جديد الرسائل

الأربعاء، 24 فبراير 2016

الدرس الخامس عشر من /الفصول من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 16/من شهرجمادى الأولى 1437.

بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الخامس عشر
فصل ـ غزوة أحد
 يشتمل على غزوة أُحد مختصَرة
وهي وقعة امتحن الله عز وجل فيها عباده المؤمنين واختبرهم، وميَّز فيها بين المؤمنين والمنافقين، وذلك أن قريشاً حين قتل اللهُ سراتَهم ببدرٍ، وأصيبُوا بمصيبةٍ لم تكن لهم في حساب، ورَأَس فيهم أبو سفيان بنُ حرب لعدم وجودِ أكابرِهم، وجاء كما ذكرنا إلى أطراف المدينة في غزوة السَّويقِ، ولم ينل ما في نفسه: شرع يجمع قريشاً ويؤلِّب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، فجمَع قريباً من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش، وجاؤوا بنسائِهم لئَلا يفرُّوا، ثم أقبل بهم نحو المدينة، فنزل قريباً من جبلِ أُحد بمكان يقال له: عَينين، وذلك في شوَّال من السنة الثالثة.
******************************
بين يدينا غزوةُ أحد، وكانت هذه المعركة من المعارك العظيمة. وكانت في السنة الثالثة في شوال فبينها وبين غزوة بدرٍ سنةٌ وأقل من شهر، غزوة بدر كانت في رمضان في السنة الثانية. وغزوةُ أُحد في السنة الثالثة في شوال ,قال ابن كثير في البداية والنهاية (4/11) قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ لِلنِّصْفِ من شوال ،وقال قتادة يوم السبت الحادي عَشَرَ مِنْهُ.اهـ.
وقيل غير ذلك . يراجع فتح الباري شرح تبويب حديث (4041) .
وقد ذكر البخاري رحمه الله قبل غزوة أحد خبر بني النضير (7/4028)وقد نبَّه على هذا الحافظ ابن كثير في البداية (4/10)وقال: ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ وَالْبُخَارِيُّ قَبْلَهُ خَبَرَ بَنِي النَّضِيرِ قُبَلَ وَقْعَةِ أُحُدٍ وَالصَّوَابُ إِيرَادُهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَغَازِي، وَبُرْهَانُهُ أَنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ لَيَالِيَ حِصَارِ بَنِي النَّضِيرِ وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ اصْطَبَحَ الْخَمْرَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ إِذْ ذَاكَ حَلَالًا وَإِنَّمَا حُرِّمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَتَبَيَّنَ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ قِصَّةَ بَنِي النَّضِيرِ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وفي مطلع كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله في الفصول يقول (وهي وقعة امتحن الله عز وجل فيها عباده المؤمنين واختبرهم، وميَّز فيها بين المؤمنين والمنافقين) وهذا من الحِكَم التي كانت في غزوة أحد امتحان للمؤمنين وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد(3/ 198)وجوهًا من حِكَمِ ابتلاء وامتحان المؤمنين مِنْهَا:
 اسْتِخْرَاجُ عُبُودِيَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَفِيمَا يُحِبُّونَ وَمَا يَكْرَهُونَ، وَفِي حَالِ ظَفَرِهِمْ وَظَفَرِ أَعْدَائِهِمْ بِهِمْ، فَإِذَا ثَبَتُوا عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ فِيمَا يُحِبُّونَ وَمَا يَكْرَهُونَ فَهُمْ عَبِيدُهُ حَقًّا، وَلَيْسُوا كَمَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنَ السَّرَّاءِ وَالنِّعْمَةِ وَالْعَافِيَةِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَوْ نَصَرَهُمْ دَائِمًا، وَأَظْفَرَهُمْ بِعَدُوِّهِمْ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ، وَجَعَلَ لَهُمُ التَّمْكِينَ وَالْقَهْرَ لِأَعْدَائِهِمْ أَبَدًا لَطَغَتْ نُفُوسُهُمْ، وَشَمَخَتْ وَارْتَفَعَتْ، فَلَوْ بَسَطَ لَهُمُ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ لَكَانُوا فِي الْحَالِ الَّتِي يَكُونُونَ فِيهَا لَوْ بَسَطَ لَهُمُ الرِّزْقَ، فَلَا يُصْلِحُ عِبَادَهُ إلَّا السَّرَّاءُ وَالضَّرَّاءُ، وَالشِّدَّةُ وَالرَّخَاءُ، وَالْقَبْضُ وَالْبَسْطُ، فَهُوَ الْمُدَبِّرُ لِأَمْرِ عِبَادِهِ كَمَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ، إنَّهُ بِهِمْ خَبِيرٌ بَصِيرٌ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ إذَا امْتَحَنَهُمْ بِالْغَلَبَةِ وَالْكَسْرَةِ وَالْهَزِيمَةِ ذَلُّوا وَانْكَسَرُوا وَخَضَعُوا، فَاسْتَوْجَبُوا مِنْهُ الْعِزَّ وَالنَّصْرَ، فَإِنَّ خُلْعَةَ النَّصْرِ إنَّمَا تَكُونُ مَعَ وِلَايَةِ الذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123] . وَقَالَ: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا}  [التَّوْبَةِ: 25] فَهُوَ - سُبْحَانَهُ - إذَا أَرَادَ أَنْ يُعِزَّ عَبْدَهُ وَيَجْبُرَهُ وَيَنْصُرَهُ كَسَرَهُ أَوَّلًا، وَيَكُونُ جَبْرُهُ لَهُ وَنَصْرُهُ عَلَى مِقْدَارِ ذُلِّهِ وَانْكِسَارِهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هَيَّأَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مَنَازِلَ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ لَمْ تَبْلُغْهَا أَعْمَالُهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا بَالِغِيهَا إلَّا بِالْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ، فَقَيَّضَ لَهُمُ الْأَسْبَابَ الَّتِي تُوصِلُهُمْ إِلَيْهَا مِنَ ابْتِلَائِهِ وَامْتِحَانِهِ، كَمَا وَفَّقَهُمْ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ وُصُولِهِمْ إِلَيْهَا.
