صيام نبي
الله داود عليه الصلاة والسلام
عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: «صُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أيام قُلْتُ: إنِّي أَقْوَى مِنْ
ذَلِكَ، فَلَمْ يَزَلْ يَرْفَعُنِي حَتَّى قَالَ: صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا
فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الصِّيَامِ، وَهُوَ صَوْمُ أَخِي دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ»
متفق عليه.
عن
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «أَحَبُّ
الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ،
كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا،
وَأَحَبُّ الصَّلاةِ إِلَى اللَّهِ صَلاةُ دَاوُدَ،
كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ،
وَيَنَامُ سُدُسَهُ» رواه البخاري (3420)، ومسلم (1159).
وقال
عبد الله بن عمرو للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ
مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ» أي: أفضل من صيام داود أنكر عليه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقَالَ: «لا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ»
رواه البخاري (3418)،
ومسلم (1159).
نستفيد من هذه الروايات فضل صيام نبي الله داود
وأنه أفضل نوافل الصيام .وهذا في حق من لم يضعف عن القيام بالواجبات وعما هو أهم
ولم يفوِّت الحقوق ولم ينشغل به عن العلم النافع.
روى أبو عبيد في «فضائل
القرآن» (ص: 62) من طريق
أَبِي وَائِلٍ، قَالَ:
قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بن مسعود: إِنَّكَ
لَتُقِلُّ الصَّوْمَ؟
قَالَ: «إِنَّهُ يُضْعِفُنِي عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ». والأثر صحيح.
فمن
كان لديه قوة واستطاعة على صيام نبي الله داود ولم يفوِّت به واجبًا ولا ما هو أهم
فهذا أفضل الصيام، يصوم يومًا ويفطر يومًا، وذلك نصف الدهر.
وإذا
كان صيام يوم وفطر يوم أفضل أنواع صيام التطوع فلماذا لم يصمه النبي صلى الله عليه
وعلى آله وسلم؟
هذا
السؤال ذكره ابن رجب في «لطائف المعارف»(130)، وأجاب
عنه.
قال
رحمه الله:
فإن
قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصيام
صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما» ولم يصم
كذلك، بل كان يصوم سردا ويفطر سردا، ويصوم شعبان،
وكل اثنين وخميس؟
قيل: صيام داود الذي فضَّله النبي صلى الله عليه وسلم
على الصيام قد فسره النبي صلى الله عليه وسلم في حديثٍ آخر بأنه صوم شطر الدهر، وكان صيام النبي صلى الله عليه وسلم إذا جُمع
يبلغُ نصف الدهر أو يزيد عليه، وقد كان يصوم
مع ما سبق ذكره يوم عاشوراء أو تسع ذي الحجة،
وإنما كان يفرِّق صيامه، ولا يصوم يوما ويفطر
يوما لأنه كان يتحرى صيام الأوقات الفاضلة،
ولا يضر تفريق الصيام والفطر أكثر من يوم ويوم إذا كان القصد به التقوِّي على ما
هو أفضل من الصيام، من أداء الرسالة وتبليغها
والجهاد عليها والقيام بحقوقها، فكان صيام يوم
وفطر يوم يضعفه عن ذلك، ولهذا سئل النبي صلى
الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة عمَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمَيْنِ؟ قَالَ: «وَدِدْتُ أَنِّي طُوِّقْتُ ذَلِكَ» رواه مسلم (1162) ، وقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص لما كبر يسرد
الفطر أحيانا، ليتقوى به على الصيام، ثم يعود فيصوم ما فاته محافظة على ما فارق عليه
النبي صلى الله عليه وسلم من صيام شطر الدهر،
فحصل للنبي صلى الله عليه وسلم أجر صيام شطر الدهر وأزيد منه بصيامه المتفرِّق، وحصل له أجرُ تتابع الصيام بتمنيه لذلك، وإنما عاقه عنه الاشتغال بما هو أهم منه وأفضل
والله أعلم. اهـ.
ومعلوم
أن هناك نوافل من الصيام حث النبي على صيامها،
كصيام ست من شوال، وصيام يوم عرفة، وصيام يوم عاشوراء،
وصوم شهر الله المحرم، والاكثار من الصيام في
شعبان، وصيام الاثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر و غير ذلك، فمن لم يتيسر له صيام نبي الله داود فيعدل إلى
نوافل الصيام الأخرى.
وينبغي
ألا يخلو شهرٌ من الصيام ولو يومًا واحدًا.
لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي عقرب: «صُمْ مِنَ الشَّهْرِ يَوْمًا».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حكم صوم الدهر
صوم الدهر مكروه وهذا يدل له أدلة
كثيرة، منها:
·
عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
·
وَعَنْ أبي
قَتَادَةَ قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِمَنْ صَامَ الدَّهْرَ؟
قَالَ: لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ، أو لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ» رَوَاهُ
الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ. يعني: لا أُجر على صيامه ولا أفطر
فسَلِم من التعب.
