جديد الرسائل

الخميس، 23 يوليو 2020

(74)سِلْسِلَةُ التَّفْسِيْرِ


الدرس الخامس من دروس الحج من[سورة الحج (22)آية: 28 - 29]

وهو الدرس السادس عشر من دروس تفسير سورة الحج

﴿لَكُمْ فِيها مَنافِعُ﴾ قال ابن كثير: أَيْ لَكُمْ فِي الْبُدْنِ مَنَافِعُ مِنْ لَبَنِهَا وَصُوفِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا وَرُكُوبِهَا.

﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ أي أن منافع البُدن إلى وقت مقدر.

قال ابن عباس ومجاهد وعطاء وقتادة وجماعة آخرون أي: ما لم تسم هديًا، فإذا سُميت –أي:عُينت- هديًا ذهب ذلك كله.

وجاء عن عطاء بن أبي رباح في تفسير المنافع: هو ركوب البدن، وشرب لبنها إن احتاج.

وقال في الأجل المسمى: إلى أن تنحر،كما في تفسير ابن جرير(18/625).وقد ذكر ابن كثير هذا القول،وقال: وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ هَدْيًا إِذَا احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ.

وهذا القول هو القول الصواب أنه يجوز الانتفاع بالهدي عند الحاجة كما قال الله: ﴿لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾أي:في البُدن الهدي منافع عند الحاجة. وثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً قَالَ «ارْكَبْهَا» قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ –أي:هدي-. قَالَ «ارْكَبْهَا وَيْحَكَ» فِي الثَّانيَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ. وهذا مبين في حديث جابر الذي رواه مسلم عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ إِذَا ألجئت إليها».

وقد ذهب إلى هذا الشافعي وأحمد في رواية عنه واختاره ابن المنذر.

 ومن أهل العلم من قال: له ركوب الهدي من غير حاجة بحيث لا يضر بها، وهذا قول عروة بن الزبير ومالك في رواية عنه وأحمد وإسحاق وغيرهم واستدلوا بمطلق حديث أنس « أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً قَالَ «ارْكَبْهَا» الحديث. تراجع المسألة في «المغني» لابن قدامة (2717)، وشرح النووي على صحيح مسلم (9 / 74).

ومن المنافع: أنه يجوز شرب لبن الهدي لأن بقاءَه في الضرع يضر بها، فإن كان لها ولد فما فضل عن ولدها أي: زاد.

وأنه يجوز جزُّ صوفها إذا كان فيه مصلحة لها، مثل: أن يكون في زمن حر، فإنه يخفف عنها. إما إذا كان بقاؤه أنفع لها،( ككونه يقيها الحر أو البرد، أو كان لا يضر بها لقرب مدة الذبح لم يجز) ما بين القوسين من «حاشية الروض المربع»(4 / 234)لابن القاسم.

 ﴿ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ قال ابن كثير: أَيْ مَحِلُّ الْهَدْيِ وَانتِهَاؤُهُ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَهُوَ الْكَعْبَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿هَدْيًا بالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ وَقَالَ: ﴿وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾.

أي:ينتهي سَوق الهدي إلى البيت الحرام، والمراد مكة إذ ليس المراد إدخال الهدي الكعبة نفسها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فسخ الحج إلى عمرة:

وهو أن يحرم بالحج ثم يتحلل بعمرة.

وقد ذهب بعضُ أهل العلم إلى أنه  لا بد  من التحلل بعمرة على من لم يسق الهدي.

روى البخاري (4396)ومسلم(1244) ولفظه عند مسلم عن أَبي حَسَّانَ الْأَعْرَج، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْهُجَيْمِ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا هَذَا الْفُتْيَا الَّتِي قَدْ تَشَغَّفَتْ -أَيْ وَسْوَسَتْهُمْ وَفَرَّقَتْهُمْ، كَأَنَّهَا دَخلَت شَغَاف قُلوبهم كما في النهاية- أَوْ تَشَغَّبَتْ - بِالنَّاسِ، «أَنَّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ فَقَدْ حَلَّ»؟ فَقَالَ: «سُنَّةُ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ رَغِمْتُمْ».

