جديد المدونة

جديد الرسائل

الأربعاء، 16 مارس 2016

الدرس الثامن عشرمن /كتاب التوحيد من صحيح البخاري 8 من جمادى الثاني 1437.

بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثامن عشر

مذاكرة:
أخرج أبوداود في سننه(3660) عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ 
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا، فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ 
إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ».
الحديث فيه فضل حفظ الحديث النبوي، ثم تبليغه ونشره. يدعو النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم له بالنضارة في وجهه- وهو البهاء والحسن والجمال. وهذا من الآداب الحفظ ثم التبليغ، ما يقتصر على نفسه بل يحرص أن ينفع غيره.
قال ابن القيم رحمه الله في مفتاح دارالسعادة (1/71)في التعليق على حديث نضرالله..: وَلَو لم يكن فِي فضل الْعلم الا هَذَا وَحده لكفى بِهِ شرفا فَإِن النَّبِي دَعَا لمن سمع كَلَامه ووعاه وَحفظه وبلَّغه وَهَذِه هِيَ مَرَاتِب الْعلم .أولها وَثَانِيها: سَمَاعه وعقله فَإِذا سَمعه وعاه بِقَلْبِه أَي عقَلَه وَاسْتقر فِي قلبه كَمَا يسْتَقرّ الشَّيْء الَّذِي يوعَى فِي وعائه وَلَا يخرج مِنْهُ وَكَذَلِكَ عقله هُوَ بِمَنْزِلَة عقل الْبَعِير وَالدَّابَّة وَنَحْوهَا حَتَّى لَا تشرد وَتذهب وَلِهَذَا كَانَ الوعي وَالْعقل قدرا زَائِدا على مُجَرّد إِدْرَاك الْمَعْلُوم .
الْمرتبَة الثَّالِثَة: تعاهده وَحفظه حَتَّى لاينساه فَيذْهب .
الْمرتبَة الرَّابِعَة: تبليغه وبثُّه فِي الأُمة ليحصل بِهِ ثَمَرَتُه ومقصوده .وَهُوَ بثه فِي الأمة فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْكَنْز المدفون فِي الأرض الَّذِي لَا ينْفَق مِنْهُ وَهُوَ معرَّض لذهابه فَإِن الْعلم مَا لم ينْفق مِنْهُ وَيُعلَّم فَإِنَّهُ يُوشِك أن يذهب فَإِذا أنفق مِنْهُ نما وزكا على الإنفاق .فَمن قَامَ بِهَذِهِ الْمَرَاتِب الأربع دخل تَحت هَذِه الدعْوَة النَّبَوِيَّة المتضمنة لجمال الظَّاهِر وَالْبَاطِن فَإِن النضرة هِيَ الْبَهْجَة وَالْحسن الَّذِي يكساه الْوَجْه من آثَار الإيمان وابتهاج الْبَاطِن بِهِ وَفَرح الْقلب وسروره والتذاذه بِهِ فتظهر هَذِه الْبَهْجَة وَالسُّرُور والفرحة نضارة على الْوَجْه وَلِهَذَا يجمع لَهُ سُبْحَانَهُ بَين الْبَهْجَة وَالسُّرُور والنضرة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فوقاهم الله شَرّ ذَلِك الْيَوْم ولقاهم نَضرة وسرورا }فالنضرة فِي وُجُوههم وَالسُّرُور فِي قُلُوبهم .فالنعيم وَطيب الْقلب يظْهر نضارة فِي الْوَجْه كَمَا قَالَ تَعَالَى {تعرف فِي وُجُوههم نَضرة النَّعيم }وَالْمَقْصُود أن هَذِه النضرة فِي وَجه من سمع سنة رَسُول الله ووعاها وحفظها وَبَلَّغهَا فَهِيَ أثر تِلْكَ الْحَلَاوَة والبهجة وَالسُّرُور الَّذِي فِي قلبه وباطنه.اهـ.
 استفدنا فضل تبليغ العلم ، وأن تبليغه وتعليمه من أسباب بركة العلم ونمائه، وهو أيضًا من أفضل الإعانة للأخ المسلم «... وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ...».أخرجه مسلم (2699). فمن أفضل الإعانة للأخ المسلم تعليمه وتبليغه العلم .

- التحلي بخلُقِ التواضع ،وهذا معدودٌ في آداب الطالب أن يلزم التواضع ويبتعد عن الكِبْر فإن الكبر من الصوارف عن نيلِ العلم  قال تعالى { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } .وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله .وأخرج الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1655)من طريق عَلِيِّ بْنِ خَشْرَمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ وَكِيعًا، يَقُولُ: «لَا يَكُونُ الرَّجُلُ عَالِمًا حَتَّى يَكْتُبَ عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُ وَعَمَّنْ هُوَ دُونَهُ وَعَمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ».
وذكره الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء (7/569) .

(عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُ) أي: أعلى منه سنًا وقدرًا.
هذا الأثر من آداب طالب العلم، ويذكره بعض أهل المصطلح في كتب الحديث.
وفيه الحث على التواضع، وأنه يأخذ ممن يستفيد منه، ولو كان أنزل منه نسبًا وعلمًا وقدرًا. (إنما يجلس المرء حيث يستفيد) ولو كان مع الموالي ومن هو أنزل منه شأنًا.

- ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:115]. قال الشيخ ابنُ عُثيمين رحمه الله في شرح العقيدة السفارينية 252عن هذه الآية :فيها قولان للسلف: القول الأول: أن المراد بوجه الله وجه الله الحقيقي، وقالوا: إن الآية نزلت في الصلاة، والمصلي أينما توجه فالله قِبل وجهه.
القول الثاني: أن المراد بالوجه الجهة، كقوله تعالى: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) (البقرة: الآية 148) ، فالمراد أينما تكونوا فثم جهة الله التي أمركم باستقبالها، وتكون الآية نزلت فيمن اشتبهت عليه القبلة فاتجه إلى غير القبلة وهو يريد القبلة، فنقول: هذه جهة صحيحة؛ لأنك اجتهدت وأداك اجتهادك إلى ذلك، أو لصلاة النافلة في السفر، فإن المسافر يصلي حيث كان وجهه.
وعلى كل حال فالآية التي يقول الله تعالى فيها: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله) ، فيها قولان للسلف، لكن بقية الآيات لا يراد بها إلا الوجه.


- الحزبية فيها إهدار للولاء والبراء لله عز وجل لا يوالي لله ولا يبغض لله. يقولُ والدي الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله (الحزبية ولاؤها ضيق، يوالي وعادي للحزب، من كان معنا واليناه، ومن لم يكن معنا عاديناه).
هذا مما تشتمل عليه الحزبية.

- استفدنا من والدي رحمه الله :المعاني اللغوية في تفسير البخاري أخذها الإمام البخاري من أبي عبيدة معمر بن المثنى.
************************
قال الإمام البخاري رحمه الله:
بَابُ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ [الحشر: 24].
7409 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا مُوسَى هُوَ ابْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، فِي غَزْوَةِ بَنِي المُصْطَلِقِ أَنَّهُمْ أَصَابُوا سَبَايَا، فَأَرَادُوا أَنْ يَسْتَمْتِعُوا بِهِنَّ، وَلاَ يَحْمِلْنَ، فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ العَزْلِ، فَقَالَ: «مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تَفْعَلُوا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ مَنْ هُوَ خَالِقٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ»، وَقَالَ مُجَاهِدٌ، عَنْ قَزَعَةَ، سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ فَقَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَتْ نَفْسٌ مَخْلُوقَةٌ إِلَّا اللَّهُ خَالِقُهَا».
************************
(حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله (13/391): قَوْلُهُ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ : قَالَ " أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ " هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ . قُلْتُ : وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ لِكَوْنِهِ أَيْضًا رَوَى عَنْ عَفَّانَ ، أَنَّ ابْنَ رَاهْوَيْهِ لَا يَقُولُ إِلَّا أَخْبَرَنَا " ، وَهُنَا ثَبَتَ فِي النُّسَخِ " حَدَّثَنَا فَتَأَيَّدَ أَنَّهُ ابْنُ مَنْصُورٍ .اهـ .
الإمام البخاري قد روى عن إسحاق بن راهويه وفي تهذيب الكمال ترجمة ابن راهويه رَوَى عَنه: الجماعة سوى ابْن ماجة . لكن إسحاق بن راهويه يلازمه أخبرنا (يعني إذا روى عن شيخه يقول أخبرنا). وهذا قرينة على أن إسحاق في هذا الإسناد ليس هو ابن راهويه لأنه  قال في الإسناد :حدثنا .
(حَدَّثَنَا عَفَّانُ) هو ابن مسلم الصفَّار. كان يأخذ أجرة على التحديث.
(حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ) ابن خالد.
(حَدَّثَنَا مُوسَى هُوَ ابْنُ عُقْبَةَ)
 سمع من أم خالد رضي الله عنها، ولم يسمع من أحد من الصحابة غيرها. وهذا قد جاء مصرحًا به عند البخاري(6003) من طريق مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ سَمِعْتُ أُمَّ خَالِدٍ بِنْتَ خَالِدٍ قَالَ وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَهَا قَالَتْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ).
وكان السبب في سماعه من أم خالد- مع أنه إنما يروي عن التابعين وكبارهم- ؛ لأن أم خالد رضي الله عنها تعمَّرت بسبب بركة دعاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لها كما جاء عند البخاري (5823،5845،5993): عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَتْ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَنَهْ سَنَهْ» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَهِيَ بِالحَبَشِيَّةِ: حَسَنَةٌ، قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ فَزَبَرَنِي أَبِي، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْهَا» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْلِي وَأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ، يَعْنِي مِنْ بَقَائِهَا.
وإن من يُسْرِ هذا العلم أن الدليل إذا حُفظ ينفع في علوم شتى. إذا حُفظ هذا الدليل «أَبْلِي وَأَخْلِقِي...» نستفيد منه علومًا شتى: منها الرحمة بالصغير وإدخال السرور عليه، ومنها الدعاء بطول العمر، ومنها تواضع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وهذا معدُودٌ في  يُسر العلم. الدليل الواحد قد يستفادُ منه مسائل كثيرة، فمثلاحديث أبي سعيد رضي الله عنه: (إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ). نستفيد منه التحذير من فتنة الدنيا، والأمر بتقوى الله، التحذير من فتنة النساء. ونسأل الله البركة، والله إذا بارك في الشيء نفع،وعلى حسبِ مواهبِ أرحم الراحمين قد يستنبط بعضهم من الحديث خمس فوائد وآخر يستنبط منه خمس عشرة فائدة .وأيضًا الإخلاص شأنه عظيم في بركة العلم واستخراج الفوائد .
(عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ) عبد الله.
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ)
سعد بن مالك بن سنان صحابي وأبوه صحابي. الخدري نسبة إلى خُدرة وهو الأبجر بن عوف. وأمه أم سليط صحابية شهدت غزوة أحد.
(فِي غَزْوَةِ بَنِي المُصْطَلِقِ)
وهي غزوة المريسيع، كانت سنة ست وقال بعضهم سنة خمس.
(وَقَالَ مُجَاهِدٌ)
هو ابن جبر، إمامٌ في التفسير ومن كبار تلاميذ ابن عباس .  
قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره(1/ 91): وحدثني عبيد الله بن يوسف الجُبَيْريّ، عن أبي بكر الحنفي، قال: سمعت سفيان الثوري يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهدٍ فحسبُكَ به.
والأثرُ حسنٌ .عبيد الله بن يوسف الجبيري بالجيم والموحدة مصغر أبو حفص البصري صدوق .
وأَبُو بَكْر الحنفي عبد الكبير بن عَبد المجيد ، البَصْرِيّ ترجمته في تهذيب الكمال بروايته عن سفيان الثوري .
وأخذ مجاهدٌ التفسير من ابن عباس. فقد أخرج ابن جرير في تفسيره (1/90)من طريق  طَلْق بن غنام، عن عثمان المكي، عن ابن أبي مُليكة قال: رأيت مجاهدًا يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن، ومعه ألواحُه، فيقول له ابن عباس: "اكتب"، قال: حتى سأله عن التفسير كلِّه.

