جديد المدونة

جديد الرسائل

الأربعاء، 8 يونيو 2016

(2)فوائد وفقه آيات الصيام

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس الثالث
*********************
الآية الخامسة:
 ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة:187].
هذه الآية الكريمة لها سبب نزول عند البخاري (1915) من حديث البَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا، فَحَضَرَ الإِفْطَارُ، فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلاَ يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ، فَقَالَ لَهَا: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لاَ وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ، فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ [البقرة:187] فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا، وَنَزَلَتْ: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ﴾ [البقرة:187]».
(خَيْبَةً لَكَ) الخيبة: الحرمان، قالته رحمة به وشفقة عليه.
وكان هذا الحكم في أول فرض الصيام ثم نزل التخفيف.
قال الحافظ في فتح الباري تحت رقم الحديث السابق(1915): اتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ مُقَيَّدًا بِالنَّوْمِ ،وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي حَدِيثِ غَيْرِهِ ،وَقُيِّدَ الْمَنْعُ من ذَلِك فِي حَدِيث ابن عَبَّاسٍ بِصَلَاةِ الْعَتَمَةِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِ كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّوُا الْعَتَمَةَ حَرُمَ عَلَيْهِمُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالنِّسَاءُ وَصَامُوا إِلَى الْقَابِلَةِ وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا سَأَذْكُرُهُ قَرِيبًا وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ،وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ لِكَوْنِ مَا بَعْدَهَا مَظِنَّةَ النَّوْمِ غَالِبًا وَالتَّقْيِيدُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ بِالنَّوْمِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَحَادِيثِ .اهـ.
﴿الرَّفَثُ المراد به هنا الجماع . قال ابن عبدالبر في الاستذكار(3/374) لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) الْبَقَرَةِ 187 أَنَّهُ الْجِمَاعُ.
قال: واخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِهِ - عِزَّ وَجَلَّ - (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) الْبَقَرَةِ [197].وأَكْثَرُ العلماء على أن الرفث ها هنا جِمَاعُ النِّسَاءِ .اهـ.
 وقد يطلق الرفث على السب والشتام. ومنه حديث« وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ»الحديث.
 (فَلاَ يَرْفُثْ) قال ابن عبدالبر في الاستذكار(3/373):الرَّفَثُ هُنَا الْكَلَامُ الْقَبِيحُ وَالشَّتْمُ وَالْخَنَا وَالْغَيْبَةُ وَالْجَفَاءُ وَأَنْ تُغْضِبَ صَاحِبَكَ بِمَا يَسُوءُهُ وَالْمِرَاءُ وَنَحْوُ ذَلِكَ كُلِّهِ .اهـ.
(الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ  عدي بـ (إلى) لأن المراد به الإفضاء، كما قال تعالى: ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ [النساء:21].
﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ
في اللباس أقوال
أحدها :اللباس: الستر وكل واحد من الزوجين لباس للآخر باعتبار تجردهما عند النوم من ثيابهما وانضمام جسد كل واحد منهما بالآخر كما قال الشاعر
إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى عِطْفَهَا ... تَدَاعَتْ، فكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا
الثاني :تفسير اللباس بالسكن  أي سكن لكم وأنتم سكن لهن .قال تعالى { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) }.وقال سبحانه {وجَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا} [سورة الفرقان: 47] ، يعني بذلك سكنًا تسكنون فيه. وكذلك زوجة الرجل سَكنه يسكن إليها، كما قال تعالى ذكره: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}.) [سورة الأعراف: 189].
قال ابن جرير الطبري :فيكون كل واحد منهما"لباسًا" لصاحبه، بمعنى سكونه إليه. وبذلك كان مجاهد وغيره يقولون في ذلك.اهـ.
وقد قِيلَ:لا يسكن شيء إلى شَيْءٍ كَسُكُونِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الْآخَرِ.
الثالث: اللِّبَاسُ اسْمٌ لِمَا يُوَارِي الشَّيْءَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتْرًا لِصَاحِبِهِ عَمَّا لَا يَحِلُّ .
فكل واحد من الزوجين صيانة للآخر عن الوقوع في الحرام .قال الشيخ ابن عثيمين في تفسير هذه الآية : وعبَّر سبحانه باللباس لما فيه من ستر العورة، والحماية، والصيانة؛ وإلى هذا يشير قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج».
يراجع:تفسير ابن جرير الطبري (3/489) وتفسير البغوي (1/228)تفسير سورة البقرة.
