بسم الله الرحمن الرحيم
*************************
قَالَ الإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ
بنِ إِبْرَاهِيْمَ بنِ المُغِيْرَةِ بنِ بَرْدِزْبَه البُخَارِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ:
بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ
قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف:56].
7448- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الوَاحِدِ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ، قَالَ:
كَانَ ابْنٌ لِبَعْضِ بَنَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقْضِي، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهَا، فَأَرْسَلَ «إِنَّ لِلَّهِ مَا
أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلٌّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ
وَلْتَحْتَسِبْ»، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ فَأَقْسَمَتْ عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقُمْتُ مَعَهُ، وَمُعَاذُ بْنُ
جَبَلٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، فَلَمَّا دَخَلْنَا
نَاوَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّبِيَّ وَنَفْسُهُ
تَقَلْقَلُ فِي صَدْرِهِ - حَسِبْتُهُ قَالَ: كَأَنَّهَا شَنَّةٌ - فَبَكَى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ
أَتَبْكِي، فَقَالَ: «إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ».
*************************
قوله: بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ
قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف:56].
هذه
الآية الكريمة فيها إثبات صفة القرب لله عَزَّ وَجَلَّ .
وقد
ذكر ابن القيم في «بدائع الفوائد»(3/31) فائدة العدول عن التأنيث في قوله ﴿ إِنَّ رَحْمَةَ
اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾
ولم يقل: (قريبة) وقال: الإحسان
يقتضي قرب الرب من عبده كما أن العبد قرُب من ربه بالإحسان وأن من تقرب منه شبرًا
تقرب الله منه ذراعا ومن تقرب منه ذراعا تقرب منه باعا فالرب تبارك وتعالى قريب من
المحسنين ورحمته قريبة منهم وقربه يستلزم قرب رحمته ففي حذف التاء ههنا تنبيه على
هذه الفائدة العظيمة الجليلة وأن الله تعالى قريب من المحسنين وذلك يستلزم القربين
قربه وقرب رحمته ولو قال إن رحمة الله قريبة من المحسنين لم يدل على قربه تعالى
منهم لأن قربه تعالى أخص من قرب رحمته والأعم لا يستلزم الأخص بخلاف قربه فإنه لما
كان أخص استلزم الأعم وهو قرب رحمته .اهـ.
وَقَالَ
تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ
يَرْشُدُونَ} [الْبَقَرَةِ: 186]. وفي البخاري (4205) ومسلم (2704) عَنْ أَبِي مُوسَى
الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا،
إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ».
وفي
«صحيح البخاري» (7405) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «...وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ
بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا
تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً...».
وفي
قرب الله سبحانه من عبده الحصول على كل خير،والفوزبالنجاح .قال ابن القيم رحمه
الله في «بدائع الفوائد»(3/31): فكان في بيان قربه سبحانه من المحسنين من
التحريض على الإحسان واستدعائه من النفوس وترغيبها فيه غاية حظ وأشرفه وأجله على
الإطلاق وهو أفضل إعطاء أعطيه العبد وهو قربه تبارك وتعالى من عبده الذي هو غاية
الأماني ونهاية الآمال وقرة العيون وحياة القلوب وسعادة العبد كلها فكان في العدول
عن قريبة إلى قريب من استدعاء الإحسان وترغيب النفوس فيه ما لا يتخلف بَعْدَه إلا
من غلبت عليه شقاوتُه ولا قوة إلا بالله تعالى.اهـ.
وفي
الآية الحث على الإحسان وفضل الإحسان، وأن رحمة الله هي للمحسنين دون غيرهم كَمَا
قَالَ تعالى: {فَأَما الَّذين آمنُوا بِاللَّه واعتصموا بِهِ فسيدخلهم فِي رَحْمَة
مِنْهُ وَفضل ويهديهم إِلَيْهِ صراطا مُسْتَقِيمًا}.وقال سبحانه { وَرَحْمَتِي
وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ..}.
وَالله
سبحانه وتَعَالَى يثني على المحسنين، وهو سبحانه مع المحسنين وهذا يقتضي فضلهم
وشرفهم قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ
اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾
[النحل:128] معية خاصة تقتضي النصرة والحفظ
والتأييد.
وبشر
الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أدلة كثيرة أهل الإحسان قال سبحانه في سورة الحج: ﴿وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الحج:37]. أي: بشرهم بالفوز والأجور والجنة،
وأخبر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن جزاء المحسنين الجنة وهذا من بشارتهم قال عَزَّ
وَجَلَّ: ﴿فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ
الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة:85]. وقال سبحانه: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ
إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16)﴾ [الذاريات]. ثم بين سبحانه وجه إحسانهم فقال: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)﴾ [الذاريات].