وهذا إسنادٌ صحيح .طَلق بن غنام  :ثقة .
وعثمان المكي هو  عثمان بن الأسود كما في ترجمة ابنِ أبي مليكة من تهذيب الكمال.

وفي تقريب التهذيب :عثمان بن الأسود بن موسى المكي مولى بني جمح ثقة ثبت .
وأخرجه ابن جريرمن طريق محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن مجاهد، قال: عرضتُ المصحفَ على ابن عباس ثلاث عَرْضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقِفه عند كل آية منه وأسألُه عنها.
ومحمد بن إسحاق مدلس وقد عنعن ولكن يشهد له ما قبله .

وأخرج ابن سعد في الطبقات وابنُ أبي حاتم في الجرح والتعديل (8/ 319 )كلاهما في ترجمة مجاهد من طريق الْفَضْلِ بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ:
سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: عَرَضْتُ الْقُرْآنَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ثلاثين عرضة.
وهذا إسنادٌ ضعيف . الفضل بن ميمون قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (7/ 67 ):الفضل بن ميمون أبو الليث روى عن عكرمة ومجاهد روى عنه محمد بن عبد الله الأنصاري سمعت أبي يقول ذلك.اهـ.فهو مجهول.
ويستدلُّ بهذا أهل العلم أن من  التابعين من تلقى التفسيركلَّه عن الصحابة ،كما أن الصحابة تلقوا التفسير من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وإن مما ينبغي تُصرفَ له الهممُ علم التفسير؛ لأنه بالتفسير يُفهم كتابُ الله عز وجل ،ويتيسر تدبرُ القرآن ،وبركاتُ القرآن تُنال بالاهتمام بعلومه وتفسيره وبالعمل به قال تعالى :{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}.

هذا الباب في إثبات صفة الخلق لله عز وجل. وذكر الإمام البخاري في الترجمة أربعة أسماء لله عز وجل ﴿هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ [الحشر: 24].
وخاتمة سورة الحشر فيها ستة عشر اسمًا لله عز وجل. نمرُّ عليها إن شاء الله للاستفادة:
﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [الحشر:22]
هذه أربع أسماء لله عز وجل:
الأول: ﴿اللَّهُ لفظ الجلالة وهو أعرف المعارف، ويدل على إثبات صفة الألوهية لله عز وجل أي: أن الله هو المستحق للعبادة وحده وهذه الصفة صفة ذاتية.
الثاني: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ من أسماء الله العالم، ويتضمن صفة العلم لله عز وجل. ومن أسماء الله العليم، ومن أسماء الله العلام ﴿إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة:109]. وعلم الله عز وجل شملَ كلَّ شيءٍ قال تعالى {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا }.وهومحيط بكل شيء، {وقد أحاط بكل شيء علمًا} ، يعلم الصغيرة والدقيقة كما يعلم الأشياء الكبيرة ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5].
الثالث والرابع: ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ويتضمنان إثبات صفة الرحمة لله عز وجل إلا أن الرحمن أوسع وأشمل في عموم الرحمة.
﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الحشر:23].
في هذه الآية ثمانية أسماء﴿الْمَلِكُ وقال سبحانه: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الجمعة:1].
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في بدائع الفوائد في معنى الملِك: أما الملِك فهو الآمر الناهي،المعز المذل، الذي يُصَرِّفُ أمورعباده كما يحب، ويقلبهم كما يشاء.اهـ

