جديد المدونة

جديد الرسائل

الثلاثاء، 5 أبريل 2016

الدرس الحادي والعشرون من /الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 28من شهر جمادى الثاني 1437.


الدرس الحادي والعشرون
بسم الله الرحمن الرحيم
فصل [بعث عبد الله بن عتيك إلى قتل أبي رافع سلام بن أبي الحقيق]
ولما قتل الله ـ وله الحمد ـ كعب بن الأشرف على يد رجال من الأوس كما قدمنا ذكره بعد وقعة بدر، وكان أبو رافع سلام بن أبي الحقيق ممن ألَّب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُقتل مع بني قريظة كما قُتِل صاحبُه حُيَيُّ بنُ أخطب، رغبتِ الخزرجُ في قتله طلباً لمساواة الأوس في الأجر.
وكان الله سبحانه قد جعل هذين الحيين يتصاولان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخيرات، فاستأذنُوا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قتله فأذن لهم، فانتدب له رجال كلهم من بني سلِمة وهم: عبد الله بن عتيك وهو أمير القوم بأمره صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، ومسعود بن سنان، وخزاعي بن أسود، حليف لهم.
فنهضوا حتى أتوه في خيبر في دارٍ له جامعة، فنزلوا عليه ليلاً فقتلوه ورجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم ادَّعى قتله، «فقال: أروني أسيافكم فلما أروه قال لسيف عبد الله بن أُنيس: هذا قتله أرى فيه أثر الطعام» وكان عبد الله بن أنيس قد اتكأ عليه بالسيف حتى سمع صوتَ عظم ظهره، وعدو الله يقول: قطْني قطني، يقول: حسبي.
********************
هذا الفصل في قتل أبي رافع سلام بن أبي الحقيق من كبار اليهود وتاجر الحجاز، وقد كان هو وكعب بن الأشرف من أشدِّ الأعداء للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أما كعب بن الأشرف فتقدم قصةُ قتله بعد غزوة بني قينقاع وأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ»، ثم تقدم إليه محمد بن مسلمة وبعض أصحابه رضي الله عنهم، فقال لهم محمد بن مسلمة (فَإِذَا رَأَيْتُمُونِي اسْتَمْكَنْتُ مِنْ رَأْسِهِ، فَدُونَكُمْ فَاضْرِبُوهُ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ مُتَوَشِّحًا وَهُوَ يَنْفَحُ مِنْهُ رِيحُ الطِّيبِ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَاليَوْمِ رِيحًا، أَيْ أَطْيَبَ، قَالَ: عِنْدِي أَعْطَرُ نِسَاءِ العَرَبِ وَأَكْمَلُ العَرَبِ، فَقَالَ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَشُمَّ رَأْسَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَشَمَّهُ ثُمَّ أَشَمَّ أَصْحَابَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَتَأْذَنُ لِي؟ قَالَ: نعَمْ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنَ مِنْهُ، قَالَ: دُونَكُمْ، فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ). القصة بطولها في «الصحيحين» البخاري (4037) مسلم (1801).
وأما أبو رافع فبين أيدينا هنا قصة قتله .
وقد اختُلف في أي سنةٍ كان قتله؟. والحافظ ابن كثير رحمه الله هنا ذكر قتل أبي رافع بعد غزوة بني قريظة  من السنة الخامسة .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في «فتح الباري» (7/427): قَالَ ابن سَعْدٍ كَانَتْ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ ،وَقِيلَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ، وَقِيلَ فِيهَا سَنَةَ أَرْبَعٍ ،وَقِيلَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ. اهـ.
وأبو رافع من بني النضير ،وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويُحرِّض عليه الأعداء،وهو ممن حرَّض على المسلمين يوم الأحزاب وألَّب الكفار، فندب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى قتله، وبعث إليه من يغتاله من بني سَلِمَة  وأمَّر عليهم  عبد الله بن عتيك فخرجوا إليه وكان في حصن له بأرض الحجازكما في «صحيح البخاري» (4039) «وَكَانَ فِي حِصْنٍ لَهُ بِأَرْضِ الحِجَازِ».وقال هنا الحافظ ابن كثير( فنهضوا حتى أتوه في خيبر في دار له جامعة). قال الحافظ في فتح الباري تحت الرقم المذكور: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حِصْنُهُ كَانَ قَرِيبًا مِنْ خَيْبَرَ فِي طَرَفِ أَرْضِ الْحِجَازِ .وَوَقَعَ عِنْدَ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ( فَطَرَقُوا أَبَا رَافِعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ بِخَيْبَرَ فَقَتَلُوهُ فِي بَيْتِهِ) اهـ.
وقال الزرقاني في « شرح المواهب اللدنية بالمنح المحمدية »(3/144) عقب كلام الحافظ .وقال غيره: لا منافاة؛ لأن خيبر من الحجاز، أي من قراه وهو واضح في نفسه، لكن المطلوب تعيين المحل الذي كان فيه .اهـ.