والمرأة يقال لها  لباس، ويقال لها فراش كما في «الصحيحين» البخاري (6818) مسلم (1458) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ». وكما قال الشاعر:
إذَا رُمْتُهَا كَانَتْ فِرَاشًا يُقِلّنِي  * * *  وَعِنْدَ فَرَاغِي خَـــادِمٌ يَتَمَلّقُ
ويقال لها إزار قال ابن الأثير في النهاية: فِي حَدِيثِ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ) لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا( أَيْ نِسَاءَنَا وَأَهْلَنَا، كَنَّى عَنْهُنَّ بالأزرِ. وَقِيلَ أَرَادَ أَنْفُسَنَا. وَقَدْ يُكنى عَنِ النفْس بِالْإِزَارِ ومنه.
ألاَ أبْلِغْ أَبَا حَفْصٍ رَسُولًا ... فِدًى لَكَ مِنْ أَخِي ثِقَةٍ إِزَارِي
أَيْ أَهْلِي وَنَفْسِي.اهـ.
قال الخطابي في غريب الحديث(2/101)في التعليق على هذا البيت: أي نفسي ،ويقال: بل أراد فدى لك أهلي وكلاهما وجه .اهـ.
وفي الآية دليل على حسن العشرة بين الزوجين . والحياة الزوجية مبنية على التفاهم والمودة والرحمة قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21]..
وقد أوصى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ بالنساء لضعفهن روى البخاري (3331) ومسلم (1468) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ».
وكان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ خيرَ الناس لأهله . روى الترمذي (3895) عنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي، وَإِذَا مَاتَ صَاحِبُكُمْ فَدَعُوهُ». والحديث في «الصحيح المسند» (1595) لوالدي رَحِمَهُ اللَّهُ
وكانوا في سفرٍ مع النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ فجعل أنجشة رضي الله عنه أحد شعراء النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ يحدو والإبل تنشط وتسرع في السير إذا سمعت الحداء فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رحمة بالنساء.روى البخاري (6161) مسلم (2323).عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ وَمَعَهُنَّ أُمُّ سُلَيْمٍ، فَقَالَ: «وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدَكَ سَوْقًا بِالقَوَارِيرِ».
أطلق على النساء (قَوَارِير) لضعفهن وسرعة تغيرهن وانكسارهن, ومن حسن عشرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أنه كان يساعدهن في خدمة البيت كما في «صحيح البخاري» (676) عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: «كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ - تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ - فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ».
وكما كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ يخدم أهله فإنه كان يخدم نفسه.
روى أحمد (26194)عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سُئِلْتُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: «كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ يَفْلِي ثَوْبَهُ، وَيَحْلُبُ شَاتَهُ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ».
وروى أحمد (24903)من طريق عروة قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَائِشَةَ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ كَمَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ» .
ومن حسن عشرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ وتودده إلى أهله أنه في غزوة من الغزوات سابق عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. روى أبو داود (2578)عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ  النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ قَالَتْ: فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ عَلَى رِجْلَيَّ، فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي فَقَالَ: «هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ». والحديث في «الصحيح المسند» (1609) لوالدي رَحِمَهُ اللَّهُ .
ورواه الإمام أحمد (43/313)عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَأَنَا جَارِيَةٌ لَمْ أَحْمِلِ اللَّحْمَ وَلَمْ أَبْدُنْ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: «تَقَدَّمُوا» فَتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ لِي: «تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ» فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ، فَسَكَتَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا حَمَلْتُ اللَّحْمَ وَبَدُنْتُ وَنَسِيتُ، خَرَجْتُ مَعَهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: «تَقَدَّمُوا» فَتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ: «تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ» فَسَابَقْتُهُ، فَسَبَقَنِي، فَجَعَلَ يَضْحَكُ، وَهُوَ يَقُولُ: «هَذِهِ بِتِلْكَ».
فالحياة الزوجية ليست مبنية على العنف والقسوة والمعاندة لا من طرف الرجل ولا من طرف المرأة  ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19].
﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ
علم مشاهدة ورؤية، وفي هذا المعنى آيات أخرى كقوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140]، وقوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا [آل عمران:167]، وقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3]. فالأدلة التي ظاهرها إثبات صفة العلم لله عَزَّ وَجَلَّ في المستقبل المراد بها الرؤية والمشاهدة ووجود العمل نفسه. فإن الله سبحانه مطلع على كل شيء ومحيط بكل شيء كما قال تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]. وقد ذكر هذا ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ في «زاد المعاد» (3/200) في سياق الحِكَم التي كانت في غزوة أُحُدٍ قال: ثُمّ ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرَى، وَهِيَ أَنْ يَتَمَيَّزَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَيَعْلَمهُمْ عِلْمَ رُؤْيَةٍ وَمُشَاهَدَةٍ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مَعْلُومِينَ فِي غَيْبِهِ، وَذَلِكَ الْعِلْمُ الْغَيْبِيُّ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ، وَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى الْمَعْلُومِ إذَا صَارَ مُشَاهَدًا وَاقِعًا فِي الْحِسِّ. اهـ.