وكل شيء في ملك الله وخاضع لقهره وتدبيره ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26].
﴿الْقُدُّوسُ: ومعناه (الطاهر)، الطاهر عن المعايب والنقائص. وذكر الله هذا الاسم في موضعين في سورة الحشر، وفي سورة الجمعة. وفي صحيح مسلم (487) أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ».
﴿السَّلَامُ: لم يُذْكر في القرآن إلا في هذا الموضعٍ .ومعنى اسم الله السلام أي: أن الله سالم من العيوب والنقائص ويسلِّم غيره من الشر والمصائب.وتقدم معنا في دروسٍ سابقة .
﴿الْمُؤْمِنُ: ولم يرد اسم الله المؤمن في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع .
واسم الله المؤمن تكلم أهل العلم على ما تضمنه من المعنى .
قال ابنُ الأثير في النهاية: فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى «المُؤْمِن» هُوَ الَّذِي يَصْدُق عبادَه وعْدَه: فَهُوَ مِنَ الْإِيمَانِ:التَّصديق.
أَوْ يُؤَمِّنُهُمْ فِي الْقِيَامَةِ مِنْ عَذَابِهِ، فَهُوَ مِنَ الأَمَان، والأَمْن ضِدُّ الْخَوْفِ.اهـ.
وقال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية {المُؤمِنْ}: أَيِ الْمُصَدِّقُ لِرُسُلِهِ بِإِظْهَارِ مُعْجِزَاتِهِ عَلَيْهِمْ .
وَمُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ .
وَمُصَدِّقُ الْكَافِرِينَ مَا أَوْعَدَهُمْ مِنَ الْعِقَابِ.
وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُؤْمِنُ أَوْلِيَاءَهُ مِنْ عَذَابِهِ وَيُؤْمِنُ عِبَادَهُ مِنْ ظُلْمِهِ، يُقَالُ: آمَنَهُ مِنَ الْأَمَانِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْخَوْفِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ  } [قريش: 4] فَهُوَ مُؤْمِنٌ .
وَقَالَ مجاهد: المؤمن الذي وحَّد نفسه بقول:{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ } [آل عمران: 18] .
فهذه عدَّةُ معاني لهذا الاسم .
1-الله عزوجل يصدق عبده المؤمنَ أي بقبول إيمانه وتحقيق ما وعده به من الثواب ومجازاة الإحسان بالإحسان والجنة .وفي الحديث المتفق عليه (ووعدك حق ) .
2- ويؤمِّن المؤمن من العذاب والخزي في الدنيا والأخرى  إن أتى بما أوجب الله عليه .
قال ابن قتيبة في غريب القرآن ص 10 في ذكر معاني مؤمن : وقد يكون "المؤْمن" من "الأمَان"؛ أي: لا يأمَنُ إلا من أَمَّنَه الله .اهـ.
فعلى المؤمن أن يكون مطمئنا مرتاح البال ولا يسيء الظن بالله لأن من أسماء الله المؤمن،وأن يعلِّقَ قلبه بربه وليس بالمخلوقين لأن الأمان بيده سبحانه ،الأمان من الفتن ،الأمان من الفقر ، الأمان من الظلم في الدنيا والأخرى وتوفى كل نفس ماكسبت وهم لا يظلمون ،الأمان عند سكرات الموت ، الأمان من الأعداء ،الأمان من الضرر ،الأمان يوم الفزع الأكبر ، الأمان من العذاب ومن دخول النار ،فالله عزوجل أعطى عبده المؤمنَ أمانًا فليثق بربه ويسلك طريق النجاة .
3-ومن المعاني : يصدِّق رسلَه بما جاؤوا به من الوحي بإظهار ما يدل على صدقهم من المعجزات والنصر وهكذا أولياؤه يؤيِّدهم بالنصر والكرامات  {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}  .
4-ويصدِّق أعداءه الكفرة بالجحيم والنكال وفي الحديث المتفق عليه (والنار حق ) .
5- وعلى قول مجاهد المؤمن الذي وحَّد نفسه . أي أن الله يصدِّق نفسه ويشهد لها بالوحدانية وشهادة الله أعظم شهادة كما قال سبحانه {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} .
﴿الْمُهَيْمِنُ: بمعنى الشاهد أي: أن الله شهيد على خلقه ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المجادلة:6]. أي: مطلع على أعمالهم.
﴿الْعَزِيزُ: وله ثلاثة معاني: (عزة امتناع، عزة قهر وغلبة، عزة قوة)
وهو العــزيز فلن يُرامَ جنـــابُه  ***  أَنَّى يرامُ جنابُ ذي السُّلطَان
وهو العــزيزُ القـاهـرُ الغــلَّاب  ***  لم يغلِبْه شيءٌ هذه صِفتــــان
وهو العزيزُ بقوَّةٍ هي وصفُــــه  ***  فالعـــزُّ حينئذٍ ثلاثُ معـــــان
وهي التي كمُلت له سبحــــــانه  ***  من كل وجهٍ عادمِ النُّقْصـــان
﴿الْجَبَّارُ: قال الإمام السعدي في تفسيره (854): الذي قهر جميع العباد، وأذعن له سائر الخلق، الذي يجبر الكسير، ويغني الفقير.
يجبر الكسير: يعني يعطي المحتاج. فالله يجبر الكسير ويعطي السائل إذا سأل، ويشفي المريض ويجْبُرُ المُصاب.
قال ابن القيم رحمه الله في نونيته 209
وكَذلكَ الجَبَّارُ في أَوْصافِهِ ... والجَبْرُ في أَوْصَافِه نَوْعَانِ
جَبْرُ الضَّعِيفِ وكُلُّ قَلْبٍ قد غَدَاَ ... ذَا كَسْرَةٍ فَالجَبْرُ مِنْهُ دَانِ
والثَّاني جَبْرُ القَهْرِ بِالعِزِّ الَّذي ... لا يَنْبَغِي لِسِوَاهُ مِنْ إِنْسَانِ
ولَهُ مُسَمَّىً ثَالِثٌ وَهُوَ العُلُـ ... ـوَ فَلَيْسَ يَدْنُو مِنْهُ مِنْ إِنْسَانِ
مِنْ قولهم جَبَّارةٌ للنَّخْلَةِ العُلْيَا ... التي فاتَتْ لِكُلِّ بَنَانِ
وفي كلام  ابن القيم رحمه الله في شفاء العليل 121 ما يفسِّر هذه الأبيات يقول رحمه الله:فالجبار في صفة الرب سبحانه ترجع إلى ثلاثة معان الملك والقهر والعلو فإن النخلة إذا طالت وارتفعت وفاتت الأيدي سميت جبارة. ولهذا جعل سبحانه اسمه الجبار مقرونا بالعزيز والمتكبر وكل واحد من هذه الأسماء الثلاثة تضمن الاسمين الآخرين وهذه الأسماء الثلاثة نظير الأسماء الثلاثة وهي الخالق البارئ المصور فالجبار المتكبر يجريان مجرى التفصيل لمعنى اسم العزيز كما أن البارئ المصور تفصيل لمعنى اسم الخالق فالجبار من أوصافه يرجع إلى كمال القدرة والعزة والملك ولهذا كان من أسمائه الحسنى .اهـ.
وفي سنن أبي داوود (873) من حديث عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، قَالَ: قُمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً، فَقَامَ فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، لَا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إِلَّا وَقَفَ فَسَأَلَ، وَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إِلَّا وَقَفَ فَتَعَوَّذَ، قَالَ: ثُمَّ رَكَعَ بِقَدْرِ قِيَامِهِ، يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: «سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ»، ثُمَّ سَجَدَ بِقَدْرِ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ فِي سُجُودِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ بِآلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَرَأَ سُورَةً سُورَةً. والحديث في الصيحيح المسند للوادعي (1031).
والجبارمن خصائص ربِّ العالمين
قال تعالى :{وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}.
وقال تعالى:{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}.
قال ابنُ القيم في شفاء العليل 121: وأما المخلوق فاتصافه بالجبار ذم له ونقص ثم ذكر بعض الأدلة منها قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّار} أي مسلط تقهرهم وتُكْرِههم على الإيمان.اهـ.
وفي صحيح البخاري(4850) وصحيح مسلم (2846)  عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " تَحَاجَّتِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ:
أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتِ الجَنَّةُ: مَا لِي لاَ يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِلْؤُهَا، فَأَمَّا النَّارُ: فَلاَ تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلاَ يَظْلِمُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَأَمَّا الجَنَّةُ: فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا "

﴿الْمُتَكَبِّرُ: قال الإمام السعدي رحمه الله في تفسيره (854): الذي له الكبرياء والعظمة، المتنزه عن جميع العيوب والظلم والجور.
وصفة الكبرياء من خصائص رب العالمين.
أخرج مسلم (2620) عن أبي سعيدٍ الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما قَالَا:قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعِزُّ إِزَارُهُ، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ، فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ».

﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر:24].
﴿الْخَالِقُ: فيه إثبات صفة الخلق لله عز وجل.
﴿الْبَارِئُ: يفيد إثبات صفة البرء لله عز وجل.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (8/80) عند تفسير هذه الآية: الْخَلْقُ: التَّقْدِيرُ، وَالْبَرَاءُ: هُوَ الْفَرْيُ، وَهُوَ التَّنْفِيذُ وَإِبْرَازُ مَا قَدَّرَهُ وَقَرَّرَهُ إِلَى الْوُجُودِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ قَدَّرَ شَيْئًا وَرَتَّبَهُ يَقْدِرُ عَلَى تَنْفِيذِهِ وَإِيجَادِهِ سِوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ الشَّاعِرُ يَمْدَحُ آخَرَ:
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ       وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي
أَيْ: أَنْتَ تُنَفِّذُ مَا خَلَقْتَ، أَيْ: قَدَّرْتَ بِخِلَافِ غَيْرِكَ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ مَا يُرِيدُ. فَالْخَلْقُ: التَّقْدِيرُ. وَالْفَرْيُ: التَّنْفِيذُ. وَمِنْهُ يُقَالُ : قَدَّرَ الْجَلَّادُ ثُمَّ فَرَى، أَيْ: قَطَعَ عَلَى مَا قَدَّرَهُ بِحَسَبِ مَا يُرِيدُهُ.اهـ.
والأسماء الثلاثة (الخالق، البارئ، المصور) متقاربة في المعنى .
﴿الْمُصَوِّرُ: من أسماء الله عز وجل، وفيه إثبات صفة التصوير لله عز وجل، قال سبحانه: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر:64]. وقال الله عز وجل: ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الإنفطار:8]. والله سبحانه هو المنفرد بالتصوير، فلا يجوز تصوير ذوات الأرواح .
أخرج البخاري (5950) ومسلم (2109)عن عبدالله بن مسعود قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ المُصَوِّرُونَ».
التصوير مضاهاةٌ لخلق الله أخرج البخاري(5953)ومسلم(2111) من طريق أبي زُرْعَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، دَارًا بِالْمَدِينَةِ، فَرَأَى أَعْلاَهَا مُصَوِّرًا يُصَوِّرُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً، وَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً» .
وأخرج البخاري (2086) عن أبي جحيفة نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ وَثَمَنِ الدَّمِ، وَنَهَى عَنِ الوَاشِمَةِ وَالمَوْشُومَةِ، وَآكِلِ الرِّبَا وَمُوكِلِهِ، وَلَعَنَ المُصَوِّرَ».
وأخرج مسلم في صحيحه(2110) من طريق سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ أُصَوِّرُ هَذِهِ الصُّوَرَ، فَأَفْتِنِي فِيهَا، فَقَالَ لَهُ: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، قَالَ: أُنَبِّئُكَ بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ، يَجْعَلُ لَهُ، بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا، نَفْسًا فَتُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ» وقَالَ: «إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا، فَاصْنَعِ الشَّجَرَ وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ».
وأخرج مسلم (969)من طريق  أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ «أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ».

