جديد الرسائل

الثلاثاء، 17 مايو 2016

الدرس السادس والعشرون من /الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 11من شعبان 1437.

بسم الله الرحمن الرحيم


فصل [غزوة فتح مكة]
نذكر فيه ملخص غزوة فتح مكة التي أكرم الله عز وجل بها رسوله، وأقرَّ عينه بها، وجعلها علَما ظاهراً على إعلاء كلمتِه وإكمال دينه والاعتناء بنصرتِه.
وذلك لما دخلت خزاعة ـ كما قدمنا ـ عام الحديبية في عَقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في عَقد قريش وضُربت المدةُ إلى عشر سنين، أمِن الناسُ بعضهم بعضاً، ومضى من المدة سنةٌ ومن الثانية نحو تسعةِ أشهر، فلم تكمل حتى غدا نوفل بن معاوية الدِّيلي فيمن أطاعه مِن بني بكر بن عبد مناة فبيَّتوا خزاعةَ على ماء لهم يقال له الوَتير، فاقتتلوا هناك بذحُول كانت لبني بكر على خزاعة من أيام الجاهلية، وأعانت قريشٌ بني بكر على خزاعةَ بالسلاح، وساعدهم بعضُهم بنفسه خفية، وفرَّت خزاعة إلى الحرم فاتبعهم بنو بكر إليه، فذكَّر قومُ نوفلٍ نوفلًا بالحرم، وقالوا: اتقِّ إلهك. فقال لا إله له اليوم، والله يا بني بكر إنكم لتسرقون في الحرم أفلا تدركون فيه ثأرَكم؟ قلت: قد أسلم نوفل هذا بعد ذلك، وعفا الله عنه، وحديثه مخرج في الصحيحين رضي الله عنه.
وقتلوا من خزاعة رجلاً يقال له مُنبِّه، وتحصَّنت خزاعةُ في دور مكة، فدخلوا دارَ بديل بن ورقاء، ودار مولى لهم يقال له: رافع، فانتفض عهدُ قريش بذلك. فخرج عمرو بن سالم الخزاعي وبديل بن ورقاء الخزاعي وقوم من خزاعة حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلموه بما كان من قريش واستنصروه عليهم، فأجابهم صلى الله عليه وسلم وبشرهم بالنصر، وأنذرَهم أن أبا سفيان سيقدم عليهم مؤكِّدًا العقدَ وأنه سيرده بغير حاجة. فكان ذلك، وذلك أن قريشًا ندموا على ما كان منهم، فبعثوا أبا سفيان ليشدَّ العقد الذي بينهم وبين محمد صلى الله عليه وسلم ويزيدَ في الأجل، فخرج، فلما كان بعُسفان لقي بديل بن ورقاء وهو راجع من المدينة، فكتمه بديل ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب أبو سفيان حتى قدم المدينة فدخل على ابنته أمِّ حبيبة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها، فذهب ليقعد على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعته، وقالت: إنك رجل مشرك نجس. فقال: والله يا بنية لقد أصابك بعدي شر. ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه ما جاء له، فلم يجبه صلى الله عليه وسلم بكلمةٍ واحدةٍ. ثم ذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه فطلب منه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى عليه، ثم جاء إلى عمر رضي الله عنه فأغلظَ له، وقال: أنا أفعلُ ذلك؟ ! والله لو لم أجد إلا الذَرَّ لقاتلتكم به. وجاء عليًّا رضي الله عنه فلم يفعل، وطلب من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها أن تأمرَ ولدها الحسن أن يجيرَ بين الناس، فقالت: ما بلغ بُنَيَّ ذلك، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأشار عليه عليٌّ رضي الله عنه أن يقوم هو فيجير بين الناس، ففعل. ورجع إلى مكة فأعلمهم بما كان منه ومنهم، فقالوا: والله ما زاد ـ يعنون عليًّا ـ أن لعِب بك.
************************
هذا الفصل في غزوة الفتح، وسبب هذه الغزوة نقض قريشٍ للعهد الذي كان بالحديبية. فلم يمضِ من عقد الصلح بالحديبية إلا سنة ونحو تسعة أشهرٍ ثم نقض قريشٌ العقد؛ وذلك أن خزاعة كانوا دخلوا في عَقد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم الحديبية، ودخل بنو بكر في عقد قريش. فبعد ذلك لما كان بين خزاعة وبين بني بكر ما كان من الحروب والعداوة، اعتدى بنو بكر على خزاعة على ماء يقال له الوتير.
والوَتِيرُ: اسم ماء بأسفل مكة لخزاعة. كما في «معجم البلدان» (5/360).
وتساعدت قريش مع بني بكر بالسلاح والرجال، ثم جاء الخبرُ النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك.
وفي تحالف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع خزاعة فيه دليل على جواز التحالف مع الكفار للمصلحة .
(وأنذرهم أن أبا سفيان سيقدم عليهم مؤكدًا العقد وأنه سيرده بغير حاجة)
(وأنذرهم) أي: أعلمهم، (العقد) الصلح، (وأنه سيرده بغير حاجة) أي: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما سيقبل طلبه.
ثم ذكر قصة طويلة في مجيء أبي سفيان المدينة، وفيها أن أم حبيبة منعت أباها أن يجلس على فراش النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم،  والقصة لا تثبت رواها ابن إسحاق في السيرة (2/395) بغير إسناد وصدَّرها بقوله (ثُمَّ خَرَجَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ فِي نَفَرٍ مِنْ خُزَاعَةَ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ..إلى قوله والله ما زاد ـ يعنون علياً ـ أن لعِب بك ). ونقلها ابن كثير في البداية والنهاية (4/279)وعزاها إلى ابن إسحاق بدون إسنادٍ كما ذكرنا ،والله أعلم .
