جديد المدونة

جديد الرسائل

الاثنين، 15 مارس 2021

(44)اختصار الدرس الرابع والأربعين من دروس التبيان في آداب حملة القرآن

 

 فِيْ آدَابِ الْقِرَاءةِ

حكم القراءة الجماعية بصوتٍ واحد

ذهب جمهور العلماء إلى الاستحباب وهو قول الإمام النووي، وذهب بعض أهل العلم إلى المنع من ذلك، وهذا قول الضحاك بن عرزب، والإمام مالك ، والطرطوشي في «حوادث البدع» (ص166) رحمهم الله.

وأيضًا ممن أنكر القراءة الجماعية بصوت واحد الشيخ الألباني رَحِمَهُ الله في «الثمر المستطاب»، وحكم على هذا الفعل بالبدعة؛ لأنه لم ينقل عنه عليه الصلاة والسلام، ولا عن أحد من الصحابة. وكذا قال تقي الدين الهلالي رَحِمَهُ الله في «الحسام الماحق لكل مشرك ومنافق» (100).

ومن أدلة المانعين:

-أن هذا لم يأتِ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ ولا عن الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم، وقد ورد آثارٌ عن بعض الصحابة لكن أسانيدها ضعيفة.

-عدم الإنصات للقارئ، وجهر بعضهم على بعض بالقرآن. وهذا منهي عنه؛ لحديث أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ، فَكَشَفَ السِّتْرَ، وَقَالَ: «أَلَا إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ، فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَا يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ»، أَوْ قَالَ: «فِي الصَّلَاةِ». رواه أبو داود (1332وهو في «الصحيح المسند» (419) لوالدي رَحِمَهُ الله.

وقد ذهب إلى جواز القراءة بصوت جماعي إذا كان لغرض التعليم الشيخ ابن عثيمين في «شرح الأربعين النووية» (ص401وقال: القراءة بصوت واحد على سبيل التعليم لا بأس به، كما يقرأ المعلم الآية، ثم يتبعه المتعلمون بصوت واحد.

وإن كان على سبيل التعبد فبدعة؛ لأن ذلك لم يؤثر عن الصحابة ولا عن التابعين.

وفي «فتاوى نور على الدرب» أفتى الشيخ ابن عثيمين بالجواز من غير قيد غرض التعليم إذا لم يتضمن محظورًا، ونصه: قراءة القرآن بصوت واحد من جماعة هذا جائز إذا لم يتضمن محظورًا.

 فمن المحظور: أن يحصل به تشويش على من حولهم فيمنع عن ذلك. واستدل بحديث أبي سعيد المذكور.

ومنها: أيضًا أي من المحاذير أن يتخذ هذا على سبيل الطرب وهز الظهور، وما أشبه ذلك مما يفعله بعض الناس أصحاب الطرق فهذا أيضًا يمنع منه.

ومنها أيضًا: أن يحصل به إعراض عن تلاوة الإنسان لنفسه. يعني: الذين يألفون هذه الطريقة حتى لا يستطيع المرء منهم أن يقرأ القرآن لنفسه فإن هذا محظور يجب تجنبه.

 فإذا سلم من هذه المحاذير فلا بأس به، وإذا كان الرجل إذا قرأ وحده صار أقرب إلى استحضاره وإلى تدبره كان ذلك أولى من القراءة للجمع. اهـ.

وقد كانوا عندنا في (دار الحديث بدماج)-أعاد ربي خيرَها ومكانتها-يلقِّنون الطلَّاب، ثم توقفوا زمنًا عنه. قال لنا والدي الشيخ مقبل رحمه الله: يقول الإخوان: بدعة.

ثمَّ تدارسُوا المسألة فيما بعدُ وعادوا للتلقين.

أما إذا كان القراءة بصوت جماعي للتلاوة وليس لغرض التعليم فهنا نقول: هذا لم يفعله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، والله أعلم.

◆◇◆◇◆◇

قراءة القرآن فرادى

يقرأ واحد والآخر يستمع، هذا مشروع.

ويدل له حديث عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَأْ عَلَيَّ» قَالَ: قُلْتُ: أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ قَالَ: «إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي» الحديث. رواه البخاري (5055ومسلم (800).

قال شيخ الإسلام رَحِمَهُ الله في «الفتاوى الكبرى» (5/344): قِرَاءَةُ وَاحِدٍ وَالْبَاقُونَ يَتَسَمَّعُونَ لَهُ لَا يُكْرَهُ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ، وَهِيَ الَّتِي كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهَا: كَأَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِ. اهـ.