وَمِنْهَا: أَنَّ النُّفُوسَ تَكْتَسِبُ مِنَ الْعَافِيَةِ الدَّائِمَةِ وَالنَّصْرِ وَالْغِنَى طُغْيَانًا وَرُكُونًا إِلَى الْعَاجِلَةِ، وَذَلِكَ مَرَضٌ يَعُوقُهَا عَنْ جِدِّهَا فِي سَيْرِهَا إِلَى اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا أَرَادَ بِهَا رَبُّهَا وَمَالِكُهَا وَرَاحِمُهَا كَرَامَتَهُ قَيَّضَ لَهَا مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ مَا يَكُونُ دَوَاءً لِذَلِكَ الْمَرَضِ الْعَائِقِ عَنِ السَّيْرِ الْحَثِيثِ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْبَلَاءُ وَالْمِحْنَةُ بِمَنْزِلَةِ الطَّبِيبِ يَسْقِي الْعَلِيلَ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ، وَيَقْطَعُ مِنْهُ الْعُرُوقَ الْمُؤْلِمَةَ لِاسْتِخْرَاجِ الْأَدْوَاءِ مِنْهُ، وَلَوْ تَرَكَهُ لَغَلَبَتْهُ الْأَدْوَاءُ حَتَّى يَكُونَ فِيهَا هَلَاكُهُ.اهـ المراد.

يقول الحافظ ابن كثير (وميَّز فيها بين المؤمنين والمنافقين)
وهذا من جملة الحِكَم ليتميز المنافقون من المؤمنين . قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)﴾ [آل عمران] [آل عمران:140].
 (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي: علم رؤية وعِيَان فالله سبحانه لا يعزب عنه شيء، ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾[سبأ:3]. فالمراد ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي: علم رؤية وعِيَان .
قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (3/200)في سياق الحِكَم التي كانت في غزوة أُحُدٍ قال: ثُمّ ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرَى، وَهِيَ أَنْ يَتَمَيَّزَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَيَعْلَمُهُمْ عِلْمَ رُؤْيَةٍ وَمُشَاهَدَةٍ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مَعْلُومِينَ فِي غَيْبِهِ، وَذَلِكَ الْعِلْمُ الْغَيْبِيُّ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ، وَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى الْمَعْلُومِ إذَا صَارَ مُشَاهَدًا وَاقِعًا فِي الْحِسِّ.اهـ.
فكانت هذه الوقعة امتحان للمؤمنين في إيمانهم وصبرهم ومجاهدتهم وليتميز به المنافقون، وقال سبحانه: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) [آل عمران:166]. وقد تميز المنافقون وظهر أمرُهم فقد انخزَل عبدُ الله بن أُبي بن سلول في أثناء الطريق بثلاثمائة ورجعوا.
وقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ}  [آلِ عِمْرَانَ: 179] .
قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (3/ 197):أَيْ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْتِبَاسِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُنَافِقِينَ حَتَّى يَمِيِّزَ أَهْلَ الْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ كَمَا مَيَّزَهُمْ بِالْمِحْنَةِ يَوْمَ أُحُدٍ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران: 179] الَّذِي يَمِيزُ بِهِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُمْ مُتَمَيِّزُونَ فِي غَيْبِهِ وَعِلْمِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ أَنْ يَمِيزَهُمْ تَمْيِيزًا مَشْهُودًا فَيَقَعُ مَعْلُومُهُ الَّذِي هُوَ غَيْبٌ شَهَادَةً. وَقَوْلُهُ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179] اسْتِدْرَاكٌ لِمَا نَفَاهُ مِنَ اطِّلَاعِ خَلْقِهِ عَلَى الْغَيْبِ سِوَى الرُّسُلِ، فَإِنَّهُ يُطْلِعُهُمْ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ غَيْبِهِ كَمَا قَالَ: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26] [الْجِنِّ: 27] فَحَظُّكُمْ أَنْتُمْ وَسَعَادَتُكُمْ فِي الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ الَّذِي يُطْلِعُ عَلَيْهِ رُسُلَهُ فَإِنْ آمَنْتُمْ بِهِ وَأَيْقَنْتُمْ فَلَكُمْ أَعْظَمُ الْأَجْرِ وَالْكَرَامَةِ.اهـ.
