جديد المدونة

جديد الرسائل

السبت، 30 نوفمبر 2019

(17) اختصار الدرس الخامس عشر من دروس التبيان في آداب حملة القرآن



من آداب المعلِّم

الصفة الأولى: الرفق بالطالب

الرفق: اللين وعطف الجانب.

وهذا حق مؤكد للطالب على معلمه أن يكون رفيقًا به وأن يحسن إليه ، فينبغي أن يرفق به ويفرح بحضوره لينتفع وينفع الله به، وليعود على المعلم من الخير والأجور، قال تعالى: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) ﴾ [يونس: 58].

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فَوَاللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» رواه البخاري (2942 ومسلم (2406) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه. إلى غير ذلك من الأدلة التي فيها فضل التعليم والحث على التعليم.

الرفق بالطالب يكون في عدة أمور:

§    لِين العبارة وطيب الكلام، قال تعالى: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83]. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ» رواه البخاري (2989 ومسلم (1009) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.

§    الرفق بالطالب في التعليم فلا يقرر عليه شيئًا فوق مستواه وفوق طاقته فإن العلم بالتدرج،ويعلمه شيئًا فشيئًا لأن من أراد العلم جملة فاته كله.

وقد كان والدي الشيخ مقبل رحمه الله في بعض الحلقات الخاصة إذا طلب منه الزيادة يذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وَاقْتَدِ بِأَضْعَفِهِمْ» رواه أبو داود في «سننه» (531) عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ رضي الله عنه، وهو في «الصحيح المسند» (906) لوالدي رَحِمَهُ الله. وهذا أيضًا من جملة التيسير.

§    ومن الرفق أن يعامل الطالب بما كان يحب أن يعامَلَ به من الإحسان والرفق، فقد كان هذا الشيخ طالبًا فمنَّ الله عليه بالقرآن والعلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» رواه البخاري (13 ومسلم (45) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه.

§    الصبر على تفهيمه وحلِّ إشكالاته خاصةً التي تمر في الدرس.

§    إذا سأل عن شيء لا يَنتفع به فينبغي أن يصرفه المعلم إلى ما هو أولى له وأنفع له. فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: «وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا». قَالَ: لاَ شَيْءَ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» رواه البخاري (3688 ومسلم (2639).

§    الابتسامة والبشاشة، فقد ثبت عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قَالَ: مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلاَ رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي» رواه البخاري (6089 ومسلم (2475).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

 الرفق شأنه عظيم

 فهو يكسب القلوب ويجذب النفوس والمحبة والتقدير، كما قال بعض السلف: «التَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ نِصْفُ الْعَقْلِ، وَحَسْنُ الْمَسْأَلَةِ نِصْفُ الْعِلْمِ، وَاقْتِصَادُكَ فِي مَعِيشَتِكَ يُلْقِي عَنْكَ نِصْفَ الْمَؤُونَةِ» أخرجه الرامهرمزي في «المحدث الفاصل» (359) عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ.

فالرفق مؤَثِّر يجلب المودة ويدل على العقل الراجح ويشرح الصدر، بخلاف الشدة والقسوة والعُنف فإنها منفِّرةٌ للقلوب، وتسبب ردَّة فعل في عدم القبول، ولهذا ربنا سبحانه وتعالى يقول لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام لما أرسلهما إلى فرعون الطاغية: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)﴾ [طه: 44].

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ» رواه مسلم (2593) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.

الرفق من الأخلاق الحميدة، ومن مكارم الأخلاق، ومن أسماء الله عز وجل الرفيق ومن صفاته الرفق، والله عز وجل يحب لعباده أن يتخلقوا بهذا الخُلُق الجميل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ» رواه البخاري (6927 ومسلم (2593) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.

الذي يريد لنفسه ولبيته الخير يلزم الرفق، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ، يُحْرَمِ الْخَيْرَ» رواه مسلم (2592) عَنْ جَرِيرٍ رضي الله عنه.

 ويقول النّبِيّ صلى الله عليه وسلم لعائشة: «يَا عَائِشَةُ، ارْفُقِي، فَإِنَّ اللهَ إِذَا أَرَادَ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا، دَلَّهُمْ عَلَى بَابِ الرِّفْقِ» رواه الإمام أحمد (41/255) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.

وروى الإمام أحمد (42/153) عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: «إِنَّهُ مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ، فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ، وَيَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَارِ».

الرفق خُلُق جميل وزينة للعمل والعامل يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ» رواه مسلم (2594) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.

والأصل الرفق واللين، وخاصة في هذه الأزمنة، لكثرة غفلة الناس وجهلهم بدين الله، قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[النحل: 125].



سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مليئة بالرفق  بالفعل والقول نذكر منها ما يلي:

§    روى البخاري (6025) ومسلم (284) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي المَسْجِدِ، فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تُزْرِمُوهُ» ثُمَّ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَيْهِ.

