جديد المدونة

جديد الرسائل

الثلاثاء، 19 أبريل 2016

الدرس الثالث والعشرون من /الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 13/من جمادى الثاني 1437.

بسم الله الرحمن الرحيم

************************
فصل [غزوة الحديبية]
ولما كان ذو القعدة من السنة السادسة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمراً في ألف ونيف قيل: وخمسمائة، وقيل: وأربعمائة، وقيل: وثلاثمائة، وقيل: غير ذلك. فأما من زعم أنه إنما خرج في سبعمائة فقد غلط.
فلما علم المشركون بذلك جمعُوا أحابيشَهم وخرجوا من مكة صادِّين له عن الاعتمار هذا العام، وقَدَّموا على خيل لهم خالدَ بن الوليد إلى كُراع الغميم.
وخالفه صلى الله عليه وسلم في الطريق فانتهى صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية، وتراسل هو والمشركون حتى جاء سهيل بن عمرو فصالحه على: أن يرجع عنهم عامَهم هذا وأن يعتمر من العام المقبل، فأجابه صلى الله عليه وسلم إلى ما سأل، لِما جعل الله عز وجل في ذلك من المصلحة والبركة، وكره ذلك جماعةٌ من الصحابة رضي الله عنهم، منهم: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وراجع أبا بكر الصديق في ذلك، ثم راجع النبي صلى الله عليه وسلم، فكان جوابه صلى الله عليه وسلم، كما أجابه الصديق رضي الله عنه، وهو أنه عبد الله ورسوله وليس يضيِّعُه، وهو ناصره.
وقد استقصى البخاري هذا الحديث في صحيحه.
فقاضاه سهيل بن عمرو على: أن يرجع عنهم عامه هذا، وأن يعتمر من العام المقبل على أن لا يدخل مكة إلا في جُلُبَّانِ السلاح، وأن لا يقيمَ عندهم أكثر من ثلاثة أيام. وعلى أن يأمن الناس بينهم وبينه عشر سنين. فكانت هذه الهُدنة من أكبر الفتوحات للمسلمين كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وعلى أنه من شاء دخل في عِقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن شاء دخل في عقد قريش. وعلى أنه لا يأتيه أحد منهم وإن كان مسلماً إلا رده إليهم، وإن ذهب أحد من المسلمين إليهم لا يردونه إليه. فأقر الله سبحانه ذلك كله إلا ما استثنى من المهاجرات المؤمنات من النساء: فإنه نهاهم عن ردِّهن إلى الكفار، وحرَّمهن على الكفار يومئذ، وهذا أمرٌ عزيز ما يقع في الأصول، وهو تخصيص السنة بالقرآن، ومنهم من عدَّه نسخاً، كمذهب أبي حنيفة وبعض الأصوليين، وليس هو الذي عليه أكثر المتأخرين، والنزاع في ذلك قريب، إذ يرجع حاصله إلى مناقشة في اللفظ.
وقد كان صلى الله عليه وسلم قبل وقوع هذا الصلح بعث عثمانَ بن عفان رضي الله عنه إلى أهل مكة يعلمهم أنه لم يجئ  لقتال أحد وإنما جاء معتمراً، فكان من سيادة عثمان رضي الله عنه أنه عرض عليه المشركون الطوافَ بالبيت، فأبى عليهم وقال: لا أطوف بها قَبل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولم يرجع عثمان رضي الله عنه، حتى بلغه صلى الله عليه وسلم أنه قد قُتل عثمان، فحمِي لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا أصحابه إلى البيعة على القتال، فبايعوه تحت شجرةٍ هناك، وكانت سمُرة، وكان عدة من بايعه هناك جملة من قدَّمنا أنه خرج معه إلى الحديبية إلا الجد بن قيس فإنه كان قد استتر ببعير له نفاقاً منه وخذلانا، وإلا أبا سريحة حذيفة بن أسيد، فإنه شهد الحديبية، وقيل: إنه لم يبايع، وقيل: بل بايع. وكان أول من بايع يومئذ أبو سنان: وهب بن مِحصن، أخو عكَّاشة بن محصن، وقيل: ابنه سنان بن أبي سنان، وبايع سلمةُ بن الأكوع رضي الله عنه يومئذ ثلاث مرات بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له بذلك، كما رواه مسلم عنه، ووضع صلى الله عليه وسلم إحدى يديه عن نفسه الكريمة ثم قال: وهذه عن عثمان رضي الله عنه فكان ذلك أجلَّ من شهوده تلك البيعة.
وأنزل الله عز وجل في ذلك: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تحتَ الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح:18]. وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل أحد ممن بايع تحت الشجرة النار» .فهذه هي بيعةُ الرضوان.
************************
هذا الفصل في غزوة الحديبية، ويقال صلح الحديبية.
والحديبية موضع .قال ابن الأثير في«النهاية»(1/349):قَرْيَةٌ قَرِيبة مِنْ مَكَّةَ. سُمّيت بِبِئْرٍ فِيهَا، وَهِيَ مُخَفَّفة، وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ يُشَدِّدها.
وقال ابن منظور في«لسان العرب»مادة (حدب): الْحُدَيْبِيَةُ بِئْرٌ بِقُرْبِ مَكَّةَ عَلَى طَرِيقِ جُدَّةَ دُونَ مَرْحَلَةٍ .ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْمَوْضِعِ وَيُقَالُ بَعْضُهُ فِي الْحِلِّ وَبَعْضُهُ فِي الْحَرَمِ وَهُوَ أَبْعَدُ أَطْرَافِ الْحَرَمِ عَنْ الْبَيْتِ .اهـ.
وفي«القاموس المحيط»:الحُدَيْبِيَةُ، كَدُوَيْهِيَةٍ، وقَد تُشَدَّدُ: بِئْرٌ قُرْبَ مكة، حرسها اللَّهُ تعالى، أو لِشجرةٍ حَدْباءَ كانت هُناكَ.
وقال النووي رحمه الله في«تهذيب الأسماءواللغات»(3/81) :الحديبية: بضم الحاء وفتح الدال وتخفيف الياء، كذا قاله الشافعي رضي الله عنه وأهل اللغة وبعض أهل الحديث، وقال أكثر المحدثين: بتشديد الياء. وهما وجهان مشهوران.هـ.
