جديد الرسائل

الأحد، 8 نوفمبر 2020

اختصار الدرس الثالث والثلاثين من دروس التبيان في آداب حملة القرآن


من آداب حامل القرآن

الحث على الإكثار من تلاوة القرآن الكريم

ينبغي لكل مسلم الإكثار من تلاوة القرآن الكريم، وأن يبلغ أقصى جهده في تلاوته، ليلًا ونهارًا، سفرًا وحضرًا، قال الله في الثناء على المكثرين من تلاوة القرآن: ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران].

وروى البخاري(5026) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ القُرْآنَ، فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَسَمِعَهُ جَارٌ لَهُ، فَقَالَ: لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلاَنٌ، فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُهْلِكُهُ فِي الحَقِّ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلاَنٌ، فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ».

وهذه نعمة عظيمة أن يعيش الإنسان مع القرآن، لسانه مذلل للقرآن الكريم، وربيع قلبه القرآن، وأنسه القرآن، وراحته القرآن، لا يشبع ولا يمل منه، هذه نعمة عظيمة لا نظير لها.

وقد ذكر الإمام النووي رَحِمَهُ الله في كتاب «التبيان» جملة من الآثار في مسابقة السلف إلى قراءة القرآن وتفاوت طريقتهم في مدَّة ختمِه. والسنة أنه لا يُقرأ القرآن في أقل من ثلاث، ولم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ القرآن كلَّه في ليلة واحدة، قالت عائشة رضي الله عنها: وَلَا أَعْلَمُ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ. رواه مسلم (746).

 وأما قول الإمام النووي: وَالِاختِيَارُ أَنَّ ذَلِكَ يَختَلِفُ بِاختِلَافِ الأَشخَاصِ: فَمَن كَانَ يَظهَرُ لَهُ بِدَقِيقِ الفِكْرِ لِطَائِفَ وَمَعَارِفَ فَليَقتَصِر عَلَى قَدْرٍ يَحصُلُ لَهُ بِهِ كَمَالَ فَهمِ مَا يَقرَؤُهُ، وَكَذَا مِن كَانَ مَشغُولًا بِنَشرِ العِلمِ أَو غَيرِهِ مِن مُهِمَّاتِ الدِّينِ وَمَصَالِحِ المُسلِمِينَ العَامَّةِ؛ فَليَقتَصِر عَلَى قَدرٍ لَا يَحصُلُ بِسَبَبِهِ إِخلَالٌ بِمَا هُوَ مُرصَدٌ لَهُ، وَإِن لَم يَكُن مِن هَؤُلَاءِ المَذكُورِينَ فَليَستَكثِر مَا أَمكَنَهُ مِن غَيرِ خُرُوجٍ إِلَى حَدِّ المَلَلِ وَالهَذرَمَةِ.

وقال النووي: أكثر العلماء على أنه لا تقدير في ذلك، وإنما هو بحسب النشاط والقوة، ذكره عنه الحافظ في «الفتح» تحت رقم (5054وقال عَقِبَه: فعلى هذا: يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، والله أعلم.

ولكن الدليل يُرَجِّح خلاف هذا، وذلكَ فيما يلي:

- قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص-الملقب: بعابد الصحابة، لقبَّه بذلك الشوكاني في «فتح القدير»(2/598)-: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ لَمْ يَفْقَهْهُ» رواه الإمام أحمد (6536) ورواه أبو داود (1394)عَنْ عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

 فإذا كان هذا الصحابي الجليل الحافظ العابد ومع شبابِه ووفور قوَّتِه لم يرخص له النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث، ألا يدل على أنه لا يُقرأ القرآن في أقل من ثلاث.

وقد تعقَّب  ما ذكره النووي  الشيخُ الألباني رَحِمَهُ الله في «أصل صفة الصلاة» (2/521).

-قوله صلى الله عليه وسلم «وَلَا تجفُوا عنه ولا تَغْلُوا عَنْهُ» قال ابن كثير في «فضائل القرآن» (ص256): أي: لا تبالغوا في تلاوته بسرعة في أقصر مدة؛ فإن ذلك ينافي التدبر غالبًا. ولهذا قابله بقوله: «ولا تجفوا عنه» أي: لا تتركوا تلاوته.

وبنحوه قال الصنعاني في «التنوير»(2/608).

-أن من سلك هذه الطريقة يأتيه فتور عن وِرْدِه ولا بُدَّ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي، فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ» رواه الإمام أحمد (6958) عَنْ عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وهو في «الصحيح المسند» (802) لوالدي رَحِمَهُ الله.

وقد ندم عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما لما كبر سنُّه وضعُف جسمُه ورقَّ عظمُه حيث لم يقبل رخصة النبي صلى الله عليه وسلم،الحديث وفيه: «وَاقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ»، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: «فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عِشْرِينَ»، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: «فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عَشْرٍ»، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: «فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ، وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا»، قَالَ: فَشَدَّدْتُ، فَشُدِّدَ عَلَيَّ. قَالَ: وَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكَ لَا تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمْرٌ»، قَالَ: «فَصِرْتُ إِلَى الَّذِي قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا كَبِرْتُ وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ قَبِلْتُ رُخْصَةَ نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» رواه البخاري (1975 ومسلم (1159).

