جديد المدونة

الخميس، 14 يناير 2016

الدرس العاشر من /كتاب التوحيد من صحيح البخاري /5من شهر ربيع الثاني 1437 .

بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا[النساء:134]
وَقَالَ الأَعْمَشُ، عَنْ تَمِيمٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1]
7386- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَكُنَّا إِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا، فَقَالَ: «ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبًا»، ثُمَّ أَتَى عَلَيَّ وَأَنَا أَقُولُ فِي نَفْسِي: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَقَالَ لِي: «يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، قُلْ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ، - أَوْ قَالَ أَلاَ أَدُلُّكَ بِهِ -»
******************************
(وَقَالَ الأَعْمَشُ) سليمان بن مهران أبو محمد الكوفي تقدم له ترجمة مختصرة (7376) .
(عَنْ تَمِيمٍ) في الشرح يفيد الحافظ ابن حجر رحمه الله:  هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ الْكُوفِيُّ.
(عَنْ عُرْوَةَ) وهو ابن الزبير
- حديث عائشة رضي الله عنها معلق لكنه جاء موصولًا. وقد ذكر الإمام البخاري رحمه الله قطعة من الحديث.
والحديثُ أخرجه النسائي في سننه (3460) من طريق الْأَعْمَشِ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتْ خَوْلَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْكُو زَوْجَهَا، فَكَانَ يَخْفَى عَلَيَّ كَلَامُهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة: 1] " الْآيَةَ
والحديث في الصحيح المسند للوادعي رحمه الله (1564).
واستفدنا من هذا سبب نزول الآيات الأولى من سورة المجادلة .
ومعرفةُ سببِ نزول الآيةِ مما يعينُ على فهمِها .
(حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ) وهو الواشحي.
(حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) وهو ابن درهم. وفي طبقته حماد بن سلمة، وحماد بن زيد أثبت الناس في أيوب. وقد تقدم (7377) .
(عَنْ أَيُّوبَ) وهو ابن أبي تميمة السختياني، وأبو تميمة هو كيسان .
أيوب بن أبي تميمة رحمه الله من كبار المحدثين، وهو القائل: "من سعادة الحَدَث والأعجمي أن يوفَّق للسنة من أول وهْلة". الحَدَث: هو الصغير.
هذا من أعظم السعادة التوفيق للسنة من أول يوم.
وأعظم السعادة هي سعادة الدين وليست سعادة المال والصحة؛ فإن هذه سعادة خارجة عن ذات الإنسان كما يقول ابن القيم رحمه الله في مفتاحِ دارِ السعادة .
والشاعر يقول:
يا خادمَ الجسم كم يشقي بخدمته  ****  فأنت بالروحِ لا بالجسم إنسان
فالإنسان بروحه وأدبه وليس بجسمه وبدنه.
ومما جاء عن أيوب رحمه الله: سَأَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ الْبِدَعِ أيوب، فقال: يا أبابكر أَسْأَلُكَ عَنْ كَلِمَةٍ، قَالَ: فَوَلَّى أَيُّوبُ، وَهُوَ يَقُولُ: وَلَا نِصْفُ كَلِمَةٍ، وَلَا نِصْفُ كَلِمَةٍ. القدر للفريابي (215).
 وهذا من هجر السلف لأهل البدع.
وأخرج الدارميُّ في مقدمة  سننه (411) مِنْ طريق  أَسْمَاءَ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: دَخَلَ رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ عَلَى ابْنِ سِيرِينَ فَقَالَا: يَا أَبَا بَكْرٍ نُحَدِّثُكَ بِحَدِيثٍ؟ قَالَ: «لَا» ، قَالَا: فَنَقْرَأُ عَلَيْكَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: «لَا، لِتَقُومَانِ عَنِّي أَوْ لَأَقُومَنَّ» ، قَالَ: فَخَرَجَا، فَقَالَ: بَعْضُ الْقَوْمِ. يَا أَبَا بَكْرٍ، وَمَا كَانَ عَلَيْكَ أَنْ يَقْرَآ عَلَيْكَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؟  قَالَ: «إِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْرَآ عَلَيَّ آيَةً فَيُحَرِّفَانِهَا، فَيَقِرُّ ذَلِكَ فِي قَلْبِي» .