وقال
عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ
وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا
كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44)﴾ [المرسلات].
ويقول
سبحانه { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ
وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)}.
والله
عَزَّ وَجَلَّ لا يضيع أجر المحسنين، قال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ [الكهف:30]. والجزاء من جنس العمل قال سبحانه: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا
الْإِحْسَانُ﴾ [الرحمن:60].
وإذا
علم العبد أن الله يثيب المحسنين وأنه
معهم ويرحمهم ،وأنه قريب منهم فسوف يحمله هذا الاعتقاد على الجِدِّ في الأسباب
التي توصله إلى هذا المقام وهذا النوروالخير والفضل .
والإحسان
أعظم مراتب الدين؛ لأن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه
يراك. يعبد الله كأنه ينظر إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وهذا غاية في مراقبة الله
عَزَّ وَجَلَّ، والإحسان في العبادة.
الإحسان
أمر الله سبحانه به قال سبحانه: ﴿إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى
عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل:90]. وفي «صحيح مسلم» (1955) من حديث شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ
الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ،
وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ،
فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ». إحسان عام حتى بالحيوان. الإحسان يكون في القول والعمل،
الإحسان إلى النفس بتهذيبها وتزكيتها وطهارتها، الإحسان إلى الجوارح بتسخيرها
وتذليلها في الخير، الإحسان إلى الأقرباء
والأرحام، الإحسان إلى الأولاد، إلى الأخ المسلم، الإحسان إلى المسيء، وقد شُرِعَ الإحسانُ
إلى المسيء والعفو عنه ومقابلة الإساءة بالمعروف لما في ذلك من التأثير على المسيء
واستمالة قلبه. قال الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ في «تفسيره» (1/110): قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (119) وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ
الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)﴾ [الْأَعْرَافِ]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ
هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ
يَحْضُرُونِ (98)﴾ [الْمُؤْمِنُونَ] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ
صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ
الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)﴾ [فُصِّلَتْ]. فَهَذِهِ ثَلَاثُ آيَاتٍ لَيْسَ
لَهُنَّ رَابِعَةٌ فِي مَعْنَاهَا، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِمُصَانَعَةِ
الْعَدُوِّ الْإِنْسِيِّ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، لِيَرُدَّهُ عَنْهُ طبعُهُ
الطَّيب الْأَصْلِ إِلَى الْمُوَادَّةِ وَالْمُصَافَاةِ، وَيَأْمُرُ
بِالِاسْتِعَاذَةِ بِهِ مِنَ الْعَدُوِّ الشَّيْطَانِيِّ لَا مَحَالَةَ؛ إِذْ لَا
يَقْبَلُ مُصَانَعَةً وَلَا إِحْسَانًا وَلَا يَبْتَغِي غَيْرَ هَلَاكِ ابْنِ
آدَمَ، لِشِدَّةِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ آدَمَ مِنْ قَبْلُ؛
كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا
بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ
الْجَنَّةِ﴾ [الْأَعْرَافِ:27] وَقَالَ: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ
فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ
السَّعِيرِ﴾ [فَاطِرٍ:6] وَقَالَ ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ
أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا﴾ [الْكَهْفِ:50]، وَقَدْ أَقْسَمَ لِلْوَالِدِ
إِنَّهُ لَمِنَ النَّاصِحِينَ، وَكَذَبَ، فَكَيْفَ مُعَامَلَتُهُ لَنَا وَقَدْ
قَالَ: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ (82) إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ (83)﴾ [ص]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)﴾ [النَّحْلِ]. اهـ.
ومن
فرَّط في الإحسان فقد خسرالدنيا والآخرة قال تعالى محذرًا لعباده من الندم حين لا
ينفع الندم { أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ
لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) }.
استفدنا
أهمية الإحسان، الإحسان في العبادة والاعتقاد والقول والعمل.
(حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ) هو التبوذكي المنقري، أبو سلمة.
(حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ) بن زياد.
(حَدَّثَنَا عَاصِمٌ) هو ابن سليمان الأحول.
(عَنْ أَبِي عُثْمَانَ) عبدالرحمن بن مل النهدي.
(عَنْ أُسَامَةَ)
وهو ابن زيد بن حارثة رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
(يَقْضِي) أي: في النزع.