وقد كان العرب ينتظرون إسلام قريش؛ لأن قريشًا أصحاب قوةٍ وشجاعة وعصبية لأوثانهم فإذا غلبهم وانتصر عليهم واستسلمت قريش فغيرهم أحرى أن يستسلم وأن ينتصر عليهم،روى البخاري في «صحيحه» (4302) من حديث عَمْرِو بْنِ سَلِمَةَ الجَرْمِيِّ قَالَ: كُنَّا بِمَاءٍ مَمَرَّ النَّاسِ، وَكَانَ يَمُرُّ بِنَا الرُّكْبَانُ فَنَسْأَلُهُمْ: مَا لِلنَّاسِ، مَا لِلنَّاسِ؟ مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُونَ: يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ، أَوْحَى إِلَيْهِ، أَوْ: أَوْحَى اللَّهُ بِكَذَا، فَكُنْتُ أَحْفَظُ ذَلِكَ الكَلاَمَ، وَكَأَنَّمَا يُقَرُّ فِي صَدْرِي، وَكَانَتِ العَرَبُ تَلَوَّمُ بِإِسْلاَمِهِمُ الفَتْحَ، فَيَقُولُونَ: اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ، فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الفَتْحِ، بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلاَمِهِمْ، وَبَدَرَ أَبِي قَوْمِي بِإِسْلاَمِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: جِئْتُكُمْ وَاللَّهِ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا، فَقَالَ: «صَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، وَصَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا». فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِّي، لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبَانِ، فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ، وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ، كُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّي، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الحَيِّ: أَلاَ تُغَطُّوا عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ؟ فَاشْتَرَوْا فَقَطَعُوا لِي قَمِيصًا، فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ فَرَحِي بِذَلِكَ القَمِيصِ.
(وَكَأَنَّمَا يُقَرُّ فِي صَدْرِي) أي: يُجْمَعُ في صدري.
(اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ، فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ) لأن هذا يدل على صحة ما يقوله، ينتصر على قريش أشراف العرب وأقوى العرب هذا يدل على صحة قوله،ففتح مكة معجزة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
(وَبَدَرَ أَبِي قَوْمِي بِإِسْلاَمِهِمْ) بَدَرَ أي: غلب.
(فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ) هذه بركة من الله يحفظ عمرو بن سلِمة ما كان يتحدث به الناس من القرآن الكريم قبل الإسلام؛ ولهذا بعد إسلامهم  نظروا أيهم أكثر قرآنا فكان عمرو بن سلِمة أكثرهم قرآنًا وقدَّموه إمامًا.
وعمرو بن سلمة ليس في الرواية ما يدل على صحبته ،وقد اختلفوا في ذلك.
قال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» (2/ 27): ثبت فى صحيح البخارى أنه كان يؤم قومه وهو صبى فى زمن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه كان أكثرهم قرآنًا، قالوا: ولم ير النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقيل: رآه وليس بشىء، وأبوه صحابى. روى عن عمر، وأبو قلابة، وعاصم الأحول، وأبو الزبير المكى، وغيرهم. اهـ.
وقال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (3/ 523):
 كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ صَبِيٌّ. وَلأَبِيْهِ: صُحْبَةٌ، وَوِفَادَةٌ. وَقَدْ قِيْلَ: إِنَّهُ وَفَدَ مَعَ أَبِيْهِ، وَلَهُ رُؤْيَةٌ - فَاللهُ أَعْلَمُ -. اهـ.
************************
ثم شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاز إلى مكة، وسأل الله عز وجل أن يعمي على قريش الأخبار، فاستجاب له ربه تبارك وتعالى، ولذلك لما كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابًا إلى أهل مكة يعلمهم فيه بما همَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من القدوم على قتالهم وبعث به مع امرأة، وقد تأول في ذلك مصلحةً تعود عليه رحمه الله، وقبِل ذلك منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدَّقه، لأنه كان من أهل بدر: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّا والزبير والمقداد رضي الله عنهم، فردوا تلك المرأة من روضة خاخ، وأخذوا منها الكتاب وكان هذا من إعلام الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم.
وخرج صلى الله عليه وسلم لعشرٍ خلون من رمضان في عشرة آلاف مقاتل من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب، وقد ألَّفت مزينة وكذا بنو سليم على المشهور رضي الله عنهم جميعِهم. واستخلف صلى الله عليه وسلم على المدينة أبا رُهم كلثوم بن حصين.
ولقيه عمُّه العباس بذي الحليفة، وقيل: بالجحفة فأسلم. ورجع معه صلى الله عليه وسلم، وبعث ثقلَه إلى المدينة. ولما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى نيق العُقاب جاءه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أبي أمية أخو أم سلمة مسلِمَين، فطردهما، فشفعت فيهما أم سلمة، وأبلغته عنهما ما رقَّقَه عليهما، فقبلهما، فأسلما أتمَّ إسلام رضي الله عنهما، بعد ما كانا أشد الناس عليه صلى الله عليه وسلم.
وصام صلى الله عليه وسلم حتى بلغ ماء يقال له: الكديد، بين عسفان وأمَج من طريق مكة، فأفطر بعد العصر على راحلته ليراه الناس، وأرخص للناس في الفطر، ثم عزم عليهم في ذلك، فانتهى صلى الله عليه وسلم حتى نزل بمر الظهران فبات به.
وأما قريش فعمَّى الله عليها الخبر، إلا أنهم قد خافوا وتوهَّموا من ذلك، فلما كانت تلك الليلة خرج ابن حرب، وبديل بن ورقاء،وحكيم بن حزام يتجسَّسون الخبر، فلما رأوا النيران أنكروها، فقال بديل: هي نار خزاعة، فقال أبو سفيان: خزاعة أقل من ذلك.
وركب العباس بغلةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتئذ، وخرج من الجيش لعله يلقى أحدًا، فلما سمع أصواتهم عرفهم، فقال: أبا حنظلة! فعرفه أبو سفيان، فقال: أبو الفضل؟ قال نعم. قال ما وراءك؟ قال ويحك. هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش!.
قال: فما الحيلة؟ قال والله لئن ظفر بك ليقتلنك، ولكن اركب ورائي وأسلم. فركب وراءه وانطلق به، فمر في الجيش كلما أتى على قوم يقولون: هذا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى مرَّ بمنزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما رآه قال: عدو الله؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد.
ويركض العباس البغلة، ويشتد عمر رضي الله عنه في جريه، وكان بطيئًا، فسبقه العباس، فأدخله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء عمر في أثره، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضرب عنقه، فأجاره العباس مبادرة، فتقاول هو وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يأتيه به غدًا، فلما أصبح أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه الإسلام فتلكأ قليلًا، ثم زجره العباس فأسلم، فقال العباس: يا رسول الله! إن أبا سفيان يحب الشرف، فقال صلى الله عليه وسلم «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن» .
قال ابن حزم: هذا نص في أنها فتحت صلحًا لا عنوة. قلت: هذا أحد أقوال العلماء وهو الجديد من مذهب الشافعي. واستدل على ذلك أيضاً بأنها لم تخمَّس ولم تقسم.