 فلما دنوا من حصنه احتال عبدالله بن عَتيك ودخل حصنه ليلًا   وقتله الله على يد عبدالله بن عتيك وحده . وهذه القصة بتمامها نذكرها للفائدة من «صحيح البخاري» (4039) عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي رَافِعٍ اليَهُودِيِّ رِجَالًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَتِيكٍ، وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُعِينُ عَلَيْهِ، وَكَانَ فِي حِصْنٍ لَهُ بِأَرْضِ الحِجَازِ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْهُ، وَقَدْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَرَاحَ النَّاسُ بِسَرْحِهِمْ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لِأَصْحَابِهِ: اجْلِسُوا مَكَانَكُمْ، فَإِنِّي مُنْطَلِقٌ، وَمُتَلَطِّفٌ لِلْبَوَّابِ، لَعَلِّي أَنْ أَدْخُلَ، فَأَقْبَلَ حَتَّى دَنَا مِنَ البَابِ، ثُمَّ تَقَنَّعَ بِثَوْبِهِ كَأَنَّهُ يَقْضِي حَاجَةً، وَقَدْ دَخَلَ النَّاسُ، فَهَتَفَ بِهِ البَوَّابُ، يَا عَبْدَ اللَّهِ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَدْخُلَ فَادْخُلْ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُغْلِقَ البَابَ، فَدَخَلْتُ فَكَمَنْتُ، فَلَمَّا دَخَلَ النَّاسُ أَغْلَقَ البَابَ، ثُمَّ عَلَّقَ الأَغَالِيقَ عَلَى وَتَدٍ، قَالَ: فَقُمْتُ إِلَى الأَقَالِيدِ فَأَخَذْتُهَا، فَفَتَحْتُ البَابَ، وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يُسْمَرُ عِنْدَهُ، وَكَانَ فِي عَلاَلِيَّ لَهُ، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُ أَهْلُ سَمَرِهِ صَعِدْتُ إِلَيْهِ، فَجَعَلْتُ كُلَّمَا فَتَحْتُ بَابًا أَغْلَقْتُ عَلَيَّ مِنْ دَاخِلٍ، قُلْتُ: إِنِ القَوْمُ نَذِرُوا بِي لَمْ يَخْلُصُوا إِلَيَّ حَتَّى أَقْتُلَهُ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ وَسْطَ عِيَالِهِ، لاَ أَدْرِي أَيْنَ هُوَ مِنَ البَيْتِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا رَافِعٍ، قَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَأَهْوَيْتُ نَحْوَ الصَّوْتِ فَأَضْرِبُهُ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ وَأَنَا دَهِشٌ، فَمَا أَغْنَيْتُ شَيْئًا، وَصَاحَ، فَخَرَجْتُ مِنَ البَيْتِ، فَأَمْكُثُ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ دَخَلْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا الصَّوْتُ يَا أَبَا رَافِعٍ؟ فَقَالَ: لِأُمِّكَ الوَيْلُ، إِنَّ رَجُلًا فِي البَيْتِ ضَرَبَنِي قَبْلُ بِالسَّيْفِ، قَالَ: فَأَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أَثْخَنَتْهُ وَلَمْ أَقْتُلْهُ، ثُمَّ وَضَعْتُ ظِبَةَ السَّيْفِ فِي بَطْنِهِ حَتَّى أَخَذَ فِي ظَهْرِهِ، فَعَرَفْتُ أَنِّي قَتَلْتُهُ، فَجَعَلْتُ أَفْتَحُ الأَبْوَابَ بَابًا بَابًا، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى دَرَجَةٍ لَهُ، فَوَضَعْتُ رِجْلِي، وَأَنَا أُرَى أَنِّي قَدِ انْتَهَيْتُ إِلَى الأَرْضِ، فَوَقَعْتُ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ، فَانْكَسَرَتْ سَاقِي فَعَصَبْتُهَا بِعِمَامَةٍ، ثُمَّ انْطَلَقْتُ حَتَّى جَلَسْتُ عَلَى البَابِ، فَقُلْتُ: لاَ أَخْرُجُ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَعْلَمَ: أَقَتَلْتُهُ؟ فَلَمَّا صَاحَ الدِّيكُ قَامَ النَّاعِي عَلَى السُّورِ، فَقَالَ: أَنْعَى أَبَا رَافِعٍ تَاجِرَ أَهْلِ الحِجَازِ، فَانْطَلَقْتُ إِلَى أَصْحَابِي، فَقُلْتُ: النَّجَاءَ، فَقَدْ قَتَلَ اللَّهُ أَبَا رَافِعٍ، فَانْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: «ابْسُطْ رِجْلَكَ» فَبَسَطْتُ رِجْلِي فَمَسَحَهَا، فَكَأَنَّهَا لَمْ أَشْتَكِهَا قَطُّ.
 (فَكَأَنَّهَا لَمْ أَشْتَكِهَا قَطُّ). هذا فيه معجزة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وما جرى على يديه من الكرامة في شفاء عبد الله بن عتيك في نفس الوقت الذي كُسِرَت فيه ساقه،والشافي هوالله  .
وفي قصة قتل كعب بن الأشرف وأبي رافع اليهودِيَّيْنِ جواز اغتيال أئمة الكفر إذا  رأى الأمير مصلحة فيه ، وليس من وراء ذلك فتنة، والله أعلم.
ثم ذكر الحافظ ابن كثير رغبةَ الخزرج في قتل أبي رافع طلبًا لمساواة الأوس في الأجر؛ لأن كعب بن الأشرف قتله بعض الأوس، فرغبتِ الخزرج في قتل أبي رافع  مسابقة ومنافسة في الخير والأجر.فإن الأوس والخزرج كانوا يتسابقون في الخير ،والتنافس في الآخرة أمر محمود فقد ثبت في «الصحيحين» البخاري (7529) مسلم (815) عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ عبدالله بن عمر، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ القُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ». وأما التنافس في الدينا فهو مذموم. فالتنافس على قسمين: محمود وهو التنافس في الآخرة و تنافس مذموم وهو التنافس في الدنيا، كما في البخاري (4015) ومسلم (2961) من حديث عَمْرو بْنِ عَوْفٍ، وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، كَانَ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الجَرَّاحِ إِلَى البَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ صَالَحَ أَهْلَ البَحْرَيْنِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ العَلاَءَ بْنَ الحَضْرَمِيِّ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ البَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأَنْصَارُ بِقُدُومِهِ، فَوَافَتْهُ صَلاَةَ الصُّبْحِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُمْ، وَقَالَ: «أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِشَيْءٍ» قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ».
