بسم الله الرحمن
الرحيم
فوائد وفقه آيات
الصيام
*********************
الحمد لله رب العالمين والصلاة
والسلام على رسوله ونبيه الأمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد
أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد.
فإن الله سبحانه وتعالى شرع لعباده الصيام وبيَّن
لهم أحكامًا تخص الصيام، فينبغي لكل مسلم أن يتفقه في أحكام الصيام. وتعلم أحكام
الصيام فرضٌ عيني يشمله حديث «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» .
ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أن
جعل العبادات متنوعة فبعضها عبادة مالية، وبعضها عبادة بدنية، وبعضها مشتملة على
الأمرين معًا؛ اختبارًا للعباد. فبعض الناس العبادة البدنية خفيفة عليه وأما المال
فيثقله إخراجه ولو أدنى شيء منه، وبعض الناس العبادة المالية خفيفة عليه لكرمه وربما
لقدرته المالية لكنه يتثاقل العمل بالبدن. وقد اشتمل أركان الإسلام على الثلاثة
الأنواع، فالصلاة عبادة بدنية، والزكاة عبادة مالية، والحج عبادة بدنية وعبادة
مالية.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في
القرآن الكريم خمس آيات من سورة البقرة في أحكام الصيام ،واعتنى العلماء عناية
عظيمة بذلك فما من كتاب من كتب الفقه إلا وعقد للصوم وأحكامه كتابًا .
ونحن على أبواب رمضان عن قريب إن شاء الله ،ونسأل
الله عَزَّ وَجَلَّ أن يبلغنا صيامه وقيامه وأن يجعله مباركًا علينا.
وأردنا أن نستفيد ما تيسرمن هذه
الآيات الكريمات وفوائدها وفقهها .
وإن مما ينبغي لنا الفرح والسرور
بقدوم شهر رمضان لأنه شهرخير وبركة وشهر مغفرة وتوبة فالفرح به مشروع .قال تعالى {قُلْ
بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا
يَجْمَعُونَ (58)}.ونسأل الله التوفيق.
*********************
الآية الأولى:
يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:183].
يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾
الإيمان لغة: قال الأزهري في«تهذيب اللغة»(15/368)
(الْإِيمَان):هُوَ مصدر آمن يُؤمن إِيمَانًا؛ فَهُوَ مُؤمن.
وَاتفقَ أهل الْعلم من اللُّغويين وَغَيرهم أَن (الْإِيمَان)
مَعْنَاهُ: التَّصْديق .اهـ.
ومنه قوله تعالى في نبيه محمد صلى الله عليه وعلى
آله وسلم ﴿يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة:61]، وقوله عن
إخوة يوسف لأبيهم : ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾
[يوسف:17].
والإيمان شرعًا: نطق باللسان واعتقاد بالجنان وعمل
بالجوارح والأركان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
فائدة
لفظ الإيمان في القرآن
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» (1/165) تفسير قوله تعالى { الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ (3)}.
الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ :يُطْلَقُ عَلَى
التَّصْدِيقِ الْمَحْضِ .
وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْآنِ وَالْمُرَادُ
بِهِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}
[التَّوْبَةِ: 61] وَكَمَا قَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ لِأَبِيهِمْ {وَما أَنْتَ
بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ }
وَكَذَلِكَ إِذَا اسْتُعْمِلَ مقرونًا مع الأعمال (أي
يراد به التصديق )كقوله تعالى{ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ }[الشعراء:
227] فَأَمَّا إِذَا اسْتُعْمِلَ مُطْلَقًا ( أي غير مقرون بالأعمال )فَالْإِيمَانُ
الشَّرْعِيُّ الْمَطْلُوبُ لَا يَكُونُ إِلَّا اعْتِقَادًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا.
هَكَذَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ بَلْ قَدْ حَكَاهُ الشافعي وأحمد
بن حنبل وأبو عبيدة وَغَيْرُ وَاحِدٍ إِجْمَاعًا: أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ
وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ اهـ .
قلت: من أدلة إفراد الإيمان بالذكر ،قوله سبحانه:
﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ﴾ [البقرة:257]، وقوله سبحانه: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ
تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ
بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:256]،وقال سبحانه :{ وَعَلَى اللَّهِ
فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) }
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ﴾ كتب أي: فُرِضَ .
والكتابة نوعان:
كتابة شرعية دينية،ومنه قوله تعالى ﴿كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ وقوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿
كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء:23،24].
وكتابة كونية قدرية ومنه قوله تعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [المجادلة:21].
وقال: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا
عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء:105].
وصفة الكتابة صفة فعلية يكتب الله متى شاء، وفيما
شاء سبحانه. فالكتابة تتعلق بالإرادة والمشيئة.
والعلم يخدم بعضه بعضًا، العلم ميسر فقد تُحفظ
المسألة وترتسخ المعلومة في الذِّهْن من غير مشقة لتكرارها .وقبل أيام وهذه
المسائل تمر معنا ،وهذا من فضل الله عَزَّ وَجَلَّ، ومما يشجِّع أيضًا على تعلم
العلم لأنه ميسَّر قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ
مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر:17]. وليس معقَّدًا كعلم الكلام، علم الكلام فيه تعقيدات كثيرة
لأن مرجعه عقول البشر قال تعالى { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)}.حتى إنه قد يتراجع عن القول في اليوم الواحد عدة
مرات .
﴿ الصِّيَامُ﴾
الصِّيَامُ: لغة: الإمساك ،ويطلق على الإمساك عن
الكلام قال تعالى عن مريم عليها السلام: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ
الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ [مريم:26]. ويطلق على إمساك الريح عن الهبوب يقال: ريح
صائمة، وعلى إمساك الخيل كما قال الشاعر:
خَيلٌ صِيامٌ وَخَيلٌ غَيرُ صائِمَةٍ *** تَحتَ
العَجاجِ وَأُخرى تَعلُكُ اللُجُما
(العَجاجِ) الغبار، (تَعلُكُ) أي: تمضغُ.
إمساك الخيل: إمساكها عن المشي. إذا توقفت الخيل
عن المشي يقال: خيل صائمة. قال
الماوردي في الحاوي(3/394) تَقُولُ خَيْلٌ صِيَامٌ بِمَعْنَى وَاقِفَةٌ، قَدْ
أَمْسَكَتْ عَنِ السَّيْرِ ثم ذكر هذا البيت .
ويُقَالُ:
صَامَ النَّهَارُ. إذَا وَقَفَ سَيْرُ الشَّمْسِ.
الصيام شرعًا: الإمساك عن جميع المفطرات من
طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية التعبد لله.
﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾
اختلف العلماء في التشبيه على أقوال:
القول الأول: التشبيه عائد إلى الصوم، أي: أن صيام
رمضان كان واجبًا على من كان قبلنا.
القول الثاني: التشبيه يعود إلى وجوب الصوم لا إلى
قدره وكيفيته ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ أي: وجوب الصيام لا إلى وقته وكيفيته.
القول الثالث: التشبيه يعود إلى المنع عن الأكل والشرب والجماع لمن نام ،وعلى
هذا المعنى يكون منسوخًا في شرعنا؛ لأن هذا كان في أول الأمر ثم نسخ بقوله تعالى {أُحِلَّ
لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} الآية .وسيأتي إن شاء الله في الآية
الخامسة من هذه الآيات وقد ذكر هذا السيوطي في المنسوخ في القرآن في كتابه
«الإتقان في علوم القران» (3/77)
وقال:
قَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي الْمَنْسُوخِ مِنْ
عَدَدٍ *** وَأَدْخَلُــــوا فِيهِ آيًـــا
لَيْسَ تَنْحَصِــرُ
وَهَــــــاكَ تَحْـــرِيرَ آيٍ لَا مَزِيدَ لَهَا *** عِشْـــرِينَ
حَــرَّرَهَا الْحُـذَّاقُ وَالْكُبَرُ
آيُ التَّوَجُّهِ حَيْثُ الْمَـــرْءِ كَـــانَ
وَأَنْ *** يُوصِيَ لِأَهْلِيهِ عِنْدَ
الْمَوْتِ مُحْتَضِرُ
وَحُـــرْمَةُ الْأَكْلِ بَعْدَ النَّوْمِ مَعْ
رَفَثٍ *** وَفِـــــدْيَةٌ لِمُطِيـــقِ الصَّــوْمِ
مُشْتَهِرُ
(وَحُرْمَةُ الْأَكْلِ بَعْدَ النَّوْمِ مَعْ
رَفَثٍ) يشير إلى هذه الآية ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، والصحيح أنها ليست منسوخة؛لأن
التشبيه عائد إلى وجوب الصوم.قال ابن العربي في أحكام القرآن (1/108):وَالْمَقْطُوعُ
بِهِ أَنَّهُ التَّشْبِيهُ فِي الْفَرْضِيَّةِ خَاصَّةً؛ وَسَائِرُهُ مُحْتَمِلٌ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
التقوى لغة: عبارة عن اتخاذ حاجز يمنعك ويقيك عما
تخاف منه وتحذر ومنه قول النابغة:
سَقَطَ النَّصيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَهُ *** فتنــــاولتهُ
واتقتنــــا بـــاليـــــدِ
(النَّصيفُ) الخمار، سقط فوضعت يدها على وجهها
لتقيه ولتمنع رؤية الناس.
والتقوى شرعًا:عبارة عن امتثال أوامرالله واجتناب
نواهيه.
* من فوائد هذه الآية:
- وجوب صيام رمضان, وهذا أحد أركان الإسلام كما في
«الصحيحين» البخاري (8) ومسلم (16) واللفظ له، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُنِيَ
الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ،
وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ».
ولم يُفرض صيام رمضان إلا في السنة الثانية من
الهجرة فتوفي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ وقد صام
تسع رمضانات. وهذا من حكمة الشرع ويُسره فلم يفرض في أول الإسلام؛ لئلا يشقَّ على
الناس مما قد يؤدي إلى تنفير بعضهم عن الإسلام وعن محبته.
- وفيه التحدث عن الأمم المتقدمة ، وقد قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً،
وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ
مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» أخرجه البخاري (3461)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
والمراد بقوله (وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ) أي: فيما ثبت وليس المراد القصص التي لا يثبت إسنادها ،أوالتي ليس
لها أسانيد.
- وفيه الحكمة من شرعية صيام رمضان وهوتحقق تقوى
الله في المسلم الصائم ،وفي البخاري (1904) ومسلم (1151) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللَّهُ:
كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي
بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ
يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ
إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ».
(جُنَّةٌ) أي: وقاية عن النار ،ووقاية عن الذنوب
فإن الصيام يحفظ بإذن الله الجوارح ،ويحفظ القلب عن المعاصي،فالصيام عون على تقوى
الله عزوجل.
فينبغي للصائم أن يبتعدَ عن الذنوب ليتحقق فيه
تقوى الله عَزَّ وَجَلَّ.
وينبغي للصائم أن يُرى آثار الصيام عليه من الخشية
والتقوى والتواضع والمسابقة إلى الخير والبعد عن الحرام كالنميمة والغيبة والكذب والزور
والنفاق وغير ذلك؛ وهذا من آداب الصيام ،النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ يقول: «...وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ
يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ
إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ» كما تقدم.
الصيام نوعان:
الأول
صيام حسي: وهو الذي سبق تعريفه،وهوالإمساك عن جميع المفطرات من طلوع الفجر
إلى غروب الشمس بنية التعبد لله.
الثاني صيام معنوي: وهو صيام الجوارح عن المعاصي ،وصيام
الجوارح أشد وأشق من الصيام الحسي فمجاهدته أعظم ولهذا بعض الناس يكون صوَّامًا ،لكنه
لا يحبس لسانه ويحفظ لسانه، ولا يحفظ سمعه وبصره وسائر جوارحه ،ونسأل الله
الإعانة.
وفي «صحيح البخاري» (6057)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ وَالجَهْلَ ، فَلَيْسَ
لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» .
فالمعاصي تنقص أجر الصيام ،والمعاصي حرام للصائم
ولغير الصائم لكنها أوكد تحريمًا في حق الصائم ،فينبغي للصائم أن يحافظ على جهده وعبادته
حتى يكون أجره تامًّا بفضل الله عَزَّ وَجَلَّ،ثبت في «مسند أحمد» (8856) عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ
وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ».وهو في «الصحيح
المسند» (2/135) لوالدي رَحِمَهُ اللَّهُ.
(رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ
وَالْعَطَشُ) يعني: ليس له نصيب في الأجر إلا في الجوع والعطش؛ لأنه لم يُصَوِّمْ
جوارحه.
(وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ
السَّهَرُ) لنقص الإخلاص أو الخشوع ونحو ذلك والله أعلم.
وفي الحديث السابق (وَلاَ يَصْخَبْ) قال السندي في
حاشيته على سنن النسائي(4/164) :أَيْ لَا يرفع صَوته وَلَا يغْضب على أحد.اهـ.
والله عزوجل يقول {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ
وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)}.قال
القرطبي في تفسيره(14/72): فِي
الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَعْرِيفِ قُبْحِ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمُخَاطَبَةِ
وَالْمُلَاحَاةِ بِقُبْحِ أَصْوَاتِ
الْحَمِيرِ، لِأَنَّهَا عَالِيَةٌ.
وقال رحمه الله : وَهَذِهِ الْآيَةُ أَدَبٌ
مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِتَرْكِ الصِّيَاحِ فِي وُجُوهِ النَّاسِ تَهَاوُنًا بِهِمْ، أَوْ بِتَرْكِ الصِّيَاحِ جُمْلَةً،
وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَفْخَرُ بِجَهَارَةِ الصَّوْتِ الْجَهِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَشَدَّ صَوْتًا كَانَ أَعَزَّ، وَمَنْ كَانَ أَخْفَضَ
كَانَ أَذَلَّ، حَتَّى قَالَ شَاعِرُهُمْ:
جَهِيرُ الْكَلَامِ جَهِيرُ الْعُطَاسِ ...
جَهِيرُ الرُّوَاءِ جَهِيرُ النَّعَمْ
وَيَعْدُو عَلَى الْأَيْنَ عَدْوَى الظَّلِيمِ ...
وَيَعْلُو الرِّجَالَ بِخَلْقٍ عَمَمْ
فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ
هَذِهِ الْخُلُقِ الْجَاهِلِيَّةِ بِقَوْلِهِ:" إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ
لَصَوْتُ الْحَمِيرِ" أَيْ لَوْ أَنَّ شَيْئًا يُهَابُ لِصَوْتِهِ لَكَانَ
الْحِمَارُ، فَجَعَلَهُمْ فِي الْمِثْلِ سَوَاءً.اهـ.
استفدنا أن الصائم عليه أن يتحلى بتقوى الله وأن يصبر ويتحمَّل
المشاق والمكاره ويجاهد نفسه وشيطانه،ويجتنب الأخلاق الرذيلة ،ورفع الصوت والخصام
والمنازعة .
والنهي عنه عام للصائم ولغيره ،ولكنه آكد في حق
الصائم .وهذه الآداب تحتاج إلى مجاهدة عظيمة وما أحسن كلام ابن القيم :المكارم
منوطة بالمكاره .فالصائم يجب أن يشعر بمنزلة الصوم ومنزلة هذا الشهر العظيم لينتفع
ويحظى بالأجور والدرجات الرفيعة .