والذين ذهبوا إلى أنها فتحت عنوة استدلوا بأنهم قد قتلوا من قريش يومئذ عند الخندمة نحواً من عشرين رجلاً، واستدلوا بهذا اللفظ أيضاً: فهو آمن والمسألة يطول تحريرها ههنا.
وقد تناظر الشيخان في هذه المسألة ـ أعني تاج الدين الفزاري، وأبا زكريا النووي ـ ومسألة قسمة الغنائم.
************************
ذكر الحافظ بن كثير استعداد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لغزو قريش، وقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مخفيًا ذلك؛ لئلا يصل الخبر إلى قريش من أجل أن يأتيهم فجأةً، وهذا من سياسة الحروب كتمان الأسرار، وقد جاء حديث عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَعِينُوا عَلَى حَوَائِجِكُمْ بِالْكِتْمَانِ، فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٍ» رواه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (5/215) وهو حديث ضعيف، ولكن ينبغي كتم الأسرار وعدم إفشائها في الحروب وغيرها، قال الحافظ ابن كثيرفي «تفسيره» (4/371) في قوله عز وجل عن يعقوب: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يوسف:5]:
وَمِنْ هَذَا يُؤْخَذُ الْأَمْرُ بِكِتْمَانِ النِّعْمَةِ حَتَّى تُوجَدَ وَتَظْهَرَ.
فهذا من الآداب؛ لأنه إذا تحدث بها قد يُحسد فتُسلب النعمة،  قال تعالى: ﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:5].
وقد قيل :
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه **فصدر الذي يستودع السر أضيق
وقصة حاطب رضي الله عنه سياقها في البخاري (3007) ومسلم (2494) عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالزُّبَيْرَ، وَالمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ، قَالَ: «انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً، وَمَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا»، فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا أَخْرِجِي الكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ المُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ المُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ، أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلاَ ارْتِدَادًا، وَلاَ رِضًا بِالكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ صَدَقَكُمْ»، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ، قَالَ: «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ».
(فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً) قال ابن الأثير في «النهاية» (3/157): الظُّعُن: النِّساء، واحِدَتها: ظَعِينَة. وأصلُ الظَّعِينَة: الرَّاحلَةُ الَّتِي يُرحَل ويُظْعَنُ عَلَيْهَا: أَيْ يُسار. وَقِيلَ لِلْمَرْأَةِ ظَعِينَة، لِأَنَّهَا تَظْعَنُ مَعَ الزَّوج حَيثُما ظَعَنَ، أَوْ لأنَّها تُحْمَل عَلَى الرَّاحِلَة إِذَا ظَعَنَتْ. وَقِيلَ الظَّعِينَة: المَرأةُ فِي الْهَوْدَجِ، ثُمَّ قِيلَ للهَودَج بِلَا امْرَأة، وللِمَرأة بِلَا هَودَج. اهـ.
(فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا)قال ابن الأثير في «النهاية» (3/276): أَيْ ضَفَائِرِهَا، جَمْع عَقِيصَة أَوْ عِقْصَة. وَقِيلَ: هُوَ الخيْط الَّذِي تُعْقَصُ بِهِ أَطْرَافُ الذَّوائب، وَالْأَوَّلُ الوَجْه. اهـ.
(فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ) وفي هذا جواز كشف العورة للحاجة.
وقد أقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عثرة حاطب لما له من الفضل؛ لأنه شهد غزوة بدر.
ويستفاد منه أن الحسنة الكبيرة قد تكفر السيئة الكبيرة، واستدل به بعض العلماء على أنه يجوز قتل الجاسوس المسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يقل لا يجوز قتله ولكن ذكر أنه من أهل بدر.
قال ابن القيم رحمه الله في «زاد المعاد» (3/372): وَالصَّحِيحُ: أَنَّ قَتْلَهُ رَاجِعٌ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، فَإِنْ رَأَى فِي قَتْلِهِ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ قَتَلَهُ، وَإِنْ كَانَ اسْتِبْقَاؤُهُ أَصْلَحَ اسْتَبْقَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.
(وكان هذا من إعلام الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم)
في قصة حاطب علم من أعلام نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقد أطلعه الله على ذلك ،وأخبرهم أن المرأة التي معها الكتاب في روضة خاخٍ ،وكان كما أخبر به صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
والمرأة التي كان معها الكتاب. قال الحافظ في «فتح الباري» (8/15): وَسَارَةُ مَوْلَاةُ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَهِيَ الَّتِي وُجِدَ مَعَهَا كِتَابُ حَاطِب. اهـ.
 (وخرج صلى الله عليه وسلم لعشرٍ خَلون من رمضان في عشرة آلاف مقاتل من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب، وقد ألفت مزينة وكذا بنو سليم على المشهور رضي الله عنهم جميعهم)
هذا عدد الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزوة الفتح ،وهوأكبرعدد يخرج مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من حين بدأت حروب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأما بعد غزوة الفتح فازدادت الأعداد وسيأتي ذلك إن شاء الله في محله.
(وقد ألفت مزينة)
في «النهاية» لابن الأثير (3/180): أَيْ: شَهِدَه مِنْهُمْ ألفٌ. اهـ.
(ولقيه عمه العباس بذي الحليفة، وقيل: بالجحفة فأسلم)
ظاهر عبارة ابن كثير أن العباس من مسلمة الفتح وهذا قول لبعض أهل السير.
(ورجع معه صلى الله عليه وسلم، وبعث ثَقله إلى المدينة)
(ثَقله) أي: عياله.
(ولما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى نيق العقاب جاءه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أبي أمية أخو أم سلمة مسلمين)
أبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية كانا من أشد الأعداء للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأسلما يوم الفتح.
(جاءه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث)أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب  بن هاشم الهاشمي ابن عمّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وأخوه من الرضاعة، أرضعتهما حليمة السعدية كما في الإصابة.
وممن أسلم أيام الفتح أبو قحافة والد أبي بكر الصديق .روى أحمد في «مسنده» (26956) عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: «...فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، أَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ بِأَبِيهِ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «هَلَّا تَرَكْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا آتِيهِ فِيهِ» . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ أَحَقُّ أَنْ يَمْشِيَ إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تَمْشِيَ أَنْتَ إِلَيْهِ، قَالَ: فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ صَدْرَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ». فَأَسْلَمَ وَدَخَلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأْسُهُ كَأَنَّهُ ثَغَامَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَيِّرُوا هَذَا مِنْ شَعْرِهِ...». والحديث في «الصحيح المسند » (1527) لوالدي رحمه الله.