﴿تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ تخونون أنفسكم.
﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ
فتاب عليكم يشمل أمرين التوبة على الخيانة ،والتخفيف كما قال تعالى: ﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المزمل:20]،فتاب عليكم أي خففها عنكم . وقال تعالى في القاتل خطأً: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:92]. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي: عتق الرقبة. ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ أي: تخفيفًا؛ لأن المخطئ ليس عليه ذنب.
﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ المباشرة هنا الجماع.
﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي اطْلُبُوا مَا قَضَى اللَّهُ لَكُمْ .
وقيل:طلب الولد وهذا قول أكثر المفسرين كما في تفسير البغوي (1/229).
- وفي الآية تحريم الجماع للصائم في نهار رمضان، وقوله﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ أي: في الليل وهذا عليه إجماع أهل العلم .
- ومن جامع أهله في نهار رمضان عمدًا فعليه الكفارة كما في «الصحيحين» البخاري (6711)، مسلم (1111) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: هَلَكْتُ، يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «وَمَا أَهْلَكَكَ؟» قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، قَالَ: «هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟» قَالَ: لَا، قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ: «تَصَدَّقْ بِهَذَا» قَالَ: أَفْقَرَ مِنَّا؟ فَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: «اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ».
وظاهر الحديث أن الرجل كان ليس جاهلًا فهو كان يعلم أنه لا يجوز الجماع في نهار رمضان للصائم ،وأنه متعمد وليس ناسيًا لأنه يقول: هَلَكْتُ، وفي «الصحيحين» البخاري (6822) واللفظ له، مسلم (1112) من حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، «...قَالَ: احْتَرَقْتُ، قَالَ: «مِمَّ ذَاكَ» قَالَ: وَقَعْتُ بِامْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ...»الحديث.
- فإذا جامع جاهلًا بالتحريم ليس عليه كفارة ،فمن أسباب العذر: الجهل قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]. بعضهم يعرِف أنه حرام لكن لا يدري بالكفارة المغلَّظة فيسأل هل عليه كفارة؟ سألت الوالد الشيخ مقبل الوادعي رَحِمَهُ اللَّهُ فقال: إذا كان يعلم بالتحريم فعليه كفارة ،ما يلزم أن  يعلم بالكفارة.
- وإذا كان ناسيًا، جامع في نهار رمضان ناسيًا أنه صائم هذا ليس عليه كفارة لأدلة رفع المؤاخذة عن الناسي ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]. وفي سنن ابن ماجة (2043) وسنن البيهقي (15094)عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».
ومن الأدلة ما جاء عند البخاري (6669)، ومسلم (1155) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا، وَهُوَ صَائِمٌ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ». والمجامع الناسي يلحق بالآكل والشارب الناسي لصيامه.
وهذا قول الجمهور وقد عزاه ابن المنذر في الإشراف (3/137)إلى مجاهد، والحسن البصري، أنهما قالا: لا شيء عليه، وبه قال الثوري، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي.
واختار ابن المنذر أنه لا شيء عليه.
قال:وكان عطاء بن أبي رباح، ومالك، والأوزاعي، والليث بن سعد يقولون: عليه القضاء.
وقال أحمد: عليه القضاء والكفارة.
وقال النووي في المجموع (6/323):نص على الأكل والشرب وقسنا عليه كل ما يبطل الصوم من الجماع وغيره .اهـ.
- وفيه جواز الجماع قرب طلوع الفجر؛ لأنه سبحانه علَّق التحريم بطلوع الفجر.
- ويفيد جواز تأخير الغسل للجنب إلى بعد طلوع الفجر.
قال ابن العربي المالكي رَحِمَهُ اللَّهُ في «تفسيره» (1/134): إذَا جَوَّزْنَا لَهُ الْوَطْءَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلَيْهِ، وَهُوَ جُنُبٌ؛ وَذَلِكَ جَائِزٌ إجْمَاعًا؛ وَقَدْ كَانَ وَقَعَ فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - كَلَامٌ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَإِنَّ صَوْمَهُ صَحِيحٌ، وَبِهَذَا احْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ، وَمِنْ هَاهُنَا أَخَذَهُ بِاسْتِنْبَاطِهِ، وَغَوْصِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.