ابن عباس رضي الله عنهما يرى أنه من حج مفردًا أو قارنًا ولم يسق الهدي فإنه يحل بعمرة، قال ابن قدامة في «المغني» مسألة (2499): وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرَى أَنَّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ، وَسَعَى، فَقَدْ حَلَّ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ. اهـ.

وأيد قول ابن عباس ابن القيم في «زاد المعاد» (2 / 173)،وقال:صَدَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ، كُلُّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ مِمَّنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ مِنْ مُفْرِدٍ أَوْ قَارِنٍ أَوْ مُتَمَتِّعٍ، فَقَدْ حَلَّ إِمَّا وُجُوبًا، وَإِمَّا حُكْمًا، هَذِهِ هِيَ السُّنَّةُ الَّتِي لَا رَادَّ لَهَا وَلَا مَدْفَعَ. ا ه.

هذا مذهب ابن عباس،لقوله: ﴿ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾،ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في حجة الوداع من كان مفردا أو قارنًا ولم يسق الهدي أن يفسخ الحج ويحوِّله إلى عمرة.

وذهب إلى وجوب فسخ الحج إلى عمرة لمن لم يسقِ الهدي  الشيخ الألباني والشيخ الوالد.

ومن أدلتهم:

قوله صلى الله عليه وسلم «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لِشَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ، ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالحَجِّ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، فَلْيَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ».رواه البخاري (1691) ومسلم (1227) عَنْ ابْنَ عُمَرَ.

عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، فَأَحْرَمْنَا بِالْحَجِّ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ: «اجْعَلُوا حِجَّتَكُمْ، عُمْرَةً» فَقَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَحْرَمْنَا بِالْحَجِّ، فَكَيْفَ نَجْعَلُهَا عُمْرَةً؟ قَالَ: «انْظُرُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ، فَافْعَلُوا» فَرَدُّوا عَلَيْهِ الْقَوْلَ، فَغَضِبَ فَانْطَلَقَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ غَضْبَانَ، فَرَأَتِ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَتْ: مَنْ أَغْضَبَكَ؟ أَغْضَبَهُ اللَّهُ قَالَ: «وَمَا لِي لَا أَغْضَبُ، وَأَنَا آمُرُ أَمْرًا، فَلَا أُتْبَعُ» رواه ابن ماجة(2982)،والحديث صحيح.

وعند جمهور الحنابلة أن هذا الأمر للاستحباب.

وقد قَالَ سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، كُلُّ شَيْءٍ مِنْك حَسَنٌ جَمِيلٌ، إلَّا خَلَّةً وَاحِدَةً. فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ تَقُولُ بِفَسْخِ الْحَجِّ. فَقَالَ أَحْمَدُ: قَدْ كُنْت أَرَى أَنَّ لَك عَقْلًا، عِنْدِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَدِيثًا صِحَاحًا جِيَادًا، كُلُّهَا فِي فَسْخِ الْحَجِّ، أَتْرُكُهَا لِقَوْلِك. «المغني»(3/360).

وعند أكثر أهل العلم لا يجوز فسخ الحج لأنه أحد النسكين، وقالوا عن الأدلة التي فيها فسخ الحج إلى عمرة قالوا: هذا خاص بالصحابة رضي الله عنهم.فقد روى مسلم (1224)عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: «كَانَتِ الْمُتْعَةُ فِي الْحَجِّ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً»،والأصل العموم.

أما من ساق الهدي معه فلا يحل له الفسخ،لحديث ابن عمر المتقدم،ولحديث حَفْصَةَ رضي الله عنهم، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ، وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قَالَ: «إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلاَ أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ» رواه البخاري (1566) ومسلم (1229).

 ونقل عدم الخلاف ابن قدامة في «المغني»مسألة (2499).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

س: أين أفضل حج التمتع أو القران أو الإفراد؟

ج: التمتع أفضل.فالتمتع أفضل الأنساك الثلاثة.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى أنه لم يسق الهدي ليتحلل بعمرة وقال:«لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلاَ أَنَّ مَعِي الهَدْيَ لَحَلَلْتُ»متفق عليه عن عائشة.ولأدلة كثيرة ساقها ابن القيم في زاد المعاد.