وهذا من تواضع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول:«هَلَّا تَرَكْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا آتِيهِ فِيهِ».
ووالدة أبي بكر الصديق أيضًا أسلمت، ولكن إسلامها متقدم .
قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» (7/9): وَأُمُّ أَبِي بَكْرٍ سَلْمَى وَتُكَنَّى أُمَّ الْخَيْرِ بِنْتَ صَخْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَمْرٍو أَسْلَمَتْ وَهَاجَرَتْ وَذَلِكَ مَعْدُودٌ مِنْ مَنَاقِبِهِ لِأَنَّهُ انْتَظَمَ إِسْلَامُ أَبَوَيْهِ وَجَمِيعِ أَوْلَادِهِ. اهـ.
(وصام صلى الله عليه وسلم حتى بلغ ماء يقال له: الكديد، بين عسفان وأمج من طريق مكة، فأفطر بعد العصر على راحلته ليراه الناس، وأرخص للناس في الفطر)
وهذا يستفاد منه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سافر إلى مكة وكان صائمًا ولكنه أفطر لما بلغ الكديد موضع بين عسفان وأمج من طريق مكة.
(ثم عزم عليهم في ذلك، فانتهى صلى الله عليه وسلم حتى نزل بمر الظهران فبات به)
(عزم عليهم) أي: أوجب الإفطار وجوبًا. أخرج مسلم في «صحيحه» (1114) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ، فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ، حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ، فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ، فَقَالَ: «أُولَئِكَ الْعُصَاةُ، أُولَئِكَ الْعُصَاةُ».
(خرج ابن حرب، وبديل بن ورقاء،وحكيم بن حزام يتجسَّسون الخبر)
 وقد منَّ الله على هؤلاء الثلاثة بالإسلام
أبوسفيان صخر بن حرب قال ابن حجر في الإصابة(3/332):مشهور باسمه وكنيته، وكان يكنى أيضا أبا حنظلة، وأمه صفيّة بنت حزن الهلالية، عمة ميمونة زوج النّبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وكان أسنّ من النّبي صلّى اللَّه عليه وسلم بعشر سنين. وقيل غير ذلك بحسب الاختلاف في سنة  موته. وهو والد معاوية.
أسلم عام الفتح، وشهد حنينا والطّائف، كان من المؤلفة، وكان قبل ذلك رأس المشركين يوم أحد ويوم الأحزاب .اهـ المراد.
بُديل بن ورقاء وكان إسلامه قبل الفتح، وقيل يوم الفتح كما في الإصابة .
حكيم بن حزام قال ابن عبدالبر في الاستيعاب (1/362):حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي،
يكنى أبا خالد، هو ابن أخي خديجة بنت خويلد زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،وكان من أشراف قريش ووجوهها في الجاهلية والإسلام، كان مولده قبل الفيل بثلاث عشرة سنة أو اثنتي عشرة سنة على اختلاف في ذلك وتأخر إسلامه إلى عام الفتح، فهو من مَسلمة الفتح هو وبنوه عَبْد الله وخالد ويحيى وهشام، وَكُلُّهُمْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعاش حكيم بن حزام في الجاهلية ستين سنة، وفي الإسلام ستين سنة، وتوفي بالمدينة في داره بها عند بلاط الفاكهة وزقاق الصواغين في خلافة معاوية سنة أربع وخمسين، وهو ابن مائة وعشرين سنة، وكان عاقلا سريا فاضلا تقيًّا سيدًا بماله غنيًا. اهـ المراد.
(وركب العباس بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتئذ، وخرج من الجيش لعله يلقى أحداً، فلما سمع أصواتهم عرفهم، فقال: أباحنظلة! فعرفه أبو سفيان، فقال: أبو الفضل؟ قال نعم...)
(فلما سمع أصواتهم عرفهم) يعني: عرف العباس أباسفيان بن حرب وبُدَيْل بن وَرْقَاء وحكيم بن حزام. وأبوحنظلة كنية لأبي سفيان .وأبو الفضل كنية العباس.
ثم ذكرالحافظ ابن كثير  قصة إسلام أبي سفيان رضي الله عنه.والقصة بتمامها  في السلسلة الصحيحة(3341) للشيخ الألباني رحمه الله وصدْرُ القصة (مضى رسول الله  صلى الله عليه وسلم ، واستخلف على المدينة أبا رُهْمٍ كلثوم بن حُصين الغفاري.
وخرج لعشر مضين من رمضان، فصام رسول الله  صلى الله عليه وسلم ، وصام الناس معه، حتى إذا كان بـ الكديد ما بين عُسْفان و أمَجَ  أفطر.
ثم مضَى حتى نزل مرَّ الظّهران في عشَرة آلاف من المسلمين إلى قوله(من دخل دار أبي سفيان؛ فهو آمن، قالوا: ويلك وما تغني دارك؟! قال: ومن أغلق بابه؛ فهو آمن، ومن دخل المسجد، فهو آمن. فتفرق الناس إلى دورهم، وإلى المسجد) .
(قال ابن حزم: هذا نص في أنها فتحت صلحاً لا عَنوة. قلت: هذا أحد أقوال العلماء وهو الجديد من مذهب الشافعي.)
ثم ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله مسألة فتح مكة هل كان صلحًا أو عَنوة؟ وجمهور العلماء على أن مكة فُتحت عنوةً لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابهُ فَهُوَ آمِنٌ» رواه مسلم (1780) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وفي رواية عند أبي داود(3022)من حديث ابن عباس وفيه ( وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ» قَالَ: فَتَفَرَّقَ النَّاسُ إِلَى دُورِهِمْ وَإِلَى الْمَسْجِدِ)وفي إسناد أبي داود مبهم وعنعنة محمد بن إسحاق لكن للحديث ما يقويه .والله أعلم .
والشاهد أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قيَّد الأمان بدخول دار أبي سفيان وبإلقاء السلاح وغلق الأبواب.ولما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذلك تفرق الناس إلى هذه الأماكن ،المسجد الحرام، وإلى دار أبي سفيان، وإلى غلق أبوابهم، وإلقاء السلاح،ليأمنوا على أنفسهم ، وهذا يدل على أنهم أصيبوا بالذلة والصَّغار؛وعلى انتصار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على قريش  ،والعاقبة للمتقين.