وهذا تحذير من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في التنافس في الدنيا، وحال كثير من الناس على العكس -إلا ما رحم ربي -التنافس في المذموم وترك التنافس في المحمود، كما قال تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) [القيامة]، وكما قال تعالى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) [الأعلى]، وكما قال تعالى: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا [الأنسان: 27].
وهذا فيه منقبة للأنصار رضي الله عنهم .
فائدة :قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»(7/427):وَلِأَبِي رَافِعٍ الْمَذْكُورِ-اليهودي- أَخَوَانِ مَشْهُورَانِ مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ. أَحَدُهُمَا: كِنَانَةُ وَكَانَ زَوْجَ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ قَبْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،وَأَخُوهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ وَقَتَلَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعًا بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ.اهـ.

********************
فصل [غزوة بني لِحيان]
ثم خرج صلى الله عليه وسلم بعد قريظة بستة أشهر، وذلك في جمادى الأولى من السنة السادسة على الصحيح قاصداً بني لحيان ليأخذ ثأرَ أصحاب الرجيع المتقدم ذكرُهم، فسار حتى نزل بلادهم في وادٍ يقال له غُران، وهو بين أمَج وعسفان، فوجدهم قد تحصَّنوا في رؤوس الجبال، فتركهم وركب في مائتي فارس حتى نزل عسفان وبعث فارسَين حتى نزلا كُراع الغميم، ثم كرَّا راجعين، ثم قفل صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
********************
هذا الفصل في غزوة بني لحيان، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في «فتح الباري» (4086): بَنُو لِحْيَانَ بِكَسْرِ اللَّامِ. وَقيل بِفَتْحِهَا وَسُكُون الْمُهْملَة. اهـ.
وكانت هذه الغزوة بعد قريظة بستة أشهر، وذلك في جمادى الأولى من السنة السادسة، قال ابن كثيرٍ رحمه الله: (على الصحيح)، وقال ابن حزم في «جوامع السيرة» (159): والصحيح: أنها السنة الخامسة.
وسبب هذه الغزوة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أراد أن يأخذ بثأر أصحاب الرجيع، والثأر: الدم. وتقدم قصة بعث الرجيع في أوائل السنة الرابعة، وقال بعضهم: كانت في أواخر السنة الثالثة، وبعثُ الرجيع كان فيه قتل خبيب بن عدي وعاصم بن ثابت رضي الله عنهما، فخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليأخذ بثأر أصحاب الرجيع، ثم نزل بلاد بني لحيان وكان قد  بلغهم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خرج لقتالهم، فتفرَّقُوا وتحصَّنُوا في رؤوس الجبال. ثم رجع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى المدينة، والله أعلم.
و(كراع الغميم) موضع بين مكة والمدينة. معجم البلدان (4/214).
********************
فصل [غزوة ذِي قَرَدٍ]
ثم أغار بعد قدومه المدينة بليال عيينةُ بن حصن في بني عبد الله بن غطفان، على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم التي بالغابة فاستاقَها وقتل راعيها، وهو رجل من غِفار، وأخذوا امرأته.
فكان أول من نذِر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي رضي الله عنه، ثم انبعث في طلبهم ماشياً وكان لا يُسبق، فجعل يرميهم بالنَّبل ويقول:
خُذْهَا أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ *** وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ

يعني: اللئام، واسترجع عامَّةَ ما كان في أيديهم.
ولما وقع الصريخ في المدينة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة من الفرسان، فلحقوا سلمةَ بن الأكوع، واسترجعوا اللقاح، وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ماءً يقال له ذو قَرَد، فنحر لَقْحة مما استرجَع، وأقام هناك يوماً وليلة، ثم رجع إلى المدينة. وقُتل في هذه الغزوة الأخرم، وهو مُحْرز بن نضلة رضي الله عنه، قتله عبدُ الرحمن بن عيينة، وتحوَّل على فرسه، فحَمل على عبدِ الرحمن أبو قتادة فقتله، واسترجعَ الفرس، وكانت لمحمود بن مسلمة .وأقبلت المرأة المأسورة على ناقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نذرَت: إن الله أنجاها عليها لتنحرنها، «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ما جزتها، لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا في معصية». وأخذ ناقته.
وقد روى مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوع في هذه القصة، قال: فرجعنا إلى المدينة، فلم نلبث إلا ثلاث ليال، حتى خرجنا إلى خيبر، ولعل هذا هو الصحيح، والله تعالى أعلم.
********************
هذا الفصل في غزوة ذِي قَرَدٍ، واختلف أهل العلم متى كانت غزوة ذِي قَرَدٍ؟ فمن أهل العلم من جعلها في هذا الموضع في السنة السادسة بعد غزوة بني لحيان وقبل وقعة الحديبية وخيبر .وجرى على هذه الطريقة الحافظ ابن كثير رحمه الله هنا في الفصول. ومن أهل العلم من قال: كانت غزوة ذِي قَرَدٍ في شهر صفر قبل غزوة خيبر في السنة السابعة، ودليل هذا ما في «صحيح مسلم» (1807)عن سلمة بن الأكوع  «...قَالَ: فَوَاللهِ، مَا لَبِثْنَا إِلَّا ثَلَاثَ لَيَالٍ حَتَّى خَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
وهذا ما ذهب إليه الإمام البخاري فقد بدأ بذكر الحديبية ثم ذكر غزوة ذِي قَرَدٍ ثم ذكر غزوة خيبر .وهذا هو الذي دل عليه حديث سلمة بن الأكوع في «صحيح مسلم» فقد ساق قصة الحديبية ثم غزوة ذي قرد ولم يلبث إلا ثلاث ليال ثم خرجوا إلى خيبر  قال: «...فَوَاللهِ، مَا لَبِثْنَا إِلَّا ثَلَاثَ لَيَالٍ حَتَّى خَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
قال ابن القيم رحمه الله في «زاد المعاد» (3/248): وَهَذِهِ الْغَزْوَةُ كَانَتْ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَدْ وَهِمَ فِيهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَغَازِي وَالسِّيَرِ، فَذَكَرُوا أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ الْحُدَيْبِيَةِ. اهـ. واستدل رحمه الله بحديث سلمة بن الأكوع .