 ثم ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله سبب هذه الغزوة أن قريشًا كانوا متألِّمِين ممَّا حصل لهم من قتل سراتهم ببدر أي: قتل أشرافهم، وما حصل لأبي سفيان في غزوة السويق من رجوعه هاربًا منهزمًا فجمَّع قريشًا ليغزو النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما يزعم .
(فجمع قريباً من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش)
(الحلفاء) حلفاء قريش: وهم الذين تعاقدوا على التناصر والتعاون فيما بينهم.
(والأحابيش) قال الجوهري في الصحاح (3/1000): "وحبشي: جبل بأسفل مكة، يقال منه سمى أحابيش قريش. وذلك أن بني المصطلق وبني الهون بن خزيمة اجتمعوا عنده فحالفوا قريشا وتحالفوا بالله: " إنا ليد على غيرنا، ما سجا ليل، ووضح نهار، وما أرسى حبشي مكانه " فسموا أحابيش قريش باسم الجبل". اهـ.
استفدنا أن الأحابيش: هم بنو المصطلق وبنو الهون بن خزيمة.
(وما أرسى) أي: ثبتَ، أي: ما بقي مكانه.
(وأصيبوا بمصيبة لم تكن لهم في حساب) أي: يوم بدر كان في اعتقادهم أنهم منصورون زين لهم الشيطان أعمالهم، أبو جهل لما قيل له: نرجع، قال نقيم ببدر ثلاثًا ونشرب الخمر وتضرب علينا القيان ويكون لنا هيبة عند العرب.
(ورَأس فيهم أبو سفيان بن حرب)
كان رئيسُ المشركين يوم أحد أبا سفيان.
(لعدم وجود أكابرهم)
كان السبب في رئاسة أبي سفيان لقريش في هذه الغزوة أن أكابرهم قد قُتلوا في غزوة بدر.
(وجاؤوا بنسائهم لئلا يفرُّوا، ثم أقبل بهم نحوَ المدينة)
جاء قريش بنسائهم لئلا يفروا ليكون تثبيتًا لهم بعدم الفرار وذكرذلك أيضا الحافظ في فتح الباري بما نصُّهُ: (أَنَّ قُرَيْشًا خَرَجُوا مَعَهُمْ بِالنِّسَاءِ لأجل الحفيظة والثبات).
( فنزل قريباً من جبل أُحد بمكان يقال له: عينين، وذلك في شوال من السنة الثالثة) .
وسميت هذه الوقعة بغزوة أحد؛ لأنها كانت جَنْبَ أُحد. وأُحد جبل جاء في فضله بعض الأحاديث . قال الإمام البخاري رحمه الله بَابٌ: أُحُدٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ ثم ذكرحديثَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَعَ لَهُ أُحُدٌ فَقَالَ: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي حَرَّمْتُ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا». وهذا على ظاهره . وقد قال بعضهم: المراد أهل جبل أحد، وهذا صرف لظاهر الحديث لغير دليل والله على كل شيء قدير.
******************************
واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة؟ فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروجُ يوم بدر إلى الإشارة بالخروج إليهم، وألحُّوا عليه صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأشارَ عبدُ الله بن أُبَي بن سلول بالمقام بالمدينة، وتابعه على ذلك بعضُ الصحابة، فألحَّ أولئك على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فنهض ودخل بيتَه ولبِس لأْمَتَه وخرج عليهم، وقد انثنَى عزمُ أولئك فقالوا: يا رسول الله، إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل.
فقال: «ما ينبغي لنبي إذا لبس لأْمَتَه أن يضعها حتى يقاتل» وأُتي عليه الصلاة والسلام برجلٍ من بني النجار فصلى عليه، وذلك يوم الجمعة، واستخلفَ على المدينة ابنَ أمِّ مكتوم. وخرج إلى أُحد في ألفٍ، فلما كان ببعض الطريق انخزلَ عبدُ الله بن أُبي في نحوٍ من الثلاثمائة إلى المدينة، فاتَّبَعَهُم عبدُ الله بن عمرو بن حرام والد جابر رضي الله عنهما يوبِّخهم ويحضهم على الرجوع، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع. فلما أبوا عليه رجع عنهم وسبَّهم.
******************************
 (واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة؟)
لما علم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقدوم قريش لغزو المسلمين استشار أصحابه هل يبقى في المدينة أم يخرج إليهم؟
وذكر الحافظ ابن كثيرٍ هنا أنهم انقسموا في المشورة إلى قسمين فبادر بعض الصحابة ممن لم يشهد بدرا وقالوا: نخرج إليهم، وألحوا على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالخروج، وأشار عبد الله بن أبي بن سلول وبعض الصحابة بالمقام بالمدينة ،فإن قدموا إلى المدينة قاتلناهم .
واستنبط من هذا ابنُ القيم رحمه الله في زاد المعاد (3/ 189)فائدة :وذكر أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِذَا طَرَقَهُمْ عَدُوُّهُمْ فِي دِيَارِهِمُ الْخُرُوجُ إِلَيْهِ، بَلْ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَلْزَمُوا دِيَارَهُمْ، وَيُقَاتِلُوهُمْ فِيهَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَنْصَرَ لَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، كَمَا أَشَارَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ أُحُدٍ.اهـ.