ومن الأدلة على أن مكة فتحت عنوة حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ المتفق عليه، البخاري (4286) مسلم (1357) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ المِغْفَرُ...». (المِغْفَرُ) قال ابن الأثير في «النهاية» (3/374): المِغْفَرُ: هُوَ مَا يَلْبَسُه الدَّارِعُ عَلَى رَأْسِهِ مِنَ الزَّرَدِ ونَحوه. اهـ.
وفي «صحيح مسلم» (1780) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أن رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «...تَرَوْنَ إِلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ، وَأَتْبَاعِهِمْ، ثُمَّ قَالَ بِيَدَيْهِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، ثُمَّ قَالَ: «حَتَّى تُوَافُونِي بِالصَّفَا»، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا فَمَا شَاءَ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا إِلَّا قَتَلَهُ، وَمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ يُوَجِّهُ إِلَيْنَا شَيْئًا...» الحديث.
(قَالَ بِيَدَيْهِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى) أي: اقتلوه واحصدوه.
وفي «الصحيحين» البخاري (2434) ومسلم (1355) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر حرمة مكة وقال: «...فَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ...».
هذه بعض الأدلة في المسألة ،وقد ناقش أدلة الطرفين ابن القيم في «زاد المعاد»  (3/108).
القول الثاني: أنها فتحت صُلْحًا، وهذا قول الشافعي وقول أحمد في رواية عنه.
************************
والغرض أنه صلى الله عليه وسلم أصبح يومه ذلك سائرًا إلى مكة، وقد أمر صلى الله عليه وسلم العباس أن يُوقِف أبا سفيان عند خطْم الجبل، لينظر إلى جنود الإسلام إذا مرَّت عليه.
وقد جعل صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه على المقدمة، وخالد بن الوليد رضي الله عنه على الميمنة، والزبير بن العوام رضي الله عنه على الميسرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في القلب، وكان أعطى الراية سعد بن عبادة رضي الله عنه، فبلغه أنه قال لأبي سفيان حين مر عليه: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة ـ والحرمة هي الكعبة ـ فلما شكا أبو سفيان ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بل هذا يوم تعظَّم فيه الكعبة». فأمر بأخذ الراية من سعد فتعطى علياً، وقيل: الزبير، وهو الصحيح.
وأمر صلى الله عليه وسلم الزبير أن يدخل من كَداء من أعلى مكة، وأن تنصب رايته بالحجون، وأمر خالدًا أن يدخل من كُدَي من أسفل مكة، وأمرهم بقتال من قاتلهم. وكان عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، قد جمعوا جمعاً بالخندمة، فمر بهم خالد بن الوليد فقاتلهم، فقتل من المسلمين ثلاثة وهم: كرز بن جابر من بني محارب بن فهر، وحبيش بن خالد بن ربيعة بن أصرم الخزاعي، وسلمة بن الميلاء الجهني، رضي الله عنهم. وقتل من المشركين ثلاثة عشر رجلاً، وفرَّ بقيتهم.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وهو راكب على ناقته وعلى رأسه المغفر، ورأسه يكاد يمس مقدمة الرحل من تواضعه لربه عز وجل.
وقد أمَّن صلى الله عليه وسلم الناسَ إلا عبد العزى بن خطل، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، ومقيس بن صبابة، والحويرث بن نقيذ، وقينتين لابن خطل، وهما فرتنا وصاحبتها، وسارة مولاة لبني عبد المطلب، فإنه صلى الله عليه وسلم أهدر دماءهم، وأمر بقتلهم حيث وُجدوا، حتى ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة فقتِل ابن خطل، وهو متعلق بالأستار، ومقيس ابن صبابة، والحويرث بن نقيذ، وإحدى القينتين، وآمن الباقون.
ونزل صلى الله عليه وسلم مكة واغتسل في بيت أم هانئ وصلى ثماني ركعات يسلِّم من كل ركعتين، فقيل إنها صلاة الضحى. وقيل: صلاة الفجر.
قال السهيلي: وقد صلاها سعد بن أبي وقاص في إيوان كسرى، إلا أنه صلى ثماني ركعات بتسليم واحد. وليس كما قال، بل يسلم من كل ركعتين كما رواه أبو داود.
وخرج صلى الله عليه وسلم إلى البيت فطاف به طواف قدوم، ولم يسع، ولم يكن معتمرًا. ودعا بالمفتاح، فدخل البيت وأمر بإلقاء الصورومحوِها منه، وأذَّن بلال يومئذ على ظهر الكعبة، ثم رد صلى الله عليه وسلم المفتاح إلى عثمان بن طلحة بن أبي طلحة. وأقرهم على السِّدانة.
وكان الفتح لعشر بقين من رمضان. «واستمر صلى الله عليه وسلم مفطرًا بقية الشهر يصلي ركعتين، ويأمر أهل مكة أن يتموا» ، كما رواه النسائي بإسناد حسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه، وخطب صلى الله عليه وسلم الغدَ من يوم الفتح فبيَّن حرمة مكة وأنها لم تحل لأحد قبله ولا تحل لأحد بعده، وقد أحلت له ساعة من نهار، وهي غير ساعته تلك حرام.
وبعث صلى الله عليه وسلم السرايا إلى من حول مكة من أحياء العرب يدعوهم إلى الإسلام، وكان في جملة تلك البعوث بعث خالد إلى بني جَذيمة الذين قتلهم خالد حين دعاهم إلى الإسلام، فقالوا: صبأنا، ولم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فوداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ من صنيع خالد بهم.
وكان أيضاً في تلك البعوث بعث خالد أيضاً إلى العزَّى، وكان بيتًا تعظمه قريش وكنانة وجميع مضر، فدمَّرها رضي الله عنه من إمام وشجاع.
وكان عكرمة بن أبي جهل قد هرب إلى اليمن، فلحقته امرأته وهي مسلمة وهي أم حكيم بنت الحارث بن هشام، فردَّته بأمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم وحسُن إسلامه، وكذا صفوان بن أمية كان قد فرَّ إلى اليمن، فتبعه صاحبُه في الجاهلية عمير بن وهب بأمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرده، وسيَّره صلى الله عليه وسلم أربعةَ أشهر، فلم تمض حتى أسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه.
************************
(وقد أمر صلى الله عليه وسلم العباس أن يوقف أبا سفيان عند خطم الجبل، لينظر إلى جنود الإسلام إذا مرت عليه)
هذا في «صحيح البخاري» (4280) وهو مرسل من مراسيل عروة.
 (وقد جعل صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه على المقدمة...)
يذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله بعض الأمور في سياسة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأن الراية كانت مع الزبير على الصحيح، وأن النبي دخل مكة من أعلاها كَداء ،وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من كُدي من أسفلها ،ولم يعترض أحد لهم إلا لخالد بن الوليد اعتُرض له ومن معه بالخندمة فقاتلهم خالد حتى انهزموا.
(فمر بهم خالد بن الوليد فقاتلهم)
وتقدم معنا أن خالد بن الوليد أسلم عام خيبر.
(وحبيش بن خالد بن ربيعة بن أصرم الخزاعي)
قال الحافظ في «الفتح» (8/10): حُبَيْشٌ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ وَعند ابن إِسْحَاق بِمُعْجَمَة وَنون ثمَّ مُهْملَة مصغر بن الْأَشْعَرِ وَهُوَ لَقَبٌ وَاسْمُهُ خَالِدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ مُنْقِذِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَخْزَمَ الْخُزَاعِيُّ وَهُوَ أَخُو أُمِّ مَعْبَدٍ الَّتِي مَرَّ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرًا. اهـ.
وقتل من المشركين ثلاثة عشر وفر بقيتهم منهزمين.
وقد أسلم عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو بعد ذلك .
ثم ذكر دخول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مكة على ناقته وعلى رأسه المغفر، وقد دخل متواضعا مع أنه منتصر على عدوه وكلمته هي العالية ، وهذا من أسباب النصر التواضع، والاستكانة، وعدم العجب والغرور. وأما الحديث الذي ذكره ابن كثير«ورأسه يكاد يمس مقدمة الرحل من تواضعه لربه عز وجل» هذا في «مستدرك الحاكم» (7888،4365) عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ وَذَقْنُهُ عَلَى رَحْلِهِ مُتَخَشِّعًا». وإسناده ضعيف فيه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ ،وهو ضعيف.
(وقد أمَّن صلى الله عليه وسلم الناس إلا عبد العزى بن خطل)
ثم ذكر رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمَّن الناس إلا بعض الأشخاص، ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله عبد العزى بن خطل وقد ثبت في «الصحيحين» البخاري (1846) ومسلم (1357) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَخَلَ عَامَ الفَتْحِ، وَعَلَى رَأْسِهِ المِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ فَقَالَ «اقْتُلُوهُ».
(مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ) مستعيذًا.
(وعبد الله بن سعد بن أبي سرح) لم يُقتل وأسلم زمن الفتح وحسن إسلامه.
(وعكرمة بن أبي جهل) أيضًا من مسلمة الفتح.
(ومقيس بن صبابة والحويرث بن نقيذ، وقينتين لابن خطل، وهما فرتنا وصاحبتها، وسارة مولاة لبني عبد المطلب، فإنه صلى الله عليه وسلم أهدر دمائهم)
(القَيْنَة) قال ابن الأثير في «النهاية» (4/ 135): القَيْنَة: الأمَة غَنَّت أَوْ لَمْ تُغَنّ، والماشِطة، وَكَثِيرًا مَا تُطْلق عَلَى المُغَنِّية مِنَ الْإِمَاءِ، وجَمْعها: قَيْنَات. اهـ.
(وإحدى القينتين) قال الحافظ في «فتح الباري» (8/11): وَأَمَّا الْقَيْنَتَانِ فَاسْمُهُمَا فَرْتَنَى وَقَرِينَةُ فَاسْتُؤْمِنَ لِإِحْدَاهُمَا فَأَسْلَمَتْ وَقُتِلَتِ الْأُخْرَى .وَأَمَّا سَارَةُ فَأَسْلَمَتْ وَعَاشَتْ إِلَى خِلَافَةِ عُمَرَ وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ بَلْ قُتِلَتْ وَذكر غير ابن إِسْحَاقَ أَنَّ فَرْتَنَى هِيَ الَّتِي أَسْلَمَتْ وَأَنَّ قرينَة قتلت. اهـ.
(وآمن الباقون)
الباقون أسلموا.
(وسارة مولاة لبني عبد المطلب) قال الحافظ في «فتح الباري» (8/15): وَسَارَةُ مَوْلَاةُ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَهِيَ الَّتِي وُجِدَ مَعَهَا كِتَابُ حَاطِب. اهـ.
وقال الحافظ في «فتح الباري» (8/15): وَأَمَّا سَارَةُ فَأَسْلَمَتْ وَعَاشَتْ إِلَى خِلَافَةِ عُمَرَ وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ بَلْ قُتِلَتْ. اهـ.
(ونزل صلى الله عليه وسلم مكة واغتسل في بيت أم هانئ وصلى ثماني ركعات يسلم من كل ركعتين، فقيل إنها صلاة الضحى).
وهذا في «الصحيحين» البخاري (1103) ومسلم (336) عَنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: مَا حَدَّثَنَا أَحَدٌ، أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى غَيْرُ أُمِّ هَانِئٍ فَإِنَّهَا قَالَتْ: «إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَاغْتَسَلَ وَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، فَلَمْ أَرَ صَلاَةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ».
ولما دخل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مكة توجَّه إلى البيت وطاف طواف القدوم، وطواف القدوم مشروع في حق القادم من السفر كما فعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يكن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم محرمًا.
ولما جاء الكعبة وجد عندها ثلاثمائة وستين نُصُبًا فجعل يطعنها بعود ويكسرها ويقول ﴿جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ، إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]،
وهذا في «الصحيحين» البخاري (4720) ، ومسلم (1781) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، وَحَوْلَ البَيْتِ سِتُّونَ وَثَلاَثُ مِائَةِ نُصُبٍ، فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ، وَيَقُولُ: «﴿جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ، إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، ﴿جَاءَ الحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ البَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ:49]».
ثم دعا بالمفتاح ودخل البيت، وكان داخل البيت صور فأمر بها فمحيت. ويستفاد منه إزالة الصور من المكان الذي يُصلَّى فيه، والمبادرة إلى تغيير المنكر.
ولما دخل صلى في الكعبة .ثبت في «الصحيحين» البخاري (505) ومسلم (1781) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الكَعْبَةَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَبِلاَلٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الحَجَبِيُّ فَأَغْلَقَهَا عَلَيْهِ، وَمَكَثَ فِيهَا، فَسَأَلْتُ بِلاَلًا حِينَ خَرَجَ: مَا صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟، قَالَ: جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ، وَعَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ، وَثَلاَثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وَكَانَ البَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ، ثُمَّ صَلَّى».