وقد ثبت في «الصحيحين» البخاري (1926)، ومسلم (1109) واللفظ له عن عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ، ثُمَّ يَصُومُ».
وجاء عن أبي هريرة أنه قال: «مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ جُنُبًا فَلَا يَصُمْ»، وفيه من الروايات ما يدل على تراجعه .روى البخاري (1926)، ومسلم (1109) واللفظ له من طريق أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَقُصُّ، يَقُولُ فِي قَصَصِهِ: «مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ جُنُبًا فَلَا يَصُمْ»، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ - لِأَبِيهِ - فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَسَأَلَهُمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَكِلْتَاهُمَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ، ثُمَّ يَصُومُ» قَالَ: فَانْطَلَقْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى مَرْوَانَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ مَرْوَانُ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ إِلَّا مَا ذَهَبْتَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَرَدَدْتَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ: قَالَ: فَجِئْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَبُو بَكْرٍ حَاضِرُ ذَلِكَ كُلِّهِ، قَالَ: فَذَكَرَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَهُمَا قَالَتَاهُ لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هُمَا أَعْلَمُ، ثُمَّ رَدَّ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنَ الْفَضْلِ، وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَرَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَمَّا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ، قُلْتُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: أَقَالَتَا: فِي رَمَضَانَ؟ قَالَ: كَذَلِكَ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ ثُمَّ يَصُومُ.
ويلحق بالجنب الحائض والنفاس إذا طهرتا قبل طلوع الفجر فإنهما تغتسلان وتصومان وصومهما صحيح. وهذا قول الجمهور.
- هنا أيضًا مسألة من طلع عليه الفجر وهو يجامع إن نزع مباشرة فلا كفارة عليه ولا شيء، وإن استدام واستمر فعليه كفارة المجامع في نهار رمضان وهذا قول الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في رواية عنه.
وهو قول والدي رحمه الله أنه إذا نزع مباشرة فليس عليه كفارة.
قال النووي في المجموع (6/311):{فَرْعٌ} فِي مَذَاهِبِهِمْ فِيمَنْ أَوْلَجَ ثُمَّ نَزَعَ مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ
ذَكَرْنَا أَنَّ مذهبنا أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ وَلَا قَضَاءَ وَلَا كَفَّارَةَ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ وَقَالَ مَالِكٌ وَالْمُزَنِيُّ وَزُفَرُ وَدَاوُد يَبْطُلُ صَوْمُهُ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أَنَّهُ يُفْطِرُ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَفِي رِوَايَةٍ يَصِحُّ صَوْمُهُ وَلَا قَضَاءَ وَلَا كَفَّارَةَ وَقَدْ سَبَقَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ دَلِيلُ الْمَذْهَبَيْنِ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ إذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ وَالرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ أَنْ يَصُومَ إذَا أَرَادَ الصِّيَامَ قَامَ وَاغْتَسَلَ وَأَتَمَّ صِيَامَهُ .اهـ.
وقال النووي في المجموع (6/322): إذَا جَامَعَ قَبْلَ الْفَجْرِ ثُمَّ نَزَعَ مَعَ طُلُوعِهِ أَوْ عَقِبَ طُلُوعِهِ وَأَنْزَلَ لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْ مُبَاشَرَةٍ مُبَاحَةٍ فَلَمْ يجب فيه شيء كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ قِصَاصًا فَمَاتَ المقتص مِنْهُ فَهَذَا هُوَ التَّعْلِيلُ الصَّحِيحُ.اهـ.
- ومن فوائد الآية جواز مباشرة الصائم لأهله من غير جماع لأن الآية فيها النهي عن الجماع دون المباشرة، فيجوز للصائم أن يباشر أهله وأن يقبِّل وقد ثبت في «الصحيحين» البخاري (1927)، ومسلم (1106) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ»، وروى أحمد في مسنده (2241) عن ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يُصِيبُ مِنَ الرُّءُوسِ، وَهُوَ صَائِمٌ» .والحديث في «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين» (667) لوالدي رَحِمَهُ اللَّهُ . وهذا كناية عن التقبيل.
ولكن من لم يأمن على نفسه فالواجب عليه أن يبتعد سدًّا لذريعة الوقوع في المحرمات لِمَا في «الصحيحين» البخاري (1927)، ومسلم (1106) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «...كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ...».
