جديد المدونة

جديد الرسائل

السبت، 29 سبتمبر 2018

(132)الاخْتِيَارَاتُ العِلْمِيَّةُ لوالدي الشيخ مقبل رحمه الله




                            مِنْ فقه والدي رحمه الله



                     حكم الجمع بين الصلاتين في الحضر





الأصل هو أن تصلى كل صلاة في وقتها.



ولا بأس بالجمع بين الصلاتين في النادر في الحضر، لأنه«جَمَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ، فِي غَيْرِ خَوْفٍ، وَلَا مَطَرٍ».

[رواه مسلم (705)،وأخرجه البخاري(543)،ومسلمعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ سَبْعًا وَثَمَانِيًا: الظُّهْرَ وَالعَصْرَ وَالمَغْرِبَ وَالعِشَاءَ "].



وفي رواية لمسلم أن سعيد بن جبير سأل ابن عباس: لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ؟ قَالَ: «كَيْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ».



أما ما يفعله بعض الناس من المداومة على الجمع بين الصلاتين تساهلًا أو لأجل القات، أو لأجل الأعمال فهؤلاء آثمون يخشى أن يتناولهم قوله تعالى:{ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)}[الماعون:4-5]، وقوله:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)}[مريم:59].



استفدته وقيَّدته من دروس والدي رحمه الله.

---------------------------------------



قلت: وقد ذهب جماعة من العلماء إلى جواز الجمع بين الصلاتين في الحضر بشرطين اثنين:

الحاجة،وعدم اتخاذه ديدنًا وعادةً.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله (تحت رقم 543)في شرح حديث ابن عباس:وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِلَى الْأَخْذِ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فَجَوَّزُوا الْجَمْعَ فِي الْحَضَرِ لِلْحَاجَةِ مُطْلَقًا،لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُتَّخَذَ ذَلِكَ عَادَةً.

وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ ابن سِيرِين وَرَبِيعَة وَأَشْهَب وابن الْمُنْذِرِ وَالْقَفَّالُ الْكَبِيرُ وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.

وَاسْتَدَلَّ لَهُمْ بِمَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ قَالَ أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أَحَدًا مِنْ أُمَّتِهِ،وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرو بن هرم عَن أبي الشعْثَاء أَن ابن عَبَّاسٍ صَلَّى بِالْبَصْرَةِ الْأُولَى وَالْعَصْرَ لَيْسَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ لَيْسَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ شُغْلٍ وَفِيهِ رَفْعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ أَنَّ شغل ابن عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ كَانَ بِالْخُطْبَةِ وَأَنَّهُ خَطَبَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ بَدَتِ النُّجُومُ ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَفِيهِ تَصْدِيقُ أَبِي هُرَيْرَةَ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي رَفْعِهِ.اهـ



وقد نقل الإجماعَ على عدم العمل بحديث ابن عباس الترمذيُّ في العلل الصغير(323)وقال:جميع ما في هذا الكتاب من الحديث معمول به، وقد أخذ به بعض أهل العلم، ما خلا حديثين:

حديث ابن عباس  رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بالمدينة والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سقم".

وحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه".وقد بيَّنا علة الحديثين جميعا في هذا الكتاب.اهـ

وقول الإمام الترمذي:"وقد بينا علة الحديثين" كان رحمه الله يسمِّي النسخ علة بجامع ما بينهما أنه لا يُعْمَل به،فالمعل بعلة قادحة لا يعمل به ،والمنسوخ لا يعمل به.

ونقلُه للإجماع في عدم العمل بحديث الجمع في الحضر دعوى لا تصح لِوجود مَن ذهب إليه من العلماء كما تقدم.

ولكنه قول جمهور العلماء وتأوَّلُوا هذا الحديث بتأويلات تخالف ظاهر هذا الحديث.

قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم(5/218):

مِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ جَمَعَ بِعُذْرِ الْمَطَرِ ،وَهَذَا مَشْهُورٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْكِبَارِ الْمُتَقَدِّمِينَ ،وَهُوَ ضَعِيفٌ بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ.

وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي غَيْمٍ فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ انْكَشَفَ الْغَيْمُ وَبَانَ أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ دَخَلَ فَصَلَّاهَا ،وَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ،لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَدْنَى احْتِمَالٍ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ لَا احْتِمَالَ فِيهِ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.



وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى تَأْخِيرِ الْأُولَى إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا فَصَلَّاهَا فِيهِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا دَخَلَتِ الثَّانِيَةُ فَصَلَّاهَا فَصَارَتْ صَلَاتُهُ صُورَةَ جَمْعٍ،وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ،لِأَنَّهُ مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل، وفِعل ابن عَبَّاسٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ حِينَ خَطَبَ وَاسْتِدْلَالُهُ بِالْحَدِيثِ لِتَصْوِيبِ فِعْلِهِ وَتَصْدِيقُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَهُ وَعَدَمُ إِنْكَارِهِ صَرِيحٌ فِي رَدِّ هَذَا التَّأْوِيلِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَمْعِ بِعُذْرِ الْمَرَضِ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْأَعْذَارِ وَهَذَا قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالْقَاضِي حُسَيْنٍ مِنْ أَصْحَابِنَا وَاخْتَارَهُ الْخَطَّابِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا،وَهُوَ الْمُخْتَارُ فِي تَأْوِيلِهِ لظاهر الحديث ولفعل ابن عَبَّاسٍ وَمُوَافَقَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ ،وَلِأَنَّ الْمَشَقَّةَ فِيهِ أَشَدُّ مِنَ الْمَطَرِ.

ثم قال النووي عن القول الأول  قول أشهب وابن سيرين ومن معه: ويؤيده ظاهر قول ابن عباس:أراد أن لا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ ،فَلَمْ يُعَلِّلْهُ بِمَرَضٍ وَلَا غَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.اهـ



وبعد الانتهاء من هذه المسألة نذكِّر أنفسَنا أن الصلوات لها وقتٌ محدَّدٌ معلوم قال تعالى:{إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا}،ونزل جبريل عليه الصلاة والسلام وحدَّد أوقات الصلوات الخمس.

فليتقِ الله مَن يتلاعب  بصلاته فيجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء حضرًا ويتخذه ديدنًا وعادةً،لحاجة ولغير حاجة،وأول ما يحاسبُ عليه العبد صلاته.

وأما ما تقدم فهذا من حيث الجواز،وليس الاستحباب،المستحب أن تُصلى الصلاة في أول وقتها امتثالًا لقوله تعالى:{فاستبقوا الخيرات}.

أما مسألة الجمع بين الصلاتين في السفر فهذا لا إشكال فيه،وليس الكلام فيه.والله أعلم.