والحديبية: أدنى الحِل ،وبعضهم يقول :بعضها في الحرم .أما ابن القيم في «زادالمعاد»(3/336)فقال:وَالْحُدَيْبِيَةُ مِنَ الْحِلِّ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: بَعْضُهَا مِنَ الْحِلِّ، وَبَعْضُهَا مِنَ الْحَرَمِ، قُلْتُ: وَمُرَادُهُ أَنَّ أَطْرَافَهَا مِنَ الْحَرَمِ وَإِلَّا فَهِيَ مِنَ الْحِلِّ بِاتِّفَاقِهِمْ.اهـ.
وكانت هذه الوقعة في ذي القعدة سنة ست .قال الحافظ ابن كثير في«البداية والنهاية»(4/166) وَقَدْ كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ بِلَا خِلَافٍ.اهـ..وقدخرج  النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من المدينة معتمرًا،ومعه من أصحابه ألف وأربعمائة ،وقيل غيرذلك,والثابت في«صحيح البخاري»(4154)و«صحيح مسلم»(1856)عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ: «أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ» وَكُنَّا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَلَوْ كُنْتُ أُبْصِرُ اليَوْمَ لَأَرَيْتُكُمْ مَكَانَ الشَّجَرَةِ.وأخرج مسلم في «صحيحه» (1858) عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ الشَّجَرَةِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ النَّاسَ، وَأَنَا رَافِعٌ غُصْنًا مِنْ أَغْصَانِهَا عَنْ رَأْسِهِ، وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً الحديث .ويفيد حديث جابر ومعقل رضي الله عنهما  أنهم ألف وأربعمائة .وأخرج مسلم (1857) عن عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: «كَانَ أَصْحَابُ الشَّجَرَةِ أَلْفًا وَثَلَاثَ مِائَةٍ، وَكَانَتْ أَسْلَمُ ثُمْنَ الْمُهَاجِرِينَ».
قال النووي في«تهذيب الأسماءواللغات»(3/81): وكان الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة،- وهي شجرة سمرة- بيعة الرضوان يوم الحديبية ألفًا وأربعمائة، وقيل: ألفا وخمسمائة، وقيل: ألفا وثلاثمائة. وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما هذه الروايات الثلاث في باب غزوة الحديبية، والأشهر ألف وأربعمائة.
ثم ذكر حديث جابر الذي ذكرناه.ثم قال: وكذا قال البيهقي، وأكثر الروايات: أن أهل الحديبية كانوا ألفا وأربعمائة رضي الله تعالى عنهم.اهـ.
 وقد كان عُمَرُ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كلُّها في ذي القعدة إلا العمرة التي مع حجته .أخرج البخاري(4148)ومسلم(1253) من طريق قَتَادَةَ، أَنَّ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَخْبَرَهُ قَالَ: " اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عُمَرٍ، كُلَّهُنَّ فِي ذِي القَعْدَةِ، إِلَّا الَّتِي كَانَتْ مَعَ حَجَّتِهِ: عُمْرَةً مِنَ الحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي القَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِنَ العَامِ المُقْبِلِ فِي ذِي القَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِنَ الجِعْرَانَةِ، حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ فِي ذِي القَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ " .فخرج معتمرًا ولم يخرج لقتال .وقد كان صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول هذا كما في صحيح البخاري(2731)عن المسور في سياق حديث الحديبية وفيه  فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ ".
 وساق معه الهدي وكان الهدي سبعين بدنة .أخرج الإمام مسلم في صحيحه من طريق أَبي الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: «اشْتَرَكْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كُلُّ سَبْعَةٍ فِي بَدَنَةٍ». فَقَالَ رَجُلٌ لِجَابِرٍ: أَيُشْتَرَكُ فِي الْبَدَنَةِ مَا يُشْتَرَكُ فِي الْجَزُورِ؟ قَالَ: " مَا هِيَ إِلَّا مِنَ الْبُدْنِ، وَحَضَرَ جَابِرٌ الْحُدَيْبِيَةَ، قَالَ: نَحَرْنَا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ بَدَنَةً اشْتَرَكْنَا كُلُّ سَبْعَةٍ فِي بَدَنَةٍ ".
وأحرم هو وأصحابه من ذي الحليفة ميقات أهل المدينة، وقلَّد هديه وأشعر البُدن و«إِشْعَارُ البُدْن»هُوَ أَنْ يَشُقَّ أَحَدَ جَنْبَيْ سَنَامِ البدَنة حَتَّى يَسِيل دمُها ويَجْعل ذَلِكَ لَهَا عَلامة تُعْرف بِهَا أَنَّهَا هَدْىٌ .كما في «النهاية».
ثم انصرفوا إلى مكة بلباس الإحرام ،وهذا يدلُّ على قوةٍ في المسلمين وصمود فإنهم بعد معارك حروب مع قريش ،في غزوة بدر ،وغزوة أحد ،وغزوة الخندق. فقلوبهم مليئة بالحقد ،ومع ذلك يأتيهم إلى قعر دارهم .ولأجل هذه المخاطر والمخاوف تخلَّف كثير من الأعراب عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم واختاروا البقاء في أهليهم وأموالهم وقد فضحهم الله وأنزل فيهم آيات تتلى في سورة الفتح .
 فبلغ قريشًا قدوم المسلمين فأرسلوا خالد بن الوليد وجموعًا من قريش وأصحابهم.(قال الزبير بن بكار وغيره: كان خالد هو المقدَّم على خيول قريش في الجاهلية، ولم يزل من حين أسلم يوليه رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعِنَّة الخيل).«تهذيب الأسماء واللغات»(1/173). فذهبوا إلى كراع الغميم لصدِّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحابته عن القدوم، فعلم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فاستشار أصحابه أن يميل على ذراري من ناصر قريشًا .ولفظ القصة في«صحيح البخاري» (4178)عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ بْنِ الحَكَمِ، يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ قَالاَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الحُدَيْبِيَةِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا أَتَى ذَا الحُلَيْفَةِ، قَلَّدَ الهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ وَأَحْرَمَ مِنْهَا بِعُمْرَةٍ، وَبَعَثَ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ، وَسَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ بِغَدِيرِ الأَشْطَاطِ أَتَاهُ عَيْنُهُ، قَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا جَمَعُوا لَكَ جُمُوعًا، وَقَدْ جَمَعُوا لَكَ الأَحَابِيشَ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ، وَصَادُّوكَ عَنِ البَيْتِ، وَمَانِعُوكَ، فَقَالَ: «أَشِيرُوا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيَّ، أَتَرَوْنَ أَنْ أَمِيلَ إِلَى عِيَالِهِمْ وَذَرَارِيِّ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّونَا عَنِ البَيْتِ، فَإِنْ يَأْتُونَا كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَطَعَ عَيْنًا مِنَ المُشْرِكِينَ، وَإِلَّا تَرَكْنَاهُمْ مَحْرُوبِينَ»، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَرَجْتَ عَامِدًا لِهَذَا البَيْتِ، لاَ تُرِيدُ قَتْلَ أَحَدٍ، وَلاَ حَرْبَ أَحَدٍ، فَتَوَجَّهْ لَهُ، فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ. قَالَ: «امْضُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ».