*********************
الآية الثانية:
يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ
فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا
فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:184]
﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾
أي: أن أيام رمضان معدودة قليلة،فرمضان ثلاثون
يومًا وقد يكون تسعةً وعشرين كما قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» - يَعْنِي: ثَلاَثِينَ -
ثُمَّ قَالَ: «وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» - يَعْنِي تِسْعًا وَعِشْرِينَ -
يَقُولُ: مَرَّةً ثَلاَثِينَ، وَمَرَّةً تِسْعًا وَعِشْرِينَ. أخرجه البخاري (5302)
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. (يَعْنِي تِسْعًا وَعِشْرِينَ) يعني:
قبض إحدى الأصابع حتى تكون تسعا وعشرين ،هذا قول أهل السنة والجماعة.
والمكارمة والرافضة عندهم شهر رمضان لا ينقص من
ثلاثين إلى تسعة وعشرين ،واستدلوا بما في «الصحيحين» البخاري (1912)
ومسلم (1089) عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «شَهْرَانِ لاَ يَنْقُصَانِ،
شَهْرَا عِيدٍ: رَمَضَانُ، وَذُو الحَجَّةِ».
وهذا قولٌ باطل ،ليس عليه تفسير السلف.
قال النووي رَحِمَهُ اللَّهُ في «شرح صحيح مسلم» (7/199):
قوله صلى الله عليه وسلم (شهرا عيد لَا يَنْقُصَانِ رَمَضَانُ وَذُو الْحِجَّةِ)
الْأَصَحُّ أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَنْقُصُ أَجْرُهُمَا وَالثَّوَابُ الْمُرَتَّبُ
عَلَيْهِمَا وَإِنْ نَقَصَ عَدَدُهُمَا ،وَقِيلَ مَعْنَاهُ :لَا يَنْقُصَانِ
جَمِيعًا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ غَالِبًا ،وَقِيلَ لَا يَنْقُصُ ثَوَابُ ذِي
الْحِجَّةِ عَنْ ثَوَابِ رَمَضَانَ لِأَنَّ فِيهِ الْمَنَاسِكَ حَكَاهُ
الْخَطَّابِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ ،وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ الْمُعْتَمَدُ . وَمَعْنَاهُ
أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا
وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ .وَقَوْلَهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا .وَغَيْرَ
ذَلِكَ فَكُلُّ هَذِهِ الْفَضَائِلِ تَحْصُلُ سَوَاءٌ تَمَّ عَدَدُ رَمَضَانَ أم
نقص والله أعلم. اهـ.
﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ
مَرِيضًا﴾
الْمَرَضُ: الخروج عن الاعتدال الخاصِّ بالإنسان.
اهـ. كما في «المفردات في غريب القرآن» (ص:765) للراغب الأصفهاني. يقال الأصفهاني والأصبهاني.
المرض قسمان: مرض معنوي ومرض حسي، المرض المعنوي:
كالعقيدة الشركية والعداوة والبغضاء والبغي والرياء والعجب والغرور والكِبْر والنفاق
والجهل والبخل. النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ يقول:
«وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْلِ؟»
أي: أيُّ مرض أشد من البخل لما سئل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ «مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلِمَةَ؟» قُلْنَا: جَدُّ
بْنُ قَيْسٍ، عَلَى أَنَّا نُبَخِّلُهُ، قَالَ: «وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ
الْبُخْلِ؟ بَلْ سَيِّدُكُمْ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ» أخرجه البخاري في «الأدب
المفرد» (296) وهو في «الصحيح المسند» (1/112)
لوالدي رَحِمَهُ اللَّهُ.
وقال الله عَزَّ وَجَلَّ في مرض النفاق ﴿فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾
[البقرة:10]. أي: شك ونفاق. وقال سبحانه في مرض الشهوة : ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ
فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ [الأحزاب:32]. أي: مرض شهوة .
ومن الأمراض: محبة الفتن والاندفاع إليها نسأل
الله العافية.
الثاني المرض الحسي: وهو مرض الجسم ،وأهل العلم
يعدُّون المرض المعنوي أشد من المرض الحسي، لأن المرض المعنوي يتعلق بالدين فيضعفه
وقد يسلبه من صاحبه والعياذ بالله فالذنوب هَلَكة وإذا تراكمت قد تؤدي إلى الردة
والعياذ بالله وقد قيل: «الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ».وقد يُخذل تخذله ذنوبه ،بخلاف
المرض الحسي،وهو مرض البدن قد يجد له شفاءً وقد يكون غاية ما في الأمر الموت،ثم قد
يكون الابتلاء خيرًا للعبد والله أعلم وأحكم .
فعلينا أن نحذر من الأمراض المعنوية فإنها تمرض
القلب وتفسده وقد تميته والعياذ بالله قال تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا
لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ
مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام:122].
ومن الأدعية النبوية الجامعة ما ثبت عن قطبة بن مالك رضي الله عنه كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَدْعُو بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ: «اللَّهُمَّ جَنِّبْنِي مُنْكَرَاتِ
الْأَخْلَاقِ، وَالْأَهْوَاءِ، وَالْأَدْوَاءِ».
رواه الترمذي (3591) وابن أبي عاصم في السنة (13)
،والحاكم في المستدرك(1949) والطبراني في «المعجم الكبير» (19/19)، وذكره والدي
رحمه الله في «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين» (1084)
(الْأَخْلَاقِ) منها الحسنة ومنها المنكرة، (وَالْأَعْمَالِ)
السيئة، (وَالْأَهْوَاءِ) أي الأهواء الفاسدة كهوى النفس للبدع والفُرقة
والعقيدة الباطلة والمحرمات. (وَالْأدْوَاءِ)
يشمل الدَّاءين الحسي والمعنوي.
(أَوْعَلَى سَفَرٍ)قال ابن العربي المالكي رحمه الله في أحكام
القرآن(1/116): السَّفَرُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ الِانْكِشَافِ
وَالْخُرُوجِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ؛ وَهُوَ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ
خُرُوجٍ يَتَكَلَّفُ فِيهِ مُؤْنَةً، وَيَفْصِلُ فِيهِ بُعْدٌ فِي الْمَسَافَةِ .اهـ.
* من فوائد الآية:
1-
الحث على استغلال شهر رمضان لأن أيامه معدودة قليلة ، ووهوشهر توبة ومغفرة، شهر كريم .، موسم عبادة
فقوله ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ يدل على أن أيام رمضان قليلة ،وأيام رمضان تنتهي
بسرعة ،تنتهي في طرفة عين ،فينبغي استغلاله والمحافظة على أوقاته وقد كان النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ يكثر من العبادة في شهر رمضان
كما في «الصحيحين» البخاري (6) ومسلم (2308) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا،
قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ
النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ،
وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ،
فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ
الرِّيحِ المُرْسَلَةِ».
(أَجْوَدَ النَّاسِ) أي: أحسن الناس، وأحسن ما
يكون النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ في رمضان ،وهذا
من شمائل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ اتصافه
بالصفات الحميدة وإكثاره من الأعمال الصالحة والمكارم لاسيما في شهر رمضان ، فهذا
الشهر شهر جُود وكرم، شهر مسابقة إلى الخير وشهر إقبال على الله لا شهر فراغ وبِطالة ونزهة وأكل وشرب ونوم وضياع .
ينبغي أن تعلو فيه الهمم ،وأن يستغل في الخير لأنه
فرصة وشهر غنيمة وموسم من مواسم الخير.
2- جواز الإفطار في شهر رمضان للمريض.
حدُّ المرض الذي يبيح الفطر
جمهور
العلماء قالوا في حد المرض: هو الذي يخشى أن يزيد مرضه أو يتباطأ برؤه - أي: شفاؤه
- أو يتضرر من الصيام.
قال البغوي في تفسيره(1/218): وَاخْتَلَفُوا
فِي الْمَرَضِ الَّذِي يُبِيحُ الْفِطْرَ، فَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إِلَى أَنَّ
مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَرَضِ يُبِيحُ الْفِطْرَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ
سِيرِينَ، قَالَ طَرِيفُ بْنُ تَمَّامٍ الْعُطَارِدِيُّ: دَخَلْتُ عَلَى مُحَمَّدِ
بْنِ سِيرِينَ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ يَأْكُلُ فَقَالَ: إِنَّهُ وُجِعَتْ أُصْبُعِي هَذِهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ
وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: هُوَ الْمَرَضُ الَّذِي يجوز به الصَّلَاةُ
قَاعِدًا، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ مَرَضٌ يُخَافُ مَعَهُ مِنَ
الصَّوْمِ زِيَادَةُ عِلَّةٍ غَيْرِ مُحْتَمَلَةٍ، وَفِي الْجُمْلَةِ أَنَّهُ
إِذَا أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ أَفْطَرَ، وَإِنْ لَمْ يُجْهِدْهُ فَهُوَ كَالصَّحِيحِ
.اهـ.
وفي تفسير ابن عطية (1/251):وقال جمهور من العلماء: إذا كان به مرض يؤذيه
ويؤلمه أو يخاف تماديه أو يخاف من الصوم تزيده صح له الفطر، وهذا مذهب حُذَّاق
أصحاب مالك رحمه الله، وبه يناظرون .اهـ.
وقد جاء عن مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ
قَالَ :اعتللت بنيسابور عِلّة خَفِيفَة وَذَلِكَ فِي شهر رَمَضَان فعادني إِسْحَاق
بن رَاهَوَيْه فِي نفر من أَصْحَابه فَقَالَ لي أفطرت يَا أَبَا عبد الله فَقلت
نعم فَقَالَ خشيت أَن تضعف عَن قبُول الرُّخْصَة فَقلت أَنا عَبْدَانِ عَن ابْن
الْمُبَارك عَن ابْن جريج قَالَ قلت لعطاء من أَي الْمَرَض أفطر فَقَالَ من أَي
مرض كَانَ .كَمَا قَالَ الله عز وَجل {فَمَنْ كَانَ مِنْكُم مَرِيضا} [البقرة:
184]قَالَ البُخَارِيّ لم يكن هَذَا عِنْد إِسْحَاق. أخرجه ابن العربي في أحكام
القرآن (1/110)،والحافظ ابن حجرفي تغليق التعليق(5/417) .
وظاهر أثر البخاري أنه يرى الفطر من المرض من دون
القيود التي ذكرها الجمهور.
وتحصَّل في المسألة أقوال:
قول الظاهرية: أنه عام في كل مرض ولو كان في إصبعه
جرح .
قول إبراهيم النخعي :هو المرض الذي يجوز لصاحبه أن
يصلي قاعدًا.
قول الجمهور:إذا خشي من تمادي مرضه أو زيادته أو
في الصيام مشقة عليه .
وهذا هو الصواب لأن الله عزوجل ذكر التيسير بعد أن
ذكر الفطر للمسافر والمريض فقال :{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ
بِكُمُ الْعُسْرَ}.
وينظر فتح الباري (4505).
الذي يخشى من المرض إذا صام
له أن يفطر لعموم أدلة التيسير .
3- يلحق بالمريض المرأة المرضع والحامل فيباح لهما
الفطر سواء خافتا على أنفسهما أو على ولديهما.
وثبت من حديثٍ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الكعبي- وليس
بخادم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم -عند أبي داود في «سننه» (2408) قَالَ:
أَغَارَتْ عَلَيْنَا خَيْلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَانْتَهَيْتُ، أَوْ قَالَ: فَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَأْكُلُ، فَقَالَ: «اجْلِسْ فَأَصِبْ مِنْ طَعَامِنَا
هَذَا»، فَقُلْتُ: إِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: «اجْلِسْ أُحَدِّثْكَ عَنِ الصَّلَاةِ،
وَعَنِ الصِّيَامِ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ شَطْرَ الصَّلَاةِ، أَوْ نِصْفَ
الصَّلَاةِ وَالصَّوْمَ عَنِ الْمُسَافِرِ، وَعَنِ الْمُرْضِعِ، أَوِ الْحُبْلَى»،
وَاللَّهِ لَقَدْ قَالَهُمَا جَمِيعًا أَوْ أَحَدَهُمَا، قَالَ: فَتَلَهَّفَتْ
نَفْسِي أَنْ لَا أَكُونَ أَكَلْتُ مِنْ طَعَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهو في «الصحيح المسند» (1/59) لوالدي رَحِمَهُ اللَّهُ.
(إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ...)قال ابن قدامة في
المغني(3/150): الْمُرَادُ بِوَضْعِ الصَّوْمِ وَضْعُهُ فِي مُدَّةِ عُذْرِهِمَا .
(فَتَلَهَّفَتْ نَفْسِي) أَيْ تَأَسَّفَتْ كما في
عون المعبود(7/34).
وهذا الحديث فيه دليل على أن المرضع والحامل ليس
عليهما فدية بحال. فقد اقْتَضَى ظَاهِرُ هَذَا الْخَبَرِ، أَنَّ أَحْكَامَ
الصَّوْمِ مَوْضُوعَةٌ مِنْ كَفَّارَةٍ، وَقَضَاءٍ إِلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ
مِنْ وُجُوبِ الْقَضَاءِ . يراجع:الحاوي(3/437)للماوردي.
وقد عزاهذا القول ابن المنذر في الإشراف على مذاهب
العلماء(3/151) إلى الحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح، والضحاك، والنخعي، والزهري،
وربيعة، والأوزاعي، وأصحاب الرأي قالوا: يفطران ويقضيان ولا طعام عليهما بمنزلة
المريض يفطر ويقضي، وبه قال أبو عبيد، وأبو ثور، وحكى ذلك أبو عبيد عن الثوري
.واختاره ابن المنذر.
وذهب إلى أن الحامل والمرضع تفطران وتقضيان ولا
فدية عليهما سواء أفطرتا خوفا على أنفسهما أو ولديهما الوالد الشيخ مقبل الوادعي
رحمه الله .
وقال الشافعي، وأحمد: تفطران، وتطعمان وتقضيان،
وروى ذلك عن مجاهد.
وفرَّقت طائفة: بين الحبلى والمرضع، فقالت في
الحبلى: هي بمنزلة المريض تفطر وتقضي، ولا إطعام عليها، والمرضع تفطر، وتطعم،
وتقضي، هذا قول مالك.اهـ.
وفي ظاهر كلام ابن قدامة في المغني (2080)
أنه ليس هناك خلاف في المرضع والحامل إذا خافتا على أنفسهما أنهما بمنزلة
المريض وليس عليهما إلا القضاء فحسب ونصُّ
كلامه رحمه الله : الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ، إذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا،
فَلَهُمَا الْفِطْرُ، وَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ فَحَسْبُ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ
بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ اخْتِلَافًا؛ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ
الْخَائِفِ عَلَى نَفْسِهِ.اهـ.
4- الإفطار للمسافر .
بعض أحكام الصيام للمسافر
1-يجوز لمن أقام في بلده ودخل عليه
شهر رمضان وهو مقيم ثم خرج مسافرًا
يجوز له أن يفطر، وعلى هذا جمهور العلماء.
وهناك قول
لبعضهم: أن من استهل عليه رمضان وهو مقيم
لا يجوز له أن يفطر إذا سافر لقوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة:185].قالوا هذا دليل أن من صام بعض رمضان وهو مقيم ليس
له إذا سافر أن يفطر .
وقد ذهب إلى هذا القول عَبيدة بن عمرو السلماني
وسويد بن غفلة وأبومجلز .
والدليل على الجواز قوله تعالى {فَمَنْ كَانَ
مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. وروى
البخاري (4276) ومسلم (1113) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «خَرَجَ فِي رَمَضَانَ مِنَ
المَدِينَةِ وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلاَفٍ، وَذَلِكَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِ سِنِينَ
وَنِصْفٍ مِنْ مَقْدَمِهِ المَدِينَةَ، فَسَارَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ
المُسْلِمِينَ إِلَى مَكَّةَ، يَصُومُ وَيَصُومُونَ، حَتَّى بَلَغَ الكَدِيدَ،
وَهُوَ مَاءٌ بَيْنَ عُسْفَانَ، وَقُدَيْدٍ أَفْطَرَ وَأَفْطَرُوا».
