جديد المدونة

جديد الرسائل

الجمعة، 11 مارس 2016

(30) سِلْسِلَةُ التَّوْحِيْدِ وَالعَقِيْدَةِ


                 الرحمة المضافة إلى الله سبحانه

الرحمة المضافة إلى الله نوعان: الأول رحمة من إضافة الصفة إلى الموصوف، و منه قوله تعالى عن الملائكة: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً} وقوله سبحانه :{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شيء}[الأعراف:156].

قال ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد : فهذه رحمة الصفة التي وسعت كل شيء .قال :وسَعَتُها عمومُ تعلِّقها بكل شيء، كما أنَّ سعةَ علمه تعالى عموم تعلقه بكلِّ معلوم .

الثاني: رحمة من إضافة المفعول إلى الفاعل، وهذه الرحمة مخلوقة، و منه قوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} .
 وما رواه البخاري(4850)ومسلم (2846)  عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  " تَحَاجَّتِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ:أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتِ الجَنَّةُ: مَا لِي لاَ يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍمِنْهُمَا مِلْؤُهَا، فَأَمَّا النَّارُ: فَلاَ تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلاَ يَظْلِمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَأَمَّا الجَنَّةُ: فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا ".
وفي الصحيحين البخاري (6000) ومسلم  (2753)  عن أبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الجُزْءِيَتَرَاحَمُ الخَلْقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا، خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ).
و يُرَاجع بدائع الفوائد لابن القيم رحمه الله تعالى .
والرحمة هنا مخلوقة وهي الجنة.
الرحمة نوعان
أحدهما :رحمة عامة شاملة لجميع المخلوقين وهي تشمل المؤمن وتشمل الكافر كالأرزاق والليل والنهار والأمطار والعافية وبركات الأرض  والنكاح ورحمة الهواء كما قال تعالى {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
الثاني:رحمة خاصة بالمؤمنين قال تعالى {وَكَان بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيما} .وهذه الرحمة هي التي سعد بها المتقون{ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} .فرحمته بالمؤمنين أعظم لأنها رحمة بهم في أمور دينهم ودنياهم ،والرحمة بهم في آخرتهم ،أما الكافر فهي رحمة في أشياء دنيوية زائلة .
الرحمة من الصفات الفعلية{يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ}.فالله يرحم من يشاء .
والله سبحانه أرحم بالخلق من أمهاتهم . أخرج البخاري(5999) ومسلم(2754) عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ» قُلْنَا: لاَ، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: «لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا».
 مع ما الأُمِّ عليه من شدة الرحمة لولدها لكنها ليست بشيء أمام رحمة الله الذي وسعت رحمته كل شيءِ .
ولا أحد أرحم من الله فرحمته بلغت المنتهى .{فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} .آمنا بأسماءالله وصفاته .
فالرحمة من صفات الله ،والله يحب من عبده أن يكون رحيما ،ومن أسباب رحمة الله للعبد أن يكون رحيمًا .أخرج البخاري(1284) ومسلم (923) في قصة وفاة ابن ابنته عن أسامة بن زيدٍ الحديث وفيه : فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ - قَالَ: حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ كَأَنَّهَا شَنٌّ - فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا؟ فَقَالَ: «هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ».
الرحمة بالصغير ،الرحمة بالفقير ،الرحمة بالجاهل ،الرحمة بالكافر بتعليمه ودعوته ،الرحمة بالأبوين ،الرحمة بالضعيف ،الرحمة بالحيوان. أخرج أحمد في مسنده(24/359)  من طريق مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لَأَذْبَحُ الشَّاةَ، وَأَنَا أَرْحَمُهَا فَقَالَ: " وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللهُ " وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللهُ .والحديث صحيح.
ومن أسماءالله عزوجل : الرحمن الرحيم وهما يتضمنان صفة الرحمة لله .
استفدنا إثبات صفة الرحمة لله عزوجل ،وأن رحمته وسعت كل شيء فكما أن العلم شمل كلَّ شيء فكذلك الرحمة شملت كلَّ شيء ،فعلى المؤمن أن يدعو ربه بالرحمة ،وأن ينتظر دائمًا رحمة ربه ولطفه في جميع أموره وأحواله ،في سرائه وضرائه
 ،ولا يسيء الظن بربه لأن الله هوالرحيم اللطيف البَرُّ الكريم الوهاب الواسع .
قال السعدي رحمه الله في تفسيره :"الرحمن، الرحيم، البر، الكريم، الجواد، الرؤوف، الوهاب".
هذه الأسماء تتقارب معانيها، وتدل كلها على اتصاف الرب بالرحمة، والبر، والجود، والكرم، وعلى سعة رحمته ومواهبه، التي عم بها جميع الوجود، بحسب ما تقتضيه حكمته، وخص المؤمنين منها بالنصيب الأوفر، والحظ الأكمل، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الآية.

والنعم والإحسان، كله من آثار رحمته، وجوده، وكرمه. وخيرات الدنيا والآخرة، كلها من آثار رحمته.