وأخرجه الفريابي في القدر (215) مختصرا .
ومن الآثار في هذا المعنى ما جاء عن الإمام مالك رحمه الله .
أخرج الآجري رحمه الله في الشريعة (117)من طريق مَعْنِ بْنِ عِيسَى قَالَ: انْصَرَفَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَوْمًا مِنَ الْمَسْجِدِ، وَهُو مُتَّكِئٌ عَلَى يَدِي فَلَحِقَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو الْجُوَيْرِيَةِ كَانَ يُتَّهَمُ بِالْإِرْجَاءِ , فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ اسْمَعْ مِنِّي شَيْئًا أُكَلِّمُكَ بِهِ وَأُحَاجُّكَ  وَأُخْبِرُكَ بِرَأْيِي قَالَ: فَإِنْ غَلَبْتَنِي؟ قَالَ: إِنْ غَلَبْتُكَ اتَّبَعْتَنِي قَالَ: فَإِنْ جَاءَ رَجُلٌ آخَرُ، فَكَلَّمَنَا فَغَلَبَنَا؟ قَالَ: نَتَّبِعُهُ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِينٍ وَاحِدٍ، وَأَرَاكَ تَنْتَقِلُ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ .

عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رحمه الله يَقُولُ: « مَنْ جَعَلَ دِينَهُ غَرَضًا لِلْخُصُومَاتِ، أَكْثَرَ التَّنَقُّلَ» سنن الدارمي (1/342).
ومن الآثار عن أبي قلابة في هذ الباب ما أخرج الآجري في الشريعة (114) من طريق أَيُّوبَ قَالَ: كَانَ أَبُو قِلَابَةَ يَقُولُ: لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ، وَلَا تُجَادِلُوهُمْ، فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَغْمِسُوكُمْ فِي الضَّلَالَةِ، أَوْ يُلْبِسُوا عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ بَعْضَ مَا لُبِّسَ عَلَيْهِمْ .
هذه الآثار كلها ثابتة ، وهي  تدل على هجر السلف لأهل البدع ، فمن منهج السلف هجر أهل البدع لا يُكلَّمُون، ولا يُحضَرَ مجالسُهم، ولا يُسمَع محاضراتُهم، ولا يُقرأ في كتبِهم. وهذا من الولاء والبراء.
ومن أسباب الزيغ وعدم الثبات مجالسة أهل البدع، وكما قيل: من جالس جانس. ولهذا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: "الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ" رواه أحمد (8417) .
اختيار الجليس الصالح. عمران بن حِطَّان كان سنيًا فاضلًا، وكان لديه ابنة عم من القعدية (فرقة من الخوارج)، فأراد أن يتزوجها ليدعوها إلى الله ويجرها إلى السنة، قال الإمام الذهبي في سير أعلام النُّبلاء : أراد أن يسحبها فسحبته .
 تأثَّر بها .
فقد لا يسلم الجليس من جليسه سواء كان الجليس على بدعة أو معصية أو كان جشعًا في الدنيا، مائلًا إلى الدنيا أو كان كذابًا فُضُوليًا. قد لا يسلم من شره ومن التأثر به.
وفي الصحيحين البخاري (4547)، مسلم (2665) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ﴾ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ».

و في سنن أبي داود (4319)يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنْ الشُّبُهَاتِ أَوْ لِمَا يَبْعَثُ بِهِ مِنْ الشُّبُهَاتِ) .
فَلْيَنْأَ عَنْهُ: أي يبتعد .
وبعض الناس يقول لبعض الطلاب اقرأ هنا وهنا، اسمع من الطرفين.
 وعرفنا مما سبق من الأدلة، والآثار أن هذه الطريقة غير صحيحة. فمن كان على الحق عليه بأن يثبت عليه، وأن يبتعد عن أهل الشبه وأهل الفتن، وأن يحافظ على دينه.