غزوة ذِي قَرَدٍ تسمى غزوة الْغَابَةِ.
سبب هذه الغزوة أنه أغار على لقاح النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أُناس من غطفان، وذكر هنا الحافظ ابن كثير رحمه الله أنه عيينة بن حصن، وفي «صحيح مسلم»(1807) أنه عبد الرحمن بن عيينة ولفظه  «فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْفَزَارِيُّ قَدْ أَغَارَ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَاقَهُ أَجْمَعَ، وَقَتَلَ رَاعِيَهُ».قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري(4194) وَلَا مُنَافَاة فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عُيَيْنَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُيَيْنَةَ كَانَ فِي الْقَوْمِ .اهـ.
واللقاح جمع لقحة .قال الخليل بن أحمد في كتاب العين (3/47):اللِّقْحَةُ: الناقةُ الحَلُوب . وقال ابن الأثير في النهاية (4/262):اللِّقْحَة، بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ: النَّاقَةُ الْقَرِيبَةُ العَهْد بالنَّتاج.
وَالْجَمْعُ: لِقَحٌ. وَقَدْ لَقِحَتْ لَقْحاً ولَقَاحاً، وناقةٌ لَقُوح، إِذَا كَانَتْ غَزِيرة اللَّبَن.اهـ. وقال النووي في شرح صحيح مسلم(12/173): وَاللِّقَاحُ جَمْعُ لِقْحَةٍ بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِهَا وَهِيَ ذَاتُ اللَّبَنِ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْوِلَادَةِ.
وكان أول من عَلم بذلك سلمة بن الأكوع رضي الله عنه فاستقبل المدينة وصرخ ثلاثًا يا صباحاه - كلمة تقال للاستنفار - فسمع الناس فغاروا، وخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، واشتد سلمة بن الأكوع في السعي إليهم فهزموا واسترجع اللقاح، ولم يبق شيء في أيديهم وقتل من قتل منهم، وكان يقول:
خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ *** وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ
يقول الحافظ ابن كثير: (الرضع يعني: اللئام) يعني: يوم اللئام. وقال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (1/123): قَوْله يَوْم الرضع جمع رَضِيع أَي لئيم وَالْمعْنَى يَوْم هَلَاك اللئام .اهـ.
ونسوق القصة بتمامها من «صحيح مسلم»( 1807) عن سلمة بن الأكوع الحديث  وفيه: «...  ثُمَّ قَدِمْنَا-أي من الحديبية- الْمَدِينَةَ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِظَهْرِهِ مَعَ رَبَاحٍ غُلَامِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا مَعَهُ، وَخَرَجْتُ مَعَهُ بِفَرَسِ طَلْحَةَ أُنَدِّيهِ مَعَ الظَّهْرِ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْفَزَارِيُّ قَدْ أَغَارَ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَاقَهُ أَجْمَعَ، وَقَتَلَ رَاعِيَهُ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَبَاحُ، خُذْ هَذَا الْفَرَسَ فَأَبْلِغْهُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ، وَأَخْبِرْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَغَارُوا عَلَى سَرْحِهِ، قَالَ: ثُمَّ قُمْتُ عَلَى أَكَمَةٍ، فَاسْتَقْبَلْتُ الْمَدِينَةَ، فَنَادَيْتُ ثَلَاثًا: يَا صَبَاحَاهْ، ثُمَّ خَرَجْتُ فِي آثَارِ الْقَوْمِ أَرْمِيهِمْ بِالنَّبْلِ وَأَرْتَجِزُ، أَقُولُ:
أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ، فَأَلْحَقُ رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَصُكُّ سَهْمًا فِي رَحْلِهِ، حَتَّى خَلَصَ نَصْلُ السَّهْمِ إِلَى كَتِفِهِ، قَالَ: قُلْتُ:
خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ
قَالَ: فَوَاللهِ، مَا زِلْتُ أَرْمِيهِمْ وَأَعْقِرُ بِهِمْ، فَإِذَا رَجَعَ إِلَيَّ فَارِسٌ أَتَيْتُ شَجَرَةً، فَجَلَسْتُ فِي أَصْلِهَا، ثُمَّ رَمَيْتُهُ فَعَقَرْتُ بِهِ، حَتَّى إِذَا تَضَايَقَ الْجَبَلُ، فَدَخَلُوا فِي تَضَايُقِهِ، عَلَوْتُ الْجَبَلَ فَجَعَلْتُ أُرَدِّيهِمْ بِالْحِجَارَةِ، قَالَ: فَمَا زِلْتُ كَذَلِكَ أَتْبَعُهُمْ حَتَّى مَا خَلَقَ اللهُ مِنْ بَعِيرٍ مِنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا خَلَّفْتُهُ وَرَاءَ ظَهْرِي، وَخَلَّوْا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، ثُمَّ اتَّبَعْتُهُمْ أَرْمِيهِمْ حَتَّى أَلْقَوْا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ بُرْدَةً، وَثَلَاثِينَ رُمْحًا، يَسْتَخِفُّونَ وَلَا يَطْرَحُونَ شَيْئًا إِلَّا جَعَلْتُ عَلَيْهِ آرَامًا مِنَ الْحِجَارَةِ يَعْرِفُهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، حَتَّى أَتَوْا مُتَضَايِقًا مِنْ ثَنِيَّةٍ، فَإِذَا هُمْ قَدْ أَتَاهُمْ فُلَانُ بْنُ بَدْرٍ الْفَزَارِيُّ، فَجَلَسُوا يَتَضَحَّوْنَ - يَعْنِي يَتَغَدَّوْنَ - وَجَلَسْتُ عَلَى رَأْسِ قَرْنٍ، قَالَ الْفَزَارِيُّ: مَا هَذَا الَّذِي أَرَى؟ قَالُوا: لَقِينَا مِنْ هَذَا الْبَرْحَ، وَاللهِ، مَا فَارَقَنَا مُنْذُ غَلَسٍ يَرْمِينَا حَتَّى انْتَزَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي أَيْدِينَا، قَالَ: فَلْيَقُمْ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْكُمْ أَرْبَعَةٌ، قَالَ: فَصَعِدَ إِلَيَّ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ فِي الْجَبَلِ، قَالَ: فَلَمَّا أَمْكَنُونِي مِنَ الْكَلَامِ، قَالَ: قُلْتُ: هَلْ تَعْرِفُونِي؟ قَالُوا: لَا، وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ، وَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا أَطْلُبُ رَجُلًا مِنْكُمْ إِلَّا أَدْرَكْتُهُ، وَلَا يَطْلُبُنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ فَيُدْرِكَنِي، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَنَا أَظُنُّ، قَالَ: فَرَجَعُوا، فَمَا بَرِحْتُ مَكَانِي حَتَّى رَأَيْتُ فَوَارِسَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَلَّلُونَ الشَّجَرَ، قَالَ: فَإِذَا أَوَّلُهُمُ الْأَخْرَمُ الْأَسَدِيُّ، عَلَى إِثْرِهِ أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَعَلَى إِثْرِهِ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيُّ، قَالَ: فَأَخَذْتُ بِعِنَانِ الْأَخْرَمِ، قَالَ: فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، قُلْتُ: يَا أَخْرَمُ، احْذَرْهُمْ لَا يَقْتَطِعُوكَ حَتَّى يَلْحَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، قَالَ: يَا سَلَمَةُ، إِنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتَعْلَمُ أَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ، فَلَا تَحُلْ بَيْنِي وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ، قَالَ: فَخَلَّيْتُهُ، فَالْتَقَى هُوَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: فَعَقَرَ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ فَرَسَهُ، وَطَعَنَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَتَلَهُ، وَتَحَوَّلَ عَلَى فَرَسِهِ، وَلَحِقَ أَبُو قَتَادَةَ فَارِسُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ، فَوَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَتَبِعْتُهُمْ أَعْدُو عَلَى رِجْلَيَّ حَتَّى مَا أَرَى وَرَائِي مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا غُبَارِهِمْ شَيْئًا حَتَّى يَعْدِلُوا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى شِعْبٍ فِيهِ مَاءٌ يُقَالُ لَهُ: ذَو قَرَدٍ لِيَشْرَبُوا مِنْهُ وَهُمْ عِطَاشٌ، قَالَ: فَنَظَرُوا إِلَيَّ أَعْدُو وَرَاءَهُمْ، فَخَلَّيْتُهُمْ عَنْهُ - يَعْنِي أَجْلَيْتُهُمْ عَنْهُ - فَمَا ذَاقُوا مِنْهُ قَطْرَةً، قَالَ: وَيَخْرُجُونَ فَيَشْتَدُّونَ فِي ثَنِيَّةٍ، قَالَ: فَأَعْدُو فَأَلْحَقُ رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَصُكُّهُ بِسَهْمٍ فِي نُغْضِ كَتِفِهِ، قَالَ: قُلْتُ: خُذْهَا
وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ
قَالَ: يَا ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ، أَكْوَعُهُ بُكْرَةَ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ يَا عَدُوَّ نَفْسِهِ، أَكْوَعُكَ بُكْرَةَ، قَالَ: وَأَرْدَوْا فَرَسَيْنِ عَلَى ثَنِيَّةٍ، قَالَ: فَجِئْتُ بِهِمَا أَسُوقُهُمَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَلَحِقَنِي عَامِرٌ بِسَطِيحَةٍ فِيهَا مَذْقَةٌ مِنْ لَبَنٍ، وَسَطِيحَةٍ فِيهَا مَاءٌ، فَتَوَضَّأْتُ وَشَرِبْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي حَلَّأْتُهُمْ عَنْهُ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخَذَ تِلْكَ الْإِبِلَ وَكُلَّ شَيْءٍ اسْتَنْقَذْتُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَكُلَّ رُمْحٍ وَبُرْدَةٍ، وَإِذَا بِلَالٌ نَحَرَ نَاقَةً مِنَ الْإِبِلِ الَّذِي اسْتَنْقَذْتُ مِنَ الْقَوْمِ، وَإِذَا هُوَ يَشْوِي لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَبِدِهَا وَسَنَامِهَا، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، خَلِّنِي فَأَنْتَخِبُ مِنَ الْقَوْمِ مِائَةَ رَجُلٍ فَأَتَّبِعُ الْقَوْمَ، فَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ مُخْبِرٌ إِلَّا قَتَلْتُهُ، قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ فِي ضَوْءِ النَّارِ، فَقَالَ: «يَا سَلَمَةُ، أَتُرَاكَ كُنْتَ فَاعِلًا؟» قُلْتُ: نَعَمْ، وَالَّذِي أَكْرَمَكَ، فَقَالَ: «إِنَّهُمُ الْآنَ لَيُقْرَوْنَ فِي أَرْضِ غَطَفَانَ»، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ غَطَفَانَ، فَقَالَ: نَحَرَ لَهُمْ فُلَانٌ جَزُورًا فَلَمَّا كَشَفُوا جِلْدَهَا رَأَوْا غُبَارًا، فَقَالُوا: أَتَاكُمُ الْقَوْمُ، فَخَرَجُوا هَارِبِينَ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ خَيْرَ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ، وَخَيْرَ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ»، قَالَ: ثُمَّ أَعْطَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَيْنِ سَهْمَ الْفَارِسِ، وَسَهْمَ الرَّاجِلِ، فَجَمَعَهُمَا لِي جَمِيعًا، ثُمَّ أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَاءَهُ عَلَى الْعَضْبَاءِ رَاجِعِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ، قَالَ: وَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَا يُسْبَقُ شَدًّا، قَالَ: فَجَعَلَ يَقُولُ: «أَلَا مُسَابِقٌ إِلَى الْمَدِينَةِ؟ هَلْ مِنْ مُسَابِقٍ؟» فَجَعَلَ يُعِيدُ ذَلِكَ قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْتُ كَلَامَهُ، قُلْتُ: أَمَا تُكْرِمُ كَرِيمًا، وَلَا تَهَابُ شَرِيفًا، قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي وَأُمِّي، ذَرْنِي فَلِأُسَابِقَ الرَّجُلَ، قَالَ: «إِنْ شِئْتَ»، قَالَ: قُلْتُ: اذْهَبْ إِلَيْكَ وَثَنَيْتُ رِجْلَيَّ، فَطَفَرْتُ فَعَدَوْتُ، قَالَ: فَرَبَطْتُ عَلَيْهِ شَرَفًا - أَوْ شَرَفَيْنِ - أَسْتَبْقِي نَفَسِي، ثُمَّ عَدَوْتُ فِي إِثْرِهِ، فَرَبَطْتُ عَلَيْهِ شَرَفًا - أَوْ شَرَفَيْنِ -، ثُمَّ إِنِّي رَفَعْتُ حَتَّى أَلْحَقَهُ، قَالَ: فَأَصُكُّهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، قَالَ: قُلْتُ: قَدْ سُبِقْتَ وَاللهِ، قَالَ: أَنَا أَظُنُّ، قَالَ: فَسَبَقْتُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَوَاللهِ، مَا لَبِثْنَا إِلَّا ثَلَاثَ لَيَالٍ حَتَّى خَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ...» الحديث .
 (فنحر لقحة مما استرجع، وأقام هناك يوماً وليلة)
مما استرجع أي: مما استرد من اللقاح من أيدي الكفار ،ونحرها ليأكلوها.
(وقتل في هذه الغزوة الأخرم، وهو مُحْرِز بن نَضْلَة رضي الله عنه، قتله عبد الرحمن بن عيينة)
من شهداء غزوة ذِي قَرَدٍ: مُحْرِز بن نَضْلَة الأخرم.
(قتله عبد الرحمن بن عيينة، وتحول على فرسه)
كان  محرزفارسًا فلما قتله عبد الرحمن بن عيينة تحول على فرسه.
(فحمل على عبد الرحمن أبو قتادة فقتله، واسترجع الفرس، وكانت لمحمود بن مسلمة)
وأبو قتادة أحد الفرسان في هذه الغزوة. تقدم في الحديث الذي سقناه  من «صحيح مسلم» (1807) عن سلمة بن الأكوع«...فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ خَيْرَ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ، وَخَيْرَ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ...». (رَجَّالَتِنَا) أي: الذين يمشون على أرجلهم.
(وأقبلت المرأة المأسورة على ناقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نذرت: إن الله أنجاها عليها لتنحرنها، «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ما جزتها، لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا في معصية» وأخذ ناقته).
ذكرابن كثير قصة إقبال المرأة المأسورة على ناقة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والحديث في «صحيح مسلم» (1641) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما لكن ليس فيه أنه كان في غزوة ذي قرد ولفظه : (وَأُسِرَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَأُصِيبَتِ الْعَضْبَاءُ، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْوَثَاقِ وَكَانَ الْقَوْمُ يُرِيحُونَ نَعَمَهُمْ بَيْنَ يَدَيْ بُيُوتِهِمْ، فَانْفَلَتَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ الْوَثَاقِ، فَأَتَتِ الْإِبِلَ، فَجَعَلَتْ إِذَا دَنَتْ مِنَ الْبَعِيرِ رَغَا فَتَتْرُكُهُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى الْعَضْبَاءِ، فَلَمْ تَرْغُ، قَالَ: وَنَاقَةٌ مُنَوَّقَةٌ فَقَعَدَتْ فِي عَجُزِهَا، ثُمَّ زَجَرَتْهَا فَانْطَلَقَتْ، وَنَذِرُوا بِهَا فَطَلَبُوهَا فَأَعْجَزَتْهُمْ، قَالَ: وَنَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ نَجَّاهَا اللهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَلَمَّا قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ رَآهَا النَّاسُ، فَقَالُوا: الْعَضْبَاءُ نَاقَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: إِنَّهَا نَذَرَتْ إِنْ نَجَّاهَا اللهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللهِ، بِئْسَمَا جَزَتْهَا، نَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ نَجَّاهَا اللهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ» .
قال القرطبي رحمه الله في المفهم : إنَّما صدر هذا الذمُّ منه لأن ذلك النذر مستقبحٌ عادة ؛ لأنه مقابلة الإحسان بالإساءة . وذلك : أن النَّاقة نجَّتها من الهلكة ، فقابلتها على ذلك بأن تُهلِكَها . وهذا هو الظاهر من قوله صلى الله عليه وسلم .