وفي رواية لمسلم :«ولا صورة إلا طمستها».
وأخرج الترمذي في سننه(2574) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ لَهَا عَيْنَانِ تُبْصِرَانِ وَأُذُنَانِ تَسْمَعَانِ وَلِسَانٌ يَنْطِقُ، يَقُولُ: إِنِّي وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ، بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَبِكُلِّ مَنْ دَعَا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَبِالمُصَوِّرِينَ ".
وهذه الأدلة عامة كل مصور (كل) لفظ من ألفاظ العموم.
«ولا صورة إلا.طمستها»صورة  نكرة في سياق النفي وهذا يفيد العموم. ليس فيه تفرقة.
أما ما كان له ظل فقال النووي في شرح صحيح مسلم : وَأَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِ مَا كَانَ لَهُ ظِلٌّ وَوُجُوبُ تَغْيِيرِهِ اهـ .
وأما ما ليس له ظل كالصورة في سيارة أو في  الجدار أو في الثياب فحرام على ما تقتضيه الأدلة وقد عزا النووي التحريم إلى جمهور العلماء وهو قول أحمد .
قال النووي في شرح صحيح مسلم : ولافرق فى هذا كله بين ماله ظل ومالاظل لَهُ هَذَا تَلْخِيصُ مَذْهَبِنَا فِي الْمَسْأَلَةِ وَبِمَعْنَاهُ قَالَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ.
وهو قول الشيخ ابن باز فقد ذكر في مقدمته لكتاب "إعلان النكير على المفتونين بالتصوير" أنه غلط غلطا فاحشا من فرَّق بين التصوير الشمسي والتصوير النحتي .
وبعبارة أخرى بين التصوير الذي له ظل والذي لاظل له .لأن الأحاديث الصحيحة تعم النوعين،ونصح رحمه الله بقراءة كتاب الشيخ التويجري كلِّه وتفهم معناه  اهـ .
وقول والدي الشيخ مقبل .
إذاً تبين أن الجماهير على تحريم صور ذوات الأرواح سواء لها ظل أوليس لها ظل .
أما من قال :ما ليس له ظل جائز فيرد عليه بعمومات الأدلة وبأدلة خاصة كحديث النمرقة .
أخرج البخاري  (5181)ومسلم (2107)عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ: أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى البَابِ فَلَمْ يَدْخُلْ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الكَرَاهِيَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ؟» قَالَتْ: فَقُلْتُ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ "
وَقَالَ: «إِنَّ البَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لاَ تَدْخُلُهُ المَلاَئِكَةُ» .
قال النووي في شرح صحيح مسلم :قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ إِنَّمَا يَنْهَى عَمَّا كَانَ له ظل ولابأس بِالصُّوَرِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا ظِلٌّ وَهَذَا مَذْهَبٌ بَاطِلٌ فَإِنَّ السِّتْرَ الَّذِي أَنْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّورَةَ فِيهِ لَا يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّهُ مَذْمُومٌ وَلَيْسَ لِصُورَتِهِ ظِلٌّ مَعَ بَاقِي الْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَةِ فِي كُلِّ صُورَةٍ.
قلت : وهو قول الإمام أحمد قال ابن قدامة في المغني(7/285) قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الرَّجُلُ يَكْتَرِي الْبَيْتَ فِيهِ تَصَاوِيرُ، تَرَى أَنْ يَحُكَّهَا؟ قَالَ: نَعَمْ.
 قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: دَخَلْت حَمَّامًا، فَرَأَيْت صُورَةً، أَتَرَى أَنْ أَحُكَّ الرَّأْسَ؟ قَالَ: نَعَمْ اهـ المراد.
شبهة والجواب عنها
وأما مارواه البخاري (5958) ومسلم (2106)عن  أَبِي طَلْحَةَ، صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ» قَالَ بُسْرٌ: ثُمَّ اشْتَكَى زَيْدٌ بَعْدُ، فَعُدْنَاهُ فَإِذَا عَلَى بَابِهِ سِتْرٌ فِيهِ صُورَةٌ، قَالَ: فَقُلْتُ لِعُبَيْدِ اللهِ الْخَوْلَانِيِّ، رَبِيبِ مَيْمُونَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَمْ يُخْبِرْنَا زَيْدٌ عَنِ الصُّوَرِ يَوْمَ الْأَوَّلِ؟ فَقَالَ عُبَيْدُ اللهِ: أَلَمْ تَسْمَعْهُ حِينَ قَالَ: «إِلَّا رَقْمًا فِي ثَوْبٍ».
وقد أجاب النووي في شرح صحيح مسلم عن هذا الحديث وقال : قوله (إلارقما فِي ثَوْبٍ) هَذَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ بإباحة ماكان رَقْمًا مُطْلَقًا كَمَا سَبَقَ وَجَوَابُنَا وَجَوَابُ الْجُمْهُورِ عَنْهُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى رَقْمٍ عَلَى صُورَةٍ الشَّجَرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَيْسَ بِحَيَوَانٍ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا جَائِزٌ عِنْدَنَا .
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : يحتمل أن يكون ذلك قبل النهي .