- وفي الآية تحريم الأكل والشرب للصائم، ومن أكل أوشرب ناسيًا فلا شيء عليه وتقدم الدليل في هذا وهو ما رواه البخاري (6669)، ومسلم (1155) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا، وَهُوَ صَائِمٌ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ».  أي: هذه نعمةٌ ومِنةٌ وفضلٌ من الله إذ أنساه وأخذ شيئًا من الطعام أو الشراب.
ومما يسأل عنه من رأى صائمًا أكل أو شرب ناسيًا فهل يسكت أو يذكره؟ والجواب :لا يسكت بل عليه أن ينصحه لأن الله يقول ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2].ويقول سبحانه: ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77].
واحدة تقول رأيت أبي يأكل فرحمته وتركته يأكل، ثم سألتْ عن هذا؟ ولا يصلح هذا الدين النصيحة .
- لا بأس بتذوق الطعام للصائم للحاجة، وهذا جاء عن بعض السلف وجاء عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أخرجه البخاري معلقًا، لكن من دون أن يبتلعه.
ثم راجعت أثر ابن عباس الذي علقه البخاري في تبويب حديث رقم (1930) قال : وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لاَ بَأْسَ أَنْ يَتَطَعَّمَ القِدْرَ أَوِ الشَّيْءَ».
والأثر وصله ابن أبي شيبة في «مصنفه» (2/304)حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَا بَأْسَ أَنْ يَذُوقَ الْخَلَّ أَوِ الشَّيْءَ، مَا لَمْ يَدْخُلْ حَلْقَهُ وَهُوَ صَائِمٌ».
وهذا سند ضعيف جدًّا جابر هو ابن يزيد الجعفي ترجمته في تهذيب الكمال (4/465) بروايته عن عطاء بن أبي رباح وعنه إسرائيل بن يونس .
وجابر الجعفي رافضي يؤمن بالرجعة .وقال الحافظ ابن حجر في تغليق التعليق(3/152) عقب الأثر: جَابر هُوَ الْجعْفِيّ مَتْرُوك.
وله طريق أخرى إلى ابن عباس في مسند ابن الجعد (2406)ومصنف ابن أبي شيبة(2/304) كلاهما يرويانه عن شيخهما شَرِيكٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَتَطَاعَمَ، الصَّائِمُ بِالشَّيْءِ يَعْنِي الْمَرَقَةَ وَنَحْوَهَا .وشريك هو ابن عبدالله النخعي ضعيف ساء حفظه لما ولي القضاء. فالأثر لا يصح من هاتين الطريقين.
مسائل في بعض المفطرات
حكم القيء عمدًا للصائم
 جمهور العلماء على أن القيء عمدًا من المفطرات لما رواه البيهقي في «السنن الكبرى» (8027)عن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، وَإِنِ اسْتَقَاءَ فَلْيَقْضِ».وهو حديث معل.يراجع أحاديث معلة لوالدي رحمه الله.
 وقد جاء عن ابن عباس وأبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أن الذي يفطر هو ما دخل لا ما خرج .قال البخاري في «صحيحه» تبويب حديث (1938)وقال لي يحيى بن صالح حدثنا معاوية بن سلَّام حدثنا يحيى عَنْ عُمَرَ بْنِ الحَكَمِ بْنِ ثَوْبَانَ: سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إِذَا قَاءَ فَلاَ يُفْطِرُ إِنَّمَا يُخْرِجُ وَلاَ يُولِجُ»، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّهُ يُفْطِرُ» وَالأَوَّلُ أَصَحُّ ،وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ: «الصَّوْمُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ». (مِمَّا دَخَلَ) أي: إلى الجوف.
وهذا اختيار البخاري .قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في تبويب حديث رقم (1938): وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ إِيرَادَهُ لِلْآثَارِ الْمَذْكُورَةِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ يَرَى عَدَمَ الْإِفْطَارِ بِهِمَا. أي: بالقيء والحجامة .
وقد قال ابن المنذر في الإجماع فقرة (126):وأجمعوا على إبطال صوم من استقاء عامدا.اهـ.ولم يصح نقل الإجماع لما تقدم ،ولهذا الحافظ ابن حجر في فتح الباري تحت الرقم المتقدم يتعقب ابن المنذر ويقول : لَكِن نقل ابن بطال عَن ابن عَبَّاس وابن مَسْعُودٍ لَا يُفْطِرُ مُطْلَقًا وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ .اهـ.
- وسواء تعمَّد القيء أو ذرعه القيء صيامه صحيح .وقد قال ابن المنذر في الإجماع فقرة (126):أجمعوا على أنه لا شيء على الصائم إذا ذرعه القيء، وانفرد الحسن البصري، فقال: عليه، ووافق في أُخرى.اهـ.