كديد :قال القاضي عياض في مشارق الأنوار(1/351): مَا
بَين قديد وَعُسْفَان على اثْنَيْنِ وَأَرْبَعين ميلًا من مَكَّة.اهـ.
وحديث ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا في
غزوة الفتح وقد أدرك النبي صلى الله عليه
وعلى آله وسلم رمضان وهو بالمدينة وخرج على عشر خلون من رمضان فلما بلغ الكديد
أفطر . وبوب على هذا الحديث الإمام البخاري في صحيحه (4/229)باب إذا صام أيامًا من
رمضان ثم سافر.
مراجع للمسألة:الإشراف على مذاهب العلماء
(3/145)وتفسير ابن كثيرتفسير ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة:185].
وفتح الباري (1944).
3- من كان مقيما في بلده ثم سافر يجوز له الفطر في أثناء الطريق في
يومه ذلك الذي خرج فيه لقوله
تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ﴾ [البقرة:184].
وهذا قول أحمد وإسحاق واختاره المزني .كما في فتح
الباري (1944).
واختاره ابن المنذر في الإشراف(3/144).
وجمهور العلماء على المنع، قالوا: الرخصة للمسافر
في الفطر إذا كان صومه في السفر،فمثلًا عند الجمهور خرج يوم الاثنين من بلده
مسافرًا لا يجوز له أن يفطرفي أثناء يوم الاثنين .قال النووي رحمه الله في شرح
صحيح مسلم (7/231):وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ الْفِطْرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِمَنْ طَلَعَ
عَلَيْهِ الْفَجْرُ فِي السَّفَرِ، وَاسْتِدْلَالُ هَذَا الْقَائِلِ –أي المجيز
للإفطارفي هذا الحال-بِهَذَا الْحَدِيثِ-حديث ابن عباس في غزوة الفتح- مِنَ
الْعَجَائِبِ الْغَرِيبَةِ لِأَنَّ الْكَدِيدَ وَكُرَاعَ الْغَمِيمِ عَلَى سَبْعِ
مَرَاحِلَ أَوْ أَكْثَرَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
4-يجوز للمسافر الذي أصبح صائما أن
يفطر في أثناء الطريق كما
فعل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ فقد روى البخاري (4276) ومسلم (1113)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «خَرَجَ فِي رَمَضَانَ مِنَ المَدِينَةِ وَمَعَهُ عَشَرَةُ
آلاَفٍ، وَذَلِكَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِ سِنِينَ وَنِصْفٍ مِنْ مَقْدَمِهِ
المَدِينَةَ، فَسَارَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ إِلَى مَكَّةَ، يَصُومُ
وَيَصُومُونَ، حَتَّى بَلَغَ الكَدِيدَ، وَهُوَ مَاءٌ بَيْنَ عُسْفَانَ،
وَقُدَيْدٍ أَفْطَرَ وَأَفْطَرُوا».
كديد :قال القاضي عياض في مشارق الأنوار(1/351): مَا
بَين قديد وَعُسْفَان على اثْنَيْنِ وَأَرْبَعين ميلًا من مَكَّة.اهـ.
ونقل
البغوي في تفسيره (1/219) الاتفاق على ذلك وقال:أَمَّا الْمُسَافِرُ إِذَا
أَصْبَحَ صَائِمًا فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ بِالِاتِّفَاقِ .اهـ.
5- للمسافر أن يفطر في بيته قبل أن
يخرج من بلده إذا تأهَّب للسفر وتحرك للخروج
،والدليل ما ثبت في «سنن الترمذي» (799) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّهُ قَالَ:
أَتَيْتُ أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ يُرِيدُ سَفَرًا، وَقَدْ
رُحِلَتْ لَهُ رَاحِلَتُهُ، وَلَبِسَ ثِيَابَ السَّفَرِ، فَدَعَا بِطَعَامٍ
فَأَكَلَ، فَقُلْتُ لَهُ: سُنَّةٌ؟ قَالَ: «سُنَّةٌ» ثُمَّ رَكِبَ. وهو في «الصحيح
المسند» (1/30) لوالدي رَحِمَهُ اللَّهُ.
قال الترمذي عقب الحديث : وَقَدْ
ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ إِلَى هَذَا الحَدِيثِ، وَقَالُوا: لِلْمُسَافِرِ
أَنْ يُفْطِرَ فِي بَيْتِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ
الصَّلَاةَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ جِدَارِ المَدِينَةِ أَوِ القَرْيَةِ، وَهُوَ
قَوْلُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الحَنْظَلِيِّ .اهـ.
و فعله أنس بن مالك رضي الله عنه،وعُزي إلى الحسن
البصري قال الحسن البصري: يفطر إن شاء في بيته يوم يريد أن يخرج كما في الإشراف
على مذاهب العلماء لابن المنذر(3/144).وهو قول الألباني وله رسالة بعنوان(تصحيح
حديث إفطار الصائم قبل سفره بعد الفجر) ردًّا على رجل حبشي في تضعيفه لهذا
الحديث ، وقول الوالد رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
وجمهور العلماء على المنع من باب أولى؛ لأنه مقيم
ما قد سافر ولكن حديث أنس دليل على ذلك؛ وقلنا إن الجمهور يمنعون من باب أولى لأنهم
يمنعون من صام في بلده ثم سافر أن يفطر في ذلك اليوم الذي سافر فيه.
استفدنا أن الجمهور يمنعون من الإفطار لمن أصبح
صائما في بلده سواء كان قبل الشروع في السفر أو بعد الشروع في السفر،وأن الصواب
الجواز ،كما أنه أيضًا عند الجمهور من خرج قبل طلوع الفجرجاز له أن يفطرفي نفس ذلك
اليوم .
6-حكم تبييت نية الإفطار للمسافر من
بلده
قال ابن عبدالبر رحمه الله في التمهيد(22/49): وَاتَّفَقَ
الْفُقَهَاءُ فِي الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ
يُبَيِّتَ الْفِطْرَ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يَكُونُ مُسَافِرًا بِالنِّيَّةِ
وَإِنَّمَا يَكُونُ مُسَافِرًا بِالْعَمَلِ وَالنُّهُوضِ فِي سَفَرِهِ .اهـ.
7- المسافر له أن
يفطر بكل مفطر حتى الجماع إذا أراد أن يفطر بالجماع له ذلك.
قال الشيخ ابن باز في مجموع الفتاوى (15/308) المريض
والمسافر يباح لهما الفطر بالجماع وغيره، كما قال الله سبحانه: {فَمَنْ كَانَ
مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وحكم المرأة في هذا حكم الرجل .اهـ المراد.
ويراجع: فتح الباري(4/231).
8- الذي يباح له الفطر في نهار
رمضان إذا زال عذره من مرض أو سفر أو حائض طهرت في أثناء اليوم ونحو ذلك.
للعلماء
قولان أحدهما: يُمسك وهذا قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد في رواية عنه وآخرين.
ومنهم من
قال: لا يلزمه أن يُمسك وهذا قول مالك والشافعي وأحمد في رواية عنه وآخرين، وَرُوِيَ
ذَلِكَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ:
مَنْ أَكَلَ أَوَّلَ النَّهَارِ فَلْيَأْكُلْ آخِرَهُ. وَلِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ
فِطْرُ أَوَّلِ النَّهَارِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَإِذَا أَفْطَرَ كَانَ لَهُ أَنْ
يَسْتَدِيمَهُ إلَى آخِرِ النَّهَارِ، كَمَا لَوْ دَامَ الْعُذْرُ ذكره ابن قدامة
في المغني (2073).
وأثر ابن مسعود أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف(9343)
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ، قَالَ: قَالَ
عَبْدُ اللَّهِ: «مَنْ أَكَلَ أَوَّلَ النَّهَارِ فَلْيَأْكُلْ آخِرَهُ». وهذا
إسناد رجاله ثقات ،ابن محيريز عبدالله لكني لم أر له رواية عن عبدالله بن مسعود في
تهذيب الكمال(16/107) في أثناء شيوخه الذين روى عنهم فيخشى من الانقطاع .
9-حكم الجماع للمفطر إذا زال عذره
في أثناء النهار
هذا ينبني على ما تقدم وهو أنه لا يلزمه الإمساك
بقية اليوم فمن كان هو وزوجته رجعا من سفر أو صحَّا من مرض أو جاء من سفر وهي قد
طهرت من حيضتها فالجماع مباحٌ لهما؛ لأنه لا يلزم الإمساك في بقية اليوم.
10-حكم إفطارمن كان سفره سفر معصية
ظاهر عموم قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا
أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] أنه يفطر .
وقد ذهب إلى العموم أبوحنيفة عزاه إليه ابن
حزم،وهوقول ابن حزم في المحلى(762)واستدل بالآية ثم قال : فَعَمّ
تَعَالَى الْأَسْفَارَ كُلَّهَا وَلَمْ يَخُصَّ سَفَرًا مِنْ سَفَرٍ {وَمَا كَانَ
رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] . إلا أنه على مذهبه يقول بوجوب الفطرللمسافر
وليس رخصة .
وهو قول الوالد الشيخ مقبل .
وجمهور العلماء على منع الفطر لِلْمُسَافِرِ
فِي مَعْصِيَةٍ ;قالوا لِأَنَّ التَّرْخِيصَ لَهُ في الفطروَالتَّخْفِيفَ عَلَيْهِ
إِعَانَةٌ لَهُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ .
11- اختلف العلماء في الفطر
للمسافرأهو أفضل أم الصيام؟.
جمهور العلماءمالك والشافعي وأبوحنيفة على أن
الصوم أفضل لِمَنْ أَطَاقَهُ بِلَا مَشَقَّةٍ ظَاهِرَةٍ وَلَا
ضَرَرَ فَإِنْ تَضَرَّرَ بِهِ فَالْفِطْرُ أَفْضَلُ، وَاحْتَجُّوا بِصَوْمِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ
وَغَيْرِهِمَا وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَلِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ
بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فِي الْحَالِ .
ومنهم من ذهب إلى أن الفطر أفضل مطلقًا وهذا قول
أحمد وإسحاق لحديث جابر المتفق عليه «لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصَّوْمُ فِي
السَّفَرِ». وعملًا بالرخصة .
والصواب قول الجمهور لأن النبي صلى الله عليه وعلى
آله وسلم صام في السفر ،ولما فيه من المبادرة إلى الخير، ولأن النفس تنشط مع
الصائمين ،ولأن التأخير له آفات كالمرض والموت ونحو ذلك.
يراجع المغني (2095) وشرح صحيح مسلم (7/229)للنووي
.
ومن فوائد الآية
5-وجوب القضاء على المريض والمسافر إذا أفطرا ،وفي
الآية إضمار عند جمهور العلماء ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ تقديره إذا أفطر.
و ذهب بعضهم إلى أن الصوم لا يصح من المسافر ،وهذا
قول ابن حزم في المحلى (762). ومن أدلتهم حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْا، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ،
فَقَالَ: «مَا هَذَا؟»، فَقَالُوا: صَائِمٌ، فَقَالَ: «لَيْسَ مِنَ البِرِّ
الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ» أخرجه البخاري (1946)
واللفظ له، ومسلم (1115).
ولما في صحيح مسلم (1114) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَامَ
الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ،
فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ، حَتَّى نَظَرَ
النَّاسُ إِلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ، فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ
النَّاسِ قَدْ صَامَ، فَقَالَ: «أُولَئِكَ الْعُصَاةُ، أُولَئِكَ الْعُصَاةُ».
وهو قول ترده الأدلة فقد ثبت عن النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أنه صام في السفركما تقدم من حديث ابن
عباس في غزوة الفتح . وثبت في «صحيح مسلم»
(1116) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ:
«غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسِتَّ عَشْرَةَ
مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، فَلَمْ
يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ».
(فَلَمْ يَعِبِ) لم ينكر.وهذا يدل على فساد هذا القول
:لا يصح الصوم من المسافر.
وقد أجاب
النووي عن حديث الزجر عن الصيام في السفر .قال رحمه الله في شرح صحيح مسلم(7/232):
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ تَضَرَّرَ بِالصَّوْمِ أَوْ أَنَّهُمْ أُمِرُوا
بِالْفِطْرِ أَمْرًا جَازِمًا لِمَصْلَحَةِ بيان جوازه فَخَالَفُوا
الْوَاجِبَ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَكُونُ الصَّائِمُ الْيَوْمَ فِي
السَّفَرِ عَاصِيًا إِذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ وَيُؤَيِّدُ التَّأْوِيلَ
الْأَوَّلَ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ
عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ .اهـ.
6- فيه دليل على جواز تأخير القضاء؛ لأنه سبحانه
لم يذكرالفورية بل أطلق فقال:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
وأخرج البخاري(1950)ومسلم (1146) عن عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا، تَقُولُ: «كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا
أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلَّا فِي شَعْبَانَ».
قال الحافظ في «فتح الباري» (4/241) ظَاهِرُ صَنِيعِ
الْبُخَارِيِّ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّرَاخِي وَالتَّفْرِيقِ لِمَا أَوْدَعَهُ فِي
التَّرْجَمَةِ مِنَ الْآثَارِ كَعَادَتِهِ وَهُوَ قَول الْجُمْهُور.اهـ.
فجميع أيام السنة وقتٌ للقضاء.
والمبادرة إلى القضاء لا شك أنه أفضل لقوله تعالى
{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} ،وتجنُّبا لآفات التأخير.
بعض مسائل القضاء
1-حكم تأخير قضاء رمضان حتى يأتي
رمضان آخر
لا يجوز تأخير قضاء رمضان حتى يأتي رمضان آخر.
ولهذا أم المؤمنين عائشة كانت تصوم القضاء في شعبان
ولا تؤخره .أخرج البخاري (1950) ومسلم (1146) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا، تَقُولُ: «كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا
أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلَّا فِي شَعْبَانَ».
ومن الأدلة أيضًا:أنه لا يجوز تأخيرصلاة الفريضة
إلى أن يدخل وقت الفريضة الأخرى لغيرعذرٍ ،فكذلك الصيام .
2-من أخر قضاء رمضان حتى دخل رمضان آخر ما الذي يلزمه؟.
من أخَّر القضاء لغير عذرحتى دخل رمضان آخر كان
آثمًا وعليه التوبة والاستغفار والقضاء.روى مسلم في «صحيحه» (1148)عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، فَقَالَ: «أَرَأَيْتِ
لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتِ تَقْضِينَهُ؟» قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: «فَدَيْنُ
اللهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ».
واختلف أهل العلم هل عليه إطعام عن كل يومٍ
مسكينًا على قولين:
أحدهما: قول الجمهور عليه فدية استدلالًا ببعض
الآثار عن الصحابة .
الثاني: ليس عليه فدية لأنه ليس فيه من الأدلة
الثابتة ما يلزمه . قال البخاري رحمه الله في أثناء ترجمة حديث (1950) وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ:
" إِذَا فَرَّطَ حَتَّى جَاءَ رَمَضَانُ آخَرُ يَصُومُهُمَا، وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ
طَعَامًا ،وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُرْسَلًا وَابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّهُ
يُطْعِمُ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ الإِطْعَامَ، إِنَّمَا قَالَ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ} [البقرة: 184] ".اهـ.