وهناك مؤلفات لبعض العلماء كمؤلف الشيخ حمود التويجري رحمه الله (إعلان النكير على المفتونين بالتصوير) ورسائل للعلماء مثل الشيخ ابن باز والشيخ الوادعي رحمهما الله ورسالة الوالد بعنوان (تحريم تصوير ذوات الأرواح).
المستسلم للدليل يقتنع ولو بدليل واحد،فكيف وفي المسألة جملةٌ كبيرة من الأدلة . وقد بوب الإمام النجدي رحمه الله في كتاب التوحيد (باب ما جاء في المصورين).
والواجب علينا أن نتأثر بالأدلة ولا نتأثر بالمجتمعات،ونشكو إلى الله، صار الدين عند بعضهم  التأثر بحال الناس،ولا يجوز لنا تتبع الرُّخَص، وقد قَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: «لَوْ أَخَذْتَ بِرُخْصَةِ كُلِّ عَالمٍ أَوْ زَلَّةِ كُلِّ عَالمٍ اجْتَمَعَ فِيكَ الشَّرُّ كُلُّهُ» حلية الأولياء لأبي نعيم (3/32) .
إذن عرفنا من الأدلة المتقدمة تحريم تصوير ذوات الأرواح، والذين يقولون بجوازه غاية ما يستدلون به تجويز بعض العلماء له؛ مع أننا نجد لهؤلاء العلماء فتاوى ومقالات في تحريم التصوير كالشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين. وعلينا أن نأخذ ديننا من الأدلة من القرآن والسنة ولا نقلِّد ،ولا نتأثرإلا بما وافق الحق .
الحكمة من تحريم التصوير:
أنها مضاهاة لخلق الله عز وجل، ووسيلةٌ إلى الشرك بالله ، وأيضًا فيها فتنة فنشر صور النساء وصور الرجال هذا فتنة.
﴿الْحَكِيمُ: آخر هذه الأسماء الحُسْنى في هذه السورة الحكيم ،والحكيم يتضمن إثبات صفة الحكمة لله عز وجل ،والحكمة وضع الشيء في موضعه.
- حديث أبي سعيد في الباب رضي الله عنه فيه جواز العزل، وثبت من حديث جَابِر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا في الصحيحين البخاري (5208) مسلم (1440) قَالَ: «كُنَّا نَعْزِلُ وَالقُرْآنُ يَنْزِلُ». وهذا يدل على الجواز؛ لكنه مكروه فقد ثبت في صحيح مسلم (1442) عَنْ جُدَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ، أُخْتِ عُكَّاشَةَ «... ثُمَّ سَأَلُوهُ عَنِ الْعَزْلِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَلِكَ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ...» الحديث.
وبجواز العزل يقول الجمهور.
 وللعزل أسباب منها:
- المحافظة على صحة الرضيع، ثبت في صحيح مسلم (1442) عَنْ جُدَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ، أُخْتِ عُكَّاشَةَ، قَالَتْ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي أُنَاسٍ وَهُوَ يَقُولُ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ، فَنَظَرْتُ فِي الرُّومِ وَفَارِسَ، فَإِذَا هُمْ يُغِيلُونَ أَوْلَادَهُمْ، فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا»، ثُمَّ سَأَلُوهُ عَنِ الْعَزْلِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَلِكَ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ».
قال ابن عبدالبر رحمه الله في التمهيد (13/91): اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ وَأَهْلُ اللُّغَةِ فِي مَعْنَى الْغِيلَةِ فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلُونَ كَمَا قَالَ مَالِكٌ: مَعْنَاهَا أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ تُرْضِعُ .وَقَالَ الْأَخْفَشُ :الْغِيلَةُ وَالْغَيْلُ سَوَاءٌ وَهُوَ أَنْ تَلِدَ الْمَرْأَةُ فَيَغْشَاهَا زَوْجُهَا وَهِيَ تُرْضِعُ فَتَحْمِلُ فَإِذَا حَمَلَتْ فَسَدَ اللَّبَنُ عَلَى الصَّبِيِّ وَيَفْسُدُ بِهِ جَسَدُهُ وَتَضْعُفُ قُوَّتُهُ حَتَّى رُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي عَقْلِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ اللُّغَةِ :الْغَيْلُ أَنْ تُرْضِعَ الْمَرْأَةُ وَلَدَهَا وَهِيَ حَامِلٌ .
وقال ابنُ الجوزي رحمه الله الحديث في كشف المشكل من حديث الصحيحين (4/488)في بيان سبب النهي عن الغيلة
 :وَهَذَا لِأَن الْمُرْضع إِذا جومعت فسد لَبنهَا فارتضع طفلها لَبَنًا فَاسِدا، فَإِن حملت كَانَ أَكثر فِي الضَّرَر، لِأَن الدَّم الْجيد يتَصَرَّف إِلَى غذَاء الْجَنِين وَيبقى الرَّدِيء للمرضع، إِلَّا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما رأى أَن ترك ذَلِك رُبمَا آذَى الرجل بصبره مُدَّة الرَّضَاع أجَازه بِهَذَا الحَدِيث وَعلل بِذكر فَارس وَالروم.اهـ.
وقال الإمام النووي في شرح مسلم (10/16) : قَالَ الْعُلَمَاءُ سَبَبُ هَمِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّهْيِ عَنْهَا أَنَّهُ يَخَافُ مِنْهُ ضَرَرَ الْوَلَدِ الرَّضِيعِ قَالُوا وَالْأَطِبَّاءُ يَقُولُونَ إِنَّ ذَلِكَ اللَّبَنَ دَاءٌ وَالْعَرَبُ تَكْرَهُهُ وَتَتَّقِيهِ.اهـ.
وقد سألت والدي الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله عن الصواب في معنى الغيلة فقال: جماع المرضع، فقد ذكروا أنه قد يتخلَّلُ المني في اللبن فيُغَيِّر اللبن.