بعض الناس يرغب في الإفراد من أجل ما يكون عليه هدي لكن الله عزوجل يقول ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾. فينبغي التعليم والتوعية في هذا الجانب،وبيان أن أفضل مناسك الحج التمتع لأن الكثير يجهل هذا،والنبي صلى الله عليه وسلم تمنى أنه لم يسق الهدي ليحج متمتعًا.

بعض فوائد الآيتين من سورة الحج(32-33):

·    تعظيم شعائر الله، ومن هذه الشعائر: البدن قال الله: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ﴾ ومن الشعائر: الصفا والمروة قال الله:﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 158]، وسائر أعمال الحج داخلة في شعائر الله.

·    أن من علامة تقوى الإنسان تعظيم شعائر الله.

·     أن حقيقة التقوى في القلب،وكما روى مسلم (2564) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

·    الانتفاع بالهدي المسوق إلى الحرم عند الحاجة وهذا على أحد التفسيرين.

·    أن الهدي ينحر في الحرم لقوله سبحانه ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾إلا من أحصر ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾[البقرة: 196] فهذا يذبح هديه مكانه،كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما أحصر يوم الحديبية..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[سورة الحج (22) آية: 34 - 35]

﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى مَا أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35)﴾

﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً﴾ قال ابن كثير:يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ ذَبْحُ الْمَنَاسِكِ وَإِرَاقَةُ الدِّمَاءِ عَلَى اسْمِ اللَّهِ مَشْرُوعًا فِي جميع الملل.

﴿مَنْسَكاً﴾ فُسِّر المنسك بالعيد،وفسِّر بمكة، وفُسر بالذبح وهو إراقة الدماء، وهذا قول عكرمة ومجاهد وآخرين وهذا هو الأصل في المنسك أنه للذبح، كما قال الله:﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الأنعام: 163] ﴿ونسكي﴾ أي: ذبحي،وكما قال: ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾[البقرة: 196] أي: ذبيحة.

واستظهر أنه للذبح القرطبي في تفسير هذه الآية (12 / 58) واستدل بسياق الآية ﴿لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ﴾ أَيْ: عَلَى ذَبْحِ مَا رَزَقَهُمْ.

﴿فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا﴾ قال ابن كثير: أَيْ مَعْبُودُكُمْ وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ شَرَائِعُ الْأَنْبِيَاءِ وَنَسَخَ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَالْجَمِيعُ يَدْعُونَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ﴿وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: 25]

﴿فَلَهُ أَسْلِمُوا﴾ قال ابن كثير: أَيْ أَخْلِصُوا وَاسْتَسْلِمُوا لِحُكْمِهِ وَطَاعَتِهِ.

﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾ قال ابن كثير:أحسن بما يُفَسَّرُ بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾.

﴿الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ أَيْ خَافَتْ مِنْهُ قُلُوبُهُمْ.

﴿وَالصَّابِرِينَ عَلى مَا أَصابَهُمْ﴾ أَيْ مِنَ المصائب.

﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ﴾ أَيِ الْمُؤَدِّينَ حَقَّ اللَّهِ فِيمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَدَاءِ فَرَائِضِهِ.

﴿وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ أَيْ وَيُنْفِقُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ طَيِّبِ الرِّزْقِ عَلَى أهليهم وأرقائهم وفقرائهم ومحاويجهم، ويحسنون إلى الخلق مَعَ مُحَافَظَتِهِمْ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ.اهـ

من الفوائد:

·    أن إراقة الدماء على اسم الله ليس من خصائص هذه الأمة.

·    أن ذبائح القربان يكون من بهيمة الأنعام، ولهذا ربنا قيد البهيمة بالأنعام لأن البهيمة يدخل فيها الخيل والبغال والحمير فلهذا قيدها بالأنعام وهي الإبل والبقر والغنم.

·    دليل على وحدانية الله فمعبودنا ومعبود من قبلنا واحد وإن تنوعت شرائع الأنبياء ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾[المائدة: 48] فكلهم يدعون إلى عبادة الله وحده﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾[النحل:36].

·     وفيه التسمية عند الذبيحة وأنه لا يسمى غير الله.

·    وفيه البشارة بالخير، والبشارة بالخير مشروع ومحمود، ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يتسابقون في البشارة بالخير، كما تسابقوا في بشارة كعب بن مالك وصاحبيه بتوبة الله عنهم، وكما بشر أبو بكر عبد الله بن مسعود بثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليه.