وعزاه الحافظ رحمه الله في «فتح الباري»(4/242)
إلى أبي حنيفة وأصحابه .
وهذا
هوالذي استفدناه من والدي الشيخ مقبل رحمه الله أنه لا يلزمه فدية .
وهو قول الشيخ ابن عثيمين في «الشرح الممتع»
(6/446) قال رحمه الله :الصحيح في هذه المسألة، أنه لا يلزمه أكثر من الصيام الذي فاته
إلا أنه يأثم بالتأخير.
3-الذي يموت وعليه قضاء
- من مات وعليه قضاء إن كان لم يتمكن من القضاء إما لضيق الوقت أولعذر ،توفي في السفر ،أو لم يصح من مرضه، أو لم تطهر
من نفاسها أو حيضتها .فمن مات قبل أن يزول عذرُه فليس على أوليائه القضاء؛ لأنه مات
ولازال في أثناء العذر والمعذور لا يطالب بالقضاء في أثناء عذره وعلى هذا أكثر
العلماء.
أما من زال
عذره ،تمكن من القضاء ثم مات فهذا فيه أقوال لأهل العلم. 1-منهم من يقول: من قدر
على قضاء الصوم ولم يقضِ فإنه لا يُقضى عنه بحال ،إذ لا يصوم أحد عن أحد .قال
تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الإسراء:15]. وقال تعالى:
﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ﴾ [الأنعام:164].
واستدلوا أيضًا بما أخرج النسائي في الكبرى(2930)
من طريق حَجَّاجٍ الْأَحْوَل، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى، عَنْ
عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَا يُصَلِّي أَحَدٌ
عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَكِنْ يُطْعِمُ عَنْهُ مَكَانَ
كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ». حجاج ابن حجاج الباهلي البصري الأحول
،ثقة .
أَيُّوبُ
بْنُ مُوسَى ، المكي الأموي ثقة .وهذا
أثرصحيح.
وجاء أيضًا نحوه عن عائشة قَالُوا: فَلَمَّا أَفْتَى ابْنُ عَبَّاسٍ
وَعَائِشَةُ بِخِلَافِ مَا رَوَيَاهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى
خِلَافِ مَا رَوَيَاهُ. وقد رد هذا الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار(4/280)
وقال : وَالْحَقُّ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَا رَوَاهُ الصَّحَابِيُّ لَا بِمَا
رَآهُ .اهـ.
وهذا قول
مالك وآخرين.
وعزاه ابن عبدالبر في التمهيد(20/27) إلى الجمهور
وقال : وَكَذَلِكَ جُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ
لَا فِي نَذْرٍ وَلَا فِي غَيْرِ نَذْرٍ وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ مَالِكٌ
وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ .اهـ.
ونص ابن القيم في تهذيب السنن(7/27) أنه
ظَاهِرُ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَذْهَب مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه
.اهـ.
2-ومن أهل
العلم من قال: يُصام عنه قضاء النذر دون الفرض الأصلي لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا في
«صحيح البخاري» (1953): قَالَتِ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَقْضِيهِ
عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى».
وهذا قول أحمد والليث وأبي عبيد وآخرين من أهل
العلم, واختاره ابن القيم في تهذيب السنن (7/27).
وقالوا حديث عائشة مطلق وحديث ابن عباس مقيد فيحمل المطلق على المقيد
فيحمل حديث عائشة على صيام النذر.
3-ومن أهل العلم من قال يُقضى عنه في قضاء النذر
وقضاء رمضان ،وهذا قول أبي ثوروأحمد في رواية عنه وهو أحد قولَي الشافعي وآخرين لما
رواه البخاري (1952) ومسلم (1147) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ
صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ».
وهذا
القول هو الصواب سواء كان صيام نذر أو قضاء من رمضان لأنه لم يخص صيامًا دون صيام .
فحديث عائشة على عمومه ،وحديث ابن عباس من باب
التنصيص على بعض أفراد العام .
مراجع للمسألة:التمهيد(9/27) وتهذيب السنن
(7/25)،وفتح الباري(1953)،ونيل الأوطار(4/280).
4-حكم صيام غير الولي عن الميت
استُدل بحديث تشبيه القضاء بالدين في قوله صلى
الله عليه وعلى آله وسلم« فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» على أنه يصح أن
يصوم الأجنبي عن الميت لأن قضاءالدين لا يختص بالقريب وقد ذكرالمسألة الحافظ في فتح الباري (4/247)وقال:
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ
يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْوَلِيِّ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النِّيَابَةِ فِي
الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ
فِي الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ فِي الْمَوْتِ إِلَّا مَا وَرَدَ فِيهِ الدَّلِيلُ
فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَا وَرَدَ فِيهِ وَيَبْقَى الْبَاقِي عَلَى الْأَصْلِ وَهَذَا
هُوَ الرَّاجِحُ.
وَقِيلَ :يَخْتَصُّ
بِالْوَلِيِّ فَلَوْ أَمَرَ أَجْنَبِيًّا بِأَنْ يَصُومَ عَنْهُ أَجْزَأَ كَمَا
فِي الْحَجِّ وَقِيلَ: يَصِحُّ اسْتِقْلَالُ الْأَجْنَبِيِّ بِذَلِكَ وَذَكَرَ
الْوَلِيَّ لِكَوْنِهِ الْغَالِبَ .
وَظَاهِرُ صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ اخْتِيَارُ هَذَا
الْأَخِيرِ وَبِهِ جَزَمَ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَقَوَّاهُ بِتَشْبِيهِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِالدَّيْنِ، وَالدَّيْنُ لَا يخْتَص
بالقريب.اهـ.
قلت: من حيث الجواز يجوز للأجنبي للحجة التي ذكرها
الطبري ولكن الحق على قريب الميت آكد من الأجنبي .
وقد توفي رجل وعليه صوم فأرادت زوجة ولده أن تصوم
عنه فسألت الوالد رحمه الله .
فأجاب: في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها
يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم :
<من مات وعليه صوم صام عنه وليه>.
والولي هنا القريب كولده وأخيه، وهؤلاء هم
المقدمون، فإن لم يجدوا فلا بأس أن تصوم عنه.اهـ كلام والدي رحمه الله.
5- حكم قضاءِ جماعةٍ
الصيامَ عن الميت في يوم واحد على عدد الأيام
أخرج البخاري معلقًا في تبويب حديث (1952)وقال: وَقَالَ
الحَسَنُ: إِنْ صَامَ عَنْهُ ثَلاَثُونَ رَجُلًا يَوْمًا وَاحِدًا جَازَ .
قال الحافظ في فتح الباري (4/246):هَذَا الْأَثَرُ
وَصَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِ الذَّبْحِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ وَهُوَ الضُّبَعِيُّ عَنْ أَشْعَثَ
عَنِ الْحَسَنِ ..
قال الحافظ : قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ
الْمُهَذَّبِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَمْ أَرَ فِيهَا نَقْلًا فِي الْمَذْهَبِ
وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ الْإِجْزَاءُ، قُلْتُ لَكِنَّ الْجَوَازَ مُقَيَّدٌ
بِصَوْمٍ لَمْ يَجِبْ فِيهِ التَّتَابُعُ لِفَقْدِ التَّتَابُعِ فِي الصُّورَةِ
الْمَذْكُورَةِ.اهـ.
وقال الشيخ ابن عثيمين في مجموع الفتاوى (20/244):يجوز
أن يصوم عنه جماعة بعدد الأيام التي عليه في يوم واحد.اهـ.
6-الذي يفطر في رمضان متعمدًا لغير عذر
القضاء جاء فيمن أفطر لعذر قال تعالى:﴿فَمَنْ كَانَ
مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة:184].
قال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى(5/377): وَلَا
يَقْضِي مُتَعَمِّدٌ بِلَا عُذْرٍ صَوْمًا وَلَا صَلَاةً وَلَا تَصِحُّ مِنْهُ.
وَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ أَمَرَ الْمُجَامِعَ فِي رَمَضَانَ بِالْقَضَاءِ
فَضَعِيفٌ لِعُدُولِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْهُ .اهـ.
وهذا الذي استفدنا من والدي رحمه الله أن من أفطر في
رمضان من غير عذرٍ أنه لا يقضي .
واستظهره الشيخ
الألباني رحمه الله في تمام المنة(ص: 425)
قال:وهو مذهب ابن حزم و رواه عن أبى بكر الصديق وعمر
بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي هريرة . فراجع "المحلى" 6 /
180 - 185.
واستثنى الشيخ
الألباني رحمه الله المجامع في نهار رمضان واستدل بأمر النبي صلى الله عليه وعلى
آله وسلم المجامع في نهار رمضان بالصيام لثبوت ذلك عنده .قال: فقضاء المجامع من تمام
كفارته فلا يلحق به غيره من المفطرين عمدًا ويبقى كلام الشيخ-أي شيخ الإسلام- في غيره
سليما.اهـ.
7- من كانت أعذارها متصلة بعض السنين بسبب وضع أو حمل
بعض النساء أعذارها متصلة سنين إما أن تكون مرضعًا،
وإما أن تكون حاملًا، والصيام يشق عليها. هذه تتأنى حتى يتيسر لها القضاء، وليس
عليها فدية. وقد قال بعض أهل العلم :عليها فدية ولكن ليس هناك دليل يلزمها بهذا.
ومن فوائد الآية
7- أنه لا يلزم التتابع في القضاء؛ لأن الله لم
يقل متتابعات وهذا قول الجمهور.
ومن أهل
العلم من قال: عليه التتابع في قضاء رمضان؛ لأن القضاء يحكي الأداء. والصحيح قول الجمهور.
أما وجوب التتابع في شهر رمضان فإن الصيام فيه وقته
محدود بخلاف القضاء فوقته موسع .قال الحافظ ابن كثير في تفسيره(1/512)بعد أن عزى
إلى الجمهور أنه لا يجب التتابع .قال: وَعَلَيْهِ
ثَبَتَتِ الدَّلَائِلُ لِأَنَّ التَّتَابُعَ إِنَّمَا وَجَبَ فِي الشَّهْرِ
لِضَرُورَةِ أَدَائِهِ فِي الشَّهْرِ، فَأَمَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ رَمَضَانَ،
فَالْمُرَادُ صِيَامُ أَيَّامٍ عِدَّةَ مَا أَفْطَرَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.اهـ.
ولكن ينبغي له أن يصوم القضاء متتابعًا مسابقة إلى
الخير قال تعالى:﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [البقرة:148].
قال الحافظ في «فتح الباري»: لا يختلف المجيزون
للتفريق أن التتابع أولى .
والله
أعلم.
8-وقوله سبحانه﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾
هذا منسوخ فقد ثبت في البخاري (4507)
ومسلم (1145) عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ، قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ﴾ [البقرة:184] كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ،
حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا». وإليه يشير السيوطي
في البيت السابق: (وَفِـــــدْيَةٌ لِمُطِيـــقِ الصَّــوْمِ مُشْتَهِرُ)
وهذا قول جمهور أهل العلم.
ويرى جمهور العلماء أن الشيخ الكبير الذي لا يطيق
الصوم يفطر وعليه
الفدية ،وهو قول ابن عباس .أخرج البخاري(4505)من طريق عَطَاءٍ، سَمِعَ
ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقْرَأُ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ هُوَ الشَّيْخُ
الكَبِيرُ، وَالمَرْأَةُ الكَبِيرَةُ لاَ يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا،
فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا».
(يُطَوَّقُونَهُ)يكلَّفونه .
قال الحافظ في فتح الباري(4505):أما على
قِرَاءَة ابن عَبَّاسٍ فَلَا نَسْخَ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْفِدْيَةَ عَلَى مَنْ
تَكَلَّفَ الصَّوْمَ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَيُفْطِرُ وَيُكَفِّرُ وَهَذَا
الْحُكْمُ بَاقٍ .اهـ.
وهذا اختيار البخاري فقد قال في آخر ترجمة له (4505)«وَأَمَّا
الشَّيْخُ الكَبِيرُ إِذَا لَمْ يُطِقِ الصِّيَامَ فَقَدْ أَطْعَمَ أَنَسٌ بَعْدَ
مَا كَبِرَ عَامًا أَوْ عَامَيْنِ، كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، خُبْزًا وَلَحْمًا،
وَأَفْطَرَ».
وفعله أنس بن مالك .ثبت في «مسند أبي يعلى» (4194)
عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ قَالَ: «ضَعُفَ أَنَسٌ عَنِ الصَّوْمِ
فَصَنَعَ جَفْنَةً مِنْ ثَرِيدٍ فَدَعَا بِثَلَاثِينَ مِسْكِينًا فَأَطْعَمَهُمْ».
(الثريد) هو الخبز مع اللحم . كما قال الشاعر:
إِذَا مَا الْخُبْزُ تَأْدِمُهُ بِلَحْمٍ *** فَذَاكَ
أَمَانَةَ اللَّهِ الثَّرِيدُ
وهو قول والدي رحمه الله أنه عليه فدية.
القول الثاني: أنه لا يلزمه فدية وهذا قول مالك
أنه لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛
لِأَنَّهُ تَرَكَ الصَّوْمَ لِعَجْزِهِ، فَلَمْ تَجِبْ فِدْيَةٌ، كَمَا لَوْ
تَرَكَهُ لِمَرَضٍ اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ.
والذي تطمئن إليه النفس أن الشيخ الكبير والمرأة
الكبيرة إذا شق عليهما الصيام فأفطرا عليهما فدية لقراءة ابن عباس {وَعَلَى
الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}. وهي ثابتة في صحيح البخاري
كما تقدم والله أعلم .
المريض الذي لا يرجى سلامته من مرضه
المريض الزَّمِن الذي طال مرضه ولا يرجى برؤه عند
جمهور العلماء أنه إذا أفطرعليه فدية؛ لأنه ملحق بكبير السن العاجز .
فإن أفدى ثم شفاه الله فعليه القضاء لحديث «فَدَيْنُ
اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» في «صحيح البخاري» (1953)
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وهذا قول الوالد الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله .
وكان رحمه الله يقول :كيف يفعل المريض الذي لا
يرجى برؤه إذا أطعم ثم شفاه الله ؟.
ثم يجيب
:عليه القضاء ،وإن كان قد أطعم .
{فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}
إذا أُفرِد المسكين فيدخل فيه الفقير،وإذا أُفرد
الفقيرفيدخل فيه المسكين .
أما إذا اجتمع الفقير والمسكين
فذهب بعضهم إلى أن المسكين أخف حالًا من الفقير
لأن :
المسكين عنده شيء لكنه لا يكفيه .لقوله تعالى{أَمَّا
السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79]
فَسَمَّاهُمْ مَسَاكِينَ مَعَ أَنَّ لَهُمْ سَفِينَةً يَعْمَلُونَ فِيهَا .
والفقير:هو الذي لاشيء له . وهذا قول الجمهور .
وذهب بعضهم إلى أن المسكين أشد من الفقير لأن :
المسكين :هو الذي لا شيء له . قال تعالى:{أَوْ
مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16].
والفقير :هو الذي عنده شيء لا يكفيه .
وهذا قول أبي حنيفة .
وهو قول والدي رحمه الله . وقال والدي رحمه الله عن قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ
لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79] .
:هذا يحمل على أنهم كانوا مستأجرين لها.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَصْحَابُ مَالِكٍ:
إنَّهُمَا سَوَاءٌ.
يراجع:فتح
الباري (1478) ،ونيل الأوطار(4/188).
﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ
خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾
قال ابن العربي في أحكام القرآن (1/114):فِيهِ
قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا مَنْ زَادَ عَلَى طَعَامِ مِسْكِينٍ، وَقِيلَ: مَنْ صَامَ؛
وَهَذَا ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ
لَكُمْ} [البقرة: 184] مَعْنَاهُ الصَّوْمُ خَيْرٌ مِنْ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ،
وَخَيْرٌ مِنْ الْإِطْعَامِ.اهـ.
(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)قال ابن عطية في تفسيره (1/253)هذايقتضي الحض
على الصوم أي فاعلموا ذلك وصوموا.
والله أعلم.
بسم الله الرحمن
الرحيم
فوائد وفقه آيات
الصيام
الدرس الثاني
*********************
الآية الثالثة:
قال سبحانه: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة:185].
قوله: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾
الشَّهْرُ: الْهِلَالُ، سُمِّى
بِهِ لِشُهْرَتِهِ وظُهُوره. كما في «النهاية» (2/512)
لابن الأثير. أي أن الهلال واضح لا يخفى على أحد.
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾
رمضان قيل سمي بذلك؛ لأنه يرمض
الذنوب أي: يحرقها .
وَ في«مقاييس اللغة» (2/440)ذَكَرَ
قَوْمٌ أَنَّ رَمَضَانَ اشْتِقَاقُهُ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ ; لِأَنَّهُمْ لَمَّا
نَقَلُوا اسْمَ الشُّهُورِ عَنِ اللُّغَةِ الْقَدِيمَةِ سَمَّوْهَا
بِالْأَزْمِنَةِ، فَوَافَقَ رَمَضَانُ أَيَّامَ رَمَضِ الْحَرِّ.
ثم ذكر ابن فارس أن رمضان يُجْمَعُ عَلَى
رَمَضَانَاتٍ وَأَرْمِضَاءُ.
قول شهر رمضان ورمضان
من غير إضافة
في هذه الآية يقول ربنا سبحانه
{ شَهْرُ رَمَضَانَ }.
فيقال: شهر رمضان، ويقال: رمضان
كلاهما جائز. وقد بوب الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الصيام بَابٌ: «هَلْ يُقَالُ
رَمَضَانُ أَوْ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَمَنْ رَأَى كُلَّهُ وَاسِعًا».
وقد جاءت الأدلة بهذا وبهذا،
ففي هذه الآية الكريمة ﴿شَهْرُ
رَمَضَانَ﴾ ،وجاء في بعضها بلفظ رمضان كحديث أَبِي
هُرَيْرَةَ عند البخاري (37)، ومسلم (759)
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَامَ
رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
وفي «صحيح مسلم» (1079) من حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ،
أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ
فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ
الشَّيَاطِينُ».
أما ما جاء أن النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيهِ وَسلَّمَ قَال: «لاَ تَقُولُوا رَمَضَانَ فَإِنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ
مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ قُولُوا شَهْرُ رَمَضَانَ» فهذا الحديث
منكر رواه ابن عدي في «الكامل» (8/313) عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .وفيه
أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن السندي ضعيف.
﴿الَّذِي أُنْزِلَ
فِيهِ الْقُرْآنُ﴾
والقرآن في الشرع: كلام الله
تعالى المنزل على رسوله وخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم، المبدوء بسورة
الفاتحة، المختوم بسورة الناس. قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ
تَنْزِيلاً﴾ [الانسان:23] وقال: ﴿إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف:2]. كما ذكر هذا الشيخ ابن عثيمين رَحِمَهُ اللَّهُ في
«أصول في التفسير» (ص:6).
قال البغوي في «تفسيره »(1/216): سُمِّيَ
الْقُرْآنُ قُرْآنًا لِأَنَّهُ يَجْمَعُ السُّوَرَ وَالْآيَ وَالْحُرُوفَ،
وَجُمِعَ فِيهِ الْقَصَصُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ.
* من فوائد الآية
الكريمة:
-
فضل شهر رمضان؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اختصه بالصيام فيه، واختصه بنزول
القرآن الكريم فيه ،واختصه بفضائل وبركات كثيرة. وفي «الصحيحين» البخاري (38)،
ومسلم (760) عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِهِ». فصوم شهر رمضان إيمانًا واحتسابًا من مكفرات الذنوب.
وفي «صحيح مسلم» (233)عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يَقُولُ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ
إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ».
فشهر رمضان شهر التوبة والمغفرة. ومن لم يوفَّق للتوبة ولمغفرة ذنوبه في شهر رمضان
فقدخسر ؛ لأن شهر رمضان موسم خير ولهذا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يقول: «رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ،
وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ
يُغْفَرَ لَهُ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الكِبَرَ
فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الجَنَّةَ». أخرجه الترمذي (3545) من حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ,
وهو في «الصحيح المسند» (2/104) لوالدي رَحِمَهُ اللَّهُ.
(رَغِمَ أَنْفُ) أي: التصقت أنفه بالتراب.
صيام شهر رمضان من أسباب دخول
الجنة فقد ثبت من حديث أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ
الوَدَاعِ فَقَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا
شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ
تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ».أخرجه الترمذي (616)
وهو في «الصحيح المسند» (1/257) لوالدي رَحِمَهُ اللَّهُ.
صيام شهر رمضان مع صيام ثلاثة
أيام من كل شهر صوم الدهر كما جاء عند الإمام أحمد في «مسنده» (7577)
أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: «صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ، وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ
شَهْرٍ، صَوْمُ الدَّهْرِ» وهو في «الصحيح المسند» (1/125)
لوالدي رَحِمَهُ اللَّهُ.
(صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ) شهر
رمضان يقال له شهر الصبر؛ لاحتياج الصائم إلى الصبر في الامتناع عن الشهوات
والمحرمات، يحتاج إلى صبر إلى المحافظة على صومه من نقص الأجر ومن البطلان.
(صَوْمُ الدَّهْرِ) يعني صوم
سنة كاملة؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها فقد يطلق الدهر والمراد به عام واحد ،ومنه حديث
أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عند مسلم (1164)
أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَامَ
رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ».
ومن حكمة الله سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أن جعل الأزمنة تتفاوت في الفضل فبعضها أفضل من بعض تشجيعًا للعباد على
المبادرة إلى الخير. ومن هذه الأزمنة المباركة شهر رمضان ،ومنها ليلة القدر قال
الله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر:1]، السورة إلى آخرها. ليلة القدر خير من ألف شهر،وهذا
من فضل الله قيام ليلة القدر أفضل من ألف شهر. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره(7/572)
: الْأَلْفَ شَهْرٍ عِبَارَةٌ عَنْ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَأَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ.اهـ.
وقد لا يصل الإنسان إلى هذا العمر، وقد يتعمَّر
لكن كثيرًا منه يذهب في غير فائدة ويذهب في النوم وشواغل أمور الدنيا. فهذا تحفيز
وتنشيط عظيم لذوي الهمم العالية الرفيعة أن يستغلوا ليلة القدر. ومن الأزمنة أيام
عشر ذي الحجة . وفي صحيح البخاري (969)
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ: «مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ؟» قَالُوا: وَلاَ
الجِهَادُ؟ قَالَ: «وَلاَ الجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ،
فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ». وقوله «مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ
مِنْهَا فِي هَذِهِ؟» أي في أيام عشر ذي الحجة.
وهكذا الأماكن تتفاوت العبادة
فيها، فبعضها أفضل من بعض فالصلاة في المسجد الحرام مضاعفة، الصلاة في المسجد
النبوي مضاعفة .ثبت في «الصحيحين» البخاري (1190)،
ومسلم (1394) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي
هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ».
الصلاة في المسجد النبوي خير من ألف صلاة ،والصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف
صلاة، وهذا من فضل الله عَزَّ وَجَلَّ ومنته وإحسانه إلى عباده أن جعل لهم أبوابًا
وطرقًا إلى الخير يتنافسون فيها. وكما أن الأزمنة تتفاوت في الفضل ،والأمكنة
تتفاوت في الفضل ،فكذلك الحسنة فبعض الحسنات قد تُضاعف ، ومنها :حسنة الصوم. ففي
«الصحيحين» البخاري (5927)، ومسلم (1151)
من حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ،
فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ
اللَّهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ».
(فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي
بِهِ) أي: أقدِّر ثوابه، وليس المراد أن الله سبحانه ينتفع بصوم العبد فالله له
الغنى وله الكمال، ومنها: حسنة الصبر قال سبحانه: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ
حِسَابٍ﴾ [الزمر:10]. الصبر بأنواعه الثلاثة: الصبر على طاعة الله،
الصبر عن معصية الله، الصبر على أقدار الله عَزَّ وَجَلَّ. قال ابن رجب في لطائف المعارف 150:وتجتمع
الثلاثة في الصوم فإن فيه صبرًا على طاعة الله ،وصبرًاعمَّا حرم الله على الصائم
من الشهوات ،وصبرًاعلى ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع والعطش وضعف النفس والبدن ،وهذا
الألم الناشئ من أعمال الطاعات يثاب عليه صاحبه كما قال الله تعالى في المجاهدين:
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ
مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}اهـ.
حسنة الصدقة تُضاعف قال سبحانه:
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا
فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة:245]. وقال سبحانه: { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ
سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ }.وفي هذه الآية أن النفقة في سبيل الله تضاعف بسبعمائة لأنه قال
سبحانه :{سبع سنابل فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ }السنابل سبع وكل
سنبلة فيها مائة حبة يصير المجموع سبعمائة حسنة .
الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة
بمثلها .قال الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَنْ جَاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى
إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [الأنعام:160]. من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها والله يضاعف لمن
يشاء، فالحسنة قد تضاعف ومن أسماء الله الواسع ﴿إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:115]. واسع الفضل، واسع العطاء، واسع الرزق والرحمة،
واسع الملك والغنى.
أما السيئة فلا تجزى إلا مثلها،
ولكنها قد تغلظ وتشتد قال سبحانه: ﴿وَلَوْلَا
أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)
إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ
وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)﴾ [الأسراء]. وقال سبحانه في نساء النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: ﴿يَا نِسَاءَ
النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ
ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ [الأحزاب:30]. المعصية في حق العالم ومن كملت له النعمة أشد
غلظة من معصية الآخرين؛ ولهذا العالم الذي لا يعمل بعلمه من أول من تسعر بهم النار
كما في «صحيح مسلم» (1905) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ
يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ
فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ:
قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ
لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى
وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ،
وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ
فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ،
وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ
تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ
قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى
أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ
أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا،
قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ
يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ
فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ
عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ».
وفي ذلك يقول الشاعر:
وَعَالِمٍ
بِعِلْمِهِ لَمْ يَعْمَلَنْ * * * مُعَذَّبٌ مِنْ قَبْلِ عُبَّادِ الوَثَنْ
الذي يتعلم العلم الحجة عليه
أقوى، وهناك مقالة من تلبيس إبليس يقول بعضهم: لا أتعلم العلم حتى لا تقوم علي
الحجة، وهذا من تلبيس الشيطان فالحجة قد قامت عليه لأنه سمع بالدين والعلم ولكنه
أعرض عنه فهذا إعراض عن العلم يشمله قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً
ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه:124]. وحديث أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي
المَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ
اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَ
وَاحِدٌ، قَالَ: فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا: فَرَأَى فُرْجَةً فِي الحَلْقَةِ فَجَلَسَ
فِيهَا، وَأَمَّا الآخَرُ: فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَأَدْبَرَ
ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ
فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا
فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ
عَنْهُ» رواه البخاري (474،66)، ومسلم (2176).
عرفنا مما سبق أن المعصية قد
تشتد وتغلظ ولكنها لا تضاعف لقول الله: ﴿مَنْ جَاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى
إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [الأنعام:160]. وهذا كمعصية العالم ومن كملت له النعمة تختلف عن
معصية الناقص في العلم والنعمة. وهناك أيضًا بعض الأزمنة تشتد فيها المعصية كأشهر
الحرم الأربعة قال تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ
الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا
تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة:36]. وأشهر الإحرم بالنسبة للمحرم قال تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ
الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا
مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى
وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة:197]. وهكذا الأمكنة كالبلد الحرام المعصية فيه شديدة قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ
نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج:25].
ومن فوائد الآية
أن القرآن نزل في شهر رمضان في
ليلة القدر قال تعالى: ﴿إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر:1]. وفي هذا رد على من يقول إن ليلة القدر تكون في
أيام السنة كلها؛ لأن في هذا الدليل بيان أن القرآن نزل في ليلة القدر في شهر
رمضان.
وفيه فضل القرآن الكريم وقد وصفه
الله هنا بعدة أوصاف، وكلما كثُرتِ الأوصاف دلت على كثرة خيرات الموصوف وبركاته
قال تعالى: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾ هذا الوصف الأول، الثاني: ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِنَ
الْهُدَى﴾ والثالث: ﴿وَالْفُرْقَانِ﴾
هداية القرآن هداية دلالة
وإرشاد. ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾ وهذا عام وفي سورة البقرة ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة:2] خص الله المتقين لأنهم الذين ينتفعون بالقرآن.
والناس في هداية القرآن على
ثلاثة أقسام:
القسم الأول: منهم من اهتدى به ظاهرًا وباطنًا،
وهم المؤمنون. وقد ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ أوصافهم في ثلاث آيات في أول سورة
البقرة بعد أن قال: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة:2] قال: ﴿الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
(3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ
وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)﴾ [البقرة]. وذكر لهم خمسة أوصاف.
القسم الثاني: ومنهم من لم يهتد
به لا ظاهرًا ولا باطنًا، وهم الكفار. وقد ذكر الله فيهم آيتين في سورة البقرة ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ
وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)﴾ [البقرة].
القسم الثالث: منهم من اهتدى به
ظاهرًا لا باطنًا، وهم المنافقون. وقد ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ فيهم ثلاثة عشر آية.
وذكر الله الأقسام الثلاثة،
وأطال سبحانه في أوصاف المنافقين في ثلاث عشر آية؛ لأن أمرهم ملتبس، يظن المسلم أنه
من إخوانه فيطلع على ما عنده ويطلع على أسراره وأحواله لأنه بين المسلمين في
مساجدهم واجتماعاتهم.
﴿بَيِّنَاتٍ﴾ أي: واضحات، قال سبحانه: ﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ [الزخرف:2]. أي الواضح، وقال سبحانه: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾ [العنكبوت:49]. ﴿بَيِّنَاتٌ﴾ بينات في الأحكام وفي الحرام والحلال «إِنَّ
الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ...» رواه البخاري ومسلم (1599)
من حديث النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
﴿وَالْفُرْقَانِ﴾
من
أوصاف القرآن الفرقان أي: يفرق بين الحق والباطل، هذه الآية الكريمة من أدلة فضل
القرآن والاهتمام بالقرآن الكريم وتلاوته لفظًا ومعنًى وتدبره والانتفاع به.
ويفيد الاهتمام بالقرآن الكريم
في رمضان أكثر من سائر الشهور؛ لأن القرآن نزل في شهر رمضان.
القرآن العظيم ينبغي أن يعتنى
به، وأنفس ما تصرف الأوقات فيه تعلم القرآن وتلاوة القرآن الكريم والتفقه في كنوزه
وعلومه؛ ولهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مقدمة «أصول التفسير» (ص:11)
يقول: وحاجة الأمة ماسة إلى فهم القرآن الذي هو حبل الله المتين، والذكر الحكيم،
والصراط المستقيم، الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يَخْلَق عن
كثرة الترديد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن عمل به
أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم، ومن تركه من جبار قصمه
الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله. قال تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ
اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)
وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ
كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا
وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126)﴾ [طه]. اهـ.