وفي هذا دليل أنهم كانوا معهم السلاح لأنه لو لم يكن معهم سلاح ما أراد أن يميل على ذراري الكفار،وقد جاء أنهم خرجوا بغير سلاح في بعض الأحاديث الضعيفة .وقوله مَحْرُوبِينَ :أَيْ مَسْلُوبِين مَنْهُوبِين كما في «النهاية».  
ثم مضوا جادِّين في الوصول إلى مكة للعمرة ، وقال للصحابة في أثناء الطريق: خذوا ذات اليمين، فعدَل إلى طريق أخرى غير المألوفة نظرًا للمصلحة ،وتفاديًا من الاصطدام مع جيش قريش ، فلما بلغوا الثنية الَّتِي يُهْبَطُ عَلَى قريش مِنْهَا بركت الناقة، فقال الصحابة: حل حل - كلمة تقال لاستنفارالبعير وبعثه إذا امتنع عن السير- ثم زجرها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فألحَّت أي أبت أن تقوم، فقالوا: خلأت الناقة - أي: حزنت في سيرها  فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: وما ذاك لها بخُلُق ولكن حبسها حابس الفيل  أي: ما كان هذا من عادتها ولكن الله حبسها من القدوم إلى مكة صونًا للدماء كما حبس عن مكة الفيل حينما جاء أبرهة الحبشي لاستباحة الحرم والكعبة.قال الحافظ في«فتح الباري»  (5/411):وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِهَا أَنَّ الصَّحَابَةَ لَوْ دَخَلُوا مَكَّةَ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ وَصَدَّهُمْ قُرَيْشٌ عَنْ ذَلِكَ لَوَقَعَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ قَدْ يُفْضِي إِلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ وَنَهْبِ الْأَمْوَالِ كَمَا لَوْ قُدِّرَ دُخُولُ الْفِيلِ وَأَصْحَابِهِ مَكَّةَ ،لَكِنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّهُ سَيَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ خَلْقٌ مِنْهُمْ وَيُسْتَخْرَجُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ نَاسٌ يُسْلِمُونَ وَيُجَاهِدُونَ ،وَكَانَ بِمَكَّةَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ جَمْعٌ كَثِيرٌ مُؤْمِنُونَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ ،فَلَوْ طَرَقَ الصَّحَابَةُ مَكَّةَ لَمَا أَمِنَ أَنْ يُصَابَ نَاسٌ مِنْهُمْ بِغَيْرِ عَمْدٍ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ {وَلَوْلَا رجال مُؤمنُونَ }الْآيَةَ .اهـ.
ثم زجر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الناقة إلى الرجوع فوثبت وقامت، وعدل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى أقصى الحديبية ،والناس عطاش وليس هناك ماء إلا قليلًا فنزع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سهمًا من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه فما زال يربو الماء،وهذا من معجزات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزوة الحديبية.
وبيَّن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه مستعد للمصالحة والموافقة لهم شريطة أن يكون فيه تعظيم حرمات الله وقال :«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا».
 وجاء بعض المشركين إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم واحدًا بعد واحدٍ بالحديبية .
جاء رجل من قريش يقال له: بُديل، وتفاوض مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقال: إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ، وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيٍّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الحُدَيْبِيَةِ، وَمَعَهُمُ العُوذُ المَطَافِيلُ وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ البَيْتِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الحَرْبُ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً، وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرْ: فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلَّا فَقَدْ جَمُّوا، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ "، فَقَالَ بُدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ .ثم رجع إليهم .وقد بيَّن هنا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم السبب في مجيئه هو وصحابته أنهم يريدون العمرة ،وأنه موافق على الصلح إذا أرادوا ،وألا يقفوا في وجهه ليبلغ دعوة ربه ،فإن أبوا إلا الاعتراض في طريقه فإنه سيواجههم بالقتال .
 ثم بعد ذلك قال لقريش عروة بن مسعود ألست بالولد وأنتم بالوالد، ثم قال: إن هذا الرجل قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها  دعوني آته. فأتى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقال له: أي محمد أرأيت إن استأصلتَ أمرقومك هل علمت أن أحدًا من العرب اجتاح أهله كما فعلت فإن تكن الأخرى فإني والله لأرى وجوهًا وأرى أوشابًا سيدعونك، فقال أبو بكر الصديق: امصص ببظر اللات أنفر وندعه؟ القصة.
والْبَظْرُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ قِطْعَةٌ تَبْقَى بَعْدَ الْخِتَانِ فِي فَرْجِ الْمَرْأَةِ.اهـ من «فتح الباري» (5/ 340) . 
فقال عروة: مَن هذا؟ قالوا: هذا أبو بكر الصديق، قال: لولا يدٌ لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.
وكان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه واقفًا على رأس رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فكان عروة بن مسعود يأخذ بلحية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإذا وضع يده ضربها بنعل السيف. وفي «النهاية» لابن الأثير (5/82): نَعْلُ السَّيْفِ: الحديدةُ الَّتِي تَكُونُ فِي أَسْفَلِ القِراب. اهـ. قال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة. قال: أي غُدَرُ. وكان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قبل أن يسلم قتل أناسًا وأخذ أموالهم، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أما الإسلام فأقبل وأما المال فلا.
وكان عروة بن مسعود يراقب أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فما تنخَّم نخامة إلا دلك أحدهم بها وجهه وجلده، ولا أمر بأمر إلا ابتدروه، ولا توضأ إلا كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم، وكان أحدهم لا يحدُّ النظر إليه تبجيلًا له. فقال عروة بن مسعود: والله لقد رأيت الملوك قيصر وكسرى والنجاشي فما يُعَظِّمُ أحدًا منهم أصحابُه كما يُعَظِّمُ أصحابُ محمدٍ محمدًا.
ثم رجع إلى أصحابه وأخبرهم بالخبر.
وعروة بن مسعود هو عمّ والد المغيرة بن شعبة. وأمّه سبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف أخت آمنة.