وهذه إحدى طُرُق تعليم جبريل عليه الصلاة والسلام للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، روى البخاري (7524)، ومسلم (448) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ﴾ [القيامة: 16]، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ»-فَقَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكَ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُهُمَا، فَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ-فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ [القيامة: 17]، قَالَ: «جَمْعُهُ فِي صَدْرِكَ ثُمَّ تَقْرَؤُهُ»، ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة: 18] قَالَ: «فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ، قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَقْرَأَهُ».

وقال البخاري: بَابُ كَانَ جِبْرِيلُ يَعْرِضُ القُرْآنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم أخرج عَنْ فَاطِمَةَ رضي الله عنها معلَّقا، ورواه أيضًا موصولًا (3623ومسلم (2450) قالت: أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي بِالقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي العَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلاَ أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِي».

وأخرج البخاري (4997ومسلم (2308) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالخَيْرِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، لِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، حَتَّى يَنْسَلِخَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ».

وأخرجه أيضًا البخاري(6) بلفظ: «وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ».

قال الحافظ في «فتح الباري» آخر شرح حديث ابن عباس (4997): ظاهر قوله (يُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ) أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ يَقْرَأُ عَلَى الْآخَرِ، وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِقَوْلِهِ: (يُعَارِضُهُ) فَيَسْتَدْعِي ذَلِكَ زَمَانًا زَائِدًا عَلَى مَا لَوْ قَرَأَ الْوَاحِدُ. اهـ.

وقال الحافظ رحمه الله شرح تبويب البخاري: بَابٌ كَانَ جِبْرِيلُ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي: يقرأ، والمراد: يَسْتَعْرِضُهُ مَا أَقْرَأَهُ إِيَّاهُ.

ثم قال: وَالْمُعَارَضَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، كَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ تَارَةً يَقْرَأُ وَالْآخَرُ يَسْتَمِعُ. اهـ.

◆◇◆◇◆◇

 الْإِدَارَةُ بِالْقِرَاءَةِ

فسرها الإمام النووي رَحِمَهُ الله، وقال: (وَهِيَ أَنْ يَجْتَمِعَ جَمَاعَةُ يَقْرَأُ بَعْضُهُمْ عُشْرًا أَوْ جُزْءًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَسْكُتُ، وَيَقْرَأُ الْآخَرُ مِنْ حَيْثُ انْتَهَى الْأَوَّلُ ثُمَّ يَقْرَأُ الْآخَرُ)

 هذا لا مانع منه وإن كان قد كرهها بعضهم.

قال شيخ الإسلام رَحِمَهُ الله في «الفتاوى الكبرى» (5/344): وَقِرَاءَةُ الْإِدَارَةِ حَسَنَةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. اهـ المراد.

وإذا قرأ القارئ ثم أعاد الآخر ما قرأه هذا أيضًا ليس فيه شيء.

قال الشيخ منصور البهوتي رَحِمَهُ الله في «كشاف القناع عن متن الإقناع» (1/432): وَأَمَّا لَوْ أَعَادَ مَا قَرَأَهُ الْأَوَّلُ وَهَكَذَا فَلَا يَنْبَغِي الْكَرَاهَةُ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُدَارِسُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ. اهـ.

◆◇◆◇◆◇

رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ

جاءت الأدلة فيه مختلفة، فبعضها تدل على رفع الصوت بالقراءة، وبعضها فيها الحث على الإسرار.

فمن أدلة رفع الصوت بالقراءة:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعَتُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ، يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ، يَجْهَرُ بِهِ». رَوَاهُ البخاري (7544)، ومسلم (792).

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ». أخرجه البخاري (5048)، ومسلم (793)، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِك الْبَارِحَةَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ (793).

 وَعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ أَصْوَاتَ رُفْقَةِ الْأَشْعَرِيِّينَ بِاللَّيْلِ حِينَ يَدْخُلُونَ، وَأَعْرِفُ مَنَازِلَهُمْ مِنْ أَصْوَاتِهِمْ بِالْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ، وَإِنْ كُنْتُ لَمْ أَرَ مَنَازِلَهُمْ حِينَ نَزَلُوا بِالنَّهَار». رَوَاهُ البخاري (4232)، ومسلم (2499).

وعَنْ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَتْ: «كُنْتُ أَسْمَعُ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ وَأَنَا عَلَى عَرِيشِي». رواه ابن ماجه (1349وهو في «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين»(1655).

 ومن أدلة الإسرار بالقراءة:

عن عُقَبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعَتُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ، وَالْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ».