ومِنْ هنا نستفيد: أن ما جاء عن بعض السلف ختم المصحف في أقل من ثلاث خلاف السنة، وأنه لا يخلو من كراهة، وهذا عامٌّ في رمضان وفي غيره،وهذه بعض أقوال العلماء في ذلك:

 قال أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص92): الذي أختار من ذلك: ألا نقرأ القرآن في أقل من ثلاث للأحاديث التي ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الكراهة في ذلك. اهـ.

وقال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (9/142)-عن أثر وكيع أنه كان يصوم الدهر ويختم القرآن كل ليلة-: قد صح نهيه عليه السلام عن صوم الدهر، وصح أنه نهى أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث. والدين يسر، ومتابعة السنة أولى. الخ.

قلت: وهذا قول أحمد في رواية أنه قال: أكره أن يقرأ في أقل من ثلاث؛ لحديث عبد الله بن عمرو، كما في «المغني» تحت رقم (1108).

وقال الحافظ ابن كثير في «فضائل القرآن»(254): قد كره غير واحد من السلف قراءة القرآن فى أقلَّ من ثلاثٍ، كما هو مذهبُ أبى عبيد، وإسحاق بن راهويه، وغيرهما من الخلف أيضًا. اهـ.

وسمعت والدي رحمه الله يقول:يُخشى على من قرأه في أقل من ثلاث ألا يفقهه.

وهناك قول: أنه يحرم قراءة القرآن في أقل من ثلاث. وهذا قول ابن حزم في «المحلى»(مسألة294).

وقال الشيخ الألباني في «أصل صفة الصلاة»(2/521): فالحق أنه لا يجوز قراءة القرآن في أقل من ذلك. اهـ.

قال الشيخ الألباني رَحِمَهُ الله في «السلسلة الصحيحة» (5 تحت حديث رقم 2466): ولا يشكل على هذا-أي: المنع من قراءة القرآن في أقل من ثلاث-ما ثبت عن بعض السلف مما هو خلاف هذه السنة الصحيحة؛ فإن الظاهر: أنها لم تبلغهم. اهـ.

والحاصل: أن الإكثار من تلاوة القرآن يكون في الحدِّ المأذون فيه، فلا يكون في أقل من ثلاث، ولم يزد أحدٌ على المأذون فيه شرعًا إلا وقع عنده تقصير في العبادات الأُخرى وفي الحقوق؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعبد الله بن عمرو: «فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا»، مع أن عبد الله بن عمرو من أقوياء الصحابة، وفي شبابه، وقوته، ولهذا يقول رضي الله عنه: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. والله أعلم بمصالح عباده وأحكم وأعلم، ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)﴾[الملك].

 وأما الوقت المختار لابتداء القراءة والختم فيه، فقال النووي: وَأَمَّا وَقتُ الابتِداءِ وَالخَتمِ لِمِن يَختِمُ فِي الأُسبُوعِ؛ فَقَد رَوَى ابنُ أَبِي دَاوُدَ بِإِسنَادِهِ أَنَّ عُثمَانَ بنَ عَفَّانَ رضي الله عنه كَانَ يَفتَتِحُ القُرآنَ لَيلَةَ الجُمُعَةِ، وَيَختِمُهُ لَيلَةَ الخَمِيسِ...

وهذا التحديد اجتهاد لا دليل عليه، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الوقوف  مع الدليل

عن السائب بن يزيد ابن أخت نمر، أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إن حديثكم شر الحديث، إن كلامكم شر الكلام، فإنكم قد حدَّثتم الناس حتى قيل: قال فلان، وقال فلان، ويترك كتاب الله، من كان منكم قائمًا فليقم بكتاب الله، وإلا فليجلس، إن كلامكم شر الكلام، وإن حديثكم شر الحديث. رواه  أبو زرعة الدمشقي رحمه الله في «تاريخه»(1470) والأثر صحيح.

علَّق ابن القيم في «إعلام الموقعين» (2/135)على هذا الأثر، وقال: فَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ لِأَفْضَلِ قَرْنٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَكَيْفَ لَوْ أَدْرَكَ مَا أَصْبَحْنَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ لِقَوْلِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ؟ فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وقال العلّامة الشّوكاني رحمه الله في «أدب الطلب»(82): فالمعيارُ الّذي لا يَزيغ: ‏أن يكون طالب العلم مع الدّليل في جميع موارده ومصادره، لا يَثْنيه عنه شيءٌ، ولا يحول بينه وبينه حائلٌ. اهـ.

ونحمد الله إذ وفقنا للوقوف مع الدليل والأخذ بالدليل، ورحم الله والدي الشيخ مقبل بن هادي إذ ربَّانا على غرْسِ محبة الدليل في قلوبنا، فإذا جاء الدليل وجب علينا أن نقول: سمعنا وأطعنا.

نسأل الله الثبات.