كان أحد الأكابر من قومه. وقيل: إنه المراد بقوله: عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] . وكانت له اليد البيضاء في تقرير الصلح.وجاء أنه أسلم .وثبت في «صحيح مسلم»(167)عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عُرِضَ عَلَيَّ الْأَنْبِيَاءُ، فَإِذَا مُوسَى ضَرْبٌ مِنَ الرِّجَالِ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ ...الحديث . يراجع «الإصابة في تمييز الصحابة». ترجمة عروة بن مسعود الثقفي.
 ثم لما رجع عروة بن مسعود إلى أصحابه قال رجل من بني كنانة: دعوني آته، فأقبل إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلما رآه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ابعثوا إليه البُدْن فإنه رجلٌ يعظِّم البدن فأثاروا البدن فتقدمت إليه. وجعل الصحابة يلبون لبيك اللهم لبيك... فقال: سبحان الله والله ما أرى أن يُصدَّ هؤلاء، ثم رجع إليهم. وجاء رجل آخريقال له مكرَز، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: هذا رجلٌ فاجر. ثم أقبل رجل يقال له: سهيل بن عمرو، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لقد سهُل لكم أمركم –أي أنهم يريدون الصلح والتفاهم -.وهذا فيه التفاؤل وقد ثبت في «الصحيحين» البخاري (5756) ومسلم (2224) عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ الصَّالِحُ: الكَلِمَةُ الحَسَنَةُ ".
ثم تكلم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم معه في الصلح، ويستفاد من هذا ابتداء المسلمين بطلب الصلح إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك .قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61].فتم الاتفاق على هُدنة بين المسلمين وبين المشركين بشروطٍ سيأتي ذكرها عند ابن كثير.
وسهيل بن عمرو أسلم بعد ذلك .قال النووي رحمه الله في «تهذيب الأسماء واللغات»(1/239)  أحد سادات قريش وأشرافهم وخطيبهم، أسره المسلمون يوم بدر، وعلى يديه انبرم الصلح يوم الحديبية، ثم أسلم يوم الفتح.وقال في آخر الترجمة: وهو والد أبى جندل، رضى الله عنهما.اهـ.
ومدة الهدنة جاء أنهاعشر سنين عند أبي داود(2766)من طريق ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، «أَنَّهُمْ اصْطَلَحُوا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ، يَأْمَنُ فِيهِنَّ النَّاسُ وَعَلَى أَنَّ بَيْنَنَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً، وَأَنَّهُ لَا إِسْلَالَ وَلَا إِغْلَالَ».
وابن إسحاق مدلس ولم يصرح بالتحديث. وجاء أن المدة أربع سنين وهذا في بعض الروايات الضعيفة .والله أعلم.
 وقد اغتم الصحابة رضي الله عنهم غمًّا شديدًا من عقد الصلح ،وقبول شروط الكفار، لأنهم في اعتقادهم رضي الله عنهم يرون أن فيه ذلَّةً للمسلمين حيث ينقادون لشروط الكفار، ولأن النصروالعزة للمسلمين،وكانوا يريدون إذلال الكفر والشرك، فَلهذا شقَّ عليهم وكاد يقتل بعضهم بعضًا غمًا، وراجع عمر بن الخطاب في ذلك . قَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا، قَالَ: «بَلَى»، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ، وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ، قَالَ: «بَلَى»، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: «إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي»، قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: «بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ العَامَ»، قَالَ: قُلْتُ: لاَ، قَالَ: «فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ»، قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الحَقِّ، قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ العَامَ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ...وسنذكر الحديث بطوله فيما بعد إن شاءالله.
قال النووي في «شرح صحيح مسلم» (12/141): (الدَّنِيَّة)هِيَ بِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ النَّقِيصَةُ وَالْحَالَةُ النَّاقِصَةُ. اهـ.
وهذادليل على أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان قد بشَّرَ الصحابة أنهم سيأتون البيت ويطوفون به.وهذا من دلائل النبوة فقد جاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحابته رضي الله عنهم وطافوا بالبيت في العام القابل السنة السابعة .وفي ذلك يقول الله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ...}.وأخرج أحمد في المسند(31/229) في حديث الحديبية الطويل وأصله في البخاري قال ..فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ إِذْ جَاءَهُ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو فِي الْحَدِيدِ قَدِ انْفَلَتَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجُوا  وَهُمْ لَا يَشُكُّونَ فِي الْفَتْحِ لِرُؤْيَا رَآهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَوْا مَا رَأَوْا  مِنَ الصُّلْحِ وَالرُّجُوعِ، وَمَا تَحَمَّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَفْسِهِ، دَخَلَ النَّاسَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ حَتَّى كَادُوا أَنْ يَهْلَكُوا الحديث .ولكن في سنده عند أحمد عنعنة محمد بن إسحاق .وهو مدلس.
ثم قال الحافظ ابن كثير (وقد كان صلى الله عليه وسلم قبل وقوع هذا الصلح بعث عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى أهل مكة يعلمهم أنه لم يجيء لقتال أحد وإنما جاء معتمراً).
كان قبل الصلح بعث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عثمان ليخبرهم أنه إنما جاء للعمرة ولم يأت لقتال فبلَّغ رسالةَ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأشيع أنه قُتِل ،فكان هذا سببًا لبيعة الرضوان ، فبايع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصحابَه على الموت ،وجاء أنه بايعهم على ألا يفروا أشيع أنه قتل أعلى الموت ،وجتع.أخرج البخاري في  «صحيحه» واللفظ له(2960)ومسلم في  «صحيحه»  (1860)من طريق يزيد بن أبي عبيد عَنْ سَلَمَةَ بن الأكوع رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ عَدَلْتُ إِلَى ظِلِّ الشَّجَرَةِ، فَلَمَّا خَفَّ النَّاسُ قَالَ: «يَا ابْنَ الأَكْوَعِ أَلاَ تُبَايِعُ؟» قَالَ: قُلْتُ: قَدْ بَايَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «وَأَيْضًا» فَبَايَعْتُهُ الثَّانِيَةَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُبَايِعُونَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: عَلَى المَوْتِ.
وأخرج مسلم في«صحيحه» (1858) عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ الشَّجَرَةِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ النَّاسَ، وَأَنَا رَافِعٌ غُصْنًا مِنْ أَغْصَانِهَا عَنْ رَأْسِهِ، وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، قَالَ: «لَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَلَكِنْ بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ». ومعنى الروايتين واحد(عَلَى المَوْتِ)و(بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ).
وتسمى هذه البيعة بيعة الرضوان، وكانت تحت شجرة هناك سمُرة .والسمرة: شجرة الطلح. وكان بعض أغصانها متدليًا على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فكان يرفع الأغصان معقل بن يساركما في الحديث المتقدم .وهذا من مناقبه رضي الله عنه.