الحجامة للصائم
 روى أبو داود (2369) حديث  شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى عَلَى رَجُلٍ بِالْبَقِيعِ، وَهُوَ يَحْتَجِمُ، وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَالَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ».والحديث في «الصحيح المسند» (1/252) لوالدي رَحِمَهُ اللَّهُ.
واختلف العلماء على أقوال في توجيه الحديث، والذي رجحه الوالد الشيخ مقبل الوادعي رَحِمَهُ اللَّهُ أن الحجامة لا تفطر ولكن المراد ما يؤول إليه الأمر فالحاجم قد يتسرب شيء من الدم إلى حلقه، والمحجوم قد يضعف عن الصيام فيفطر.
وهذا قول أبي هريرة وابن عباس واختيار البخاري كما تقدم في المسألة التي قبلها .
وعزاه الحافظ في فتح الباري تبويب حديث (1938)إلى الجمهور .
ومن أهل العلم من يرى أن الحجامة للحاجم والمحجوم من المفطرات ويلزم القضاء قال الترمذي في سننه(774): وَقَدْ كَرِهَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ: الحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ حَتَّى إنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ بِاللَّيْلِ، مِنْهُمْ: أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَبِهَذَا يَقُولُ ابْنُ المُبَارَكِ ".: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ مَنْصُورٍ يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: «مَنْ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ فَعَلَيْهِ القَضَاءُ» . قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: وَهَكَذَا قَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ .اهـ.
وقال الحافظ في فتح الباري تبويب حديث (1938): وَعَنْ عَلِيٍّ وَعَطَاءٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ يُفْطِرُ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ وَأَوْجَبُوا عَلَيْهِمَا الْقَضَاءَ وَشَذَّ عَطَاءٌ فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ أَيْضًا وَقَالَ بِقَوْلِ أَحْمَدَ من الشَّافِعِيَّة ابن خُزَيْمَة وابن الْمُنْذر وَأَبُو الْوَلِيد النَّيْسَابُورِي وابن حبَان .اهـ.
وفي المسألة حديثٌ رواه البخاري(1938) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ». وقد أعل بعضهم (وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ)وجزم الحافظ في فتح الباري (4/226) بأن الحديث صحيح لا مرية فيه .
- حكم الاستمناء للصائم
أفاد الوالد الشيخ مقبل الوادعي رَحِمَهُ اللَّهُ أن الاستمناء للصائم من المفطرات لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عند البخاري (1894)،ومسلم (1151)وفيه: « يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي ». يقول :وهذا ما ترك شهوته. هذه فتوى الوالد الشيخ مقبل الوادعي رَحِمَهُ اللَّهُ سمعناها منه.
ومن فوائد الآية الكريمة
-الامتناع عن الأكل والشرب عند طلوع الفجر الصادق، والفجر فجران: فجر صادق: وهو الضوء المستطير، الذي يعترض في الأفق. وفجر كاذب: وهو الضوء المستطيل كذَنَب السِّرحان يكون ممتدًا في الأفق وهذا الضوء يعقبه ظلمة؛ لأنه فجر كاذب يغرُّ الناس.
- الرد على من يمتنع عن الأكل والشرب قبل طلوع الفجر احتياطًا وهذا جاء عن بعض العلماء وعليه الشيعة أهل الهوى والضلال.
- ظاهر الآية الامتناع عن الأكل والشرب إذا طلع الفجر ولو كان الإناء في اليد، وفي المسألة حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا سَمِعَ أَحَدُكُمُ النِّدَاءَ وَالْإِنَاءُ عَلَى يَدِهِ، فَلَا يَضَعْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ» رواه أبو داود في «سننه» (2350) و الإمام أحمد في «مسنده» (10629). وهذا الحديث معل، ونفيد أن الوالد الشيخ مقبل الوادعي رَحِمَهُ اللَّهُ كان يفتي بما دل عليه حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وكان يقول: يشكل إذا كان الإناء فيه طعام، ثم بعد ذلك تراجع عن تصحيح الحديث، وقال: ظهر أن الحديث معل. والحديث في «أحاديث معلة ظاهرها الصحة» (437) (ط/ دار الآثار) للوالد الشيخ مقبل الوادعي رَحِمَهُ اللَّهُ.
حكم المبالغة في الاستنشاق للصائم
ينبغي للصائم عدم المبالغة في الاستنشاق ، ثبت في «سنن أبي داود» (2366) عَنْ لَقِيطِ بْنِ صَبْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا».