علينا بأن نكون على قناعة أن هذا الدين هو دين الله الحق فلا تتخطف بنا الأهواء.
 نحن في زمن كثرت فيه الدعايات، وكثر فيه الخصومات.
فالإنسان يبتعد عن الفتن، ويلزم الحق . إذن قول اقرأ هنا وهنا، اسمع من الطرفين هذا غير صحيح، طالب أو طالبة علم في الابتداء ما فيه تضلع في العلم و تضلع في العقيدة هذا يبتعد. والسلامة لا يعادلها شيء، والله المستعان.
ومما أخذنا عن والدي رحمه الله في التحذير من مجالسة أهل البدع والقراءة في كتبهم يقولُ رحمه ربي :
عبد الله القصيمي -وهو معاصر- ماله منذ توفي إلا مدة قصيرة، رد على الرافضة فأحْسن، فتصارع مع رجل يقال: يوسف، وغيره، من الأزهريين فغلبهم
ثم أراد أن يرد على الفلاسفة، وقطع شوطاً في الرد عليهم، ثم تشكك،  ثم ارتدَّ والعياذ بالله، وصار يهاجم الإسلام بالمقالات والكتب، حتى مات
أخبرنا شيخنا عبد العزيز السُّبَيِّل: أنَّ رجلاً نجدياً، التقى به بلبنان، فصار النجدي يحد النظر اليه، فقال: مالك تنظر الٕيَّ؟ فقال: آسف عليك وعلى علمك، فبكى عبد الله القصيمي
وقال: أُحَذِّرُكم من الكتب الزائغة، وبقي على ردته، فنعوذ بالله من الارتداد على الأعقاب
وذكر الوالد رحمه الله أنه  أخبره عبد العزيز السُّبَيِّل عن الشيخ عبد الله بن حميد: أنَّه كان يقول في عبد الله القصيمي: إنه لا يفلح
وقد صار عبد الله زنديقاً، وألَّف كتاباً سماه: الأغلال في الإسلام
وهو يدرس في جامعات أمريكا
وكان يقول: الله أعدل من أنْ يعذِّب بنات كذا، ويدخل عجائز نجد الجنة
وقال رحمه الله :
عبد الرزاق بنُ همام الصنعاني أدخل عليه شيخُه التشيع. قيل له: من أدخل عليك التشيع، قال :جعفر بن سليمان الضبعي أعجبني سمتُه وهديُه. اهـ

ومن أخلاق وطريقة أيوب رحمه الله أنه كان يكره الشهرة. والشهرة حبها داء خفي .
أخرج ابنُ سعدٍ في الطبقات (7/128) من طريق حماد بن زيد كنت أمشي مع أيوب فيأخذ بي في طرق إني لأعجب له كيف اهتدى لها؟! فرارًا من الناس أن يقال: هذا أيوب.
وكل عاقل لا يريد الشهرة ولا يتطلع للشهرة.
وفي هذا المعنى  من الآثار ما قاله ابن أبي حاتم رحمه الله في «آداب الشافعي» (ص91): أخبرنا الربيع، قال: سمعت الشافعي ودخلت عليه وهو مريض فذكر ما وضع من كتبه فقال: لوددت أنَّ الخلق تعلمه ولم ينسب منه إليَّ شيء أبدًا.
وحب الظهور داء مهلك يبعث في النفس مرض العجب، والغرور، والجدل، والخصومة.
 وقد قيل: حبُّ الظهور يقصم الظهور.
والنفس تحب الشهرة إلا ما رحم ربي؛ ولهذا علينا أن نعتني بتزكية أنفسنا فقد قال سبحانه وتعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس:9-10]. تزكية النفوس بطاعة الله عز وجل وباجتناب المعاصي.
 وليس من التطلع للشهرة أن يكون الإنسان معلِّمًا، وداعيًا إلى الله سبحانه وتعالى.
فإن بعض الناس يمتنع عن الدعوة والتعليم والتأليف لئلا يشتهر، ولأنه يخشى على نفسه من الرياء، وهذا من وسوسة الشيطان الرجيم. الإنسان عليه أن يدافع ويجاهد.
وقدأخرج الخطيب في «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (1/733) من طريق مالك عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن أنه كان يقول: لا ينبغي لأحد يعلم أن عنده شيئًا من العلم يضيع نفسه.

والأثر علقه البخاري في «صحيحه» قبل رقم (80) كتاب العلم.
قال الحافظ في «الفتح» عقب رقم (80): مراد ربيعة أن من كان منهم فيه فهم وقابلية للعلم لا ينبغي له أن يهمل نفسه فيترك الاشتغال لئلا يؤدي ذلك إلى رفع العلم .
أو مراده: الحث على نشر العلم في أهله لئلا يموت العالم قبل ذلك فيؤدي إلى رفع العلم .
أو مراده: أن يشهر العالم نفسه ويتصدى للأخذ عنه لئلا يضيع علمه.
وقيل: مراده تعظيم العلم وتوقيره فلا يهين نفسه بأن يجعله عرضًا للدنيا وهذا معنى حسن لكن اللائق بتبويب المصنف ما تقدم. اهـ المراد.
فعلى أحد ما قيل : أنه إذا كان بين أناس، ولا يعرفون منزلته يظهر لهم علمه من أجل أن
يستفيدوا منه لا لغرضٍ آخر، ونسأل الله أن يصلح أنفسنا.
(عَنْ أَبِي عُثْمَانَ) وهو عبد الرحمن بن مل، مخضرم
المخضرم في اللغة: من عاش بين جيلين. و اصطلاحًا: هو الذي أدرك الجاهلية، والإسلام. وآمن بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولم يره في حياته أو بعد مماته.
المخضرمون من كبار التابعين. فمن أدرك الجاهلية المطلقة -التي هي قبل الإسلام- وأدرك بعثة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكنه آمن بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وما رآه أو أسلم بعد ممات النبي  صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذا مخضرم .
(عَنْ أَبِي مُوسَى) وهو عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه كان من حفاظ القرآن، وكان مقرئًا، وكان حسن الصوت أخرج البخاري (5048)عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «يَا أَبَا مُوسَى لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ» .
وأخرجه مسلم (793) بلفظ «لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ، لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ» .
ومن مناقبه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعثه إلى اليمن، مما يدل على أهليته لذلك وأمانته وصدقه.
ودعا له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقال: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ذَنْبَهُ وَأَدْخِلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُدْخَلًا كَرِيمًا" كما في صحيح البخاري (4068) .
(ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) أي أرفقوا على أنفسكم.
(أو) للشك
- في هذا الحديث من الفوائد التعليم في السفر.
- وفيه التكبير عند الصعود، وفي صحيح البخاري (2993) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا، وَإِذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا» .
وهذا يفيد التسبيح عند النزول وهذا من آداب السفر.
- وفيه إثبات صفة السمع والبصر، والقرب لله عز وجل. فالله عز و جل قريب من عباده، قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186] .
ولا يتنافى مع علو الله سبحانه وتعالى. فهو قريب من عباده وهو في العلو سبحانه.
- وفيه فضل لا حول ولا قوة إلا بالله. و لا حول ولا قوة إلا بالله يقال لها الحوقلة.
 ومعنى لا حول ولا قوة إلا بالله: أي لا تحول لنا عن معصية الله ولا قوة لنا على طاعة الله إلا بالله سبحانه وتعالى.
لا حول ولا قوة إلا بالله من أدلة إثبات القدر، والرد على نفاة القدر؛ لأنه فيها خلق الله عز وجل لأفعال عباده.
وهي كلمة عظيمة كنز من كنوز الجنة. وهي داخلة في ذكر الله عز وجل، ومن أسباب تفريج الهم والغم ودفع الضر.
- وفيه التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة.
وهذه تربية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لصحابته ترغيبهم في الآخرة، وهو القائل: «لَأَنْ أَقُولَ سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» رواه مسلم (2695) 
هذه الأربع الكلمات أحب إلى لنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الدنيا وما فيها لأنه قال: "أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ" .
ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في مسلم (725) عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»، وهذه هي راتبة الفجر خير من الدنيا وما فيها.
وفي صحيح البخاري (3802) وصحيح مسلم (2468) عن البَرَاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُلَّةُ حَرِيرٍ، فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَمَسُّونَهَا وَيَعْجَبُونَ مِنْ لِينِهَا، فَقَالَ: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ لِينِ هَذِهِ؟ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ خَيْرٌ مِنْهَا، أَوْ أَلْيَنُ» .
وهذا الحديث علق عليه الوالد الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله مرة في دروسه وقال: فيه أن الداعية إلى الله إذا وجد من الناس ميولًا إلى الدنيا فإنه يصرفهم إلى الآخرة.
******************************
7387- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الخَيْرِ، سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي، قَالَ: «قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مِنْ عِنْدِكَ مَغْفِرَةً إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ»
******************************
 (حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ) وهو عبد الله.
(أَخْبَرَنِي عَمْرٌو)
وهو ابن الحارث.
(عَنْ أَبِي الخَيْرِ) و هو مَرثد بن عبد الله اليزني.
(سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو) ابن العاص، صحابي بن صحابي. وعبد الله بن عمرو كان قويًا جلدًا وكان مشغولًا بالعبادة رضي الله عنه  والحديث عند البخاري برقم (5052)  واللفظ له ومسلم  (1159) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: أَنْكَحَنِي أَبِي امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ، فَكَانَ يَتَعَاهَدُ كَنَّتَهُ، فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا، فَتَقُولُ: نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا، وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُنْذُ أَتَيْنَاهُ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «القَنِي بِهِ»، فَلَقِيتُهُ بَعْدُ، فَقَالَ: «كَيْفَ تَصُومُ؟» قَالَ: كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: «وَكَيْفَ تَخْتِمُ؟»، قَالَ: كُلَّ لَيْلَةٍ، قَالَ: «صُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةً، وَاقْرَإِ القُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ»، قَالَ: قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: «صُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِي الجُمُعَةِ»، قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: «أَفْطِرْ يَوْمَيْنِ وَصُمْ يَوْمًا» قَالَ: قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: «صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُدَ صِيَامَ يَوْمٍ وَإِفْطَارَ يَوْمٍ، وَاقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً» .
ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ لَمْ يَفْقَهْهُ) مسند أحمد (6499) .
وعبد الله بن عمرو لقبه الإمام الشوكاني في فتح القدير بـ (عابد الصحابة) لما تناوله الزمخشري المعتزلي؛ لأن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَو يقول: "لِيَأْتِيَنَّ عَلَى جَهَنَّمَ يَوْمٌ تُصَفَّقُ فِيهِ أَبْوَابُهَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ" .
وكلام عبدالله بن عمرو هذا محمول على أن مراده خروج الموحدين كما في رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار 81 للصنعاني .
فطعن الزمخشري في عبد الله بن عمرو فرد عليه الشوكاني في فتح القدير (2/598) ومما قاله: "وَأَمَّا الطَّعْنُ عَلَى صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ وَحَافِظِ سُنَّتِهِ وَعَابِدِ الصَّحَابَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِلَى أَيْنَ يَا مَحْمُودُ، أَتَدْرِي مَا صَنَعْتَ، وَفِي أَيِّ وَادٍ وَقَعْتَ، وَعَلَى أَيِّ جَنْبٍ سَقَطْتَ؟ وَمَنْ أَنْتَ حَتَّى تَصْعَدَ إلى هذا المكان وتتناول نجوم السماء بيدك الْقَصِيرَةِ وَرِجْلِكَ الْعَرْجَاءِ، أَمَا كَانَ لَكَ فِي مُكَسَّرِي طَلَبَتِكَ مِنْ أَهْلِ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ مَا يَرُدُّكَ عَنِ الدُّخُولِ فِيمَا لَا تَعْرِفُ وَالتَّكَلُّمِ بِمَا لَا تَدْرِي، فَيَا لَلَّهِ الْعَجَبَ مَا يَفْعَلُ الْقُصُورُ فِي عِلْمِ الرِّوَايَةِ وَالْبُعْدُ عَنْ مَعْرِفَتِهَا إِلَى أَبْعَدِ مَكَانٍ مِنَ الْفَضِيحَةِ لِمَنْ لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَ نَفْسِهِ وَلَا أَوْقَفَهَا حَيْثُ أوقفها الله سبحانه".
الزمخشري صاحب تفسير الكشاف، وهو كتاب معتزلي لا ينبغي القراءة فيه. وتحامل على عبد الله؛ لأن ظاهر كلام عبد الله خروج الموحدين من النار.
(أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ) تقدم معنا في الفصول وهجرته وتعاونه مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
هذا الحديث بوب عليه الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الصلاة (بَابُ الدُّعَاءِ قَبْلَ السَّلاَمِ) وهذا أحد المواضع الذي يدعى به هذا الدعاء. وإذا شاء أن يدعو به قبل السجود دعا.
- وفيه من الفوائد أن المعصية ظلم للنفس. وأشد أنواع الظلم للنفس الشرك بالله كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان:13].
- وفيه كثرة الذنوب عند الإنسان. وهذا نظيره ما جاء في صحيح مسلم برقم (2577) "... يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ..." الحديث
- وذنوب النساء أكثر من الرجال، ولهذا كان أكثر أهل النار من النساء كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «اطَّلَعْتُ فِي الجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ» رواه البخاري (6546)، مسلم (2737).
وفي صحيح مسلم (2738) عن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ أَقَلَّ سَاكِنِي الْجَنَّةِ النِّسَاءُ»
ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحديث المتفق عليه عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الِاسْتِغْفَارَ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ» البخاري (1462)، مسلم (79).
وهذا فيه ترهيب للمرأة وتخويف لها، والله أعلم.
- وفيه أن المغفرة تطلب من الله عز وجل وطلب المغفرة من غير الله شرك أكبر قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [آل عمران:135]. أي لا أحد يغفر الذنوب إلا الله.
- وفيه إثبات اسم الغفور لله عز وجل، ومعناه كثير المغفرة. فالغفور فيه إثبات صفة المغفرة لله عز وجل.
- وفيه إثبات اسم الرحيم لله عز وجل، واسم الله الرحيم  فيه إثبات صفةالرحمة لله.
- وفيه من أدب الدعاء أن الداعي إذا دعا يذكرمن  أسماء الله عز وجل ما يناسب الدعاء، وهذا من أدب الدعاء يقول: (فَاغْفِرْ لِي مِنْ عِنْدِكَ مَغْفِرَةً إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ) الغفور يطابق المغفرة، وإذا طلب العزة يقول: اللهم أعزني فإنك أنت العزيز الحكيم، وإذا طلب الرزق قال: اللهم ارزقني فإنك أنت الرزاق الغني الكريم وما أشبه ذلك. وإذا طلب الانتقام قال: اللهم انتقم من أعدائك يا جبار يا عزيز، ما يقول اللهم انتقم منهم يا غفور يا رحيم .
******************************
7389- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، حَدَّثَتْهُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ نَادَانِي قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ"
******************************
(حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ) التنيسي الدمشقي.
(أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله.
(أَخْبَرَنِي يُونُسُ) يونس بن يزيد.
 (حَدَّثَنِي عُرْوَةُ) عروة بن الزبير بن العوام الصابر المحتسب أخرج الرامهرمزي في المحدث أن عروة بن الزبيرأَيْ بُنَيَّ كُنَّا صِغَارَ قَوْمٍ فَأَصْبَحْنَا كِبَارَهُمْ، وَإِنَّكُمُ الْيَوْمَ صَغَائِرُ قَوْمٍ وَيُوشِكُ أَنْ تَكُونُوا كِبَارَهُمْ، فَمَا خَيْرٌ فِي كَبِيرٍ، وَلَا عِلْمَ لَهُ، فَعَلَيْكُمْ بِالسُّنَّةِ .

وهذا فيه حث لصغار السن الاهتمام بالعلم. وتربية ونصيحة عروة لأولاده. والبركة من الله.
وهو القائل: (أزهد الناس في العالم أهله) أي أقرباؤه. يقول الشيخ الوالد الوادعي رحمه الله:  إما لأنهم يحسدونه وإما لأنهم يعلمون أن عنده معاصي لا يعلمها الآخرون. والله المستعان.
(أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها، أم المؤمنين. أفقه نساء الأمة على الإطلاق.
عهدنا بهذا الحديث في السيرة عند رجوع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الطائف. لما كذبه أهل الطائف فنزل جبريل وقال: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ"
- استفدنا من هذا الباب إثبات صفة السمع والبصر لله عز وجل.
 وقد صَدَّرالإمام البخاري رحمه الله الترجمة بجزء من الآية الكريمة ﴿وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:134]، وهذا فيه أن السميع والبصير من أسماء الله عزوجل والسميع يتضمن صفة السمع لله سبحانه والبصير يتضمن إثبات صفة البصر لله عزوجل .
وقد ثبت في سنن أبي داود (4728) عن سُلَيْمُ بْنُ جُبَيْرٍ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء: 58] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء: 58] قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضَعُ إِبْهَامَهُ عَلَى أُذُنِهِ، وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى عَيْنِهِ»، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَؤُهَا وَيَضَعُ إِصْبَعَيْهِ» .
وهذا يفيد جواز الإشارة باليد عند ذكر صفة  السمع والبصر ، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أشار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى سمعه إلى بصره.
لكن إذا كان سيُفهم منه التمثيل لصفات الله رب العالمين بصفات خلقه فيجتنب؛ لأن الله يقول: ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ [النحل: 60]. وقد كره بعض أهل العلم الإشارة إلى صفة الإنسان عند ذكر صفات الله عز وجل مطلقًا خشية  سوء الفهم  .
من حيث الجواز، الدليل جاء بهذا، ولكن سدًا لما قد يحصل من سوء الفهم يُجتنب .
ثم المرادُ من الإشارة تحقيق إثبات الصفة لله لا المشابهة قال البيهقي رحمه الله في الأسماء والصفات (1/ 462) :وَالْمُرَادُ بِالْإِشَارَةِ الْمَرْوِيَّةِ فِي هَذَا الْخَبَرِ تَحْقِيقُ الْوَصْفِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ , فَأَشَارَ إِلَى مَحَلَّيِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ مِنَّا لِإِثْبَاتِ صِفَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ لِلَّهِ تَعَالَى , كَمَا يُقَالُ قَبَضَ فُلَانٌ عَلَى مَالِ فُلَانٍ , وَيُشَارُ بِالْيَدِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ حَازَ مَالَهَ .اهـ
وذكر نحوه ابنُ القيم رحمه الله في مختصر الصواعق المرسلة 67وقال : وَكَذَلِكَ لَمَّا قَرَأَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134] وَضَعَ إِبْهَامَهُ عَلَى أُذُنِهِ وَعَيْنِهِ رَفْعًا لِتَوَهُّمِ مُتَوَهِّمٍ أَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ غَيْرُ الْعَيْنَيْنِ الْمَعْلُومَتَيْنِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: " «يَقْبِضُ اللَّهُ سَمَاوَاتِهِ بِيَدِهِ وَالْأَرْضَ بِيَدِهِ الْأُخْرَى، ثُمَّ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبِضُ يَدَهُ وَيَبْسُطُهَا» "، تَحْقِيقًا لِإِثْبَاتِ الْيَدِ وَإِثْبَاتِ صِفَةِ الْقَبْضِ.
وَمِنْ هَذَا إِشَارَتُهُ إِلَى السَّمَاءِ حِينَ اسْتَشْهَدَ رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى الصَّحَابَةِ أَنَّهُ بَلَّغَهُمْ تَحْقِيقًا لِإِثْبَاتِ صِفَةِ الْعُلُوِّ، وَأَنَّ الرَّبَّ الَّذِي اسْتَشْهَدَهُ فَوْقَ الْعَالَمِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ. اهـ
وهنا كلام للشيخ ابن عثيمين في حكم الإشارة في هذه المسألة
الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع (3/ 84)
ومِن ذلك أيضاً: ما يكثُر السُّؤال عنه من بعض الطَّلبة، وهو: أنه ثَبَتَ عن النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنه لما قرأ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ..}وذكر حديث أبي هريرة فقال: هل يجوز أن أفعل مثل هذا؟

فجوابنا على هذا أنْ نقول: لا تفعلْه أمامَ العامَّة؛ لأن العامَّة ربَّما ينتقلون بسرعة إلى اعتقادِ المشابهة والمماثلة؛ بخلاف طالب العلم، ثم هذا فِعْلٌ مِن الرسول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وليس أمراً، لم يقل: ضعوا أصابعكم على أعينكم وآذانكم، حتى نقول: لا بُدَّ مِن تنفيذِ أمْرِ الرَّسول، بل قَصَدَ بهذا تحقيق السَّمع والبصر، لا التعبُّد في ذلك فيما يظهر لنا، فلماذا نلزم أنفسنا ونكرِّر السؤال عن هذا من أجل أن نقوله أمام العامَّة؟

فالحاصلُ: أنه ينبغي لطالب العِلم أن يكون معلِّماً مربيًّا، والشيءُ الذي يُخشى منه الفتنة؛ وليس أمراً لازماً لا بُدَّ منه؛ ينبغي له أن يتجنَّبه.

وأشدُّ مِن ذلك ما يفعله بعضُ النَّاسِ، حين يسوق حديث: «إن قلوبَ بني آدم بين أصبعين مِن أصابعِ الرَّحمن»  فيذهب يُمثِّل ذلك بضمِّ بعض أصابعه إلى بعض، مُمَثِّلاً بذلك كون القلب بين أصبعين من أصابع الله، وهذه جرأة عظيمة، وافتراءٌ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنه لم يمثِّل بذلك. وما الذي أدرى هذا المسكين المُمثِّلُ أن كون القلوب بين أصبعين من أصابع الله على هذا الوصف؟ فليتَّقِ الله ربَّه ولا يتجاوز ما جاء به القرآنُ والحديثُ.
و قال رحمه الله  في مجموع فتاواه المجلد العاشر: إن هذا يختلف بحسب ما يترتب عليه؛ فليس كل من شاهد أو سمع يتقبل ذهنه ذلك بغير أن يشعر بالتمثيل، فينبغي أن نكف لأن هذا ليس بواجب حتى نقول: يجب علينا أن نبلغ كما بلغ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقول والفعل، أما إذا كنا نتكلم مع طلبة علم أو مع إنسان مكابر ينفي هذا ويريد أن يحول المعنى إلى غير الحقيقة، فحينئذ نفعل كما فعل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فلو قال قائل: إن الله سميع بصير، لكن قال: سميع بلا سمع وبصير بلا بصر، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام حين قرأ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58] وضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه وأبو هريرة حين حدث به كذلك ؛ فهذا الإنسان الذي يقول: إن الله سميع بلا سمع بصير بلا بصر نقول له هكذا.
وكذلك الذي ينكر حقيقة اليد ويقول: إن الله لا يقبض السماوات بيمينه، وأن معنى قبضته؛ أي: في تصرفه؛ فهذا نقول له كما فعل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فالمقام ليس بالأمر السهل، بل هو أمر صعب ودقيق للغاية؛ فإنه يخشى من أن يقع أحد في محذور كان بإمكانك أن تمسك عنه، وهذا هو فعل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جميع تصرفاته إذا تأملتها، حتى الأمور العملية قد يؤجلها إذا خاف من فتنة أو من شيء أشد ضررا؛ كما أخر بناء الكعبة على قواعد إبراهيم خوفا من أن يكون فتنة لقريش الذين أسلموا حديثا . اهـ

والله أعلم .