********************
فصل [غزوة بني المصطلق]
وغزا صلى الله عليه وسلم بني المصطلق من خزاعة في شعبان من السنة السادسة، وقيل: كانت في شعبان سنة خمس، والأول أصح وهو قول ابن إسحاق وغيره. واستعمل على المدينة أبا ذر، وقيل: نُميلة بن عبد الله الليثي، فأغار عليهم وهم غارون على ماء لهم يسمى المريسيع، وهو من ناحية قُديد إلى الساحل، فقتل من قتل منهم، وسبى النساء والذرية، وكان شعار المسلمين يومئذ: أمت أمت. وكان من السبي جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار ملك بني المصطلق، وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبها، فأدى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها، فصارت أم المؤمنين، فأعتق المسلمون بسبب ذلك مائة بيت من بني المصطلق قد أسلموا. وفي مرجعه صلى الله عليه وسلم قال: الخبيث عبد الله بن أبي بن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، يعرض برسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغها زيد بن أرقم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء عبد الله بن أبي معتذراً ويحلف ما قال فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنزل الله عز وجل تصديق زيد بن أرقم في سورة المنافقين.
********************
هذا الفصل في غزوة بني المصطلق ويقال: غزوة المريسيع، وهذه الغزوة يقول ابن كثير رحمه الله: (في شعبان من السنة السادسة، وقيل: كانت في شعبان سنة خمس) .وهذا الثاني رجحهُ ابن القيم رحمه الله في «زاد المعاد» (3/229): وقال :وَكَانَتْ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسٍ. اهـ.
وسبب هذه الغزوة أنه بلغ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق خرج لمحاربة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فخرج عليهم وهم غارُّون...
وفي«الصحيحين» البخاري (2541) مسلم (1730) من طريق ابْنِ عَوْنٍ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى نَافِعٍ، فَكَتَبَ إِلَيَّ «إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَغَارَ عَلَى بَنِي المُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ، وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى المَاءِ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ، وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ»، حَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ الجَيْشِ .
 (وَهُمْ غَارُّونَ) أي: غافلون. ويذكر ابن عمر أنه أَصَابَ الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم  يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ ،وقد وقعت في سهم ثابت بن قيس وأسلمت رضي الله عنها وكاتبها ثابت فاستعانت بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في كتابتها.
ثبت في «مسند الإمام أحمد» (26365)عن عَائِشَة أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَايَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَقَعَتْ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ فِي السَّهْمِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ - أَوْ لِابْنِ عَمٍّ لَهُ - وَكَاتَبَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا، وَكَانَتْ امْرَأَةً حُلْوَةً مُلَاحَةً لَا يَرَاهَا أَحَدٌ إِلَّا أَخَذَتْ بِنَفْسِهِ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْتَعِينُهُ فِي كِتَابَتِهَا، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُهَا عَلَى بَابِ حُجْرَتِي فَكَرِهْتُهَا، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَرَى مِنْهَا مَا رَأَيْتُ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ سَيِّدِ قَوْمِهِ، وَقَدْ أَصَابَنِي مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ، فَوَقَعْتُ فِي السَّهْمِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ - أَوْ لِابْنِ عَمٍّ لَهُ - فَكَاتَبْتُهُ عَلَى نَفْسِي، فَجِئْتُكَ أَسْتَعِينُكَ عَلَى كِتَابَتِي. قَالَ: «فَهَلْ لَكِ فِي خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ؟» . قَالَتْ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَقْضِي كِتَابَتَكِ وَأَتَزَوَّجُكِ» قَالَتْ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «قَدْ فَعَلْتُ» . قَالَتْ: وَخَرَجَ الْخَبَرُ إِلَى النَّاسِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ، فَقَالَ النَّاسُ: أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ، قَالَتْ: فَلَقَدْ أَعْتَقَ بِتَزْوِيجِهِ إِيَّاهَا مِائَةَ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَمَا أَعْلَمُ امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا. والحديث في «الصحيح المسند » (1620) للوالد رحمه الله  .
(فِي السَّهْمِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ) أي: نصيب ثابت بن قيس .
(مُلَاحَةً) قال ابن الأثير في النهاية(4/355)  أَيْ شديدةَ الملاحةِ، وَهُوَ مِنْ أبْنِية المُبالغة.
وَفِي كِتَابِ الزَّمَخْشَرِيِّ: «وَكَانَتِ امْرَأَةً مُلاحةً: أَيْ ذاتَ مَلاحةٍ. وفُعَالٌ مبالغةٌ فِي فَعِيلٍ.
نَحْوُ كريمٍ وكُرَامٍ، وكبيرٍ وكُبَارٍ. وفُعَّالٌ مُشَدَّدٌ  أبْلَغُ مِنْهُ» .
(فَمَا أَعْلَمُ امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا) أم المؤمنين عائشة ملازمة للإنصاف تثني على أم المؤمنين جويرية مع أنها ضرتها ،وهكذا المرأة المؤمنة الواجب عليها أن تلازم الإنصاف ،وكانت جويرية  أم المؤمنين بركة على قومها لأنه أُعتق مائة أهل بيت من قومها بسببها  .
وكانت جويرية رضي الله عنها تحت مسافع بن صفوان المصطلقي ،وقد قُتِل في هذه الغزوة غزوة بني المصطلق ، وفي « عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير »لابن سيدالناس(2/372):أَنَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تَزَوَّجَهَا وَهِيَ بِنْتُ عِشْرِينَ سَنَةً .
وسيأتي إن شاء الله في «الفصول في سيرة الرسول »من هذا الكتاب فصل: في زوجات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم 228. نسأل الله أن يَمُنَّ علينا بالوصول إليه وإتمام هذا الكتاب على خيرٍ وبركة.