ودخل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بيته ولبس لأْمته ـ واللأْمة: السلاح ـ ثم خرج عليهم وقد انثنى عزمُ بعض أولئك ـ أي: ضعُف ـ وقالوا: لعلنا استكرهنا رسولَ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإن أحببتَ أن تمكث في المدينة فافعل فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: « إِنَّهُ لَيْسَ لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ ».وهذا الحديث في مسند أحمد (23/99) من طريق أبي الزبير عن جابر بن عبد الله وأبو الزبير مدلس وقد عنعن ولكن له من الشواهد ما يقويه.
وقد استنبط من هذا ابن القيم في زاد المعاد(3/ 189) حُكْما وأفاد: أَنَّ الْجِهَادَ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ لَبِسَ لَأْمَتَهُ وَشَرَعَ فِي أَسْبَابِهِ، وَتَأَهَّبَ لِلْخُرُوجِ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنِ الْخُرُوجِ حَتَّى يُقَاتِلَ عَدُوَّهُ.
(وأُتي عليه الصلاة والسلام برجل من بني النجار فصلى عليه)
أي: أُتِيَ بجنازة فصلى عليه صلاة الجنازة وذلك يوم الجمعة، فخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم الجمعة من المدينة إلى أُحد في ألف مقاتل.
(فلما كان ببعض الطريق انخزل عبد الله بن أُبي في نحوٍ من الثلاثمائة إلى المدينة فاتَّبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر رضي الله عنهما يوبِّخُهم ويحضُّهم على الرجوع، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع- أي إلى المدينة -. فلما أبوا عليه رجع عنهم وسبَّهم) .
(انخزل) أي: انفرد كما في النهاية(2/ 29) .
فرجعوا إلى المدينة. رجع عبد الله بن أبي بن سلول بثلاثمائة إلى المدينة فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا سبعمائة، فاتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر رضي الله عنهما وحثهم على الرجوع فاحتجوا وقالوا: لو نعلم قتالًا لاتبعناكم أي لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع كما قال الله عنهم: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:167]. كذَّبهم الله عز وجل في قولهم: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْلأن أمر القتال في هذا الحال ظاهر بين، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (5/350)عقب هذه الآية قُلْتُ: يَعْنِي، أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ. وَذَلِكَ لِأَنَّ وُقُوعَ الْقِتَالِ أَمْرُهُ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ وَاضِحٌ، لَا خَفَاءَ وَلَا شَكَّ فِيهِ .اهـ.
وأيضًا مما كان السبب في رجوع عبد الله بن أُبي بن سَلول رئيس المنافقين أنه غضب، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما أخذ بمشورته.
ورجوعُهم في الأصل هو بسبب ذنوبهم وهذا من شؤمِ الذنب قال تعالى {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } .
******************************
واستقلَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمن بقي معه حتى نزلَ شعبَ أُحد في عُدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهرَه إلى أُحد، ونهى الناسَ عن القتال حتى يأمرَهم، فلما أصبح تعبَّأ عليه الصلاةُ والسلام للقتال في أصحابه، وكان فيهم خمسون فارساً، واستعمل على الرُّماة ـ وكانوا خمسين ـ عبدَ الله بن جبير الأوسي، وأمره وأصحابَه أن لا يتغيَّروا من مكانهم، وأن يحفظوا ظهورَ المسلمين أن يؤتَوا من قبَلِهم.
وظاهرَ صلى الله عليه وسلم يومئذٍ بين درعين. وأعطى اللواءَ مصعبَ بن عمير، أخا بني عبد الدار، وجعل على إحدى المجنَّبَتين الزبير بن العوام، وعلى المجنَّبَة الأخرى المنذر بن عمرو المُعْنِق لِيَمُوتَ.
واستعرض الشبابَ يومئذ، فأجاز بعضَهم وردَّ آخرين، فكان ممن أجاز سمرةَ بن جندب، ورافع بن خديج، ولهما خمس عشرة سنة.
وكان ممن ردَّ يومئذ أسامةَ بن زيد بن حارثة، وأسيد بن ظُهير، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وعَرابة بن أوس، وعمرو بن حزم. ثم أجازهم يوم الخندق.
******************************
 (واستقلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن بقي معه حتى نزل شعب أحد في عُدوة الوادي إلى الجبل)
ثم مضى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمن بقي معه حتى نزل شعب أحد في عدوة الوادي أي :جانبه كما في مجمل اللغة لابن فارس (ص 653) .
فرتَّب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصحابه ورتَّب أمورَ الغزوة.
قال: (ونهى الناس عن القتال حتى يأمرَهم)
قال: لا تقاتلوا حتى آمركم  .
(فلما أصبح تعبَّأ عليه الصلاة والسلام للقتال في أصحابه)
تعبأ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم للقتال أي: استعد.
(وكان فيهم خمسون فارساً، واستعمل على الرماة ـ وكانوا خمسين ـ عبد الله بن جبير الأوسي، وأمَرَه وأصحابَه أن لا يتغيروا من مكانهم، وأن يحفظوا ظهور المسلمين أن يؤتوا من قبلهم)
تعقب الحافظ ابن حجر رحمه الله تحت رقم (4043) هذا القول في عدد الفُرْسان  فقال: "قَوْلُهُ الرُّمَاةُ فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلًا وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَوَقَعَ فِي الْهَدْيِ أَنَّ الْخَمْسِينَ عَدَدُ الْفَرَسَانِ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ غَلَطٌ بَيِّنٌ وَقَدْ جَزَمَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فِي أُحُدٍ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْلِ وَوَقَعَ عِنْدَ الْوَاقِدِيِّ كَانَ مَعَهُمْ فَرَسٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَرَسٌ لِأَبِي بُرْدَةَ" هذا ما ذكره الحافظ في الفتح.