قال ابن قدامة في «المغني» (1/77) مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي الِاسْتِنْشَاقِ: اجْتِذَابُ الْمَاءِ بِالنَّفَسِ إلَى أَقْصَى الْأَنْفِ، وَلَا يَجْعَلُهُ سَعُوطًا، وَذَلِكَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ فِي الْوُضُوءِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ صَائِمًا فَلَا يُسْتَحَبُّ، لَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا. اهـ.
فالمبالغة في الاستنشاق لا ينبغي للصائم لما يخشى من نزول الماء إلى الحلق.
حكم بصق الصائم بعد المضمضة
ليس فيه ما يُلزِم بذلك ،بل ولا ما يدل على استحبابه .
 قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في « الشرح الممتع »(6/423): لا يجب التفل بعد المضمضة، ولا عند تجمع الريق بسبب القراءة فإنه لم يعهد عن الصحابة   رضي الله عنهم   فيما نعلم  بل هذا مما يسامح فيه.اهـ المراد.
حكم تبييت النية لمن أراد الصوم
يجب لمن أراد الصوم أن يبيت النية قبل طلوع الفجر لقول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» رواه البخاري (1) ومسلم (1907) عن عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وفي المسألة حديث عَنْ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ». أخرجه أبو داود (2454). والصحيح أنه موقوف.
وهذا عام في صوم الفرض والنافلة، وقد ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يلزم تبييت النية في صوم النافلة لحديث عائشة في «صحيح مسلم» (1154) ، قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَاتَ يَوْمٍ «يَا عَائِشَةُ، هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟» قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ قَالَ: «فَإِنِّي صَائِمٌ» قَالَتْ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ - أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ - قَالَتْ: فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ - أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ - وَقَدْ خَبَأْتُ لَكَ شَيْئًا، قَالَ: «مَا هُوَ؟» قُلْتُ: حَيْسٌ، قَالَ: «هَاتِيهِ» فَجِئْتُ بِهِ فَأَكَلَ، ثُمَّ قَالَ: «قَدْ كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَائِمًا».

ولكن فيه من الروايات ما يدل على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ قد نوى الصيام من الليل. فقد جاء في «صحيح مسلم» عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: «هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟» فَقُلْنَا: لَا، قَالَ: «فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ» ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ فَقَالَ: «أَرِينِيهِ، فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا» فَأَكَلَ.
وهذا هو المعروف عن مالك والليث وابن أبي ذئب أنه لا يصح صيام التطوع إلا بنية من الليل كما في فتح الباري (1924). وهو قول والدي الشيخ مقبل .
والنية محلها القلب فلا يتلفظ بها.
- مسألة: من أصبح صائمًا ثم عزم وجزم أن يفطر ثم بدا له أن يستمر في صيامه هل ينقطع صومه - هل يبطل صومه؟
الجواب: لا يبطل بمجرد النية لقول النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ» رواه البخاري (5269)، ومسلم (127) عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وهذا لم يعمل، وهذا قول جماعة من العلماء.
- مسألة أخيرة عن النية هل يلزم الصائم كل ليلة أن ينوي الصيام في رمضان أم يكتفي بنية واحدة؟
في المسألة قولان للعلماء: فمنهم من يرى أنه يكتفي بنية واحدة؛ لأن صيام رمضان يعتبر عبادة واحدة، ومنهم من يرى أنه لابد أن ينوي لكل ليلة وهذا  القول الثاني قول الوالد الشيخ مقبل الوادعي رَحِمَهُ اللَّهُ.
﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ
فيه دليل على الإفطار عند غروب الشمس، ويجوز الوصال إلى السحر لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تُوَاصِلُوا، فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ، فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى السَّحَرِ»، قَالُوا: فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إِنِّي أَبِيتُ لِي مُطْعِمٌ يُطْعِمُنِي، وَسَاقٍ يَسْقِينِ» رواه البخاري (1967) عن أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقد ذهب إلى هذا جماعة من العلماء منهم أحمد وهو قول الوالد الشيخ مقبل الوادعي رَحِمَهُم اللَّهُ, وأما جمهور العلماء فيرون أنه لا يجوز الوصال ولكن حديث أبي سعيد «فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ» دليل على جواز الوصال إلى السحر،والنهي فيما فوق ذلك.