وهذا الذي ينبغي أن لا يمل
الإنسان من قراءة القرآن الكريم ولا يشبع منه .
﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾
أي: حضر. فيه وجوب الصوم برؤية هلال
شهر رمضان. ويثبت دخول الشهر برؤية واحد على الصحيح إذا كان عدلًا .قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا
فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات:6]. مفهوم الآية أنه إذا جاء خبر العدل يقبل .وجاء
عند أبي داود في «سننه» (2342)
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «تَرَائِى النَّاسُ الْهِلَالَ،» فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنِّي رَأَيْتُهُ فَصَامَهُ، وَأَمَرَ
النَّاسَ بِصِيَامِهِ. وهو في «الصحيح المسند» (1/365)
لوالدي رَحِمَهُ اللَّهُ.
فإذا قبل خبره الإمام وجب الصوم
برؤيته؛ لأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصَّوْمُ
يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَالأَضْحَى يَوْمَ
تُضَحُّونَ».رواه الترمذي (697) وهو في «الصحيح المسند» (2/109)
لوالدي رَحِمَهُ اللَّهُ. قال الترمذي:«وَفَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ هَذَا
الحَدِيثَ، فَقَالَ: إِنَّمَا مَعْنَى هَذَا أَنَّ الصَّوْمَ وَالفِطْرَ مَعَ
الجَمَاعَةِ وَعُظْمِ النَّاسِ».
المرأة ترى
الهلال
مسألة: إذا أخبرت المرأة برؤية
الهلال فيه خلاف ،واستفدنا من الوالد الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله أنها تعمل
برؤيتها هي ،وأما عموم الناس فلا ﴿فَمَنْ
شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ لأنها
شهادتها نصف شهادة الرجل ،والله أعلم.
- استدل بهذه الآية من قال: من استهل
عليه شهر رمضان وهو في بلده ثم سافر يجب عليه أن يصوم الشهر كله، وتقدم هذا في
الآية الثانية .وأنه قول غير صحيح، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَسَلَّمَ خرج في غزوة الفتح في رمضان ولما بلغ الكديد أفطر. روى البخاري (4276) ومسلم
(1113) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «خَرَجَ فِي
رَمَضَانَ مِنَ المَدِينَةِ وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلاَفٍ، وَذَلِكَ عَلَى رَأْسِ
ثَمَانِ سِنِينَ وَنِصْفٍ مِنْ مَقْدَمِهِ المَدِينَةَ، فَسَارَ هُوَ وَمَنْ
مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ إِلَى مَكَّةَ، يَصُومُ وَيَصُومُونَ، حَتَّى بَلَغَ
الكَدِيدَ، وَهُوَ مَاءٌ بَيْنَ عُسْفَانَ، وَقُدَيْدٍ
أَفْطَرَ وَأَفْطَرُوا».
الذي يجب عليه
الصوم
* مسألة :الذي يجب عليه صيام
رمضان: المسلم العاقل البالغ القادر المقيم.
قيد (المسلم) يخرج الكافر، وفي
الأصل أن الصيام يجب على الكافر ويجب عليه الواجبات لكن لا تقبل منه العبادة حتى
يكون مسلمًا قال تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ
أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ
وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ
كَارِهُونَ﴾ [التوبة:54]. وهذا في المنافق الاعتقادي والمنافق الاعتقادي زنديق من الزنادقة.
وهذه مسألة هل الكفار مخاطبون
بجميع أمور الشريعة ، والصحيح أنهم مخاطبون بذلك كله ، وفي ذلك أدلة منها :قوله
تعالى: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)
قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا
نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)
حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)﴾ [المدثر:42]. ذكروا من أسباب دخولهم النار الخوض في الكلام
الباطل، وعدم إطعام المسكين المضطر، وهذه مسألية أصولية. أما ما جاء من النصوص
التي فيها التقييد بالإيمان كقولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا
يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، تُسَافِرُ مَسِيرَةَ
يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ عَلَيْهَا» رواه البخاري (1088) ،ومسلم (1339)واللفظ
له من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فهذا لأن المؤمن هو الذي يستسلم لشرع الله، ولا يفهم منه الجواز للمرأة الكافرة،
لكن أول ما يطالب به الكافر الإسلام.
(العاقل) أخرج المجنون، وهذا رفع عنه القلم.
(البالغ) أخرج الصبي .فالصبي
غير مكلف، لحديث «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى
يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى
يَعْقِلَ» .
مسألة :من بلغت
في سن صغير وكان صوم رمضان فيه مشقة عليها
قال ابن قدامة رحمه الله في «
المغني »(3/156):
قَالَ الإمام أحمد فِي
الْجَارِيَةِ: تَصُومُ إذَا حَاضَتْ، فَإِنْ جَهَدَهَا الصَّوْمُ فَلْتُفْطِرْ،
وَلْتَقْضِ.
يَعْنِي إذَا حَاضَتْ وَهِيَ
صَغِيرَةٌ لَمْ تَبْلُغْ خَمْسَ عَشَرَةَ سَنَةً.
قَالَ الْقَاضِي: هَذَا إذَا كَانَتْ تَخَافُ
الْمَرَضَ بِالصِّيَامِ، أُبِيحَ لَهَا الْفِطْرُ، وَإِلَّا فَلَا.اهـ.
(القادر) أخرج هذا القيد الذي
لا يطيق الصيام .قال تعالى:﴿لَا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة:286]. وقال سبحانه:﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة:184].
(المقيم) أخرج المسافر كما تقدم
في الآية السابقة.
﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا
أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أيام أُخر﴾
تقدمت الآية في التي قبلها .قال البغوي في تفسيره(1/218): أَبَاحَ
الْفِطْرَ لعذر المرض والسفر، وأعاد هَذَا الْكَلَامَ لِيُعْلَمَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ
ثَابِتٌ فِي النَّاسِخِ ثُبُوتَهُ فِي الْمَنْسُوخِ .وقال ابن الجوزي في زاد
المسير (1/143):فإن قيل: ما الفائدة في إعادة المرض
والسفر في هذه الآية، وقد تقدم ذلك؟ قيل: لأن في الآية المتقدمة منسوخاً، فأعاده
لئلا يكون مقروناً بالمنسوخ.
﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾
فيه إثبات صفة الإرادة لله عَزَّ
وَجَلَّ. والإرادة قسمان: إرادة شرعيه دينية ومنه هذه الآية الكريمة، وقوله عَزَّ
وَجَلَّ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ
الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء:28]. ﴿وَاللَّهُ
يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ
تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾ [النساء:27]. وقوله سبحانه. ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ
وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[المائدة:6].
وإرادة كونية قدرية ومنه قوله
تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ
لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس:82].
وفيه الحكمة من الرخصة للمسافر
والمريض من الفطر أن هذا من باب التخفيف والتيسير. فالدين يسر ومن يسره الرخصة
للمريض والمسافر الفطر، والرخصة للمريض وفاقد الماء في التيمم. وفي الآية الحث على
التيسير وترك التنفير.
﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ
وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
أي: عدة شهر رمضان ثلاثون يومًا
أو تسعًا وعشرين على حسب تمام الشهر ونقصانه.
وفيه
الحث على التكبير في الفطر من رمضان ﴿وَلِتُكَبِّرُوا
اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ وهكذا
في عيد الأضحى مستحب عند أهل العلم. وقد ذهب أبو حنيفة إلى أنه يستحب التكبير في
عيد الأضحى، ولا يستحب في عيد الفطر وجمهور أهل العلم على خلافه، ولم يثبت عن
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ شيء في تعيين ألفاظ التكبير
كما أفادنا الوالد الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله بذلك.
﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ
عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ أي على ما أرشدكم.
﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
فيه الحث على شكر الله عَزَّ
وَجَلَّ على نعمه. وجحد النعمة يعد كفرًا أصغر كما قال النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «...وَتَكْفُرْنَ العَشِيرَ...» رواه البخاري (304)
من حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (وَتَكْفُرْنَ) أي:
إحسان الزوج. و(العَشِيرَ) الزوج، سمي جحد النعمة وعدم الاعتراف بالنعمة كفرًا أي
كفر أصغر وهذا دليل أنه من كبائر الذنوب.
والشكر عام،الشكر باللسان
وبالجوارح وبالقلب كما قال الشاعر:
أَفــــــَادَتْكُمُ النَّعْمَــاءُ
منِّى ثلاثةً * * * يَدِي ولِسَانِى والضَّمِيرَ المُحَجَّبَا
فمن الشكر القيام بطاعة الله عَزَّ
وَجَلَّ ليس الشكر باللسان فحسب فينبغي المبادرة إلى العمل الصالح واجتناب المعاصي؛
لأن هذه حقيقة الشكر.
ومن شُكرِ الله عَزَّ وَجَلَّ
شكر المحسن من الناس كما ثبت من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ
النَّاسَ» في «سنن أبي داود» (4811) وهو في «الصحيح المسند» (2/122)
لوالدي رَحِمَهُ اللَّهُ.
ومن الشكر شكر التلميذ لمعلمه،
وعدم جحود ما استفاد من الخير على يديه وكان هذا من جملة نصائح الوالد الشيخ مقبل
الوادعي رحمه الله شكر الطالب لمعلمه نسأل الله ن يجعلنا من الشاكرين الصابرين.
الآية الرابعة
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ
عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا
لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة:186].
في هذه الآية دلالة على أن دعوة
الصائم مستجابة؛ لأنه سبحانه ذكر الصيام ثم حث على الدعاء وثبت عند الإمام أحمد (8044)
من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حَتَّى
يُفْطِرَ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا
أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي
لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ». وهو في «الصحيح المسند» (1/132)
لوالدي رَحِمَهُ اللَّهُ.
(وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ)
هذا عام في أي وقت وليس خاصا بوقت الفطر، والله يعطي أكثر كما جاء عند الإمام أحمد
(11133) من حديث أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ
فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى
ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ
فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا» قَالُوا:
إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ: «اللَّهُ أَكْثَرُ». وهو في «الصحيح المسند» (1/211)
لوالدي رَحِمَهُ اللَّهُ. وهذا يفيد حث الصائم على كثرة الدعاء.
بعض الناس يقول إنه يدعو ويدعو ولا يجد الإجابة من
الله، قد يكون فيه موانع للاستجابة، وقد يكون استعجل يقول النبي صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ:
دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي» رواه البخاري (6340)
مسلم (2735).
وقد يكون من رحمة الله أن صرف عنه من الشر ما لا
يعرفه وليس في حسابه ، فالله عز وجل لا يضيع أجر من أحسن عملًا ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ [الكهف:30].
ومن موانع استجابة الدعاء أكل الحرام والكسب
الحرام .أخرج مسلم (1015) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ
اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ
بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ
الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}
[المؤمنون: 51] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ
مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ
أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ،
وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ
بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ ".
﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا
لِي﴾ أي: فليطيعوني على أحد
الأقوال.
﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ الرشد ضد الغي. فمن أسباب
الرشاد الإيمان، وطاعة رب العالمين سبحانه.
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثالث
*********************
الآية الخامسة:
﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [البقرة:187].
هذه الآية الكريمة لها سبب نزول عند البخاري (1915) من حديث البَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا، فَحَضَرَ الإِفْطَارُ، فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلاَ يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ، فَقَالَ لَهَا: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لاَ وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ، فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ [البقرة:187] فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا، وَنَزَلَتْ: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ﴾ [البقرة:187]».
(خَيْبَةً لَكَ) الخيبة: الحرمان، قالته رحمة به وشفقة عليه.
وكان هذا الحكم في أول فرض الصيام ثم نزل التخفيف.
قال الحافظ في فتح الباري تحت رقم الحديث السابق(1915): اتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ مُقَيَّدًا بِالنَّوْمِ ،وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي حَدِيثِ غَيْرِهِ ،وَقُيِّدَ الْمَنْعُ من ذَلِك فِي حَدِيث ابن عَبَّاسٍ بِصَلَاةِ الْعَتَمَةِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِ كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّوُا الْعَتَمَةَ حَرُمَ عَلَيْهِمُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالنِّسَاءُ وَصَامُوا إِلَى الْقَابِلَةِ وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا سَأَذْكُرُهُ قَرِيبًا وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ،وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ لِكَوْنِ مَا بَعْدَهَا مَظِنَّةَ النَّوْمِ غَالِبًا وَالتَّقْيِيدُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ بِالنَّوْمِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَحَادِيثِ .اهـ.
﴿الرَّفَثُ﴾ المراد به هنا الجماع . قال ابن عبدالبر في الاستذكار(3/374) لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) الْبَقَرَةِ 187 أَنَّهُ الْجِمَاعُ.
قال: واخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِهِ - عِزَّ وَجَلَّ - (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) الْبَقَرَةِ [197].وأَكْثَرُ العلماء على أن الرفث ها هنا جِمَاعُ النِّسَاءِ .اهـ.
وقد يطلق الرفث على السب والشتام. ومنه حديث« وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ»الحديث.
(فَلاَ يَرْفُثْ) قال ابن عبدالبر في الاستذكار(3/373):الرَّفَثُ هُنَا الْكَلَامُ الْقَبِيحُ وَالشَّتْمُ وَالْخَنَا وَالْغَيْبَةُ وَالْجَفَاءُ وَأَنْ تُغْضِبَ صَاحِبَكَ بِمَا يَسُوءُهُ وَالْمِرَاءُ وَنَحْوُ ذَلِكَ كُلِّهِ .اهـ.
(الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ عدي بـ (إلى) لأن المراد به الإفضاء، كما قال تعالى: ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ [النساء:21].
﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾
في اللباس أقوال
أحدها :اللباس: الستر وكل واحد من الزوجين لباس للآخر باعتبار تجردهما عند النوم من ثيابهما وانضمام جسد كل واحد منهما بالآخر كما قال الشاعر
إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى عِطْفَهَا ... تَدَاعَتْ، فكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا
الثاني :تفسير اللباس بالسكن أي سكن لكم وأنتم سكن لهن .قال تعالى { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) }.وقال سبحانه {وجَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا} [سورة الفرقان: 47] ، يعني بذلك سكنًا تسكنون فيه. وكذلك زوجة الرجل سَكنه يسكن إليها، كما قال تعالى ذكره: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}.) [سورة الأعراف: 189].
قال ابن جرير الطبري :فيكون كل واحد منهما"لباسًا" لصاحبه، بمعنى سكونه إليه. وبذلك كان مجاهد وغيره يقولون في ذلك.اهـ.
وقد قِيلَ:لا يسكن شيء إلى شَيْءٍ كَسُكُونِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الْآخَرِ.
الثالث: اللِّبَاسُ اسْمٌ لِمَا يُوَارِي الشَّيْءَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتْرًا لِصَاحِبِهِ عَمَّا لَا يَحِلُّ .
فكل واحد من الزوجين صيانة للآخر عن الوقوع في الحرام .قال الشيخ ابن عثيمين في تفسير هذه الآية : وعبَّر سبحانه باللباس لما فيه من ستر العورة، والحماية، والصيانة؛ وإلى هذا يشير قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج».
يراجع:تفسير ابن جرير الطبري (3/489) وتفسير البغوي (1/228)تفسير سورة البقرة.