الواقدي: محمد بن عمر متروك.
وقد كان عدد الرماة خمسين رجلًا وأمَّر عليهم عبد الله بن جبيرالأوسي رضي الله عنه واستشهد في غزوة أحد.
(وأمره وأصحابه أن لا يتغيَّروا من مكانهم، وأن يحفظوا ظهور المسلمين أن يؤتوا من قِبَلِهِم)
أي: من ورائهم.
وهذا في صحيح البخاري (4043) عَنِ البَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَقِينَا المُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ، وَأَجْلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشًا مِنَ الرُّمَاةِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ، وَقَالَ: «لاَ تَبْرَحُوا، إِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلاَ تَبْرَحُوا، وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلاَ تُعِينُونَا» فَلَمَّا لَقِينَا هَرَبُوا حَتَّى رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ فِي الجَبَلِ، رَفَعْنَ عَنْ سُوقِهِنَّ، قَدْ بَدَتْ خَلاَخِلُهُنَّ، فَأَخَذُوا يَقُولُونَ: الغَنِيمَةَ الغَنِيمَةَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لاَ تَبْرَحُوا، فَأَبَوْا، فَلَمَّا أَبَوْا صُرِفَ وُجُوهُهُمْ، فَأُصِيبَ سَبْعُونَ قَتِيلًا، وَأَشْرَفَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: أَفِي القَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ فَقَالَ: «لاَ تُجِيبُوهُ» فَقَالَ: أَفِي القَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ قَالَ: «لاَ تُجِيبُوهُ» فَقَالَ: أَفِي القَوْمِ ابْنُ الخَطَّابِ؟ فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلاَءِ قُتِلُوا، فَلَوْ كَانُوا أَحْيَاءً لَأَجَابُوا، فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ نَفْسَهُ، فَقَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْكَ مَا يُخْزِيكَ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: اعْلُ هُبَلُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَجِيبُوهُ» قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: " قُولُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ " قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا العُزَّى وَلاَ عُزَّى لَكُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَجِيبُوهُ» قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: «قُولُوا اللَّهُ مَوْلاَنَا، وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ» قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالحَرْبُ سِجَالٌ، وَتَجِدُونَ مُثْلَةً، لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي) .
  (إِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلاَ تَبْرَحُوا، وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلاَ تُعِينُونَا) أي: أمرهم بالبقاء في مكانهم على أيِّ حال. (يَشْتَدِدْنَ فِي الجَبَلِ) أي: صعودًا.
انهزم المشركون في أول الأمر وكان نساء كفار قريش يشتددن في الجبل ـ يعني صعودًا ـ ويرفعن عن سُوقهن حتى بدت خلاخِلُهن فقال الصحابة لما رأوا المشركون انهزموا، الغنيمةَ ، الغنيمةَ ، وانفضوا إلى الغنيمة. فوجد المشركون خلَّة ـ أي: فرجة ـ وقد كان عبد الله بن جبير يقول لهم: لا تفعلوا. وصرخ الشيطان  بعد ذلك : (أي عباد الله أخراكم ) .
وقول أبي سفيان ( وَالحَرْبُ سِجَالٌ) كان هذا في اعتقاد أبي سفيان .
وثبت في البخاري (2804) ومسلم (1773)عن عبداللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟، فَزَعَمْتَ «أَنَّ الحَرْبَ سِجَالٌ وَدُوَلٌ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ العَاقِبَةُ».
وقد أقر الله عز وجل  ذلك وقال: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140].
أبو سفيان يقول: (يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالحَرْبُ سِجَالٌ، وَتَجِدُونَ مُثْلَةً، لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي) يقول أبوسفيان: هذا اليوم بيوم بدر، غزوة أحد مقابل يوم بدر لأن المسلمين في غزوة بدرٍ قتلوا سبعين من المشركين وأسروا سبعين .
(وظاهر صلى الله عليه وسلم يومئذٍ بين درعين)
(وظاهر) قال ابن الأثير في النهاية(3/166): (أَيْ: جَمَعَ ولَبِسَ إِحْدَاهُمَا فوقَ الأخْرَى. وكأنَّه مِنَ التَّظَاهُر: التَّعَاوُنِ والتَّساعُد) أي: لبس درعًا على درع.
(وأعطى اللواء مصعب بن عمير، أخا بني عبد الدار)
مصعب بن عمير من السابقين الأولين، واستُشهد في غزوة أحد، ولم يجدوا له الكفن التام. أخرج البخاري (4082) و مسلم (940) عَنْ خَبَّابٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ، فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى، أَوْ ذَهَبَ، لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، كَانَ مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ يَتْرُكْ إِلَّا نَمِرَةً، كُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاَهُ، وَإِذَا غُطِّيَ بِهَا رِجْلاَهُ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ، وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الإِذْخِرَ» أَوْ قَالَ: «أَلْقُوا عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الإِذْخِرِ» وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا .

 (وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام)
المجنبتان: الميمنة والميسرة.
وهذا من سياسة الحرب.
 والزبير بن العوام من العشرة المبشرين بالجنة .
والعشرة المبشرون بالجنة مجموعون في قول الشاعر
للمصطفى خيرُ صحْبٍ نصَّ أنهمُ          
في جنةِ الخلدِ نصًا زادهم شرفًا
هم طلحة وابن عوفٍ والزبير مع  
       أبي عبيدة والسعدين والخُلفا
الزبيرحواري رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في البخاري (2997، 7261)، مسلم (2415)عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ: نَدَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ يَوْمَ الخَنْدَقِ، فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ نَدَبَهُمْ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ نَدَبَهُمْ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ» .قَالَ سُفْيَانُ: الحَوَارِيُّ: النَّاصِرُ .

وأخرج الإمامُ أحمد في مسنده(2/99)من طريق زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: اسْتَأْذَنَ ابْنُ جُرْمُوزٍ عَلَى عَلِيٍّ وَأَنَا عِنْدَهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: بَشِّرْ قَاتِلَ ابْنِ صَفِيَّةَ بِالنَّارِ، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ ".
وصفية هي بنت عبدالمطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وتقدم ذكرعمات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أول الفصول وأن صفية أسلمت رضي الله عنها .
وابن جرموز قاتل الزبير بن العوام : هوعمرو بن جرموز.
قتله وقد كان راجعًا يوم الجمل تاركا لقتال علي  أخرج ابن سعد في الطبقات (3/81)عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَتَى الزُّبَيْرَ فَقَالَ: أَيْنَ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَيْثُ تُقَاتِلُ بِسَيْفِكِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ قَالَ فَرَجَعَ الزُّبَيْرُ فَلَقِيَهُ ابْنُ جُرْمُوزٍ فَقَتَلَهُ. فَأَتَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَلِيًّا فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ قَاتَلُ ابْنِ صَفِيَّةَ؟ قَالَ عَلِيٌّ: إِلَى النَّارِ.
وإسناده حسن من أجل هلال بن خباب أحد رواة إسناده فإنه صدوق .
وهذا دليلٌ على اعتراف أميرالمؤمنين علي ابن أبي طالب بفضل الزبير رضي الله عنهما.
وقد أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق ترجمة الزبير واللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (8/ 1493) والبيهقي في الاعتقاد (374)من طريق شُعْبَةَ , عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ الشَّعْبِيَّ، يَقُولُ: أَدْرَكْتُ خَمْسَمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَكْثَرَ كُلُّهُمْ يَقُولُ: عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ فِي الْجَنَّةِ.
وهذا أثرٌ حسن . مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الغداني بضم المعجمة البصري الأشل صدوق يهم .
علَّق الذهبي رحمه الله على الأثر وقال قُلْتُ: لأَنَّهُم مِنَ العَشْرَةِ المَشْهُوْدِ لَهُم بِالجَنَّةِ، وَمِنَ البَدْرِيِّيْنَ، وَمِنْ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، وَمِنَ السَّابِقِيْنَ الأَوَّلِيْنَ الَّذِيْنَ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ رَضِيَ عَنْهُم وَرَضُوْا عَنْهُ، وَلأَنَّ الأَرْبَعَةَ قُتِلُوا وَرُزِقُوا الشَّهَادَةَ، فَنَحْنُ مُحِبُّوْنَ لَهُم، بَاغِضُوْنَ لِلأَرْبَعَةِ الَّذِيْنَ قَتَلُوا الأَرْبَعَةَ.(سير أعلام النبلاء 1/ 62) .
وقد جاء أنه ندم ابن جرموزعلى قتله لحواري رسول الله .
 قال الذهبي رحمه الله في السير (1/ 64)قُلْتُ: أَكَلَ المُعَثَّرُ يَدَيْهِ نَدَماً عَلَى قَتْلِهِ، وَاسْتَغْفَرَ لاَ كَقَاتِلِ طَلْحَةَ، وَقَاتِلِ عُثْمَانَ، وَقَاتِلِ عَلِيٍّ اهـ.

(وعلى المجنبة الأخرى المنذر بن عمرو المُعْنِق لِيَموت)

المنذر بن عمرو المُعْنِق لِيَموت :هو الساعدي قال الحافظ في الإصابة : قال ابن أبي خيثمة: سمعت سعد بن عبد الحميد بن جعفر يقول: المنذر بن عمرو عَقَبِي بدْري نقِيب. استُشهد يوم بئر معونة، وكذا قال ابن إسحاق، وثبت أنه استشهد يوم بئر معونة في صحيح البخاريّ.اهـ .
أي أنه شهد العقبة وبدرا  وكان أحدالنقباء .
وهوممن أبلى بلاءً حسنًا في هذه الغزوة.
(المعنِق ليموتَ) لقب للمنذر بن عمرو أي: المسرع إلى الشهادة.
