جديد المدونة

جديد الرسائل

الخميس، 14 يناير 2021

(56) دُرَرٌ مِنَ النَّصَائِحِ

المُدَارَاةُ

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: «بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ، وَبِئْسَ ابْنُ العَشِيرَةِ».فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَائِشَةُ، مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ» رواه البخاري(6032 ومسلم (2591).

قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي الْمُدَارَاةِ.اهـ

ومعنى المداراة:خفض الجناح للناس، ولين الكلمة ،وترك الإغلاظ لهم في القول. «شرح صحيح البخاري»(9/305)لابن بطال.

وجاء عن الإمام أحمد بن حنبل أن أَبَا يُوسُفَ الْقَاضِي، يَقُولُ:خَمْسَةٌ يَجِبُ عَلَى النَّاسِ مُدَارَاتُهُمُ: الْمَلِكُ الْمُتَسَلِّطُ، وَالْقَاضِي الْمُتَأَوِّلُ، وَالْمَرِيضُ، وَالْمَرْأَةُ، وَالْعَالِمُ لِيُقْتَبَسَ مِنْ عِلْمِهِ .

قال الإمام أحمد: فَاسْتَحْسَنْتُ ذَلِكَ مِنْهُ.

أخرجه الخطيب في «الجامع لأخلاق الراوي » (1/222وفيه: مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ الْمُقْرِئُ. وهو:أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ زِيَادٍ المَوْصِلِيُّ، ثُمَّ البَغْدَادِيُّ.المعروف بـالنقاش، متروك وكان يكذب.ترجمته في « ميزان الاعتدال» (3/520 و« سير أعلام النبلاء»(15/573).فالأثر ضعيفٌ جدًّا بهذا السند. لكن معناه صحيح. 

هؤلاء الخمسة يحتاجون إلى مدارة وتلطف ولين وتودد:

الأول: (الْمَلِكُ الْمُتسَلّطُ).أي:ملك جبَّار ،فيُدارى  اتقاءًا  لشرِّه .

الثاني:(وَالْقَاضِي الْمُتَأَوِّلُ) الذي عنده تأويلات، يسفك الدم المحرم بتأويل، و يأخذ المال من مالكه بتأويل،ويعذب بالسجن بعذر التأويل...، فينتهك محرمات، ويظلم ويبغي بغير حق.

الثالث: (وَالْمَرِيضُ) يحتاج إلى مداراة ورفق؛ لأن معنويته متغيرة، والكلمة الطيبة معه يسر بها، والدعاء له يرقِّق قلبه، ويرفع معنويته، والإحسان إليه بالطعام والخدمة والكلمة الطيبة هذا يؤثر فيه، وتشجيع معنويته بقرب فرج الله عز وجل. فالفرج قريب.

دَعِ المَقَادِيرَ تَجرِي فِي أَعِنَّتِهَا...وَلَا تَبِيتَنَّ إلَّا خَالِيَ البَالِ

مَا بَينَ غَمضَةِ عَيْنٍ وَانتِبَاهَتِهَا...يُقَلِّبُ الدَّهْرَ مِن حَالٍ إِلَى حَالِ

ورفع معنوية المريض قد يكون سببًا لشفائه بإذن الله. قال ابن القيم رحمه الله في«زادالمعاد»(4/107):وَتَفْرِيحُ نَفْسِ الْمَرِيضِ، وَتَطْيِيبُ قَلْبِهِ، وَإِدْخَالُ مَا يَسُرُّهُ عَلَيْهِ، لَهُ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي شِفَاءِ عِلَّتِهِ وَخِفَّتِهَا، فَإِنَّ الْأَرْوَاحَ وَالْقُوَى تَقْوَى بِذَلِكَ، فَتُسَاعِدُ الطَّبِيعَةَ عَلَى دَفْعِ الْمُؤْذِي، وَقَدْ شَاهَدَ النَّاسُ كَثِيرًا مِنَ الْمَرْضَى تَنْتَعِشُ قُوَاهُ بِعِيَادَةِ مَنْ يُحِبُّونَهُ، وَيُعَظِّمُونَهُ، وَرُؤْيَتِهِمْ لَهُمْ، وَلُطْفِهِمْ بِهِمْ، وَمُكَالَمَتِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَهَذَا أَحَدُ فَوَائِدِ عِيَادَةِ الْمَرْضَى الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهِمْ.اهـ المراد.

وكان والدي رحمه الله إذا وجدَ إحدانا مريضةً  يدعو لها ،ويقوِّيها ويرفع معنويتَها ،ويقول: ما شاءَ الله اليوم أنتِ بخيرٍ.فرُبما يرتفع المرضُ بإذن الله.

الرابع: (وَالْمَرْأَةُ) تحتاج إلى مدارة، ورفق، ولين. وهي تتأثر بالكلمة الطيبة، فهي سريعة التأثر، سريعة التغير، فأدنى معروف يرفع معنوياتها وأدنى إساءة يغير نفسيتها؛ ولذا الله عَزَّ وَجَل يقول: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [النساء:19].وقد قيل:دارِها تعش بها.

الخامس: (وَالْعَالِمُ لِيُقْتَبَسَ مِنْ عِلْمِهِ) أي:  يؤخذ منه العلم، يحتاج إلى مداراة من حيث الملاطفة، والرفق، واللين.وإذا قسا عليه يصبر.

ولهذا أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف التابعي الجليل حرم من علم ابن عباس كثيرًا؛ بسبب أنه كان يماري عبد الله بن عباس، ثم ندم، وقَالَ: لَوْ رَفَقْتُ بِابْنِ عَبَّاسٍ، لَأَصَبْتُ مِنْهُ عِلْمًا كَثِيرًا. كما في «سنن الدارمي» (426).

وأما عبيد الله بن عبد الله بن عتبة فكان يلاطف ابن عباس، ويستخرج منه العلم؛ بسبب الخلق الحسن.كما في «العلل» (156)للإمام أحمد:عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: كَانَ أَبُو سَلمَة يسْأَل ابن عَبَّاس فَكَانَ يخزن عَنهُ وَكَانَ عبيد الله يلطفه فَكَانَ يغره غرا.

هؤلاء الخمسة يحتاجون إلى مداراة، ومحمّد ابن الحنفيّة رحمه الله تعالى يقول: «ليس بحكيم من لا يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بدًّا، حتّى يجعل الله له فرجا.رواه الخطيب في «الفقيه والمتفقه»(2/1027) بسندٍ صحيح.