(تَقَلْقَلُ) أي: تضطرب، فإن الروح عند الاحتضار
تتردد في الصدر.
(كَأَنَّهَا شَنَّةٌ) القربة البالية.
في
هذا الحديث: حث المصاب على الصبر وتعزيته بهذا:«إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ
مَا أَعْطَى، وَكُلٌّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ»،ومما
اشتملت عليه هذه التعزية ثلاثة أمور:
الأول - «إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ
مَا أَعْطَى» أي: أن الله سبحانه بيده مقاليد السماوات والارض فما أعطى فهو
له وما أخذ فهو له. ما أخذه الله سبحانه فهو له لأنه ملكه وهو الذي أعطاه وأوجده
من العدم، وليس الذي أوجده ابن آدم من العدم ،ويأخذه سبحانه متى شاء. «وَلَهُ مَا أَعْطَى» ما أعطى فهو له. وكل عطاء
محفوف بأمرين: بعدمٍ قبل العطاء وبعدمٍ بعد العطاء، فما عندنا هو عبارة عن عارية
يأخذها الله سبحانه متى أراد. وفي هذا تسلية عظيمة وعلاج قوي في تخفيف حرارة
المصيبة أن يعلم المصاب أن هذا الشيء أو الولد أو المال ليس لك إنما هو عندك
عارية.
الثاني - «وَكُلٌّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى» هذا فيه التسلية
بالإيمان بالقدر. «إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى» أي:
إلى أجلٍ معلوم. والإيمان بالقدر موقفه عظيم في التثبيت وراحة البال، قال
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه الكريم: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي
الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ
نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد:22].
وروى
أحمد في «مسنده» (27490) من حديث أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يقول
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ، وَمَا
بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ
يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ».وهو في «الصحيح
المسند» (2/4) لوالدي .
(وَمَا
بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ) لا يصل أحد إلى حقيقة الإيمان حتى يؤمن
بالقدر.
(مَا
أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ) لم يكن يتجاوزه قد يأتيه أجله من بين الآلآف
والباقون يسلمون، وقد يصاب غيره وهو يسلم، وربما كان مكانُه أكثر خطرًا لكن ما قد
جاء أجله ولم يُقَدَّرْ عليه ،فلم يُصِبْه شيء. الإيمان بالقدر راحة عظيمة.
الثالث
- الحث على الصبر والاحتساب. هذا أيضًا علاج في كسر حرارة المصيبة وتخفيف وطأتها .
والصبر والاحتساب واجب، والذي لا يصبر يخسر الأجر ويرتكب الوزر؛ لأن الذي لا يصبر
يقع في السخط والجزع ولابد، يغضب ربه ويرضي الشيطان عدوه ويشمت به أعداءه، بخلاف
الصبر يكتم مصيبته ويلجأ إلى ربه ويفوز بالأجر والخير في دار الدنيا والآخرة. وبعض
الثابتين الصابرين المصيبة هي مصيبته ومع ذلك قد يُعزِّي المعزين قبل أن يعزوه،
إذا التقى بمن يعزيه يذَّكره بالصبر، صاحب المصيبة يذكره بالصبر قبل أن يذَّكرَه
المعزي، ويقول :هذا قضاء الله وقدره.
فالمصيبة
قد تكون مِنحة في حق من يصبر، أي: فضل وعطاء من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وهناك
أمورٌ أخرى في علاج المصيبة وكسر حرارتها:
تذكر النعم الأخرى، وأن ما أبقى الله عَزَّ
وَجَلَّ له أكثر، كما فعل عروة بن الزبير رَحِمَهُ اللَّهُ (الصابر المحتسب) .