(واستعرض الشباب يومئذ، فأجاز بعضهم ورد آخرين)
أي: طلب عرض الشباب لينظر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الذي يناسب دخوله الغزو ، وقد قبل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعضًا منهم ورد آخرين. وممن ردَّ في هذه الغزوة عبد الله بن عمر وحديثه متفق عليه البخاري (2664)، مسلم (1868). عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزْنِي ثُمَّ عَرَضَنِي يَوْمَ الخَنْدَقِ، وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَجَازَنِي»، قَالَ نَافِعٌ فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ وَهُوَ خَلِيفَةٌ، فَحَدَّثْتُهُ هَذَا الحَدِيثَ فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَفْرِضُوا لِمَنْ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ» .
وقوله (وعرابة بن أوس )في بعض نسخ الفصول (وغَرابة ) بالغين المعجمة والصواب عرابة كما في الإصابة .
******************************
وتعبَّأت قريش أيضاً وهم في ثلاثة آلاف كما ذكرنا، فيهم مائتا فارس، فجعلوا على ميمنتِهم خالدَ بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمةَ بن أبي جهل.
وكان أول من برز من المشركين يومئذ أبو عامر الراهب، واسمه عبد عمرو بن صيفي.
وكان رأسَ الأوس في الجاهلية، وكان مترهِّباً، فلما جاء الإسلام خُذِل فلم يدخل فيه، وجاهرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة، فدعا عليه صلى الله عليه وسلم، فخرج من المدينة، وذهب إلى قريش يؤلِّبُهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضهم على قتاله مع ما هم منطَوون على رسولِ الله وأصحابه من الحَنَق، ووعدَ المشركين أنه يستميل لهم قومه من الأوس يوم اللقاء حتى يرجعوا إليه فلما أقبل في عُبدان أهل مكة والأحابيش تعرَّف إلى قومه فقالوا له: لا أنعم الله لك عيناً يا فاسق.
فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ثم قاتل المسلمين قتالاً شديداً.
******************************
(وتعبأت قريش أيضاً وهم في ثلاثة آلاف كما ذكرنا، فيهم مائتا فارس)
يذكر ابن كثير رحمه الله استعداد قريش لمقاتلة المسلمين، وترتيبهم لأمور الغزوة.
(فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد)
خالد بن الوليد رضي الله عنه شارك في قتال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الغزوات حتى أسلم رضي الله عنه،قال الحافظ في الإصابة (2/215): " ثم أسلم في سنة سبع بعد خيبر، وقيل قبلها، ووهم من زعم أنه أسلم سنة خمس". اهـ.
وقد لقَّبه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأنه سيف من سيوف الله، وهذا ثابت في صحيح البخاري (4262) عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى زَيْدًا، وَجَعْفَرًا، وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ، فَقَالَ: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ» وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ: «حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ، حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ».
(وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل)
عكرمة بن أبي جهل "كان كأبيه من أشدّ الناس على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، ثم أسلم عكرمة عام الفتح " كما في الإصابة (4/ 443).
(وكان أول من برز من المشركين يومئذ)
(برز) وفي نسخة ( بدَرَ) .
(أبو عامر الراهب، واسمه عبد عمرو بن صيفي)
أبو عامر الراهب من أعداء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(وكان رأْسَ الأوس في الجاهلية، وكان مترهباً، فلما جاء الإسلام خُذل فلم يدخل فيه، وجاهر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة)

كان كبيرًا في الأوس ومتعبدًا فلما جاء الإسلام خُذل حسدًا، وعنادًا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قال الحافظ في الإصابة في ترجمة ولده حنظلة : كان أبوه في الجاهليّة يعرف بالراهب، واسمه عمرو، ويقال عبد عمرو، وكان يذكر البعث ودين الحنيفية، فلما بعث النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم عانده وحسده.، وخرج عن المدينة وشهد مع قريش وقعة أحد، ثم رجع قريش إلى مكة، ثم خرج إلى الروم فمات بها سنة تسع، ويقال سنة عشر، وأعطى هرقل ميراثه لكنانة بن عبد ياليل الثقفيّ. وأسلم ابنه حنظلة فحسن إسلامه، واستشهد بأحد، لا يختلف أصحاب المغازي في ذلك.اهـ .
 وذكر هُنا في الفصول الحافظ ابن كثير رحمه الله سيرة سيئة له في عداوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وكان أبو عامر وعد المشركين أن يستميل قومه الأوس في مساعدة قريش لقتال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلما جاء إليهم ردوا عليه.
(فقالوا له: لا أنعم الله لك عيناً يا فاسق. فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ثم قاتل المسلمين قتالاً شديداً).
يقول : (لقد أصاب قومي بعدي شر) لأنهم ما قبلوا كلامه. ثم دخل في المعركة، وقاتل قتالًا شديدًا، ونجا وما قُتل؛ لأنه كما تقدم ذهب إلى الروم ومات هناك.
وله ولدٌ مشهورٌ بغسيل الملائكة وهو حنظلة الغسيل بن أبي عامر، قاتل في غزوة أحد،وأبلى بلاءً حسنًا، واستشهد فيها رضي الله عنه. وجاء في بعض الأحاديث أنه غسلته الملائكة وأنه كان جُنبًا  وله بعض الطرق يراجع أحكام الجنائز للشيخ الألباني رحمه الله 56 .ومن  ثَمَّ قيل له حنظلة الغسيل.