- ومن أسباب العزل إرادةُ تأخير الحمل.
- ومن الأسباب الخوف من الفقر، وهذا لا يجوز فإن ربنا يقول: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268]. ويقول ربنا سبحانه: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6]. فالولد من أسباب الحصول على الرزق. وكم من فقير أغناه الله بسبب الأولاد فهذه فكرة  شيطانية .
- ومن الأسباب أن المرأة قد تكون أمةٌ مملوكة؛ فيعزل عنها لئلا تحمل قد يحتاج لبيعها، ولغير ذلك.
وعند جمهورأهل العلم جواز العزل عن الأمة بغير رضاها، لأنه لا يجب لها القسم، النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما كان يقسم لإمائه. أما المرأة الحرة فقالوا: لابد من رضاها؛ لأن لها حقًا في الولد، ولها حق في الاستمتاع.
هذا الحديث من أدلة إثبات القدر، ويفيد أن مشيئة وإرادة الإنسان خاضعة لمشيئة الله عز وجل وإرادته. ووجه ذلك أن عزله لعدم إرادة الولد، فإذا شاء الله عز وجل وجود الولد لاينفع هذا السبب ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا. وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان:29-30].
وقد ثبت في صحيح مسلم (1438) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ الْعَزْلِ، فَقَالَ: «مَا مِنْ كُلِّ الْمَاءِ يَكُونُ الْوَلَدُ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ خَلْقَ شَيْءٍ، لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْءٌ» .

- هذا الحديث من أدلة من قال بجواز استعمال موانع الحمل . وفي المسألة شروط وضوابط. والله تعالى أعلم.