جديد المدونة

الاثنين، 25 أبريل 2016

(15) (التَّذْكِيْرُ بِسِيْرَةِ سَيِّدِ البَشَرِ

بسم الله الرحمن الرحيم

اختصارُ درسِ الثالث والعشرين من (الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم)

*غزوة الحديبية: ويقال صلح الحديبية. وكانت هذه الوقعة في ذي القعدة سنة ست بلا خلاف. وقد خرج  النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من المدينة معتمرًا، وكان يقول: «إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ». كما في صحيح البخاري (2731) عن المسور، وأحرم هو وأصحابه من ذي الحليفة ميقات أهل المدينة، وقلَّد هديه وأشعر البُدن وكان عددها سبعين. وكان عدد الصحابة ألفًا وأربعمائة على المشهور.  
وتخلَّف كثير من الأعراب عن الخروج واختاروا البقاء في أهليهم وأموالهم وقد فضحهم الله وأنزل فيهم آيات تتلى في سورة الفتح.
* فبلغ قريشًا قدوم المسلمين فأرسلوا خالد بن الوليد في آخرين إلى كراع الغميم لصدِّهم عن القدوم وقتالهم، فعلم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فاستشار أصحابه أن يميل على ذراري من ناصر قريشًا .فقَالَ أَبُو بَكْرٍالصديق رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَرَجْتَ عَامِدًا لِهَذَا البَيْتِ، لاَ تُرِيدُ قَتْلَ أَحَدٍ، وَلاَ حَرْبَ أَحَدٍ، فَتَوَجَّهْ لَهُ، فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ. قَالَ: «امْضُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ».رواه البخاري.
ثم مضوا جادِّين في الوصول إلى مكة للعمرة، وقال للصحابة في أثناء الطريق: خذوا ذات اليمين، فعدَل إلى طريق أخرى غير المألوفة نظرًا للمصلحة، فلما بلغوا الثنية الَّتِي يُهْبَطُ عَلَى قريش مِنْهَا بركت الناقة، فقال الصحابة: خلأت الناقة - أي: حزنت في سيرها، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: وما ذاك لها بخُلُق ولكن حبسها حابس الفيل أي: ما كان هذا من عادتها ولكن الله حبسها عن القدوم إلى مكة صونًا للدماء كما حبس عن مكة الفيل حينما جاء أبرهة الحبشي لاستباحة الحرم والكعبة.
ثم زجر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الناقة إلى الرجوع فوثبت وقامت، وعدل صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى أقصى الحديبية وأقام فيها نحو عشرين ليلة.
* وقد جاء بعض المشركين إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو بالحديبية. وبيَّن لهم أنه مستعد للمصالحة شريطة أن يكون فيه تعظيم حرمات الله وقال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا».  فجاء رجل من قريش يقال له: بُديل، وجاءعروة بن مسعود وكان عروة بن مسعود يراقب أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فما تنخَّم نخامة إلا دلك أحدهم بها وجهه وجلده، ولا أمر بأمر إلا ابتدروه، ولا توضأ إلا كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم، وكان أحدهم لا يحدُّ النظر إليه تبجيلًا له. فقال عروة بن مسعود: والله لقد رأيت الملوك قيصر وكسرى والنجاشي فما يُعَظِّمُ أحدًا منهم أصحابُه كما يُعَظِّمُ أصحابُ محمدٍ محمدًا. ثم رجع إلى أصحابه وأخبرهم بالخبر. وعروة بن مسعود كان أحد الأكابر من قومه. وقيل: إنه المراد بقوله: عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31]. وكانت له اليد البيضاء في تقرير الصلح. وقد أسلم بعد ذلك.
ثم جاء رجل من بني كنانة ورجل آخر يقال له مكرَز، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: هذا رجلٌ فاجر. ثم أقبل رجل يقال له: سهيل بن عمرو، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لقد سهُل لكم أمركم. وسهيل بن عمرو أسلم بعد ذلك.
ثم تكلم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم معه في الصلح، وتم الاتفاق على شروط وهي:
1- أن تضع الحرب أوزارها مدَّةً جاء أنها عشر سنين في رواية أبي داود.
2- رجوع المسلمين وعدم دخولهم مكة وقدكانوا في أدنى الحل في الحديبية قريب الحرم. فاشترط ذلك سهيل بن عمرو وقال: لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضُغْطَةً، أي: قهرًا.
3- الإذن للمسلمين بالاعتمار في العام القابل. وهذا سيأتي في عمرة القضاء إن شاء الله.
4- أن لا يدخل مكة إلا في جُلُبَّان السلاح.
5- ألا يقيم عندهم في العام القابل أكثر من ثلاثة أيام.
6- على أنه لا يأتيه أحد منهم وإن كان مسلماً إلا رده إليهم ، وإن ذهب أحد من المسلمين إليهم لا يردونه إليه. ثم استثنى الله المهاجرات المؤمنات من النساء فإنه نهاهم عن ردِّهن إلى الكفار، وحرمهن على الكفار يومئذ قال تعالى: ﴿فَلَا ترْجِعُوْهُنَّ إِلَى الكُفَّارلَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة:10].
7- على أنه من شاء دخل في عِقْد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن شاء دخل في عِقْد قريش.  
