[سورة الحج (22) : الآيات 73 الى 74]
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾ إلى قوله:﴿إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)﴾
﴿فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾ الاستماع: السماع عن قصد، والسماع: ما كان عن غير قصد.
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا﴾ قال ابن كثير: أَيْ: لَوِ اجْتَمَعَ جَمِيعُ مَا تَعْبُدُونَ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ عَلَى أَنْ يَقْدِرُوا عَلَى خَلْقِ ذُبَابٍ وَاحِدٍ مَا قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ.
﴿لَنْ﴾ هنا للتأبيد، وهذا دليل أن «لن» قد تأتي للتأبيد إذا وجدت قرينة تدل على ذلك، والأصل أنها لا تفيد التأبيد، كما قال ابن مالك:
ومن رأى النفي بلن مؤبدا *** فقوله اردد وسواه فاعضدا
﴿لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا﴾ قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره»(12/ 97): خُصَّ الذُّبَابُ لِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ تَخُصُّهُ: لِمَهَانَتِهِ وَضَعْفِهِ وَلِاسْتِقْذَارِهِ وَكَثْرَتِهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الَّذِي هُوَ أَضْعَفُ الْحَيَوَانِ وَأَحْقَرُهُ لَا يَقْدِرُ مَنْ عَبَدُوهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى خَلْقِ مِثْلِهِ وَدَفْعِ أَذِيَّتِهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا آلِهَةً مَعْبُودِينَ وَأَرْبَابًا مُطَاعِينَ. وَهَذَا من أقوى حجة وأوضح برهانٍ. اهـ.
﴿وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ﴾ قال ابن كثير: أَيْ: هُمْ عَاجِزُونَ عَنْ خَلْقِ ذُبَابٍ وَاحِدٍ، بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ عَاجِزُونَ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ وَالِانتِصَارِ مِنْهُ لَوْ سَلَبَهَا شَيْئًا مِنَ الَّذِي عَلَيْهَا مِنَ الطِّيبِ، ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تَسْتَنْقِذَهُ مِنْهُ لَمَا قَدَرَتْ عَلَى ذَلِكَ.
﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ قال ابن كثير: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الطَّالِبُ الصَّنَمُ، وَالْمَطْلُوبُ الذُّبَابُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: الطَّالِبُ الْعَابِدُ، وَالْمَطْلُوبُ الصَّنَمُ.
وقد تكلم ابن القيم رحمه الله في «الأمثال»( 48) على المراد بالطالب والمطلوب في هذه الآية، وقال: والصحيح أن اللفظ يتناول الجميع...، فمن جعل هذا الآلهة مع القوي العزيز، فما قدره حق قدره ولا عرفه حق معرفته ولا عظمه حق عظمته.
﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ قال الحافظ ابن كثير: أَيْ: مَا عَرَفُوا قَدْرَ اللَّهِ وَعَظَمَتَهُ حِينَ عَبَدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ مِنْ هَذِهِ الَّتِي لَا تُقَاوِمُ الذُّبَابَ لِضَعْفِهَا وَعَجْزِهَا.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ﴾ أَيْ: هُوَ الْقَوِيُّ الَّذِي بِقُدْرَتِهِ وَقُوَّتِهِ ﴿خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الرُّومِ: 27].
﴿عَزِيزٌ﴾ أَيْ: قَدْ عَزَّ كُلَّ شَيْءٍ فَقَهَرَهُ وَغَلَبَهُ، فَلَا يُمَانَعُ وَلَا يُغَالَبُ؛ لِعَظْمَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ.
-من الفوائد:
ضعف المخلوق وعجزه فهو عاجز عن خلق الذباب، حتى لو كان مع اجتماعهم وتعاونهم فكيف بالمنفرد، وأبلغ من هذا عجز الصنم عن أخذ ما سلبه الذباب منه، فإن المشركين يقدمون أشياء لمعبوديهم من طيب ولبن وطعام وغير ذلك، فلو جاء الذباب وسلب شيئًا منه، لكانت عاجزة عن أخذ ما سلبه الذباب، فالله سبحانه يحاج المشركين كيف يعبدون من لا يقدر على الخلق، فإن من لا يقدر على الخلق صفة عاجز ضعيف لا يستحق أن يُعبَدَ من دون الله.
-وفيه غباء وسخافة عقول الذين يشركون بالله ويدعون غير الله ويتركون عبادة الله الواحد الأحد القدير القوي الذي لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض.
-وفيه تفسير المثل المضروب، بقوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ﴾ الآية.
-هذا المثل كما قال ابن القيم في «الأمثال» (383): من أبلغ ما أنزل الله في بطلان الشرك وتجهيل أهله وتقبيح عقولهم والشهادة على أن الشياطين قد تتلاعب بهم أعظم من تلاعب الصبيان بالكرة. الخ.
-أن من استغاث بغير الله وعبد غيره ما عظم الله حق تعظيمه.