ذكر
الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (4/430): عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ: أَنَّ
أَبَاهُ خَرَجَ إِلَى الوَلِيْدِ بنِ عَبْدِ المَلِكِ، حَتَّى إِذَا كَانَ
بِوَادِي القُرَى، وَجَدَ فِي رِجْلِهِ شَيْئاً، فَظَهَرَتْ بِهِ قَرْحَةٌ، ثُمَّ
تَرَقَّى بِهِ الوَجَعُ، وَقَدِمَ عَلَى الوَلِيْدِ وَهُوَ فِي مَحْمِلٍ، فَقَالَ:
يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، اقْطَعْهَا. قَالَ: دُوْنَكَ، فَدَعَا لَهُ الطَّبِيْبَ،
وَقَالَ: اشْرَبْ المُرْقِدَ. فَلَمْ يَفْعَلْ، فَقَطَعَهَا مِنْ نِصْفِ السَّاقِ،
فَمَا زَادَ أَنْ يَقُوْلَ: حَسِّ حَسِّ. فَقَالَ الوَلِيْدُ: مَا رَأَيْتُ
شَيْخاً قَطُّ أَصْبَرَ مِنْ هَذَا. وَأُصِيْبَ عُرْوَةُ بِابْنِهِ مُحَمَّدٍ فِي
ذَلِكَ السَّفَرِ، رَكَضَتْهُ بَغْلَةٌ فِي اصْطَبْلٍ، فَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ فِي
ذَلِكَ كَلِمَةً. فَلَمَّا كَانَ بِوَادِي القُرَى، قَالَ: ﴿لَقَدْ لَقِيْنَا مِنْ سَفَرِنَا
هَذَا نَصَباً﴾ [الكَهْفُ: 63]، اللَّهُمَّ كَانَ لِي بَنُوْنَ
سَبْعَةٌ، فَأَخَذْتَ وَاحِداً أَبْقَيْتَ لِي سِتَّةً، وَكَانَ لِي أَطْرَافٌ
أَرْبَعَةٌ، فَأَخَذْتَ طَرَفاً وَأَبْقَيْتَ ثَلاَثَةً، وَلَئِنْ ابْتَلَيْتَ
لَقَدْ عَافَيْتَ، وَلَئِنْ أَخَذْتَ لَقَدْ أَبْقَيْتَ. اهـ.
ومن
العلاج أيضًا دعاء الكرب الثابت في «الصحيحين» البخاري (6346) ومسلم (2730) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الكَرْبِ: «لاَ
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ
العَرْشِ العَظِيمِ، لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ
الأَرْضِ، وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ».
وما
في معناه من الأدلة كحديث سَعْدٍ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «...دَعْوَةُ ذِي
النُّونِ إِذْ نَادَى فِي بَطْنِ الْحُوتِ: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ
إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾
[الأنبياء: 87]، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا أَحَدٌ
إِلاَّ اسْتُجِيبَ لَهُ» رواه البزار في «مسنده» (4/14) وهو في «الصحيح المسند » (1/192) للوادعي.
وفي
«مسند أحمد» (4318)من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-: «ما قال عبد قط إذا أصابه هَمُّ وحَزَنٌ: اللهمِ إني عبدُك وابنُ عبدك وابنُ
أَمَتك، ناصيتي بيدكِ، ماضٍ فيَّ حُكْمُك، عدْلٌ في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سمَّيْتِ
به نفسَك، أو أنزلتَه فيِ كتابك، أو عَلّمته أحدِاً من خَلْقك، أو استأثرت به في
علم الغيبِ عندك، أن تجعل القرآنَ ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاءَ حزني، وذَهَاب
هَمِّي، إلاَّ أذهب الله عز وجل هَمَّه، وأبدله مكان حُزْنه فَرَحاً»، قالوا: يا
رسول الله، ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات؟، قال: «أجَلْ، ينبغى لمن سمعهنَّ أن
يتعلمهنّ».
وقد مر معنا ذلك لكن العلم يخدم بعضه بعضًا،
نسأل الله أن ينفعنا بما علَّمنا.
ومن
الأمور: أن نتأمل في حال الدنيا، وكثرة المصائب فيها والأحزان، فالدنيا مليئة بذلك
لو تأمل ونظر لوجد كثيرًا من المصابين إما بفوات محبوب أو حصول مكروه. يقول ابن
القيم في «زاد المعاد» (4/175): وَمِنْ عِلَاجِهِ أَنْ يُطْفِئَ
نَارَ مُصِيبَتِهِ بِبَرْدِ التَّأَسِّي بِأَهْلِ الْمَصَائِبِ، وَلِيَعْلَمَ
أَنَّهُ فِي كُلِّ وَادٍ بَنُو سَعْدٍ، وَلْيَنْظُرْ يَمْنَةً فَهَلْ يَرَى إِلَّا
مِحْنَةً؟ ثُمَّ لِيَعْطِفْ يَسْرَةً فَهَلْ يَرَى إِلَّا حَسْرَةً؟ وَأَنَّهُ
لَوْ فَتَّشَ الْعَالَمَ لَمْ يَرَ فِيهِمْ إِلَّا مُبْتَلًى، إِمَّا بِفَوَاتِ
مَحْبُوبٍ، أَوْ حُصُولِ مَكْرُوهٍ، وَأَنَّ شُرُورَ الدُّنْيَا أَحْلَامُ نَوْمٍ،
أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ، إِنْ أَضْحَكَتْ قَلِيلًا أَبْكَتْ كَثِيرًا، وَإِنْ
سَرَّتْ يَوْمًا سَاءَتْ دَهْرًا وَإِنْ مَتَّعَتْ قَلِيلًا، مَنَعَتْ طَوِيلًا،
وَمَا مَلَأَتْ دَارًا خِيرَةً إِلَّا مَلَأَتْهَا عَبْرَةً، وَلَا سَرَّتْهُ
بِيَوْمِ سُرُورٍ إِلَّا خَبَّأَتْ لَهُ يَوْمَ شُرُورٍ. اهـ.