ثم ذكر الحافظ ابن كثير هنا  شروط الصلح وهي:
1-الصلح على أن تضع الحرب أوزارها مدة جاء أنهاعشرسنين في رواية أبي داود .ليأمن الناس فيها .
2-اشتراط سهيل بن عمرو رجوع المسلمين وعدم دخولهم مكة مع أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحابته في أدنى الحل في الحديبية قريب الحرم .فاشترط هذا واعتذر في ذلك، وقال: لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضُغْطَةً  أي قهرًا .
3- الإذن للمسلمين بالاعتمار في العام القابل .وهذا سيأتي في عمرة القضاء إن شاء الله.
4-أن لا يدخل مكة إلا في جُلُبَّان السلاح.والجُلُبَّانُ: شِبْه الجِرابِ مِنَ الأَدَمِ يُوضَعُ فِيهِ السَّيْفُ مَغْمُوداً، ويَطْرَحُ فِيهِ الرَّاكِبُ سَوْطَه وأَداتَه، ويُعَلِّقُه مِنْ آخِرةِ الكَوْرِ، أَو فِي واسِطَتِه. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَلَا يَدْخُلُهَا إِلَّا بجُلْبانِ السِّلاح السيفِ والقَوْس وَنَحْوِهِمَا؛ يُرِيدُ ما يُحتاجُ إليه في إِظْهَارِهِ والقِتال بِهِ إِلَى مُعاناة لَا كالرِّماح لأَنها مُظْهَرة يُمْكِنُ تَعْجِيلُ الأَذى بِهَا، وَإِنَّمَا اشْتَرَطُوا ذَلِكَ لِيَكَوُنَ عَلَماً وأَمارةً للسِّلْم إِذْ كَانَ دُخولُهم صُلْحاً. «لسان العرب».
5-ألا يقيم عندهم في العام القابل أكثر من ثلاثة أيام.
6-على أنه لا يأتيه أحد منهم وإن كان مسلماً إلا رده إليهم، وإن ذهب أحد من المسلمين إليهم لا يردونه إليه.
7-على أنه من شاء دخل في عِقْد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن شاء دخل في عِقْد قريش.
ولما اتفقوا كتبوا الشروط .وهذا يفيد مشروعية كتابة الشروط وثيقة للأمر، وقد أدخل الإمام البخاري هذا الحديث في (كتاب الشروط)وبوَّب على حديث صلح الحديبية (بَابُ الشُّرُوطِ فِي الجِهَادِ وَالمُصَالَحَةِ مَعَ أَهْلِ الحَرْبِ وَكِتَابَةِ الشُّرُوطِ) .
وفي ضمن الحديث الذي ذكره فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكَاتِبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» ، قَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ، فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ وَلَكِنِ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ المُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لاَ نَكْتُبُهَا إِلَّا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ» ثُمَّ قَالَ: «هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ البَيْتِ، وَلاَ قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ، وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ» - قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: «لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا».الحديث .وسيأتي ذكره بطوله في آخر الكلام على هذا الفصل إن شاءالله .
وقد نقض العهد كفارقريش قبل انتهاء المدة فلهذا غزاهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم غزوة الفتح في رمضان  السنة الثامنة من الهجرة بعد السنة السادسة- التي تم فيها صلح الحديبية -والسابعة.
وقد ذكر ابن حزم رحمه الله قصتهم في نقض العهد وقال في «جوامع السيرة»(ص:177):ثم حدث الأمر الذى أوجب نقض عهد قريش المعقود يوم الحديبية، وهو: أن خزاعة كانت فى عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم: مؤمنها وكافرها، وكانت كفار بنى بكر بن عبد مناة بن كنانة في عقد قريش، فعدت بنو بكر بن عبد مناة على قوم من خزاعة، على ماء لهم يقال له: الوتير، بأسفل مكة. وكان سبب ذلك: أن رجلا يقال له: مالك بن عباد الحضرمي، حليفا لآل الأسود بن رزن، خرج تاجرا، فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه وأخذوا ماله، وذلك قبل الإسلام بمدة، فعدت بنو بكر بن عبد مناة، رهط الأسود بن رزن، على رجل من بنى خزاعة، فقتلوه بمالك بن عباد. فعدت خزاعة على سلمى وكلثوم وذؤيب، بنى الأسود بن رزن، فقتلوهم، وهؤلاء الإخوة أشراف بنى كنانة، كانوا يودَون في الجاهلية ديتين، ويودَى سائر قومهم دية دية.
وكل هذه المقاتل قبل الإسلام؛ فلما جاء الإسلام حجز ما بين من ذكرنا، واشتغل الناس به. فلما كانت الهدنة المنعقدة يوم الحديبية أمن الناس بعضهم بعضا، فاغتنم بنو الديل من بنى بكر بن عبد مناة تلك الفرصة، وغفلة خزاعة، وأرادوا إدراك ثأر بنى الأسود بن رزن. فخرج نوفل بن معاوية الديلي بمن أطاعه من بني بكر بن عبد مناة، وليس كلهم تابعه، جاء حتى بيت خزاعة، وهم على الوتير، فاقتتلوا، ورفدت قريش بنى بكر بالسلاح وأعانهم قوم من قريش بأنفسهم مستخفين، وانهزمت خزاعة إلى الحرم. فقال قوم نوفل بن معاوية: يا نوفل، الحرم، اتق الله إلهك. فقال الكافر: لا إله له اليوم، والله يا بنى كنانة إنكم لتسرقون فى الحرم، أفلا تدركون فيه ثأركم؟ فقتلوا رجلا من خزاعة يقال له: منبه .وكان هذا نقضا للعهد الواقع يوم الحديبية.اهـ المراد.
(فكانت هذه الهدنة من أكبر الفتوحات للمسلمين كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه)
قال سبحانه: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1]. سمى سبحانه صلح الحديبية فتحًا قال الحافظ ابن كثير في تفسير سورة الفتح (6/379):جَعَلَ ذَلِكَ الصُّلْحَ فَتْحًا بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَمَا آلَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ .اهـ.وكان هذا من أكبر الفتوحات؛ لأن فيه توطئة وتمهيدًا لانتشار الإسلام أضعاف أضعاف ما كان واختلط المسلمون بالمشركين وتمكنوا من دعوتهم وأمن بعضهم بعضًا على دمائهم وأنفسهم وأموالهم ،فمن كان مجتازًا كان آمنًا ،أو جاء أحد من المسلمين إلى مكة للعمرة والحج كان آمنًا،وغير ذلك .
