ضرب المثل في قوله تعالى: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)﴾]
﴿ أَمْ تَحْسَبُ ﴾ «أم» هنا حرف عطف بمعنى: بل. أي: بل أتظن.
﴿ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ﴾، نفى سبحانه عن الأكثر، ولم يقل: أم تحسب أنهم يسمعون، والسبب في ذكر الأكثرية أمران: أن الله سُبحَانَهُ قد علم أن من الكفار من يسلم ذكر هذا القرطبي رَحِمَهُ اللهُ في تفسير هذه الآية، وأبو حيان في «البحر المحيط» (8/110).
وأيضًا لأن منهم من عرف الحق، ولكن لأجل المحافظة على رئاسته ومنزلته في قومه لم يسلم. كما في «فتح البيان»(9/313) للقنوجي.
﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ﴾ «إن» نافية، أي: ما هم إلا كالأنعام. الأنعام: الإبل والبقر والغنم.
﴿ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ أي: أخطأ طريقًا وأسوأ حالًا، فأكثر الكفار بمنزلة الحمير والبغال والكلاب، بل أسوأ من جميع الحيوانات، فالحيوانات أفضل منهم، قال الله تَعَالَى: ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) ﴾ [الأنفال: 22].
والسبب في كون أكثر الكفار أضل سبيلًا، قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: (لِأَنَّ البَهِيمَةَ يَهدِيهَا سَائِقُهَا فَتَهتَدِيَ وَتَتَّبِعُ الطَّرِيقَ فَلَا تَحِيدُ عَنهَا يَمِينًا وَلَا شِمَالًا، وَالأَكثَرُونَ يَدعُونَهُمُ الرُّسُلُ وَيَهدُونَهُمُ السَّبِيلَ فَلَا يَستَجِيبُونَ وَلَا يَهتَدُونَ، وَلَا يُفَرِّقُونَ بَينَ مَا يَضُرُّهُم وَبَينَ مَا يَنفَعُهُم، وَالأَنعَامُ تُفَرِّقُ بَينَ مَا يَضُرُّهَا مِنَ النَّبَاتِ وَالطَّرِيقِ فَتَجتَنِبُهُ وَمَا يَنفَعُهَا فَتُؤثِرُهُ)، فالبهيمة تستجيب لقائدها وتستأنس إذا رأته وتفرح به.
وأما هؤلاء لا يفرِّقون بين ما يضرهم وبين ما ينفعهم، والأنعام تفرِّق بين مضارها ومنافعها، مع أن الله لم يخلق للأنعام قلوبًا تعقل بها ولا ألسنة تنطق بها، وأعطى ذلك لهؤلاء، وأعطى الأنعام مقدارًا من الإدراك تعرف به مصالحها فهي تستعمله ولا تتجاوزه، وهؤلاء فضلهم الله بالعقول والألسنة والفهم والأسماع والأبصار ولم ينتفعوا بها فصارت كالمفقودة، وقد نفي الله عن الكفار السمع والبصر والعقل والفهم والعلم، قال الله تَعَالَى: ﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)﴾ [الملك: 10]. وقال: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(187)﴾ [الأعراف: 187].
من الفوائد:
· نفي السمع والعقل عن الكفار، وهو وإن كان ذلك موجودًا لكنه كالمفقود.
· أن حياة الكفار حياة ضلال وتخبُّطَات.
· توبيخ الكفار وتحقيرهم؛ لأنهم لا يؤمنون بتوحيد الألوهية والربوبية، ولا يؤمنون بالله ورسله، وأن بهيمة الأنعام أهدى منهم؛ لأن الأنعام غير مكلفة، ولأنها استعملت القدر الذي أعطاها الله عَزَّ وَجَل من الإدراك والفهم، استعملته في إدراك منافعها، بخلاف الكفار فإنهم أفسدوها ولم ينتفعوا بها.
· أن الكفار بمنزلة الحمير والبغال والسباع.
· قطع الطمع من إسلام أكثرهم؛ إذ حالهم كحال الأنعام في عدم الإدراك والتأثر بسماع الحق، بل هم أضل سبيلًا.
أركان التشبيه في الآية:
· المشبَّه: الكفار.
· حرف التشبيه: الكاف.
· المشبَّه به: الأنعام.
· وجه التشبيه: شَبَهُ الكفار بالأنعام من حيث الغفلة والجهالة والضلالة، وسلب الأسماع والأبصار والعقول، وإقبالهم على الأكل والشرب والملذات، وكما قال تَعَالَى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)﴾ [محمد: 12].
وقال ابن الجوزي في «زاد المسير»(3/322): وفي وجه تشبيههم بالأنعام قولان:
· أحدهما: أن الأنعام تسمع الصوت ولا تفقه القول.
· والثاني: أنه ليس لها همٌّ إِلا المأكل والمشرب.