وذكر
رَحِمَهُ اللَّهُ أنواعًا في «زاد المعاد» في علاج حرارة المصيبة.
فلابد
للمسلم أن يسعى في الأسباب التي تخفف عنه وتسلي عليه لينشرح صدره، ويقبل على عبادة
الله بانشراح صدر وطمأنينة، فضيق الصدر يسبب الوحشة وأداء العبادة بغير خشوع،
فلابد من المجاهدة ونسأل الله الثبات .والله المستعان.
-
وفيه من الفوائد جواز البكاء عند المصيبة وعند رؤية المحتضر. والنَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ بكى في مواطن، وقد مات أولاده كلهم قبله
إلا فاطمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
أم
كلثوم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا التي كانت مع عثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قصةُ
دفنها وبكاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عليها ثابت في «صحيح البخاري» (1285) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: شَهِدْنَا بِنْتًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جَالِسٌ عَلَى القَبْرِ، قَالَ: فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ، قَالَ: فَقَالَ:
«هَلْ مِنْكُمْ رَجُلٌ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ؟» فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ:
أَنَا، قَالَ: «فَانْزِلْ» قَالَ: فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا.
(هَلْ
مِنْكُمْ رَجُلٌ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ؟)
فيه
أقوال منها أن المراد الذنوب. وهذا غير صحيح فأبو طلحة يتحاشى أن يشهد لنفسه أنه
لم يرتكب ذنبًا. وقيل (لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ) لم يجامع.
وبكى
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ لما رأى ولده إبراهيم
يجود بنفسه، والحديث في البخاري (1303) واللفظ له، ومسلم (2315) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ القَيْنِ، وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ
السَّلاَمُ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِبْرَاهِيمَ، فَقَبَّلَهُ، وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ
وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «يَا ابْنَ
عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ»، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ
نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ
لَمَحْزُونُونَ».
(يَا
ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ) أي: هذا بكاء رحمة وليس بكاء جزع وسخط.
وبكى
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ لما عاد سعد بن عبادة
كما في «الصحيحين» البخاري (1304)، ومسلم (924) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ،
فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ فِي
غَاشِيَةِ أَهْلِهِ، فَقَالَ: «قَدْ قَضَى» قَالُوا: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،
فَبَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَى القَوْمُ
بُكَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَوْا، فَقَالَ: «أَلاَ
تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُعَذِّبُ بِدَمْعِ العَيْنِ، وَلاَ بِحُزْنِ
القَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ - أَوْ
يَرْحَمُ، وَإِنَّ المَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ».
(يُعَذِّبُ
بِهَذَا- وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ - أَوْ يَرْحَمُ) النياحة من كبائر الذنوب
وصاحب الكبيرة تحت مشيئة الله عَزَّ وَجَلَّ فقد يعذب الله على النياحة وقد يعفو
ويتجاوز.
هذا
وقد تقدم حديث الباب في كتاب التوحيد (7377).
-وفيه
إبرار المقسم .
*************************
قَالَ الإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللهِ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ:
7449- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ،
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ
الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَالَ: «اخْتَصَمَتِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ إِلَى رَبّهِمَا،
فَقَالَتِ الجَنَّةُ: يَا رَبِّ، مَا لَهَا لاَ يَدْخُلُهَا إِلَّا ضُعَفَاءُ
النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ، وَقَالَتِ النَّارُ: - يَعْنِي - أُوثِرْتُ
بِالْمُتَكَبِّرِينَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي،
وَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي، أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَلِكُلِّ
وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا، قَالَ: فَأَمَّا الجَنَّةُ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ
يَظْلِمُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَإِنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ مَنْ يَشَاءُ،
فَيُلْقَوْنَ فِيهَا، فَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، ثَلاَثًا، حَتَّى يَضَعَ
فِيهَا قَدَمَهُ فَتَمْتَلِئُ، وَيُرَدُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَتَقُولُ: قَطْ
قَطْ قَطْ»
*************************
(وَسَقَطُهُمْ)
أي: أسافلهم.