قال النووي في «التبيان»: أَمَّا الْآثَارُ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالَهِمْ، فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ تَذَكَرَ. وَهَذَا كُلُّهُ فَيمَنْ لَا يَخَافُ رِيَاءً وَلَا إِعْجَابًا وَلَا نَحْوَهُمَا مِنَ الْقَبَائِحِ، وَلَا يُؤْذِي جَمَاعَةً بِلَبْسِ صَلَاتِهِمْ، وَتَخْلِيطِهَا عَلَيهِمْ.

وَقَدْ نُقِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ اخْتِيَارُ الْإِخْفَاءِ؛ لِخَوْفِهِمْ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ.

فَعَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى إِبرَاهِيمَ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي المُصْحَفِ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيهِ رَجُلٌ فَغَطَّاهُ، وَقَالَ: لَا يَرى هَذَا أَنِّي كُنْتُ أَقْرأُ كُلَّ سَاعَةٍ. اهـ.

 وأيضًا مع ما ذكره الإمام النووي في رفع الصوت إذا كان يعينه على الخشوع، وعلى التركيز والنشاط، أو ينتفع بقراءته من يسمعها، فإن نفع القرآن عظيم، فربما إذا سمع القرآن يتأثر وينشط ويقوم إلى قراءة القرآن، أو يهتدي، فإن القرآن هدًى وموعظةٌ وشفاءٌ. قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾[ الإسراء: 9].

وجبير بن مطعم رضي الله عنه كان كافرًا، فسمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ في صلاة المغرب يقرأ سورة الطور، فتأثَّر ودخل الإيمان في قلبه، وقال: كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ. روى البخاري (4854) وفي رواية للبخاري (4023) «وَذَلِكَ أَوَّلَ مَا وَقَرَ الإِيمَانُ فِي قَلْبِي».

وأما إذا كان فيه تشويش على الآخرين، أو يخشى على نفسه من الرياء والعُجب فيسر؛ محافظة على عبادته وعلى نفسه، وعليه يُحمل قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: «الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ، وَالْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ».

وحمل أيضًا على هذا الإمام النووي رَحِمَهُ الله ما ثبت عَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى إِبرَاهِيمَ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي المُصْحَفِ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيهِ رَجُلٌ فَغَطَّاهُ، وَقَالَ: لَا يَرى هَذَا أَنِّي كُنْتُ أَقْرأُ كُلَّ سَاعَةٍ.

وقال ابن قدامة رَحِمَهُ الله في «مختصر منهاج القاصدين» (225) عن هذا الأثر وما في معناه عن بعض السلف: يحمل هذا على أنهم أحسوا من نفوسهم بنوع تزين فقطعوا. اهـ.

نسأل الله أن يرزقنا جميعًا الإخلاص.

أيضًا بالنسبة للمرأة إذا كان رفع الصوت بالقراءة يسمعه الرجال فتخفض؛ لأن الله يقول: ﴿ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)﴾ [الأحزابوالسلامة لا يُعادلها شيء.

◆◇◆◇◆◇

أيهما أفضل صدقة السر أم العلانية

عن عُقَبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعَتُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ، وَالْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ».

هذا الحديث ليس على إطلاقه في فضلِ صدقة السِّرِّ؛ فقد وردت أدلة فيها فضل صدقة العلانية، كقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً ﴾[البقرة: 274وقوله: ﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾[الرعد: 22].

وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى التفصيل في هذه المسألة: أن الإعلان بصدقة الفرض أفضل من الإخفاء، والسر بصدقة التطوع أفضل من الجهر بها، ونقل الطبري وغيره الإجماع على ذلك. ولم تصح دعوى الإجماع.

وذهب يزيد بن أبي حبيب إلى أن إخفاء الصدقة أفضل مطلقًا.

والصحيح: أن الأفضل هو السر في الصدقة للأدلة المتكاثرة في الحث على إخفاء الصدقة، كقوله تعالى: ﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾[البقرة: 271].

ولحديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله، وفي آخره: «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» رواه البخاري (1423 ومسلم (1031) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

ولأن إخفاءها أدعى للإخلاص والصيانة من أن يشوبها شيء، ولكن إذا كان في الجهر بها مصلحة، بحيث تنبعث الهمم وتقوى العزيمة إلى الصدقة، فهذا أفضل في هذا الحال؛ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي رواه مسلم(1017): «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ».

وقد ذهب إلى ذلك الشيخ ابن عثيمين في «شرح صحيح البخاري» (3/473).

ويُنْظر المسألة في: «فتح الباري» (3/ص353) للحافظ.