وثبت في «صحيح البخاري»(1601) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ البَيْتَ وَفِيهِ الآلِهَةُ، فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ، فَأَخْرَجُوا صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْمَاعِيلَ فِي أَيْدِيهِمَا الأَزْلاَمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا قَطُّ» . فَدَخَلَ البَيْتَ، فَكَبَّرَ فِي نَوَاحِيهِ، وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ .وفي«صحيح مسلم» (1331) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَفِيهَا سِتُّ سَوَارٍ، فَقَامَ عِنْدَ سَارِيَةٍ فَدَعَا، وَلَمْ يُصَلِّ». ولكن المُثبِت مُقدَّم على النَّافي فالقول قول بلال، وهذا بحث مختصر كنت أعددته سابقًا نذكره للفائدة .
قال البخاري في «جزء رفع اليدين» (ص48): قال بلال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  صلى في الكعبة، وقال الفضل بن عباس لم يصل، فأخذ الناس بقول بلال؛ لأنه شاهد، ولم يلتفتوا إلى قول من قال: لم يصل حين لم يحفظ. اهـ
وأفاد الحديثُ مسألةً فقهيةً: صلاة النافلة في جوف الكعبة.
قال ابنُ قدامة في «المغني»: مسألة (965) ط الباز: وَتَصِحُّ النَّافِلَةُ فِي الْكَعْبَةِ وَعَلَى ظَهْرِهَا. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  صَلَّى فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ.
قلت: الواقع في المسألة خلاف يسير, فقد منع بعضهم الصلاة في جوف الكعبة مطلقاً. جاء عن ابن عباس, وقال به بعض المالكية, وبعض الظاهرية, والطبري كما في «الفتح» تحت رقم (1598).
وفي قول للإمام أحمد في غير المشهور عنه: أن النافلة لا تصح في الكعبة, وهذا خلاف الصحيح عند الحنابلة. يراجع «الإنصاف» (1/349).
وأما إذا كانت الصلاة فريضة فذهب الجمهور ‑كما عزاه إليهم النووي في «المجموع» (3/192), والحافظ في «الفتح» (1598), وهو قول أبي حنيفة والشافعي‑ إلى أنه تُصلَّى الفريضة في الكعبة.
ونصره ابن حزم في «المحلى» رقم المسألة (453).
ونقل ابن عبدالبر في «التمهيد» (15/318) عن مالك أنه قال: لَا يُصَلِّي فِيهَا الْفَرْضَ وَلَا الْوِتْرَ, وَلَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ, وَلَا رَكْعَتَا الطَّوَافِ وَيُصَلَّى فِيهَا التَّطَوُّعُ.
قال: وَذَكَرَ ابْنُ خُوَازِ بَنْدَادَ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فِيمَنْ صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ الْفَرِيضَةَ أَوْ صَلَّى عَلَى ظَهْرِهَا أَعَادَ مَا دَامَ فِي الْوَقْتِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا.

وقال العلامة ابن باز رحمه الله في «مجموع فتاواه» (10/422): ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يصلي فيها الفريضة، بل تصلي في خارجها؛ لأنها هي القبلة فتصلي الفريضة في خارجها، وأما النافلة فلا بأس؛ لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى فيها النافلة ولم يصل فيها الفريضة.
والصواب: أنه لو صلى فيها الفريضة أجزأه وصحت، لكن الأفضل والأولى: أن تكون الفريضة خارج الكعبة. خروجا من الخلاف، وتأسيا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه صلى بالناس الفريضة خارج الكعبة.اهـ.
تنبيه: قال شيخ الإسلام كما في «مجموع الفتاوى» (26/68): يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ فِي حَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ, وَإِنَّمَا كَانَ دُخُولُهُ الْكَعْبَةَ عَامَ الْفَتْحِ لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ, وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُ دَخَلَهَا فِي حَجَّةٍ وَلَا عُمْرَةٍ.
بَلْ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عن إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ قَالَ: قُلْت لِعَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ فِي عُمْرَتِهِ؟ قَالَ: لَا. اهـ.
وإذا صلى داخل- جوف- الكعبة فإنه يتجه لأي جهة من جهاتها لأن الكعبة كلها قبلة، قال تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة:144]، والصلاة داخل الكعبة قد لا يُستطاع ،وفي زمن قريش كانوا يدخلون من شاؤوا ويمنعون من شاؤوا . ثبت في «الصحيحين» البخاري (1584) ومسلم (1333) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الجَدْرِ أَمِنَ البَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي البَيْتِ؟ قَالَ: «إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ» قُلْتُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: «فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُكِ، لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ، فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ، أَنْ أُدْخِلَ الجَدْرَ فِي البَيْتِ، وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالأَرْضِ».

ثم ذكرالحافظ ابن كثير خطبة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الغد من يوم الفتح ويستفاد منه الخطبة عند الاحتياج والمناسبات.
ومما ذكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن حرمة مكة باقية، وبيَّن لهم ذلك؛ حتى لا يُظَن من قتال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في مكة أنه يجوز القتال فيها وأن حرمتها زالت، فقال: «وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ». كما في «الصحيحين» البخاري (2434) ومسلم (1355) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
ثم ذكر بعوث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم السرايا حول مكة، ومن جملتهم خالد بن الوليد. وكان الذين بُعِث إليهم وهم بنو جَذِيمَةَ ـ جَذِيمَةَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، كما في شرح مسلم للنووي (1/142) وكانوا يقولون: صبأنا أي: أسلمنا، وكان لا يفهم ذلك خالدُ بنُ الوليد فقاتلهم، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تبرَّأ مما صنع خالد بن الوليد.
روى البخاري في«صحيحه » (7189) عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا، فَقَالُوا: صَبَأْنَا صَبَأْنَا، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ وَيَأْسِرُ، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، فَأَمَرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرَهُ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لاَ أَقْتُلُ أَسِيرِي، وَلاَ يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ» مَرَّتَيْنِ.
ثم بعث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خالدًا مرة أخرى إلى العزى فذهب ثم عاد، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لم تصنع شيئًا، فأرسله مرة أخرى فهرب سَدَنة العزى وجعلوا يقولون: يا عزى خبِّليه .