ووالد جويرية الحارث بن أبي ضرار جاء أنه أسلم بعد ذلك.
ثم ذكر الحافظ بن كثير رحمه الله قصة عبدالله ابن أُبي بن سلول عند مرجع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من غزوة بني المصطلق والحديث في «الصحيحين» البخاري (4905) ومسلم (2584) لكن ليس فيه أن عبد الله بن أبي قال هذا عند رجوعهم من غزوة بني المصطلق، ولكن  جاء في «مسند أحمد» (15223) (23/388) من طريق عَمْرٍو، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ - قَالَ: يَرَوْنَ أَنَّهَا غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ - فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَسَمِعَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» فَقِيلَ: رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَسَعَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهَا، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» قَالَ جَابِرٌ: وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ أَقَلَّ مِنَ الْأَنْصَارِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُهَاجِرِينَ كَثُرُوا، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ فَقَالَ: فَعَلُوهَا، وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَسَمِعَ ذَلِكَ عُمَرُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عُمَرُ، دَعْهُ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ». وقول عبدالله بن أُبي بن سلول هذا الكلام في غزوة بني المصطلق عزاه الواحدي رحمه الله في «أسباب النزول»481- إلى أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَأَصْحَابِ السِّيَرِ.اهـ.
وجاء أنه قاله في غزوة تبوك .قال الحافظ ابن كثير في تفسير سورة المنافقون : فِيهِ نَظَرٌ، بَلْ لَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ خَرَجَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، بَلْ رَجَعَ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ. وَإِنَّمَا الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْمَغَازِي وَالسِّيَرِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَزْوَةِ المُرَيسيع، وَهِيَ غَزْوَةُ بَنِي المصطلق.اهـ.
ثم ذكر الحافظ ابن كثير في هذه الغزوة تحت هذا  الفصل  قصة الإفك ،وسيأتي في الدرس الآتي إن شاء الله تعالى .والله تعالى أعلم.
واستفدنا من هذا الفصل
1-أن بني المصطلق هُزِموا بعد أن خرجوا لقتال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأنه أصابهم الذلة والقتل والسبي  .
2-جواز استرقاق العرب كما يجري على العجم.
وقد بوب البخاري في صحيحه( بَاب مَنْ مَلَكَ مِنْ الْعَرَبِ رَقِيقًا فَوَهَبَ وَبَاعَ وَجَامَعَ وَفَدَى وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ)ثم ذكر جملة من الأدلة منها غزو بني المصطلق .قال الحافظ ابن حجر رحمه الله «فتح الباري»تحت رقم (2539):هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَعْقُودَةٌ لِبَيَانِ الْخِلَافِ فِي اسْتِرْقَاقِ الْعَرَبِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَشْهُورَةٌ .وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْعَرَبِيَّ إِذَا سُبِيَ جَازَ أَنْ يُسْتَرَقَّ وَإِذَا تَزَوَّجَ أَمَةً بِشَرْطِهِ كَانَ وَلَدُهَا رَقِيقًا. وَذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى أَنَّ عَلَى سَيِّدِ الْأَمَةِ تَقْوِيمَ الْوَلَدِ وَيُلْزَمُ أَبُوهُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ وَلَا يُسْتَرَقُّ الْوَلَدُ أَصْلًا . وَقَدْ جَنَحَ الْمُصَنِّفُ-البخاري- إِلَى الْجَوَازِ وَأَوْرَدَ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ .اهـ.
قال الشافعي رحمه الله في«الأم»(4/289):وَإِذَا قُوتِلَ أَهْلُ الْحَرْبِ مِنْ الْعَجَمِ جَرَى السِّبَاءُ عَلَى ذَرَارِيِّهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَرِجَالِهِمْ لَا اخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ .
قال:وَإِذَا قُوتِلُوا وَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ فَقَدْ سَبَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهَوَازِنَ وَقَبَائِلَ مِنْ الْعَرَبِ وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ الرِّقَّ حَتَّى مَنَّ عَلَيْهِمْ بَعْدُ .
ثم ذكر عن بعضهم  أَنَّ الرِّقَّ لَا يَجْرِي عَلَى عَرَبِيٍّ بِحَالٍ.قال : وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالشَّعْبِيِّ وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْلَا أَنَّا نَأْثَمُ بِالتَّمَنِّي لَتَمَنَّيْنَا أَنْ يَكُونَ هَذَا هَكَذَا. اهـ المراد.
وقال المجد ابن تيمية رحمه الله في « المنتقى - نيل الأوطار »(7/247)عقب حديث ابن عمر في غزو بني المصطلق :وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِرْقَاقِ الْعَرَبِ .
 وبوب المجد رحمه الله في « المنتقى - نيل الأوطار »(8/5): (بَابُ جَوَازِ اسْتِرْقَاقِ الْعَرَبِ).
3-ومن فوائد هذه الغزوة جواز الإغارة على الكفار .
وهو محمول على أنهم قد بلغتهم الدعوة .أخرج الإمام أحمدفي «مسنده »(4/16)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " مَا قَاتَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَوْمًا قَطُّ إِلا دَعَاهُمْ ".والحديث صحيح .
4-تقسيم أموال الغنيمة بين المسلمين فقد قسمها صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
أخرج البخاري(2542) عن أبي سعيد الخدري: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ بَنِي المُصْطَلِقِ، فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْيِ العَرَبِ، فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ، فَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا العُزْبَةُ، وَأَحْبَبْنَا العَزْلَ، فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تَفْعَلُوا مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ إِلَّا وَهِيَ كَائِنَةٌ».
ووقعت جويرية في سهم ثابت بن قيس .

وبهذا ننتهي ولله الحمد .