والمرأة يقال لها لباس، ويقال لها فراش كما في «الصحيحين» البخاري (6818) مسلم (1458) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ». وكما قال الشاعر:
إذَا رُمْتُهَا كَانَتْ فِرَاشًا يُقِلّنِي * * * وَعِنْدَ فَرَاغِي خَـــادِمٌ يَتَمَلّقُ
ويقال لها إزار قال ابن الأثير في النهاية: فِي حَدِيثِ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ) لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا( أَيْ نِسَاءَنَا وَأَهْلَنَا، كَنَّى عَنْهُنَّ بالأزرِ. وَقِيلَ أَرَادَ أَنْفُسَنَا. وَقَدْ يُكنى عَنِ النفْس بِالْإِزَارِ ومنه.
ألاَ أبْلِغْ أَبَا حَفْصٍ رَسُولًا ... فِدًى لَكَ مِنْ أَخِي ثِقَةٍ إِزَارِي
أَيْ أَهْلِي وَنَفْسِي.اهـ.
قال الخطابي في غريب الحديث(2/101)في التعليق على هذا البيت: أي نفسي ،ويقال: بل أراد فدى لك أهلي وكلاهما وجه .اهـ.
وفي الآية دليل على حسن العشرة بين الزوجين . والحياة الزوجية مبنية على التفاهم والمودة والرحمة قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم:21]..
وقد أوصى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ بالنساء لضعفهن روى البخاري (3331) ومسلم (1468) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ».
وكان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ خيرَ الناس لأهله . روى الترمذي (3895) عنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي، وَإِذَا مَاتَ صَاحِبُكُمْ فَدَعُوهُ». والحديث في «الصحيح المسند» (1595) لوالدي رَحِمَهُ اللَّهُ
وكانوا في سفرٍ مع النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ فجعل أنجشة رضي الله عنه أحد شعراء النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ يحدو والإبل تنشط وتسرع في السير إذا سمعت الحداء فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رحمة بالنساء.روى البخاري (6161) مسلم (2323).عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ وَمَعَهُنَّ أُمُّ سُلَيْمٍ، فَقَالَ: «وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدَكَ سَوْقًا بِالقَوَارِيرِ».
أطلق على النساء (قَوَارِير) لضعفهن وسرعة تغيرهن وانكسارهن, ومن حسن عشرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أنه كان يساعدهن في خدمة البيت كما في «صحيح البخاري» (676) عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: «كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ - تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ - فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ».
وكما كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ يخدم أهله فإنه كان يخدم نفسه.
روى أحمد (26194)عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سُئِلْتُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: «كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ يَفْلِي ثَوْبَهُ، وَيَحْلُبُ شَاتَهُ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ».
وروى أحمد (24903)من طريق عروة قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَائِشَةَ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ كَمَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ» .
ومن حسن عشرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ وتودده إلى أهله أنه في غزوة من الغزوات سابق عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. روى أبو داود (2578)عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ قَالَتْ: فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ عَلَى رِجْلَيَّ، فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي فَقَالَ: «هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ». والحديث في «الصحيح المسند» (1609) لوالدي رَحِمَهُ اللَّهُ .
ورواه الإمام أحمد (43/313)عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَأَنَا جَارِيَةٌ لَمْ أَحْمِلِ اللَّحْمَ وَلَمْ أَبْدُنْ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: «تَقَدَّمُوا» فَتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ لِي: «تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ» فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ، فَسَكَتَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا حَمَلْتُ اللَّحْمَ وَبَدُنْتُ وَنَسِيتُ، خَرَجْتُ مَعَهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: «تَقَدَّمُوا» فَتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ: «تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ» فَسَابَقْتُهُ، فَسَبَقَنِي، فَجَعَلَ يَضْحَكُ، وَهُوَ يَقُولُ: «هَذِهِ بِتِلْكَ».
فالحياة الزوجية ليست مبنية على العنف والقسوة والمعاندة لا من طرف الرجل ولا من طرف المرأة ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء:19].
﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾
علم مشاهدة ورؤية، وفي هذا المعنى آيات أخرى كقوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران:140]، وقوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا﴾ [آل عمران:167]، وقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت:3]. فالأدلة التي ظاهرها إثبات صفة العلم لله عَزَّ وَجَلَّ في المستقبل المراد بها الرؤية والمشاهدة ووجود العمل نفسه. فإن الله سبحانه مطلع على كل شيء ومحيط بكل شيء كما قال تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق:12]. وقد ذكر هذا ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ في «زاد المعاد» (3/200) في سياق الحِكَم التي كانت في غزوة أُحُدٍ قال: ثُمّ ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرَى، وَهِيَ أَنْ يَتَمَيَّزَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَيَعْلَمهُمْ عِلْمَ رُؤْيَةٍ وَمُشَاهَدَةٍ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مَعْلُومِينَ فِي غَيْبِهِ، وَذَلِكَ الْعِلْمُ الْغَيْبِيُّ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ، وَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى الْمَعْلُومِ إذَا صَارَ مُشَاهَدًا وَاقِعًا فِي الْحِسِّ. اهـ.
﴿تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ تخونون أنفسكم.
﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾
فتاب عليكم يشمل أمرين التوبة على الخيانة ،والتخفيف كما قال تعالى: ﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المزمل:20]،فتاب عليكم أي خففها عنكم . وقال تعالى في القاتل خطأً: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء:92]. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ أي: عتق الرقبة. ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ أي: تخفيفًا؛ لأن المخطئ ليس عليه ذنب.
﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ المباشرة هنا الجماع.
﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ أي اطْلُبُوا مَا قَضَى اللَّهُ لَكُمْ .
وقيل:طلب الولد وهذا قول أكثر المفسرين كما في تفسير البغوي (1/229).
- وفي الآية تحريم الجماع للصائم في نهار رمضان، وقوله﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ أي: في الليل وهذا عليه إجماع أهل العلم .
- ومن جامع أهله في نهار رمضان عمدًا فعليه الكفارة كما في «الصحيحين» البخاري (6711)، مسلم (1111) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: هَلَكْتُ، يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «وَمَا أَهْلَكَكَ؟» قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، قَالَ: «هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟» قَالَ: لَا، قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ: «تَصَدَّقْ بِهَذَا» قَالَ: أَفْقَرَ مِنَّا؟ فَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: «اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ».
وظاهر الحديث أن الرجل كان ليس جاهلًا فهو كان يعلم أنه لا يجوز الجماع في نهار رمضان للصائم ،وأنه متعمد وليس ناسيًا لأنه يقول: هَلَكْتُ، وفي «الصحيحين» البخاري (6822) واللفظ له، مسلم (1112) من حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، «...قَالَ: احْتَرَقْتُ، قَالَ: «مِمَّ ذَاكَ» قَالَ: وَقَعْتُ بِامْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ...»الحديث.
- فإذا جامع جاهلًا بالتحريم ليس عليه كفارة ،فمن أسباب العذر: الجهل قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء:15]. بعضهم يعرِف أنه حرام لكن لا يدري بالكفارة المغلَّظة فيسأل هل عليه كفارة؟ سألت الوالد الشيخ مقبل الوادعي رَحِمَهُ اللَّهُ فقال: إذا كان يعلم بالتحريم فعليه كفارة ،ما يلزم أن يعلم بالكفارة.
- وإذا كان ناسيًا، جامع في نهار رمضان ناسيًا أنه صائم هذا ليس عليه كفارة لأدلة رفع المؤاخذة عن الناسي ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة:286]. وفي سنن ابن ماجة (2043) وسنن البيهقي (15094)عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».
ومن الأدلة ما جاء عند البخاري (6669)، ومسلم (1155) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا، وَهُوَ صَائِمٌ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ». والمجامع الناسي يلحق بالآكل والشارب الناسي لصيامه.
وهذا قول الجمهور وقد عزاه ابن المنذر في الإشراف (3/137)إلى مجاهد، والحسن البصري، أنهما قالا: لا شيء عليه، وبه قال الثوري، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي.
واختار ابن المنذر أنه لا شيء عليه.
قال:وكان عطاء بن أبي رباح، ومالك، والأوزاعي، والليث بن سعد يقولون: عليه القضاء.
وقال أحمد: عليه القضاء والكفارة.
وقال النووي في المجموع (6/323):نص على الأكل والشرب وقسنا عليه كل ما يبطل الصوم من الجماع وغيره .اهـ.
- وفيه جواز الجماع قرب طلوع الفجر؛ لأنه سبحانه علَّق التحريم بطلوع الفجر.
- ويفيد جواز تأخير الغسل للجنب إلى بعد طلوع الفجر.
قال ابن العربي المالكي رَحِمَهُ اللَّهُ في «تفسيره» (1/134): إذَا جَوَّزْنَا لَهُ الْوَطْءَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلَيْهِ، وَهُوَ جُنُبٌ؛ وَذَلِكَ جَائِزٌ إجْمَاعًا؛ وَقَدْ كَانَ وَقَعَ فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - كَلَامٌ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَإِنَّ صَوْمَهُ صَحِيحٌ، وَبِهَذَا احْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ، وَمِنْ هَاهُنَا أَخَذَهُ بِاسْتِنْبَاطِهِ، وَغَوْصِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.
وقد ثبت في «الصحيحين» البخاري (1926)، ومسلم (1109) واللفظ له عن عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ، ثُمَّ يَصُومُ».
وجاء عن أبي هريرة أنه قال: «مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ جُنُبًا فَلَا يَصُمْ»، وفيه من الروايات ما يدل على تراجعه .روى البخاري (1926)، ومسلم (1109) واللفظ له من طريق أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَقُصُّ، يَقُولُ فِي قَصَصِهِ: «مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ جُنُبًا فَلَا يَصُمْ»، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ - لِأَبِيهِ - فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَسَأَلَهُمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَكِلْتَاهُمَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ، ثُمَّ يَصُومُ» قَالَ: فَانْطَلَقْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى مَرْوَانَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ مَرْوَانُ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ إِلَّا مَا ذَهَبْتَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَرَدَدْتَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ: قَالَ: فَجِئْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَبُو بَكْرٍ حَاضِرُ ذَلِكَ كُلِّهِ، قَالَ: فَذَكَرَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَهُمَا قَالَتَاهُ لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هُمَا أَعْلَمُ، ثُمَّ رَدَّ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنَ الْفَضْلِ، وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَرَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَمَّا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ، قُلْتُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: أَقَالَتَا: فِي رَمَضَانَ؟ قَالَ: كَذَلِكَ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ ثُمَّ يَصُومُ.
ويلحق بالجنب الحائض والنفاس إذا طهرتا قبل طلوع الفجر فإنهما تغتسلان وتصومان وصومهما صحيح. وهذا قول الجمهور.
- هنا أيضًا مسألة من طلع عليه الفجر وهو يجامع إن نزع مباشرة فلا كفارة عليه ولا شيء، وإن استدام واستمر فعليه كفارة المجامع في نهار رمضان وهذا قول الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في رواية عنه.
وهو قول والدي رحمه الله أنه إذا نزع مباشرة فليس عليه كفارة.
قال النووي في المجموع (6/311):{فَرْعٌ} فِي مَذَاهِبِهِمْ فِيمَنْ أَوْلَجَ ثُمَّ نَزَعَ مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ
ذَكَرْنَا أَنَّ مذهبنا أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ وَلَا قَضَاءَ وَلَا كَفَّارَةَ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ وَقَالَ مَالِكٌ وَالْمُزَنِيُّ وَزُفَرُ وَدَاوُد يَبْطُلُ صَوْمُهُ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أَنَّهُ يُفْطِرُ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَفِي رِوَايَةٍ يَصِحُّ صَوْمُهُ وَلَا قَضَاءَ وَلَا كَفَّارَةَ وَقَدْ سَبَقَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ دَلِيلُ الْمَذْهَبَيْنِ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ إذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ وَالرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ أَنْ يَصُومَ إذَا أَرَادَ الصِّيَامَ قَامَ وَاغْتَسَلَ وَأَتَمَّ صِيَامَهُ .اهـ.
وقال النووي في المجموع (6/322): إذَا جَامَعَ قَبْلَ الْفَجْرِ ثُمَّ نَزَعَ مَعَ طُلُوعِهِ أَوْ عَقِبَ طُلُوعِهِ وَأَنْزَلَ لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْ مُبَاشَرَةٍ مُبَاحَةٍ فَلَمْ يجب فيه شيء كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ قِصَاصًا فَمَاتَ المقتص مِنْهُ فَهَذَا هُوَ التَّعْلِيلُ الصَّحِيحُ.اهـ.
- ومن فوائد الآية جواز مباشرة الصائم لأهله من غير جماع لأن الآية فيها النهي عن الجماع دون المباشرة، فيجوز للصائم أن يباشر أهله وأن يقبِّل وقد ثبت في «الصحيحين» البخاري (1927)، ومسلم (1106) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ»، وروى أحمد في مسنده (2241) عن ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يُصِيبُ مِنَ الرُّءُوسِ، وَهُوَ صَائِمٌ» .والحديث في «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين» (667) لوالدي رَحِمَهُ اللَّهُ . وهذا كناية عن التقبيل.
ولكن من لم يأمن على نفسه فالواجب عليه أن يبتعد سدًّا لذريعة الوقوع في المحرمات لِمَا في «الصحيحين» البخاري (1927)، ومسلم (1106) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «...كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ...».
- وفي الآية تحريم الأكل والشرب للصائم، ومن أكل أوشرب ناسيًا فلا شيء عليه وتقدم الدليل في هذا وهو ما رواه البخاري (6669)، ومسلم (1155) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا، وَهُوَ صَائِمٌ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ». أي: هذه نعمةٌ ومِنةٌ وفضلٌ من الله إذ أنساه وأخذ شيئًا من الطعام أو الشراب.
ومما يسأل عنه من رأى صائمًا أكل أو شرب ناسيًا فهل يسكت أو يذكره؟ والجواب :لا يسكت بل عليه أن ينصحه لأن الله يقول ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة:2].ويقول سبحانه: ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج:77].
واحدة تقول رأيت أبي يأكل فرحمته وتركته يأكل، ثم سألتْ عن هذا؟ ولا يصلح هذا الدين النصيحة .
- لا بأس بتذوق الطعام للصائم للحاجة، وهذا جاء عن بعض السلف وجاء عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أخرجه البخاري معلقًا، لكن من دون أن يبتلعه.
ثم راجعت أثر ابن عباس الذي علقه البخاري في تبويب حديث رقم (1930) قال : وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لاَ بَأْسَ أَنْ يَتَطَعَّمَ القِدْرَ أَوِ الشَّيْءَ».
والأثر وصله ابن أبي شيبة في «مصنفه» (2/304)حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَا بَأْسَ أَنْ يَذُوقَ الْخَلَّ أَوِ الشَّيْءَ، مَا لَمْ يَدْخُلْ حَلْقَهُ وَهُوَ صَائِمٌ».
وهذا سند ضعيف جدًّا جابر هو ابن يزيد الجعفي ترجمته في تهذيب الكمال (4/465) بروايته عن عطاء بن أبي رباح وعنه إسرائيل بن يونس .
وجابر الجعفي رافضي يؤمن بالرجعة .وقال الحافظ ابن حجر في تغليق التعليق(3/152) عقب الأثر: جَابر هُوَ الْجعْفِيّ مَتْرُوك.