(وعلى أنه من شاء دخل في عَقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن شاء دخل في عَقد قريش)
من شاء أن يدخل في صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل،ومن شاء أن يدخل في صلح قريش فعل أي أنه  له الخيار.
(وعلى أنه لا يأتيه أحد منهم وإن كان مسلماً إلا رده إليهم، وإن ذهب أحد من المسلمين إليهم لا يردونه إليه. فأقر الله سبحانه ذلك كله إلا ما استثنى من المهاجرات المؤمنات من النساء: فإنه نهاهم عن ردهن إلى الكفار، وحرمهن على الكفار يومئذ)
كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة:10]. كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد قبل أن من جاء من المشركين إلى المسلمين أن يردوه، ثم جاء تخصيص ذلك بالمؤمنات المهاجرات، وبعض أهل العلم يسميه تخصيصًا وبعضهم يسميه نسخًا، كما ذكر الحافظ رحمه الله هنا ولكن قال: (وهذا أمر عزيز ما يقع في الأصول، وهو تخصيص السنة بالقرآن، ومنهم من عده نسخاً، كمذهب أبي حنيفة وبعض الأصوليين، وليس هو الذي عليه أكثر المتأخرين)
أكثر المتأخرين لا يسمونه نسخًا.
(والنزاع في ذلك قريب، إذ يرجع حاصله إلى مناقشة في اللفظ)
هل هو نسخ أو تخصيص؟ يرجع الخلاف إلى خلافٍ لفظي.
(إلا ما استثنى من المهاجرات المؤمنات من النساء: فإنه نهاهم عن ردِّهن إلى الكفار، وحرمهن على الكفار يومئذ)
قال تعالى:  ﴿لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة:10]. لما نزلت هذه الآية طلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأتين كانتا له على دين الكفار.
ثم ذكر بعض من بايع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في بيعة الرضوان منهم سلمة بن الأكوع بايع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في بيعة الرضوان ثلاث مرات في أولها وأوسطها وأخرها .روى مسلم في«صحيحه» (1807) من طريق إِيَاسَ بْنِ سَلَمَةَ، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: قَدِمْنَا الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، وَعَلَيْهَا خَمْسُونَ شَاةً لَا تُرْوِيهَا، قَالَ: فَقَعَدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَبَا الرَّكِيَّةِ، فَإِمَّا دَعَا، وَإِمَّا بَصَقَ فِيهَا، قَالَ: فَجَاشَتْ، فَسَقَيْنَا وَاسْتَقَيْنَا، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَانَا لِلْبَيْعَةِ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ، قَالَ: فَبَايَعْتُهُ أَوَّلَ النَّاسِ، ثُمَّ بَايَعَ، وَبَايَعَ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي وَسَطٍ مِنَ النَّاسِ، قَالَ: «بَايِعْ يَا سَلَمَةُ» قَالَ: قُلْتُ: قَدْ بَايَعْتُكَ يَا رَسُولَ اللهِ فِي أَوَّلِ النَّاسِ، قَالَ: «وَأَيْضًا»، قَالَ: وَرَآنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَزِلًا - يَعْنِي لَيْسَ مَعَهُ سِلَاحٌ -، قَالَ: فَأَعْطَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَفَةً - أَوْ دَرَقَةً -، ثُمَّ بَايَعَ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِ النَّاسِ، قَالَ: «أَلَا تُبَايِعُنِي يَا سَلَمَةُ؟» قَالَ: قُلْتُ: قَدْ بَايَعْتُكَ يَا رَسُولَ اللهِ فِي أَوَّلِ النَّاسِ، وَفِي أَوْسَطِ النَّاسِ، قَالَ: «وَأَيْضًا»، قَالَ: فَبَايَعْتُهُ الثَّالِثَةَ، ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا سَلَمَةُ، أَيْنَ حَجَفَتُكَ - أَوْ دَرَقَتُكَ - الَّتِي أَعْطَيْتُكَ؟»، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَقِيَنِي عَمِّي عَامِرٌ عَزِلًا، فَأَعْطَيْتُهُ إِيَّاهَا، قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: «إِنَّكَ كَالَّذِي قَالَ الْأَوَّلُ: اللهُمَّ أَبْغِنِي حَبِيبًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي»... الحديث.
وضرب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يده على يده الأخرى لعثمان بن عفان رضي الله عنه. وكان هذا من أجل مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وفي صحيح البخاري (3698) عن ابن عمر في مدافعته عن عثمان ..وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، فَلَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ اليُمْنَى: «هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ» . فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ: «هَذِهِ لِعُثْمَانَ».
وأنزل الله في بيعة الرضوان ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18].
وهذه الآية في فضائل أهل بيعة الرضوان .
 وفي«صحيح مسلم» (2496) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، يَقُولُ: أَخْبَرَتْنِي أُمُّ مُبَشِّرٍ، أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ عِنْدَ حَفْصَةَ: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ، إِنْ شَاءَ اللهُ، مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ، الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا» قَالَتْ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللهِ فَانْتَهَرَهَا، فَقَالَتْ حَفْصَةُ: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم: 71] فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم: 72].
وهذا الحديث فيه الشهادة لهم بأنهم من أهل الجنة.
************************
«ولما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من مقاضاة المشركين كما قدمنا شرع في التَّحلل من عمرته وأمر الناس بذلك، فشقَّ عليهم وتوقَّفوا رجاءَ نسخه، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، فدخل على أم سلمة فقال لها ذلك، فقالت: اخرج أنت يا رسول الله فاذبح هديك واحلق رأسك، والناس يتبعونك يا رسول الله، فخرج ففعل ذلك، فبادر الناس إلى موافقته، فحلقوا كلهم إلا عثمان بن عفان وأبا قتادة الحارث بن ربعي، فإنهما قصَّراً،» ذكره السهيلي في الروض الأنف. وكاد بعضهم يقتل بعضاً غماً، لأنهم يرون المشركين قد ألزموهم بشروط كما أحبُّوا، وأجابهم صلى الله عليه وسلم إليها وهذا من فرط شجاعتهم رضي الله عنهم وحرصهم على نصر الإسلام، ولكن الله عز وجل أعلم بحقائق الأمور ومصالحها منهم، ولهذا لما انصرف صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة أنزل الله عز وجل عليه سورة الفتح بكمالها في ذلك، وقال عبد الله بن مسعود: إنكم تعدون الفتح فتح مكة وإنما كنا نعدُّه فتح الحديبية، وصدق رضي الله عنه، فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذه هي السبب في فتح مكة كما سنذكره بعد إن شاء الله تعالى.
