارِهِ.
قال الحافظ: فَالتَّفْلُ حِينَئِذٍ إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْقَرِينِ وَهُوَ الشَّيْطَانُ، وَلَعَلَّ مَلَكَ الْيَسَارِ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِحَيْثُ لَا يُصِيبهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ أَنَّهُ يَتَحَوَّلُ فِي الصَّلَاةِ إِلَى الْيَمِينِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقال القاري في «مرقاة المفاتيح»(2/600): يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ الَّتِي هِيَ عَلَامَةُ الرَّحْمَةِ، فَهُوَ أَشْرَفُ وَالتَّنْكِيرُ لِلتَّعْظِيمِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ مَلَكٌ آخَرُ غَيْرُ الْحَفَظَةِ يَحْضُرُ عِنْدَ الصَّلَاةِ لِلتَّأْيِيدِ وَالْإِلْهَامِ وَالتَّامَّيْنِ عَلَى دُعَائِهِ، فَسَبِيلُهُ سَبِيلُ الزَّائِرِ، فَيَجِبُ أَنْ يُكْرِمَ زَائِرَهُ فَوْقَ مَنْ يَحْفَظُهُ مِنَ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُخَصَّ صَاحِبُ الْيَمِينِ بِالْكَرَامَةِ. اهـ المراد.
ومما يدل على التفل عن اليسار:
عن عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي يَلْبِسُهَا عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ: خَنْزَبٌ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْهُ، وَاتْفِلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلَاثًا» قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللهُ عَنِّي. رواه مسلم (2203).
ونستفيد مما تقدم: الحذر من هفوات الأقوال ومعاصي الأفعال، فهذا مكتوب في صحائف الأعمال، وعند الله يكون الجزاءُ.