وينبغي المبادرة إلى الإفطار لقول النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ» من حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، رواه البخاري (1957)، ومسلم (1098). وتجنبًا لمشابهة أهل الكتاب فإنهم يؤخرون حتى تشتبك النجوم، والشيعة يعتقدون تأخير الإفطار وينكرون على من يفطر إذا غربت الشمس وهذا من مشابهتهم لليهود، ولهم مشابهات كثيرة لليهود كما أن لهم مواقف كثيرة مع اليهود والنصارى ضد المسلمين كما قال شيخ الإسلام وذكره لنا الوالد الشيخ مقبل الوادعي رَحِمَهُما اللَّهُ. ونعوذ بالله من الرافضة ومن كيدهم .
ومن الأدلة حديث عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» رواه البخاري (1954) ،ومسلم (1100) . وقوله (إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا) أي من جهة المشرق. ( وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا)أي من جهة المغرب.
﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ
- ذكر سبحانه الاعتكاف بعد الصيام؛ لأن الاعتكاف يشرع في رمضان.
الاعتكاف لغة: الحبس واللزوم.
- وفيه دليل على تحريم الجماع للمعتكف، ويدخل في المباشرة هنا التلذذ بلمس المرأة والتقبيل، قال ابن عبد البر في «التمهيد» (8/331): أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَا يُبَاشِرُ وَلَا يُقَبِّلُ. اهـ.
وفيه دليل على أن الاعتكاف عام في المساجد؛ لأن الله تعالى قال: ﴿فِي الْمَسَاجِدِ وهذا عام، وقد قال بعضهم لا يصح الاعتكاف إلا في المساجدالثلاثة كما جاء من حديث حذيفة بن اليمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عند البيهقي في «السنن الكبرى» (8574)، قَالَ حُذَيْفَةُ لِعَبْدِ اللهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عُكُوفًا بَيْنَ دَارِكَ وَدَارِ أَبِي مُوسَى وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ» أَوْ قَالَ: «إِلَّا فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ» فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: لَعَلَّكَ نَسِيتَ وَحَفِظُوا أَوْ أَخْطَأْتَ وَأَصَابُوا. الشَّكُّ مِنِّي. والحديث فيه كلام ولو ثبت لكان المراد به: لا اعتكاف أفضل. جمعًا بينه وبين الآية، وقد ذكر هذا المعنى الوالد الشيخ مقبل الوادعي رَحِمَهُ اللَّهُ.
الاعتكاف مستحب للرجل ولا يجب الاعتكاف إلا على من نذر أن يعتكف .
و المرأة لها أن تعتكف في المسجد .أخرج البخاري (2033) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْتَكِفُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَكُنْتُ أَضْرِبُ لَهُ خِبَاءً فَيُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَدْخُلُهُ، فَاسْتَأْذَنَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَضْرِبَ خِبَاءً، فَأَذِنَتْ لَهَا، فَضَرَبَتْ خِبَاءً، فَلَمَّا رَأَتْهُ زَيْنَبُ ابْنَةُ جَحْشٍ ضَرَبَتْ خِبَاءً آخَرَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى الأَخْبِيَةَ، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟» فَأُخْبِرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلْبِرَّ تُرَوْنَ بِهِنَّ» فَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ ذَلِكَ الشَّهْرَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ.
خشى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ من مزاحمة نسائه وأن يكون من باب ما يجري بين الضرائر من الغيرة.
فالاعتكاف جائز للمرأة ولا يكون مستحبًّا فإنه إذا كان لا يستحب لها الخروج للصلاة في جماعة فالاعتكاف من باب أولى والله أعلم. فإذا أمنت الفتنة من حيث الجواز يجوز.
الإسلام حريص على بقاء المرأة في بيتها قال تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33]. وحديث النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ، وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ» قَالَ: فَقَالَ ابْنٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: بَلَى وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «تَسْمَعُنِي أُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ: مَا تَقُولُ». رواه أحمد في «مسنده» (5468) عَنْ ابْنِ عُمَرَ، والله أعلم.
ولا يصح الاعتكاف إلا في المسجد للآية التي نحن بصددها { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ }.
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ حدود الله وهي المحرمات. ﴿فَلَا تَقْرَبُوهَاأي: ابتعدوا عنها.
﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
قال ابن جرير الطبري في تفسيره(3/547): يعني بقوله:{لعلهم يتقون} يقول: أبيِّن ذلك لهم ليتقوا مَحارمي ومعاصيَّ، ويتجنَّبوا سَخطي وَغضبي، بتركهم رُكوبَ ما أبيِّن لهم في آياتي أني قد حرَّمته عليهم، وأمرتهم بهجره وتركه.اهـ.

نكون انتهينا ولله الحمد من هذه الفوائد والتعليقات المختصرة ونسأل الله أن يجعله مباركا نافعًا لنا .والحمد لله رب العالمين.