وعوَّض من هذه خيبر سَلَفاً وتعجيلاً.
************************
ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما فرغ من مقاضاة المشركين - أي: مصالحتهم - شرع في التحلل .ولكنه قبل أن يتحلل أمر أصحابه  بذلك ، وقال لهم: قوموا فانحروا هديكم واحلقوا رؤوسكم قالها ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة وأخبرها، فقالت: يا رسول الله اخرج وانحر هديك واحلق رأسك فإنهم إن رأوك فعلتَ فعلوا مثلك. فخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فنحر هديه وحلق رأسه فلما رأوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قاموا فنحروا هديهم وحلقوا رؤوسهم، وسيأتي الحديث بلفظه بعد قليل . وكان عندهم أمل أن ينزل حكم  آخر يقول الحافظ ابن كثير: (رجاء نسخه)، وعادة الصحابة المسابقة في امتثال أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولكن هنا كان لديهم أملٌ في تغيير الحكم. ويستفاد من هذا أن الأصل في أفعال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم التأسي، وقد قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]. ولهذا بادر الصحابة  إلى التحلل لما رأوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حلق رأسه ونحر هديه.
ويستفاد منه فضيلة لأم سلمة رضي الله عنها، وحسن مشورتها.
وفيه دليل على تضعيف ونكارة حديث <هلكت الرجال حين أطاعت النساء>.
وهذا الحديث أخرجه أحمد في مسنده  (34/ 106) وفيه بكار بن عبد العزيز قال عنه المزي في تهذيب الكمال : قال أَبُو بَكْرِ بْن أَبي خيثمة. وعباس الدوري، عَنْ يحيى بْن مَعِين: ليس حديثه بشيءٍ.وَقَال إِسْحَاق بْن مَنْصُور، عَنْ يحيى بْن مَعِين: صالح.
وَقَال أَبُو أَحْمَد بْن عدي: أرجو أنه لا بأس بِهِ، وهو من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم.اهـ.
وكذلك حديث <شاوروهن وخالفوهن >.
وهذا الحديث ذكره السخاوي في المقاصد الحسنة (585)وقال :لم أره مرفوعًا. وضعفه الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة(430).
وكان والدي رحمه الله يضعف هذين الحديثين .

 وفيه دليل على أن المحصر يحل حيث أحصر، قال سبحانه: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196]. ينحرهديه ويحلق رأسه ويتحلل إذا حصره عدو أو مرض .
ثم ذكر الحافظ ابن كثير أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما رجع من الحديبية إلى المدينة أنزل عليه سورة الفتح بكمالها. أخرج البخاري(3182) من طريق أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: كُنَّا بِصِفِّينَ، فَقَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ، فَإِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ، وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَهُمْ عَلَى البَاطِلِ؟ فَقَالَ: «بَلَى» . فَقَالَ: أَلَيْسَ قَتْلاَنَا فِي الجَنَّةِ وَقَتْلاَهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: «بَلَى» ، قَالَ: فَعَلاَمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا، أَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: «يَا ابْنَ الخَطَّابِ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا» ، فَانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الفَتْحِ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: «نَعَمْ».
 وفي صحيح مسلم (1786) من طريق  قَتَادَةَ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، حَدَّثَهُمْ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ} [الفتح: 2] إِلَى قَوْلِهِ {فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح: 5] مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهُمْ يُخَالِطُهُمُ الْحُزْنُ وَالْكَآبَةُ، وَقَدْ نَحَرَ الْهَدْيَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، فَقَالَ: «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا».
وفيه بشارة للصحابة وتسلية وتعزية لهم ،وبيان أن صلح الحديبية فتح مبين، وقدكان أُصيب الصحابة بالضيق والكرب من الصلح مع الكفاروموافقة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لهم فيما فيه تعظيم لحرمات الله ،والرجوع من غير أداء النسك فإن من دخل في النسك يكون في أشد الشوق لأدائه وإكماله .

(وعوض من هذه خيبر سلفاً وتعجيلاً)
عوض من الحديبية خيبر (سلفاً) أي: قدمها. (وتعجيلاً) عجَّلها لأن الحديبية كانت في ذي القعدة وغزوة خيبر في شهر صفر، وبعضهم يقول :في آخر محرم ،وبقي إلى أن فتحها في صفر وسيأتي هذا في الدرس الآتي إن شاءالله .
 ثم ذكر مدة إقامة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحابته في الحديبية أنها نحو عشرين ليلة. والله أعلم.
ونسوق هنا حديث غزوة الحديبية جاء في «صحيح البخاري» (2731) من طريق عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ، يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ، قَالاَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الحُدَيْبِيَةِ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةٌ، فَخُذُوا ذَاتَ اليَمِينِ» فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الجَيْشِ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَسَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا: خَلَأَتْ القَصْوَاءُ، خَلَأَتْ القَصْوَاءُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا خَلَأَتْ القَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الفِيلِ»، ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا»، ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ، قَالَ: فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ المَاءِ، يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا، فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ وَشُكِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العَطَشُ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ، فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ، وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ، فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ، وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيٍّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الحُدَيْبِيَةِ، وَمَعَهُمُ العُوذُ المَطَافِيلُ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ البَيْتِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الحَرْبُ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً، وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرْ: فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلَّا فَقَدْ جَمُّوا، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ»، فَقَالَ بُدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ، قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا، قَالَ: إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلًا، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: لاَ حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَيْءٍ، وَقَالَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ: هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، أَلَسْتُمْ بِالوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَوَلَسْتُ بِالوَلَدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَهَلْ تَتَّهِمُونِي؟ قَالُوا: لاَ، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظَ، فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ لَكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ، اقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِيهِ، قَالُوا: ائْتِهِ، فَأَتَاهُ، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: أَيْ مُحَمَّدُ أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ، هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ العَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ، وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى، فَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى وُجُوهًا، وَإِنِّي لَأَرَى أَوْشَابًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: امْصُصْ بِبَظْرِ اللَّاتِ، أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ؟ فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ قَالُوا: أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلاَ يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ، قَالَ: وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَالمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ المِغْفَرُ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ، وَقَالَ لَهُ: أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَقَالَ: أَيْ غُدَرُ، أَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ؟ وَكَانَ المُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِي الجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا الإِسْلاَمَ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا المَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ»، ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنَيْهِ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى المُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ، وَكِسْرَى، وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ: دَعُونِي آتِيهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا فُلاَنٌ، وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ البُدْنَ، فَابْعَثُوهَا لَهُ» فَبُعِثَتْ لَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلاَءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ البَيْتِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، قَالَ: رَأَيْتُ البُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ البَيْتِ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، فَقَالَ: دَعُونِي آتِيهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا مِكْرَزٌ، وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ»، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ» قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكَاتِبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، قَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ، فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ وَلَكِنِ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ المُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لاَ نَكْتُبُهَا إِلَّا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ» ثُمَّ قَالَ: «هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ»، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ البَيْتِ، وَلاَ قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ، وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ» - قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: «لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا» - فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ البَيْتِ، فَنَطُوفَ بِهِ»، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لاَ تَتَحَدَّثُ العَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ العَامِ المُقْبِلِ، فَكَتَبَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، قَالَ المُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى المُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا؟ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ المُسْلِمِينَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا لَمْ نَقْضِ الكِتَابَ بَعْدُ»، قَالَ: فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَجِزْهُ لِي»، قَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ، قَالَ: «بَلَى فَافْعَلْ»، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، قَالَ مِكْرَزٌ: بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ، قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ: أَيْ مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، أُرَدُّ إِلَى المُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا، أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ؟ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِي اللَّهِ، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا، قَالَ: «بَلَى»، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ، وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ، قَالَ: «بَلَى»، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: «إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي»، قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: «بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ العَامَ»، قَالَ: قُلْتُ: لاَ، قَالَ: «فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ»، قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الحَقِّ، قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ العَامَ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ، - قَالَ الزُّهْرِيُّ: قَالَ عُمَرُ -: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالًا، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الكِتَابِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا»، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ، اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً، حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا، فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا، ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ [الممتحنة: 10] حَتَّى بَلَغَ بِعِصَمِ الكَوَافِرِ فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ، كَانَتَا لَهُ فِي الشِّرْكِ فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَالأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المَدِينَةِ، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَقَالُوا: العَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا، فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الحُلَيْفَةِ، فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلاَنُ جَيِّدًا، فَاسْتَلَّهُ الآخَرُ، فَقَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ، لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ، ثُمَّ جَرَّبْتُ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْهِ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ، وَفَرَّ الآخَرُ حَتَّى أَتَى المَدِينَةَ، فَدَخَلَ المَسْجِدَ يَعْدُو، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُ: «لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا» فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِي وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ، قَدْ رَدَدْتَنِي إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَنْجَانِي اللَّهُ مِنْهُمْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ» فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ البَحْرِ قَالَ: وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ، فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، فَجَعَلَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلَّا لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلَّا اعْتَرَضُوا لَهَا، فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ، لَمَّا أَرْسَلَ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفتح: 24] حَتَّى بَلَغَ ﴿الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ [الفتح: 26] وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ البَيْتِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: «مَعَرَّةٌ العُرُّ: الجَرَبُ، تَزَيَّلُوا: تَمَيَّزُوا، وَحَمَيْتُ القَوْمَ: مَنَعْتُهُمْ حِمَايَةً، وَأَحْمَيْتُ الحِمَى: جَعَلْتُهُ حِمًى لاَ يُدْخَلُ، وَأَحْمَيْتُ الحَدِيدَ وَأَحْمَيْتُ الرَّجُلَ: إِذَا أَغْضَبْتَهُ إِحْمَاءً». وحديث مروان مرسل لأنه ليس بصحابي .
واستفدنا مما تقدم في هذا الفصل
بعض المعجزات للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم منها: أنهم قدموا الحديبية في وقت حر شديد وليس هناك إلا الماء اليسير، فنزع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سهما من كنانته، ووضعوه بين ماء يسير فجعل الماء يتزايد .
وفي صحيح البخاري(3576) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ رِكْوَةٌ فَتَوَضَّأَ، فَجَهِشَ النَّاسُ نَحْوَهُ، فَقَالَ: «مَا لَكُمْ؟» قَالُوا: لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأُ وَلاَ نَشْرَبُ إِلَّا مَا بَيْنَ يَدَيْكَ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الرِّكْوَةِ، فَجَعَلَ المَاءُ يَثُورُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، كَأَمْثَالِ العُيُونِ، فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا قُلْتُ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا، كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً .وفي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وضع يده في ركوة فيها ماء والركوة إناء صغير فجعل الماء يفور من بين أصابعه .
طهارة النخامة .
تحمُّل المشقة إذا كان فيه مصلحة،وهذا من سياسة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
الفرج بعد الشدة فبعد الغم الذي أصاب النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحابته جاء ما يسرهم ويقرأعينهم .ومن تأمل (سورة الفتح) انجلى له بشارات كثيرة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحابته .ومنها أن في صلح الحديبية  انتصارًا عظيمًا وعزة للإسلام،وبشارتهم بالجنة وكفارة ذنوبهم، ووصفهم بأعظم أوصاف كقوله تعالى {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}.قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: أي من الصدق والوفاء والسمع والطاعة اهـ. إلى غيرذ لك.
مشاورة الإمام لرعيته .
التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتنافس الصحابة في ذلك مما يدل على فضلهم وشدة محبتهم للخير.
بيان أن العاقبة للمتقين .
أن صلح الحديبة يسمى فتحا .

ومن بركة هذه الغزوة أنه حصل فيها أحكام كثيرة وفوائد وآداب وغرس العقيدة الصحيحة في الصحابة رضي الله عنهم .أخرج البخاري (846) ومسلم (71) عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالكَوْكَبِ».
ومن الأحكام:الرخصة للمحرم في حلق رأسه إذا كان به أذى وفيه الفدية  كما في«صحيح البخاري» (1815) من طريق عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، أَنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ، حَدَّثَهُ قَالَ: وَقَفَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالحُدَيْبِيَةِ وَرَأْسِي يَتَهَافَتُ قَمْلًا، فَقَالَ: «يُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟»، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «فَاحْلِقْ رَأْسَكَ، أَوْ - قَالَ: احْلِقْ -»، قَالَ: فِيَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ﴾ [البقرة: 196] إِلَى آخِرِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ بَيْنَ سِتَّةٍ، أَوْ انْسُكْ بِمَا تَيَسَّرَ».
ولمزيد الاستفادة يراجع فوائد حديث صلح الحديبية في «زادالمعاد»(3/267)و«فتح الباري»(2735)و(بعض فوائد صلح الحديبية ) للشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي .