جديد الرسائل

الخميس، 7 أغسطس 2025

(8)من تراجم العلماء النبلاء

 ابن حزم رَحِمَهُ الله

قال والدي الشيخ مقبل  رحمه الله:  أبو محمد ابن حزم أحسن كتاب في الأصول كتابه «الإحكام في أصول الأحكام»؛ لأنه يذكر الأدلة(أي: في الغالب).

وهو في الأحكام والعبادات ظاهري، وفي العقيدة جهمي جلد([1]).

 وكان قوّالًا بالحق، وحرَّقوا كتبه، وسُجن، ثم بعد ذلك يقول الأبيات المعروفة:

وإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي

تضمنه القرطاس بل هو في صدري

يسير معي حيث استقلت ركائبي

وينزل إذ  أُنزل ويدفن في قبري

دعونا من إحراق رق وكاغد

وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري

وإلا فعودوا في المكاتب بدأة

فكم دون ما تهوون لله من عذري                     



 

قال والدي رحمه الله: كان ابنُ حزم بين المالكية  والمالكية يتعصبون، فهو معهم في صراع، وشأن العاجز من زمن قديم أنهم يستعينون بالسُّلطة، وقالوا: هو يشكِّل خطرًا، فأحرقوا كتبه، وأعادها من حفظه. 

وتلميذه أبوبكر ابن العربي حمل على ابن حزم حملة شديدة، وقال: إنه يسب العلماء، فتعقبه الذهبي([2]) وقال:

لا تنه عن القبيح وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلتَ عظيم                       

 وأفادنا والدي أن قوله: (لا تحرقوا الذي)، النون قد تحذف لغير ناصب ولا جازم([3]).

 ومثله ما جاء في حديث «لَا تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا  حَتَّى تَحَابُّوا»([4]).

وَقَالَ الشَّاعِر

أبيتُ أسْري وتبيتى تَدلُكِى([5]) ... وَجْهك بالعنبر والمسك الذّكى

وذكر رَحِمَهُ الله السبب في طلب ابن حزم للعلم، وقد نقل القصةَ الذهبي رحمه الله في «سير أعلام النبلاء» (18/199) ترجمة ابن حزم. من طريق وَالِد أَبِي بَكْرٍ ابنِ العَرَبِي، أَخْبَرَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ ابنُ حَزْمٍ، أَن سَبَبَ تَعَلُّمه الفِقْه أَنَّهُ شَهِدَ جنَازَة، فَدَخَلَ المَسْجَدَ، فَجَلَسَ، وَلَمْ يَركع، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: قُمْ فَصلِّ تحيَّة المَسْجَد، وَكَانَ قَدْ بلغَ سِتًّا وَعِشْرِيْنَ سَنَةً. قَالَ: فَقُمْتُ وَركعتُ، فَلَمَّا رَجَعنَا مِنَ الصَّلاةِ عَلَى الجنَازَة، دَخَلْتُ المَسْجَد، فَبَادرتُ بِالرُّكُوْع، فَقِيْلَ لِي: اجْلِسْ اجْلِسْ، لَيْسَ ذَا وَقتَ صَلاة([6])- وَكَانَ بَعْد العَصْر-، قَالَ: فَانْصَرَفت وَقَدْ حَزِنْتُ، وَقُلْتُ لِلأسْتَاذ الَّذِي رَبَّانِي: دُلنِي عَلَى دَار الفَقِيْه أَبِي عَبْدِاللهِ ابنِ دحُّوْنَ. قَالَ: فَقصدتُه، وَأَعْلَمتُه بِمَا جرَى، فَدلَّنِي عَلَى «مُوَطَّأ مَالِكٍ»-، فَبدَأَتُ بِهِ عَلَيْهِ، وَتتَابعت قِرَاءتِي عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثَة أَعْوَام، وَبدَأتُ بِالمنَاظرَة.

وقال الوالد v مرة في مقالةٍ له أخرى:

ابن حزم في الحديث ثقة، وقد يخطئ في بعض الرجال، ولا يعتمد عليه في العقيدة. وهو ظاهري جامد.

قال الحافظ ابن كثير: وإنه لعجب؛ إذ هو ظاهري صلب في العبادات والمعاملات، وفي العقيدة مؤول([7]).

 



([1]) وقد ترجم له الذهبي في «سير أعلام النبلاء»(18/187)، ومما قال:  وَفِي الجُمْلَةِ فَالكَمَالُ عزِيز، وَكُلُّ أَحَد يُؤْخَذ مِنْ قَوْله وَيُتْرَك، إِلاَّ رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَكَانَ يَنهض بعلُوْمٍ جَمَّة، وَيُجيد النَّقل، وَيُحْسِنُ النّظم وَالنثر.

وَفِيْهِ دِينٌ وَخير، وَمقَاصدُهُ جمِيْلَة، وَمُصَنّفَاتُهُ مُفِيدَة، وَقَدْ زهد فِي الرِّئَاسَة، وَلَزِمَ مَنْزِله مُكِبّاً عَلَى العِلْم، فَلاَ نغلو فِيْهِ، وَلاَ نَجْفو عَنْهُ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ قَبْلنَا الكِبَارُ.

([2]) ومما ذكر الذهبي في «سير أعلام النبلاء»(18/190): لَمْ يُنْصِفِ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللهُ - شَيْخَ أَبِيْهِ فِي العِلْمِ، وَلاَ تَكَلَّمَ فِيْهِ بِالقِسْطِ، وَبَالَغَ فِي الاسْتخفَاف بِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ فَعَلَى عَظمته فِي العِلْمِ لا يَبْلُغُ رُتْبَة أَبِي مُحَمَّدٍ، وَلاَ يَكَاد، فَرحمهُمَا الله وَغفر لَهُمَا.

([3])هذا يفيد أن لا في قوله: (لا تحرقوا الذي) نافية.

([4])رواه مسلم (54). وقد حذفت نون الرفع في «وَلَا تُؤْمِنُوا » لغير ناصب ولا جازم، قال النووي رَحِمَهُ الله في شرح هذا الحديث: وَهِيَ لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ صَحِيحَةٌ.

([5]) حذف النون؛ لضرورة وزن الشعر في «تبيتي وتدلكي»، والأصل «تبيتين، وتدلكين».

 

([6]) هذا على القول بأن تحية المسجد لا تصلَّى في وقت كراهة، والصحيح أنها تُصلَّى؛ فهي من ذوات الأسباب.

([7])قال ابن كثير في «البداية والنهاية»(12/92):  والعجب كل العجب منه أنه كان ظاهريًّا حائرًا في الفروع، لا يقول بشيء من القياس لا الجلي ولا غيره، وَهَذَا الَّذِي وَضَعَهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَأَدْخَلَ عَلَيْهِ خَطَأً كَبِيرًا فِي نَظَرِهِ وَتَصَرُّفِهِ، وَكَانَ مَعَ هَذَا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَأْوِيلًا فِي بَابِ الأصول، وآيات الصفات وأحاديث الصفات؛ لأنه كان أولًا قد تضلع مِنْ عِلْمِ الْمَنْطِقِ، أَخَذَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْمَذْحِجِيِّ الْكِنَانِيِّ الْقُرْطُبِيِّ، ذَكَرَهُ ابْنُ مَاكُولَا وابن خلكان، ففسد بذلك حاله في باب الصفات.