في
قوله: (وَإِنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ مَنْ يَشَاءُ)
هذا وهَم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ في «مقدمة في أصول التفسير»
(30):
وإن ما وقع في بعض طرق البخاري «أن النار لا تمتلئ حتى ينشئ الله لها خلقا
آخر» مما وقع فيه الغلط وهذا كثير. اهـ.
وقال
ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ «في أحكام أهل الذمة» (2/1106): فَهَذَا غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَهُوَ
مِمَّا انْقَلَبَ لَفْظُهُ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ قَطْعًا. اهـ.
عرفنا
أن هذا وهم من بعض الرواة،وأن الصواب وأما الجنة فينشئ الله لها نشأً ..
-
هذا الحديث نؤمن به على ظاهره في اختصام الجنة والنار، والله على كل شيء قدير.
-
وفيه بيان اختصام الجنة والنار، وأنهما اختصمتا في أيهما أفضل. فرأت الجنة أنها
أفضل؛ لأنها اختُصَّت بالضعفاء والمساكين، ورأت النار أنها أفضل لأنها يدخلها
المتكبرون فحكم الله بينهما «فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى
لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي أُصِيبُ بِكِ
مَنْ أَشَاءُ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا» مع اتساع الجنة
واتساع النار ولكنهما تملآن بالخلائق. أما الجنة فإن الله ينشئ لها نشأ -يخلق لها
خلقًا- حتى تمتلئ. أما النار فلا تمتلئ حتى يضع رب العالمين قدمه فيها فينزوي
بعضها إلى بعض وتقول: قط قط، أي: حسبي حسبي.
-
وفيه نفي الظلم عن الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَلَا
يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾
[الكهف:49]. وهذا من الصفات السلبية، والصفات
السلبية ليست نفيًا محضًا لكنه نفي مع إثبات ضده، فيستفاد من نفي الظلم إثبات
العدل التام لله عَزَّ وَجَلَّ. وهكذا في كل الصفات السلبية نثبت لله عَزَّ
وَجَلَّ ضدها.
-
وفيه إثبات صفة القدم لله عَزَّ وَجَلَّ.
-ذم
الكِبروأنه من الكبائر،وفضل التواضع .
*************************
قَالَ الإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللهِ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ:
7450- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَيُصِيبَنَّ أَقْوَامًا سَفْعٌ مِنَ النَّارِ، بِذُنُوبٍ
أَصَابُوهَا عُقُوبَةً، ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ اللَّهُ الجَنَّةَ بِفَضْلِ
رَحْمَتِهِ، يُقَالُ لَهُمُ الجَهَنَّمِيُّونَ»، وَقَالَ هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا
قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
*************************
(حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ) أبو عمر الحوضي.
(حَدَّثَنَا هِشَامٌ) هشام عن قتادة هو ابن أبي عبد الله الدستوائي.
(عَنْ قَتَادَةَ)
ابن دعامة.
(وَقَالَ هَمَّامٌ)
همام عن قتادة هو ابن يحيى العَوْذي.
وفي
هذا الحديث خروج الموحدين من النار وقد تقدم بنحوه في أبواب متقدمة.
-
وفي ترجمة الإمام البخاري رَحِمَهُ اللَّهُ إثبات صفة الرحمة لله عَزَّ وَجَلَّ
وقد تقدم.
*************************
قَالَ الإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللهِ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ:
بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ﴾
7451- حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ
الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:
جَاءَ حَبْرٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:
يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ يَضَعُ السَّمَاءَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأَرْضَ عَلَى
إِصْبَعٍ، وَالجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ وَالأَنْهَارَ عَلَى إِصْبَعٍ،
وَسَائِرَ الخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَقُولُ بِيَدِهِ: أَنَا المَلِكُ،
«فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ»: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ
حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: 91].
*************************
(حَدَّثَنَا مُوسَى) ابن إسماعيل.
(حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ) وضاح بن عبد الله اليشكري.
(عَنْ إِبْرَاهِيمَ) إبراهيم بن يزيد النخعي.
(عَنْ عَلْقَمَةَ)
علقمة عن عبد الله بن مسعود هو علقمة بن قيس.
(حَبْرٌ)
الحبر العالم.
والحديث
تقدم في كتاب التوحيد (7414).