وله طريق أخرى إلى ابن عباس في مسند ابن الجعد (2406)ومصنف ابن أبي شيبة(2/304) كلاهما يرويانه عن شيخهما شَرِيكٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَتَطَاعَمَ، الصَّائِمُ بِالشَّيْءِ يَعْنِي الْمَرَقَةَ وَنَحْوَهَا .وشريك هو ابن عبدالله النخعي ضعيف ساء حفظه لما ولي القضاء. فالأثر لا يصح من هاتين الطريقين.
مسألة:
حكم القيء عمدًا للصائم
جمهور العلماء على أن القيء عمدًا من المفطرات لما رواه البيهقي في «السنن الكبرى» (8027)عن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، وَإِنِ اسْتَقَاءَ فَلْيَقْضِ».وهو حديث معل.يراجع أحاديث معلة لوالدي رحمه الله.
وقد جاء عن ابن عباس وأبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أن الذي يفطر هو ما دخل لا ما خرج .قال البخاري في «صحيحه» تبويب حديث (1938)وقال لي يحيى بن صالح حدثنا معاوية بن سلَّام حدثنا يحيى عَنْ عُمَرَ بْنِ الحَكَمِ بْنِ ثَوْبَانَ: سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إِذَا قَاءَ فَلاَ يُفْطِرُ إِنَّمَا يُخْرِجُ وَلاَ يُولِجُ»، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّهُ يُفْطِرُ» وَالأَوَّلُ أَصَحُّ ،وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ: «الصَّوْمُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ». (مِمَّا دَخَلَ) أي: إلى الجوف.
وهذا اختيار البخاري .قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في تبويب حديث رقم (1938): وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ إِيرَادَهُ لِلْآثَارِ الْمَذْكُورَةِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ يَرَى عَدَمَ الْإِفْطَارِ بِهِمَا. أي: بالقيء والحجامة .
وقد قال ابن المنذر في الإجماع فقرة (126):وأجمعوا على إبطال صوم من استقاء عامدا.اهـ.ولم يصح نقل الإجماع لما تقدم ،ولهذا الحافظ ابن حجر في فتح الباري تحت الرقم المتقدم يتعقب ابن المنذر ويقول : لَكِن نقل ابن بطال عَن ابن عَبَّاس وابن مَسْعُودٍ لَا يُفْطِرُ مُطْلَقًا وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ .اهـ.
- وسواء تعمَّد القيء أو ذرعه القيء صيامه صحيح .وقد قال ابن المنذر في الإجماع فقرة (126):أجمعوا على أنه لا شيء على الصائم إذا ذرعه القيء، وانفرد الحسن البصري، فقال: عليه، ووافق في أُخرى.اهـ.
مسألة: الحجامة للصائم
روى أبو داود (2369) حديث شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى عَلَى رَجُلٍ بِالْبَقِيعِ، وَهُوَ يَحْتَجِمُ، وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَالَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ».والحديث في «الصحيح المسند» (1/252) لوالدي رَحِمَهُ اللَّهُ.
واختلف العلماء على أقوال في توجيه الحديث، والذي رجحه الوالد الشيخ مقبل الوادعي رَحِمَهُ اللَّهُ أن الحجامة لا تفطر ولكن المراد ما يؤول إليه الأمر فالحاجم قد يتسرب شيء من الدم إلى حلقه، والمحجوم قد يضعف عن الصيام فيفطر.
وهذا قول أبي هريرة وابن عباس واختيار البخاري كما تقدم في المسألة التي قبلها .
وعزاه الحافظ في فتح الباري تبويب حديث (1938)إلى الجمهور .
ومن أهل العلم من يرى أن الحجامة للحاجم والمحجوم من المفطرات ويلزم القضاء قال الترمذي في سننه(774): وَقَدْ كَرِهَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ: الحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ حَتَّى إنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ بِاللَّيْلِ، مِنْهُمْ: أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَبِهَذَا يَقُولُ ابْنُ المُبَارَكِ ".: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ مَنْصُورٍ يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: «مَنْ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ فَعَلَيْهِ القَضَاءُ» . قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: وَهَكَذَا قَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ .اهـ.
وقال الحافظ في فتح الباري تبويب حديث (1938): وَعَنْ عَلِيٍّ وَعَطَاءٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ يُفْطِرُ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ وَأَوْجَبُوا عَلَيْهِمَا الْقَضَاءَ وَشَذَّ عَطَاءٌ فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ أَيْضًا وَقَالَ بِقَوْلِ أَحْمَدَ من الشَّافِعِيَّة ابن خُزَيْمَة وابن الْمُنْذر وَأَبُو الْوَلِيد النَّيْسَابُورِي وابن حبَان .اهـ.
وفي المسألة حديثٌ رواه البخاري(1938) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ». وقد أعل بعضهم (وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ)وجزم الحافظ في فتح الباري (4/226) بأن الحديث صحيح لا مرية فيه .
ومن فوائد الآية الكريمة
-الامتناع عن الأكل والشرب عند طلوع الفجر الصادق، والفجر فجران: فجر صادق: وهو الضوء المستطير، الذي يعترض في الأفق. وفجر كاذب: وهو الضوء المستطيل كذَنَب السِّرحان يكون ممتدًا في الأفق وهذا الضوء يعقبه ظلمة؛ لأنه فجر كاذب يغرُّ الناس.
- الرد على من يمتنع عن الأكل والشرب قبل طلوع الفجر احتياطًا وهذا جاء عن بعض العلماء وعليه الشيعة أهل الهوى والضلال.
- ظاهر الآية الامتناع عن الأكل والشرب إذا طلع الفجر ولو كان الإناء في اليد، وفي المسألة حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا سَمِعَ أَحَدُكُمُ النِّدَاءَ وَالْإِنَاءُ عَلَى يَدِهِ، فَلَا يَضَعْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ» رواه أبو داود في «سننه» (2350) و الإمام أحمد في «مسنده» (10629). وهذا الحديث معل، ونفيد أن الوالد الشيخ مقبل الوادعي رَحِمَهُ اللَّهُ كان يفتي بما دل عليه حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وكان يقول: يشكل إذا كان الإناء فيه طعام، ثم بعد ذلك تراجع عن تصحيح الحديث، وقال: ظهر أن الحديث معل. والحديث في «أحاديث معلة ظاهرها الصحة» (437) (ط/ دار الآثار) للوالد الشيخ مقبل الوادعي رَحِمَهُ اللَّهُ.
حكم المبالغة في الاستنشاق للصائم
ينبغي للصائم عدم المبالغة في الاستنشاق ، ثبت في «سنن أبي داود» (2366) عَنْ لَقِيطِ بْنِ صَبْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا».
قال ابن قدامة في «المغني» (1/77) مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي الِاسْتِنْشَاقِ: اجْتِذَابُ الْمَاءِ بِالنَّفَسِ إلَى أَقْصَى الْأَنْفِ، وَلَا يَجْعَلُهُ سَعُوطًا، وَذَلِكَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ فِي الْوُضُوءِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ صَائِمًا فَلَا يُسْتَحَبُّ، لَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا. اهـ.
فالمبالغة في الاستنشاق لا ينبغي للصائم لما يخشى من نزول الماء إلى الحلق.
حكم بصق الصائم بعد المضمضة
ليس فيه ما يُلزِم بذلك ،بل ولا ما يدل على استحبابه .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في « الشرح الممتع »(6/423): لا يجب التفل بعد المضمضة، ولا عند تجمع الريق بسبب القراءة فإنه لم يعهد عن الصحابة رضي الله عنهم فيما نعلم بل هذا مما يسامح فيه.اهـ المراد.
حكم تبييت النية لمن أراد الصوم
يجب لمن أراد الصوم أن يبيت النية قبل طلوع الفجر لقول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» رواه البخاري (1) ومسلم (1907) عن عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وفي المسألة حديث عَنْ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ». أخرجه أبو داود (2454). والصحيح أنه موقوف.
وهذا عام في صوم الفرض والنافلة، وقد ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يلزم تبييت النية في صوم النافلة لحديث أبي هريرة في «صحيح مسلم» (1154) أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ دخل على عائشة فقال هل عندك شيء قالت: لا، قال: فإني إذن صائم. ولكن فيه من الروايات ما يدل على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ قد نوى الصيام من الليل.
ونصه في «صحيح مسلم» (1154) عن عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ، قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَاتَ يَوْمٍ «يَا عَائِشَةُ، هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟» قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ قَالَ: «فَإِنِّي صَائِمٌ» قَالَتْ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ - أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ - قَالَتْ: فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ - أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ - وَقَدْ خَبَأْتُ لَكَ شَيْئًا، قَالَ: «مَا هُوَ؟» قُلْتُ: حَيْسٌ، قَالَ: «هَاتِيهِ» فَجِئْتُ بِهِ فَأَكَلَ، ثُمَّ قَالَ: «قَدْ كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَائِمًا».
وفي رواية في «صحيح مسلم» عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: «هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟» فَقُلْنَا: لَا، قَالَ: «فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ» ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ فَقَالَ: «أَرِينِيهِ، فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا» فَأَكَلَ.
وهذا هو المعروف عن مالك والليث وابن أبي ذئب أنه لا يصح صيام التطوع إلا بنية من الليل كما في فتح الباري (1924). وهو قول والدي الشيخ مقبل .
والنية محلها القلب فلا يتلفظ بها.
- مسألة: من أصبح صائمًا ثم عزم وجزم أن يفطر ثم بدا له أن يستمر في صيامه هل ينقطع صومه - هل يبطل صومه؟
الجواب: لا يبطل بمجرد النية لقول النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ» رواه البخاري (5269)، ومسلم (127) عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وهذا لم يعمل، وهذا قول جماعة من العلماء.
- مسألة أخيرة عن النية هل يلزم الصائم كل ليلة أن ينوي الصيام في رمضان أم يكتفي بنية واحدة؟
في المسألة قولان للعلماء: فمنهم من يرى أنه يكتفي بنية واحدة؛ لأن صيام رمضان يعتبر عبادة واحدة، ومنهم من يرى أنه لابد أن ينوي لكل ليلة وهذا القول الثاني قول الوالد الشيخ مقبل الوادعي رَحِمَهُ اللَّهُ.
﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾
فيه دليل على الإفطار عند غروب الشمس، ويجوز الوصال إلى السحر لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تُوَاصِلُوا، فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ، فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى السَّحَرِ»، قَالُوا: فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إِنِّي أَبِيتُ لِي مُطْعِمٌ يُطْعِمُنِي، وَسَاقٍ يَسْقِينِ» رواه البخاري (1967) عن أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقد ذهب إلى هذا جماعة من العلماء منهم أحمد وهو قول الوالد الشيخ مقبل الوادعي رَحِمَهُم اللَّهُ, وأما جمهور العلماء فيرون أنه لا يجوز الوصال ولكن حديث أبي سعيد «فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ» دليل على جواز الوصال إلى السحر،والنهي فيما فوق ذلك.
وينبغي المبادرة إلى الإفطار لقول النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ» من حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، رواه البخاري (1957)، ومسلم (1098). وتجنبًا لمشابهة أهل الكتاب فإنهم يؤخرون حتى تشتبك النجوم، والشيعة يعتقدون تأخير الإفطار وينكرون على من يفطر إذا غربت الشمس وهذا من مشابهتهم لليهود، ولهم مشابهات كثيرة لليهود كما أن لهم مواقف كثيرة مع اليهود والنصارى ضد المسلمين كما قال شيخ الإسلام وذكره لنا الوالد الشيخ مقبل الوادعي رَحِمَهُما اللَّهُ. ونعوذ بالله من الرافضة ومن كيدهم .
ومن الأدلة حديث عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» رواه البخاري (1954) ،ومسلم (1100) . وقوله (إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا) أي من جهة المشرق. ( وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا)أي من جهة المغرب.
﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾
- ذكر سبحانه الاعتكاف بعد الصيام؛ لأن الاعتكاف يشرع في رمضان.
الاعتكاف لغة: الحبس واللزوم.
- وفيه دليل على تحريم الجماع للمعتكف، ويدخل في المباشرة هنا التلذذ بلمس المرأة والتقبيل، قال ابن عبد البر في «التمهيد» (8/331): أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَا يُبَاشِرُ وَلَا يُقَبِّلُ. اهـ.
وفيه دليل على أن الاعتكاف عام في المساجد؛ لأن الله تعالى قال: ﴿فِي الْمَسَاجِدِ﴾ وهذا عام، وقد قال بعضهم لا يصح الاعتكاف إلا في المساجدالثلاثة كما جاء من حديث حذيفة بن اليمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عند البيهقي في «السنن الكبرى» (8574)، قَالَ حُذَيْفَةُ لِعَبْدِ اللهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عُكُوفًا بَيْنَ دَارِكَ وَدَارِ أَبِي مُوسَى وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ» أَوْ قَالَ: «إِلَّا فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ» فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: لَعَلَّكَ نَسِيتَ وَحَفِظُوا أَوْ أَخْطَأْتَ وَأَصَابُوا. الشَّكُّ مِنِّي. والحديث فيه كلام ولو ثبت لكان المراد به: لا اعتكاف أفضل. جمعًا بينه وبين الآية، وقد ذكر هذا المعنى الوالد الشيخ مقبل الوادعي رَحِمَهُ اللَّهُ.
الاعتكاف مستحب للرجل ولا يجب الاعتكاف إلا على من نذر أن يعتكف .
و المرأة لها أن تعتكف في المسجد .أخرج البخاري (2033) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْتَكِفُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَكُنْتُ أَضْرِبُ لَهُ خِبَاءً فَيُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَدْخُلُهُ، فَاسْتَأْذَنَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَضْرِبَ خِبَاءً، فَأَذِنَتْ لَهَا، فَضَرَبَتْ خِبَاءً، فَلَمَّا رَأَتْهُ زَيْنَبُ ابْنَةُ جَحْشٍ ضَرَبَتْ خِبَاءً آخَرَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى الأَخْبِيَةَ، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟» فَأُخْبِرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلْبِرَّ تُرَوْنَ بِهِنَّ» فَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ ذَلِكَ الشَّهْرَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ.
خشى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ من مزاحمة نسائه وأن يكون من باب ما يجري بين الضرائر من الغيرة.
فالاعتكاف جائز للمرأة ولا يكون مستحبًا فإنه إذا كان لا يستحب لها الخروج للصلاة في جماعة فالاعتكاف من باب أولى والله أعلم. فإذا أمنت الفتنة من حيث الجواز يجوز.
الإسلام حريص على بقاء المرأة في بيتها قال تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب:33]. وحديث النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ، وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ» قَالَ: فَقَالَ ابْنٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: بَلَى وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «تَسْمَعُنِي أُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ: مَا تَقُولُ». رواه أحمد في «مسنده» (5468) عَنْ ابْنِ عُمَرَ، والله أعلم.
ولا يصح الاعتكاف إلا في المسجد للآية التي نحن بصددها { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ }.
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ حدود الله وهي المحرمات. ﴿فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ أي: ابتعدوا عنها.
﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾
قال ابن جرير الطبري في تفسيره(3/547): يعني بقوله:{لعلهم يتقون} يقول: أبيِّن ذلك لهم ليتقوا مَحارمي ومعاصيَّ، ويتجنَّبوا سَخطي وَغضبي، بتركهم رُكوبَ ما أبيِّن لهم في آياتي أني قد حرَّمته عليهم، وأمرتهم بهجره وتركه.اهـ.
نكون انتهينا ولله الحمد من هذه الفوائد والتعليقات المختصرة ونسأل الله أن يجعله مباركا نافعًا لنا .والحمد لله رب العالمين.