§    وروى مسلم (537) عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ؟ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللهِ، مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي»

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشدة في موضعها حسن:

قد يُحتَاج أحيانًا للشدة، وهذا يكون عبارة عن علاج، فإذا اقتضت المصلحة الشدة فإنها تكون محمودة، تقول عائشة رضي الله عنها: «مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ حَتَّى يُنْتَهَكَ مِنْ حُرُمَاتِ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ» رواه البخاري (6853).

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ» رواه البخاري (705 ومسلم (465) عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما. بسبب التطويل في الصلاة بالناس.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: «إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ» رواه البخاري (30 ومسلم (1661) عن أبي ذر رضي الله عنه.

 فالتخشين والقسوة حسب ما تقتضيه المصلحة، ولا يعامَل بالقسوة إلا إذا اقتضته الحكمة والمصلحة.

والرفق ليس خاصًا بمعلم القرآن، فكل معلم يحتاج إلى الرفق، سواء كان يعلم العقيدة أو الفقه أو الحديث أو النحو أو غير ذلك، بل كلُّ مسلم يحتاج إلى الرفق، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ».

 فمثلًا:

§    الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج إلى رفق.

§    الردود على المخالفين والمبطلين يحتاج إلى رفق يقول الله تعالى: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) ﴾ [فصلت].

§    رفق ولاة الأمور برعاياهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ» رواه مسلم (1828) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.

§    الرفق بالمرأة روى البخاري (6161 ومسلم (2323) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أن النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ رُوَيْدَكَ بِالقَوَارِيرِ». شبَّه النساء بالقوارير وهي الزُّجاج لضعفهن.

§    الرفق بالصغير والرحمة به النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ» رواه البخاري (5997 ومسلم (2318) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.

§    الرفق باليتيم، الرفق بالضعيف والمحتاج، الرفق بالحيوان يشمل ذلك كلَّهُ قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ».

والجزاء من جنس العمل فمن أحسن إلى الخلق أحسن الله إليه ومن رفق رفق اللهُ به.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

الصفة الثانية: الترحيب بالطالب

من آداب المعلم ترحيبه بالطالب، وهذا داخلٌ في مكارم الأخلاق.

وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الترحيب عند اللقاء.

§    روى الإمام البخاري (357 ومسلم (719) عن أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ، أن النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال لها: «مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ».

§    وروى البخاري (53 ومسلم (17) عن ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ القَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنِ القَوْمُ؟ -أَوْ مَنِ الوَفْدُ؟ -» قَالُوا: رَبِيعَةُ. قَالَ: «مَرْحَبًا بِالقَوْمِ، أَوْ بِالوَفْدِ، غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى..».

§    وروى الإمام الآجري في «أخلاق العلماء» (25) عن صَفْوَانَ بنِ عَسَّالٍ المُرَادِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي جِئْتُ أَطْلُبُ العِلْمَ. فَقَالَ: «مَرْحَبًا يَا طَالِبَ العِلْمِ، إِنَّ طَالِبَ العِلْمِ لَتَحُفُّهُ المَلائِكَةُ، وَتُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا، ثُمَّ يَرْكَبُ بَعْضُهُم بَعْضًا، حَتَّى يَبْلُغُوا سَمَاءَ الدُّنْيَا مِن حُبِّهِم لِمَا يَطْلُبُ».

هذا حديث حسن.و أصله في النسائي (1/83‑98) وابن ماجه. والترمذي، لكن ليس فيها موضع الشاهد: «مرحبًا يا طالب العلم».

§    ورحَّب النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بابنته فاطمة لما جاءت إليه وقال: «مَرْحَبًا بِابْنَتِي» رواه البخاري (3623 ومسلم (2450) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.

§    وجرى على ذلك سلُفنا الصالح رضي الله عنهم

روى الإمام مسلم (1218) من طريق جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، فَسَأَلَ عَنِ الْقَوْمِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ، فَقُلْتُ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى رَأْسِي فَنَزَعَ زِرِّي الْأَعْلَى، ثُمَّ نَزَعَ زِرِّي الْأَسْفَلَ، ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ شَابٌّ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِكَ، يَا ابْنَ أَخِي، سَلْ عَمَّا شِئْتَ، فَسَأَلْتُهُ، وَهُوَ أَعْمَى..» الحديث بطوله في قصة حجة الوداع. وهذا الذي فعله جابر للمؤانسة والملاطفة.

 كما أن الترحيب في أي لقاء بالزائرين والقادمين مستحب، في حديث الإسراء كان النبي صلى الله عليه وسلم من مرَّ به من الأنبياء يرحب به، ويقول: «مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ» رواه البخاري (349 ومسلم (163) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه.

§    وروى الإمام مسلم (2038) في قصة أبي الهيثم بن التيهان-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنهما قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ-أَوْ لَيْلَةٍ-فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: «مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟» قَالَا: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللهِ،، قَالَ: «وَأَنَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا»، فَقَامُوا مَعَهُ، فَأَتَى رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ، قَالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيْنَ فُلَانٌ؟» قَالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنَ الْمَاءِ» الحديث.

