جديد الرسائل

الجمعة، 3 يوليو 2020

(14)دروس مختصرة في الصيام من كتاب عمدة الفقه الحنبلي

قال الإمام أبو محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رحمه الله في كتاب الصيام من عمدة الفقه:

وَالصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيْرُ نَفْسِهِ، إِنْ شَاءَ صَامَ، وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ، وَلا قَضَاءَ عَلَيْهِ

وكذلك سائر التطوع إِلاَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ،فَإِنَّهُ يَجِبُ إِتْمَامُهُمُا، وَقَضَاءُ مَا أَفْسَدَ مِنْهُمَا 

الشرح  

قوله:(وَالصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيْرُ نَفْسِهِ، إِنْ شَاءَ صَامَ، وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ)

هذا لفظُ حديث ورد عَنْ أُمِّ هَانِئٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا، فَدَعَا بِشَرَابٍ، فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَهَا فَشَرِبَتْ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمَا إِنِّي كُنْتُ صَائِمَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ، إِنْ شَاءَ صَامَ، وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ.رواه الترمذي(732)،وأحمد(44/463). وفي سنده جعدة  المخزومي  حفيد أم هانئ  مجهول حال.

ولكنه قد ثبت عن عائشة في «صحيح مسلم» (1154)قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَاتَ يَوْمٍ «يَا عَائِشَةُ، هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟» قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ قَالَ: «فَإِنِّي صَائِمٌ» قَالَتْ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ - أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ - قَالَتْ: فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ - أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ - وَقَدْ خَبَأْتُ لَكَ شَيْئًا، قَالَ: «مَا هُوَ؟» قُلْتُ: حَيْسٌ، قَالَ: «هَاتِيهِ» فَجِئْتُ بِهِ فَأَكَلَ، ثُمَّ قَالَ: «قَدْ كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَائِمًا».وهذا دليلٌ على جواز الفطر من صيام التطوع،ولكن لا ينبغي  قطع الصيام  لغير عذر.

قال الشوكاني رحمه الله تعالى (4/ 234)..ولَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى الصَّوْمِ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ بِالْإِجْمَاعِ.

وأما الإفطار في صوم الفريضة لغير عذر كسفر أو مرضٍ فهذا لا يجوز. قال ابن قدامة في «المغني» (2097):وَمِنْ دَخَلَ فِي وَاجِبٍ، كَقَضَاءِ رَمَضَان، أَوْ نَذْرٍ مُعَيَّنٍ أَوْ مُطْلَقٍ، أَوْ صِيَامِ كَفَّارَةٍ؛ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ،لِأَنَّ الْمُتَعَيِّنَ وَجَبَ عَلَيْهِ الدُّخُولُ فِيهِ، وَغَيْرَ الْمُتَعَيِّنِ تَعَيَّنَ بِدُخُولِهِ فِيهِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْفَرْضِ الْمُتَعَيِّنِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا خِلَافٌ بِحَمْدِ اللَّهِ.اهـ

(وَلا قَضَاءَ عَلَيْهِ)

إذا أفطر من صيام تطوع فلا قضاء عليه،لحديث عائشة المذكور إذ ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى اليوم الذي أفطره،قال الشوكاني رحمه الله تعالى (4/ 234): ظَاهِرُهُ-أي حديث  الصائم المتطوع-أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي التَّطَوُّعِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. اهـ. 

(وكذلك سائر التطوع)أي:لا يلزم إتمام التطوع مثل الصدقة والصلاة وقراءة القرآن.

وقد قاسوا هذا على صيام التطوع ،فكما يجوز  الإفطار في صيام التطوع  كذلك يجوز في سائر التطوعات.

 قال ابن قدامة في «المغني»(3/160):وَسَائِرُ النَّوَافِلِ مِنْ الْأَعْمَالِ حُكْمُهَا حُكْمُ الصِّيَامِ، فِي أَنَّهَا لَا تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، وَلَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا إذَا خَرَجَ مِنْهَا، إلَّا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَإِنَّهُمَا يُخَالِفَانِ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ فِي هَذَا، لِتَأَكُّدِ إحْرَامِهِمَا، وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُمَا بِإِفْسَادِهِمَا.