وقد ذهب إلى كراهة صوم الدهر مطلقا -وإن لم يشق عليه أو يفوت به حقا، وسواء أفطر الأيام المنهي عن صيامها أم لا-إسحاق وأحمد في رواية عنه،
كما في «الانصاف»(3/242)، ورجحه
ابن قدامة في «المغني»،
وابن القيم في «زاد المعاد»(2/77)، وهذا الذي يدل له ظاهر الدليل.
وقد رجحه والدي الشيخ مقبل فقد سألته عن هذه المسألة وقال: صيام الدهر مكروه.
ومنهم من قال:
يجوز صيام الدهر، وحملوا النهي على من صام
الدهر مع الأيام المحرم صومها كالعيدين وأيام التشريق،
وهذا قول ابن المنذر كما في «فتح الباري»(1977)، وابن
حبان في «صحيحه»(تحت
رقم3583) وآخرين.
وهذا رده ابن القيم في «زاد المعاد»(2/76).
وذهب ابن حزم إلى تحريم صيام الدهر. وهو قول الشيخ الألباني في «سلسلة الأحاديث الصحيحة»(3202).
وذهب جمهور العلماء إلى استحباب صيام
الدهر لمن قوي عليه ولم يفوِّت حقًّا.
واستدلوا لذلك بأدلة منها:
· عن
عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:
«صُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ الحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ» رواه البخاري ومسلم.
· عن
أَبِي أَيُّوبَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَامَ
رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ فَذَاكَ صِيَامُ الدَّهْرِ» رواه مسلم.
قالوا: دل هذان الدليلان
على استحباب صوم الدهر لأن المشبه دون المشبه به.
وقد ردَّه ابن القيم في «زاد المعاد»(2/77).
· عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ، سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي رَجُلٌ أَسْرُدُ الصَّوْمَ، أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ قَالَ: «صُمْ إِنْ شِئْتَ،
وَأَفْطِرْ إِنْ شِئْتَ» رواه مسلم (1121).
قال الحافظ في «فتح الباري» (1977): وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ سُؤَالَ حَمْزَةَ إِنَّمَا
كَانَ عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ لَا عَنْ صَوْمِ الدَّهْرِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ سَرْدِ الصِّيَامِ صَوْمُ
الدَّهْرِ فَقَدْ قَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْرُدُ الصَّوْمَ فَيُقَالُ لَا يُفْطِرُ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَصُومُ
الدَّهْرَ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذِكْرِ
السَّرْدِ صِيَامُ الدَّهْرِ. اهـ.
· عَنْ
أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ
هَكَذَا» وَقَبَضَ كَفَّهُ. رواه أحمد(32/484).
قال جمهور العلماء: المراد
ضيقت عنه جهنم فلا يدخلها.
وهذا تأويل غير صحيح. قال
ابن حزم في «المحلى»(4/436)في ردِّه
لذلك: هَذِهِ لُكْنَةٌ وَكَذِبٌ.
أَمَّا اللُّكْنَةُ: فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ هَذَا لَقَالَ: ضُيِّقَتْ عَنْهُ،
وَلَمْ يَقُلْ: عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْكَذِبُ: فَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ رُوَاتُهُ كُلُّهُمْ عَلَى
التَّشْدِيدِ وَالنَّهْيِ عَنْ صَوْمِهِ. اهـ.
[الألكن
هو الذي لَا يُقِيمُ العَرَبيَّةَ لعُجْمةِ لِسانِه.
وقيلَ: اللُّكْنَةُ عِيٌّ فِي اللِّسانِ.تاج العروس(36/125)]
ثم إن الحديث الصحيح فيه أنه موقوف على أبي موسى الأشعري رضي
الله عنه.
وَقد أَجَاب جمهور العلماء عَنْ حَدِيثِ المنع من صيام الدهر
أَنَّهُ في حقِّ مَنْ كَانَ يُدْخِلُ عَلَى نَفْسِهِ مَشَقَّةً أَوْ يُفَوِّتُ
حَقًّا.
وردَّ الشوكاني على الجمهور بردٍّ حسن في «السيل الجرار»(2/142)وختم كلامه
بقوله:
فالحاصل: أن صوم الدهر إذا لم يكن محرما
تحريما بحتا فأقل أحواله أن يكون مكروها كراهة شديدة،
هذا لمن لا يضعفه الصوم عن شيء من الواجبات،
أما من كان يَضعف بالصوم عن بعض الواجبات الشرعية فلا شك في تحريمه من هذه الحيثية
بمجردها، من غير نظر إلى ما قدمنا من أدلة.