وبوب لهذه المسالة الإمام البخاري في صحيحه وقال: بَابُ قَوْلِ الرَّجُلِ: مَرْحَبًا.

ويدل حديث أبي هريرة أنه يجوز للمرأة أن ترحب بضيوف زوجها، وهذا إذا أُمنت الفتنة.

فالترحيب من الأخلاق الحسنة ومن حُسن اللقاء، ويدل على تودد وإيناس وملاطفة، وفيه إظهار الفرح والسرور بالزائر، وفيه ثناء على الزائر. والترحيب معروف عند العرب.

معنى: مرحبًا وأهلًا وسهلًا

قال ابن قتيبة في «أدب الكاتب» (50): قولهم «مرحبًا» أي: أتيت رُحْبًا، أي: سَعَة، وأهلًا أي: أتيت أهلًا لا غُرَباء فأْنَسْ ولا تستوحِشْ، وسهلًا أي: أتيت سهلًا لا حَزْنًا. اهـ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

الصفة الثالثة: الإحسان إلى الطالب

هذا من آداب المعلم الجليلة إحسانه إلى الطالب بقدر استطاعته يقوم بقضاء حوائجه، ومعونته بالمال إذا استطاع، ونصرته والدفاع عنه إذا احتاج إلى ذلك، والشفاعة له عند ولي الأمر، وعند فاعلي الخير إذا لزِم الحال.

والإحسان إلى الخلق بصفةٍ عامَّة من أجلِّ الأخلاق ومن مفاتيح الخير .

§     النبي صلى الله عليه وسلم يقولوَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» رواه مسلم (2699) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.

§    ويقول النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ» رواه مسلم (2199) عن جابر رضي الله عنهما.

§    ويقول النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ» رواه البخاري (2442) ومسلم (2580) عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما. فالجزاء من جنس العمل.

§    ويقول النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ» رواه البخاري (1432 ومسلم (2627) عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه.

وقد قال ابن القيم في «حادي الأرواح» (69): ومفتاح حصول الرحمة الإحسان في عبادة الخالق والسعي في نفع عبيده. اهـ.

روى الفسوي في «المعرفة والتاريخ» (1/656) من طريق سُفْيَانَ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ الْمُنْكَدِرِ: مَا أَفْضَلُ الْأَشْيَاءِ؟ قَالَ: إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ، قِيلَ:

فَمَا بَقِيَ مِمَّا يُسْتَلَذُّ بِهِ. قَالَ: الْإِفْضَالُ عَلَى الْإِخْوَانِ.

وهذا أثرٌ صحيح. وسفيان هو ابن عيينة.

والإحسان إلى الخلق من أسباب انشراح الصدر، قال ابن القيم في «طريق الهجرتين»(279): الإحسان يفرح القلب ويشرح الصدر ويجلب النعم ويدفع النقم، وتركه يوجب الضيم والضيق ويمنع وصول النعم إليه. اهـ.

والناس للناس، وأحب العباد إلى الله أنفعهم كما جاء عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكَشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلَأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ-يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ شَهْرًا-وَمَنَ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلَأَ اللهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يَتَهَيَّأَ لَهُ أَثْبَتَ اللهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الْأَقْدَامِ» رواه الطبراني في «المعجم الكبير» (12/453 وذكره الشيخ الألباني في «السلسلة الصحيحة» (2/574).

وهذا الترغيب في آحاد المسلمين فكيف بالإحسان إلى طالب العلم الذي له حق مؤكَّد على معلِّمِه؟!

وأم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وصفت النبي صلى الله عليه وسلم بأوصافَ جليلة من ضمنِها الإحسان إلى الضعفاء والمحاويج.

وقال ابن الدغنة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه في أول البعثة لما أراد الخروج من مكة: «إِنَّ مِثْلَكَ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ فَإِنَّكَ تَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ». رواه البخاري (3905) عن عائشة رضي الله عنها.

 وهذه الصفات المذكورة في أبي بكر هي التي ذكرتها خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها في النبي صلى الله عليه وسلم وهذا من فضائل أبي بكر الصديق.

وعلى الإنسان أن يروض نفسه على الإحسان إلى الناس حتى يصيرَ سهلًا يسيرًا  وطبعًا له فالطبع بالتطبُّع.

قال ابن القيم في «زاد المعاد» (4/226) في ترويض النفس: وَمِنْ أَعْظَمِ رِيَاضَتِهَا: الصَّبْرُ وَالْحُبُّ، وَالشَّجَاعَةُ وَالْإِحْسَانُ، فَلَا تَزَالُ تَرْتَاضُ بِذَلِكَ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى تَصِيرَ لَهَا هَذِهِ الصِّفَاتُ هَيْئَاتٍ رَاسِخَةً، وَمَلَكَاتٍ ثَابِتَةً. اهـ.

وأنبِّه على شيءٍ وهو:

إذا رزق الله الطالبَ شيخًا متواضعًا فعليه أن يتواضع أكثر ولا يحمله ذلك على التعالي والكبر والغرور.