وقد اغتمَّ الصحابة رضي الله عنهم غمًّا شديدًا من عقد الصلح، وقبول شروط الكفار، لأنهم اعتقدوا أن فيه ذلَّةً للمسلمين حيث ينقادون لشروط الكفار، ولأن النصر والعزة للمسلمين والذلة على الكافرين. وكاد يقتل بعضهم بعضًا غمًا، وراجع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك بإلحاح وقال:علام نعطي الدَّنية-النقص- في ديننا الخ .    
* سبب بيعة الرضوان: كان قبل الصلح بعث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عثمان ليخبرهم أنه إنما جاء للعمرة ولم يأت لقتال .ثم أشيع أنه قُتِل، فبايع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصحابَه على الموت، وجاء في رواية أنه (بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ). والروايتان في الصحيحين ومعناهما واحد. وكانت البيعة تحت شجرة هناك سمُرة. والسمرة: شجرة الطلح. وكان بعض أغصانها متدليًا على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فكان يرفع الأغصان معقل بن يسار وهذا من مناقبه رضي الله عنه. وضرب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يده على يده الأخرى لعثمان بن عفان رضي الله عنه رواه البخاري. وكان هذا من أجل مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه.
* أنزل الله في بيعة الرضوان ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18]. وهذه الآية في فضائل أهل بيعة الرضوان. وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«لَا يَدْخُلُ النَّارَ، إِنْ شَاءَ اللهُ، مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ، الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا»
* ثم نقض العهد كفار قريش قبل انتهاء المدة فلهذا غزاهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم غزوة الفتح في رمضان السنة الثامنة من الهجرة.
* و بايع سلمة بن الأكوع ثلاث مرات بأمره صلى الله عليه وسلم في أول البيعة ووسطها وآخرها .وأما الجد بن قيس فإنه لم يبايع نفاقاً .
* قوله سبحانه: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1]. سمى سبحانه صلح الحديبية فتحًا. قال الحافظ ابن كثير في تفسير سورة الفتح (6/379): جَعَلَ ذَلِكَ الصُّلْحَ فَتْحًا بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَمَا آلَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ. اهـ. وكان هذا من أكبر الفتوحات؛ لأن فيه توطئة وتمهيدًا لانتشار الإسلام .
* فلما فرغ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مقاضاة المشركين، أمر أصحابه  بالتحلل، وقال لهم: قوموا فانحروا هديكم واحلقوا رؤوسكم قالها ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة وأخبرها، فقالت: يا رسول الله اخرج وانحر هديك واحلق رأسك فإنهم إن رأوك فعلتَ فعلوا مثلك. فخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتحلل فلما رأى الصحابة ذلك نهضوا وفعلوا كما فعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعادة الصحابة المسابقة في امتثال أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولكن هنا كان لديهم أملٌ في تغيير الحكم.
* فلما رجع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الحديبية أنزل الله عز وجل عليه سورة الفتح بكمالها. وفيه بشارة للصحابة وتسلية وتعزية لهم، وبيان أن صلح الحديبية فتح مبين.
* من فوائد في هذه الغزوة:
- بعض المعجزات للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم منها: أنهم قدموا الحديبية في وقت حر شديد وليس هناك إلا الماء اليسير، فنزع صلى الله عليه وعلى آله وسلم سهمًا من كنانته، ووضعوه بين ماء يسير فجعل الماء يتزايد. وأيضًا وضع يده صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ركوة فيها ماء والركوة إناء صغير فجعل الماء يفور من بين أصابعه. ومن دلائل نبوته صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه بشَّرَ الصحابة أنهم سيأتون البيت ويطوفون به فوقع كما أخبر فقد طافوا في عمرة القضاء. وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ....
- طهارة النخامة.
- تحمُّل المشقة إذا كان فيه مصلحة، وهذا من سياسة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
- ابتداء المسلمين بطلب الصلح إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا [الأنفال: 61].
- الفرج بعد الشدة فبعد الغم الذي أصاب النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحابته جاء ما يسرهم ويقر أعينهم. وفي هذا بيان أن العاقبة للمتقين.
- ومنها أن صلح الحديبية انتصار عظيم وعزة للإسلام، وبشارة أهل صلح الحديبية بالجنة، وكفارة ذنوبهم.
- مشاورة الإمام لرعيته.
- التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتنافس الصحابة في ذلك مما يدل على فضلهم وشدة محبتهم للخير.
- ومن بركة هذه الغزوة أنه حصل فيها أحكام كثيرة وفوائد وآداب وغرس العقيدة الصحيحة في الصحابة رضي الله عنهم. كما في الصحيحين عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالكَوْكَبِ».
- ومن الأحكام: الرخصة للمحرم في حلق رأسه إذا كان به أذى وفيه الفدية .وبالله التوفيق.