وكذلك استنبط الحافظ من حديث عائشة وما في معناه  في عدم لزوم إتمام صوم التطوع أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْعِبَادَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِتْمَامَ إِذَا كَانَت نَافِلَة بِهَذَا النَّص فِي الصَّوْم وبالقياس فِي الْبَاقِي.كذا في«فتح الباري»(46)أي: باستثناء نافلة الحج والعمرة فإنه يلزم بالشروع فيهما الإتمام.

ولكن الأولى ألا يخرج لغير عذر،قال الشيخ ابن عثيمين في«الشرح الممتع»(6/486)عن قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لعبد الله بن عمرو-بن العاص- رضي الله عنهما:«لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل».قال:إذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم انتقده لترك قيام الليل، فكيف بمن تلبَّس بالنافلة فإنّ انتقاده إذا تركها من باب أولى؟

 ولهذا نقول للإنسان إذا شرع في النافلة: لا تقطعها إلا لغرض صحيح.اهـ

(إِلاَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ إِتْمَامُهُمُا)

حج التطوع وعمرة التطوع يجب إتمامهما بالشروع فيهما،والدليل قوله تعالى:﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾[البقرة:196].

ولا يتحلَّل من أحرم بالحج والعمرة إلا بواحدٍ من ثلاثة:

قال ابن قدامة في «المغني »(2441):التَّحَلُّلَ مِنْ الْحَجِّ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ كَمَالِ أَفْعَالِهِ، أَوْ التَّحَلُّلِ عِنْد  الْحَصْرِ، أَوْ بِالْعُذْرِ إذَا شَرَطَ، وَمَا عَدَا هَذَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِهِ. فَإِنْ نَوَى التَّحَلُّلَ لَمْ يَحِلَّ، وَلَا يَفْسُدُ الْإِحْرَامُ بِرَفْضِهِ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا بِالْفَسَادِ، فَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا بِرَفْضِهَا، بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ.اهـ

(وَقَضَاءُ مَا أَفْسَدَ مِنْهُمَا) إذا أفسد حجه  أو عمرته بالجماع فذكر أهل العلم أن عليه القضاء.

قال ابن قدامة في «المغني »(2442) فَأَمَّا الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ، فَيَلْزَمُهُ بِكُلِّ حَالٍ، لَكِنْ إنْ كَانَتْ الْحَجَّةُ الَّتِي أَفْسَدَهَا وَاجِبَةً بِأَصْلِ الشَّرْعِ، أَوْ بِالنَّذْرِ، أَوْ قَضَاءً، كَانَتْ الْحَجَّةُ مِنْ قَابِلٍ مُجَزِّئَةً، لِأَنَّ الْفَاسِدَ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ الْقَضَاءُ، أَجْزَأَهُ عَمَّا يُجْزِئُ عَنْهُ الْأَوَّلُ، لَوْ لَمْ يُفْسِدْهُ، وَإِنْ كَانَتْ الْفَاسِدَةُ تَطَوُّعًا، وَجَبَ قَضَاؤُهَا؛ لِأَنَّهُ بِالدُّخُولِ فِي الْإِحْرَامِ صَارَ الْحَجُّ عَلَيْهِ وَاجِبًا، فَإِذَا أَفْسَدَهُ، وَجَبَ قَضَاؤُهُ، كَالْمَنْذُورِ، وَيَكُونُ الْقَضَاءُ عَلَى الْفَوْرِ.

وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا؛ لِأَنَّ الْحَجَّ الْأَصْلِيَّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ، فَهَذَا أَوْلَى، لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ بِالدُّخُولِ فِيهِ، وَالْوَاجِبُ بِأَصْلِ الشَّرْعِ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِذَلِكَ.هذا ما ذكره ابن قدامة،والله أعلم.

انتهى الدرس الرابع عشر،ولله الحمد والمنة.