·    أن المال الذي عند العبد من رزق الله، فينفق الإنسان مما رزقه الله ويسره.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

·    أوصاف المخبتين:

ü  الخوف من الله عند الذكر ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾[الأنفال:2] وقال:﴿وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾[الإسراء:109]،وقال:﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾[السجدة: 16] فقلْب المؤمن يتأثر بذكر الله ويقشعر جلده، ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾[الزمر:23].

ولكن إذا قست القلوب فإنه لا يؤثِّر فيها الذكر والقرآن والتذكير، كما قال ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)﴾[الحديد:16].

والأدلة التي فيها وجل قلب المؤمن عند ذكر الله، قد يشكل مع قول الله:﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾[الرعد:28] وقد ذكر الجمع بين ذلك الشنقيطي في «أضواء البيان» (5 / 259 )،وقال: هُوَ أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَكُونُ بِانْشِرَاحِ الصَّدْرِ بِمَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ، وَصِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - فَطُمَأْنِينَتُهُمْ بِذَلِكَ قَوِيَّةٌ ; لِأَنَّهَا لَمْ تَتَطَرَّقْهَا الشُّكُوكُ، وَلَا الشُّبَهُ، وَالْوَجَلُ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ بِسَبَبِ خَوْفِ الزَّيْغِ عَنِ الْهُدَى، وَعَدَمِ تَقَبُّلِ الْأَعْمَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ:﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾، وَقَالَ تَعَالَى:﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾،وَقَالَ تَعَالَى:﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾،وَلِهَذَا كَانَ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»اهـ.

ü  الوصف الثاني: الصبر على المصائب من مرض وموت وفقر وأذى وشدائد، وهذا كما قال الله عن لقمان في نصائحه لولده ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)﴾[لقمان:17]وقال:﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)﴾[البقرة:177] والصبر عبادة يحتاج إليه كل مؤمن ومؤمنة في الحياة كلها، والحياة الدنيا دارٌ مليئة بالمصائب والمكدرات والشدائد،﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)﴾[البلد:4]فإذا لم يوطِّن الإنسان نفسه على الصبر فإنه يتعب وقد يجزع ويسخط ولا يؤمن بقضاء الله وقدره حلوه ومره.

ü  الوصف الثالث: المقيمي الصلاة ذكر الله المقيمين ولم يقل: والمصلين. لأن المراد الإتيان بالصلاة على وجه تام،أما المصلون فكثير، بخلاف مقيمي الصلاة فهم قليل يؤدون الصلاة بخشوع وطمأنينة، ويؤدونها بأركانها ومستحباتها وفي أوقاتها.

ü  الوصف الرابع: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ الإنفاق في وجوه الخير، وهذا عام في النفقة الواجبة والنفقة المستحبة.

  فائدة:ذِكر المخبتين مع أن السياق في آيات الحج

قال أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط: نَاسَبَ تَبْشِيرُ مَنِ اتَّصَفَ بِالْإِخْبَاتِ هُنَا لِأَنَّ أَفْعَالَ الْحَجِّ مِنْ نَزْعِ الثِّيَابِ وَالتَّجَرُّدِ مِنَ الْمَخِيطِ وَكَشْفِ الرَّأْسِ وَالتَّرَدُّدِ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ الْغَبَرَةِ الْمُحَجَّرَةِ، وَالتَّلَبُّسُ بِأَفْعَالٍ شَاقَّةٍ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى مُؤْذِنٌ بِالِاسْتِسْلَامِ الْمَحْضِ وَالتَّوَاضُعِ الْمُفْرِطِ حَيْثُ يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ عَنْ مَأْلُوفِهِ إِلَى أَفْعَالٍ غَرِيبَةٍ، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُمْ بِالْإِخْبَاتِ وَالْوَجَلِ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ تَعَالَى وَالصَّبْرُ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْمَشَاقِّ وَإِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ فِي مَوَاضِعَ لَا يُقِيمُهَا إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ الْمُصْطَفَوْنَ وَالْإِنْفَاقُ مِمَّا رَزَقَهُمْ وَمِنْهَا الْهَدَايَا الَّتِي يُغَالُونَ فِيهَا.