ونص الحديث أخرجه أبو يعلى في «مسنده» (902)عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى نَخْلَةٍ، وَكَانَتْ بِهَا الْعُزَّى، فَأَتَاهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَكَانَتْ عَلَى تِلَالِ السَّمُرَاتِ، فَقَطَعَ السَّمُرَاتِ وَهَدَمَ الْبَيْتَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: «ارْجِعْ فَإِنَّكَ لَمْ تَصْنَعْ شَيْئًا»، فَرَجَعَ خَالِدٌ، فَلَمَّا نَظَرَتْ إِلَيْهِ السَّدَنَةُ ـ وَهُمْ حُجَّابُهَا ـ أَمْعَنُوا فِي الْجَبَلِ وَهُمْ يَقُولُونَ: يَا عُزَّى خَبِّلِيهِ، يَا عُزَّى عَوِّرِيهِ، وَإِلَّا فَمُوتِي بِرَغْمٍ، قَالَ: فَأَتَاهَا خَالِدٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ عُرْيَانَةٌ نَاشِرَةٌ شَعْرَهَا تَحْثُوا التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهَا، فَعَمَّمَهَا بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَهَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، قَالَ: «تِلْكَ الْعُزَّى». وهو في «الصحيح المسند» للوالد رحمه الله (535).
استفدنا خيرًا كبيرًا وفوائد عظيمة في غزوة الفتح، وفي ذلك يقول الله: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3) [النصر].قال ابن كثير: في تفسير هذه الآية:"والمراد بالفتح هنا فتح مكة قولاً واحدًا"
وقد خرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مكة مستضعفًا طريدًا، وهاجر إلى المدينة، ثم عاد مكة بعد ثمان سنين بقوةٍ وعزةٍ فالعاقبة للمتقين.
وقد خاف الأنصار لما رأوا شفقته صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورأفته بقريش خافوا أن يرجع إلى مكة ويقيم بها ويترك المدينة فقالوا: لقد وجد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأفة بقومه وبعشيرته فجاءه الوحي. وللفائدة نسوق الحديث من «صحيح مسلم» (1780) من طريق عَبْدِ اللهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: وَفَدَتْ وُفُودٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، فَكَانَ يَصْنَعُ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ الطَّعَامَ، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَدْعُوَنَا إِلَى رَحْلِهِ، فَقُلْتُ: أَلَا أَصْنَعُ طَعَامًا فَأَدْعُوَهُمْ إِلَى رَحْلِي؟ فَأَمَرْتُ بِطَعَامٍ يُصْنَعُ، ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا هُرَيْرَةَ مِنَ الْعَشِيِّ، فَقُلْتُ: الدَّعْوَةُ عِنْدِي اللَّيْلَةَ، فَقَالَ: سَبَقْتَنِي، قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَلَا أُعْلِمُكُمْ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، ثُمَّ ذَكَرَ فَتْحَ مَكَّةَ، فَقَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَبَعَثَ الزُّبَيْرَ عَلَى إِحْدَى الْمُجَنِّبَتَيْنِ، وَبَعَثَ خَالِدًا عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْأُخْرَى، وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْحُسَّرِ، فَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَةٍ، قَالَ: فَنَظَرَ فَرَآنِي، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: «لَا يَأْتِينِي إِلَّا أَنْصَارِيٌّ» - زَادَ غَيْرُ شَيْبَانَ -، فَقَالَ: «اهْتِفْ لِي بِالْأَنْصَارِ»، قَالَ: فَأَطَافُوا بِهِ، وَوَبَّشَتْ قُرَيْشٌ أَوْبَاشًا لَهَا، وَأَتْبَاعًا، فَقَالُوا: نُقَدِّمُ هَؤُلَاءِ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ كُنَّا مَعَهُمْ، وَإِنْ أُصِيبُوا أَعْطَيْنَا الَّذِي سُئِلْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَرَوْنَ إِلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ، وَأَتْبَاعِهِمْ»، ثُمَّ قَالَ بِيَدَيْهِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، ثُمَّ قَالَ: «حَتَّى تُوَافُونِي بِالصَّفَا»، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا فَمَا شَاءَ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا إِلَّا قَتَلَهُ، وَمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ يُوَجِّهُ إِلَيْنَا شَيْئًا، قَالَ: فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُبِيحَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ، لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ»، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ، وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَجَاءَ الْوَحْيُ وَكَانَ إِذَا جَاءَ الْوَحْيُ لَا يَخْفَى عَلَيْنَا، فَإِذَا جَاءَ فَلَيْسَ أَحَدٌ يَرْفَعُ طَرْفَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْوَحْيُ، فَلَمَّا انْقَضَى الْوَحْيُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ» قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «قُلْتُمْ: أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ؟» قَالُوا: قَدْ كَانَ ذَاكَ، قَالَ: «كَلَّا، إِنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، هَاجَرْتُ إِلَى اللهِ وَإِلَيْكُمْ، وَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ»، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَبْكُونَ وَيَقُولُونَ: وَاللهِ، مَا قُلْنَا الَّذِي قُلْنَا إِلَّا الضِّنَّ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ، وَيَعْذِرَانِكُمْ»، قَالَ: فَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَى دَارِ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَغْلَقَ النَّاسُ أَبْوَابَهُمْ، قَالَ: وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَقْبَلَ إِلَى الْحَجَرِ، فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، قَالَ: فَأَتَى عَلَى صَنَمٍ إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ، قَالَ: وَفِي يَدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْسٌ وَهُوَ آخِذٌ بِسِيَةِ الْقَوْسِ، فَلَمَّا أَتَى عَلَى الصَّنَمِ جَعَلَ يَطْعُنُهُ فِي عَيْنِهِ، وَيَقُولُ: ﴿جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ [الإسراء: 81]، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَتَى الصَّفَا، فَعَلَا عَلَيْهِ حَتَّى نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللهَ وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَ
(وَجَاءَ الْوَحْيُ) وهذا من دلائل النبوة أطلع الله نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم على قول الأنصار.
(وَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ) أي: أحيا وأموت بينكم، وهذا أيضًا فيه دليل من دلائل النبوة. فقد توفى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالمدينة وعاش بالمدينة، والله أعلم.
(وَاللهِ، مَا قُلْنَا الَّذِي قُلْنَا إِلَّا الضِّنَّ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ) البخل بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أي: بمجالسته وبقائه بينهم والاستفادة منه.
قال ابن الأثير في «النهاية» (3/104):  وَمِنْهُ حَدِيثُ الْأَنْصَارِ «لَمْ نقُل إلاَّ ضِنّاً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» أَيْ: بُخْلاً بِهِ وشُحًّا أَنْ يُشَارِكنا فِيهِ غَيرنُا. اهـ.

والكلام على هذه الغزوة وفوائدها وما فيها من الأحكام والدروس والعِبِر يطول. والحمد لله رب العالمين.