******************************
وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ (أمِت أمِت) وأبلى يومئذ أبو دجانة سماك بن خرشة، وحمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسد الله وأسد رسوله رضي الله عنه وأرضاه وكذا علي بن أبي طالب، وجماعة من الأنصار منهم: النضر بن أنس، وسعد بن الربيع رضي الله عنهم أجمعين.
وكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار، فانهزموا راجعين حتى وصلوا إلى نسائهم. فلما رأى ذلك أصحابُ عبد الله بن جبير قالوا: يا قوم، الغنيمة الغنيمة.
فذكَّرهم عبدُ الله بن جبير تقديمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم في ذلك، فظنوا أن ليس للمشركين رجعة، وأنهم لا تقوم لهم قائمة بعد ذلك، فذهبوا في طلب الغنيمة، وكرَّ الفُرسان من المشركين فوجدوا تلك الفُرْجة قد خلت من الرماة فجازوها وتمكنوا، وأقبل آخرهم، فكان ما أراد الله تعالى كونه، فاستُشهِد من أكرم الله بالشهادة من المؤمنين، فقُتِل جماعةٌ من أفاضل الصحابة، وتولَّى أكثرُهم.
******************************
(وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ (أمت أمت)
يعني في الغزوة. والشعار: العلامة ليعرف بعضهم بعضًا ببعض الكلمات ليتميز لهم أصحابهم من أعدائهم، وهذا من سياسة الحروب أن يجعلوا لهم شعارات يميزون بها فيكف بها بعضهم عن بعض.
(وأبلى يومئذ أبو دجانة سماك بن خرشة، وحمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسد الله وأسد رسوله رضي الله عنه وأرضاه وكذا علي بن أبي طالب، وجماعة من الأنصار منهم: النضر بن أنس، وسعد بن الربيع رضي الله عنهم أجمعين).
هؤلاء الذين ذكرهم ابن كثير رحمه الله ممن أَبْلوا بلاء حسنًا في هذه الغزوة ،وأبو دجانة رضي الله عنه قصته في صحيح مسلم (2770) عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ سَيْفًا يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: «مَنْ يَأْخُذُ مِنِّي هَذَا؟» فَبَسَطُوا أَيْدِيَهُمْ، كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ يَقُولُ: أَنَا، أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ؟» قَالَ فَأَحْجَمَ الْقَوْمُ. فَقَالَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ أَبُو دُجَانَةَ: أَنَا آخُذُهُ بِحَقِّهِ. قَالَ: فَأَخَذَهُ فَفَلَقَ بِهِ هَامَ الْمُشْرِكِينَ" أي: شق به رؤوس المشركين.
 (وحمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسد الله وأسد رسوله رضي الله عنه وأرضاه)
هذا لقب حمزة وهوسيد الشهداء ،خالد بن الوليد سيف من سيوف الله ، المنذر بن عمرو لقبه المعنق ليموت ، حنظلة ابنُ أبي عامر لقبه حنظلة الغسيل . عثمان بن عثمان، وهو شماس بن عثمان المخزومي، سُمِّي بشمَّاس لحُسْنِ وجهه .

 (وكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار)
كان النصر في أول النهار للمسلمين، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ[آل عمران:152]. ﴿وَعْدَهُ أي: ما وعد به من نصره لأوليائه، فصدق الله وعده، في أول النهار، ولكن لما حصل من بعض الصحابة المخالفة لأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان من أمر الله ما كان ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ[آل عمران:152].  ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْأي: تستأصلونهم بالقتل. ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ.
الفشَل والفَشَلُ: ضعف مع جبن كما في مفردات القرآن،الخلاف، المعاصي هذه الثلاثة الأمور شؤم ،ومن أسباب الهزيمة.
 (فانهزموا راجعين حتى وصلوا إلى نسائهم)
أي:انهزم المشركون.
(فلما رأى ذلك أصحابُ عبد الله بن جبير قالوا: يا قوم، الغنيمة الغنيمة)
تقدم ذكرُالحديث الوارد فيه.
(وكرَّ الفرسان من المشركين فوجدوا تلك الفرجة قد خلت من الرماة فجاوزوها وتمكنوا وأقبل آخرهم، فكان ما أراد الله تعالى كونَه)
(كر) أي: رجع، رجعوا بعد ذلك. رأوا لهم فرجة لأنه خلا المكان من الرماة الذي قد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جعلهم فيه ليحرسوا المسلمين وتمكَّن المشركون بعد أن كانوا قد هُزِموا  أخرج البخاري(3290)عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " لَمَّا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ هُزِمَ المُشْرِكُونَ، فَصَاحَ إِبْلِيسُ: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ أُخْرَاكُمْ، فَرَجَعَتْ أُولاَهُمْ فَاجْتَلَدَتْ هِيَ وَأُخْرَاهُمْ، فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ اليَمَانِ، فَقَالَ: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ أَبِي أَبِي، فَوَاللَّهِ مَا احْتَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ، فَقَالَ: حُذَيْفَةُ غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ، قَالَ عُرْوَةُ فَمَا زَالَتْ فِي حُذَيْفَةَ مِنْهُ بَقِيَّةُ خَيْرٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ " .
قال الحافظ في فتح الباري(4065) : (أُخْرَاكُمْ)أَيِ احْتَرِزُوا مِنْ جِهَةِ أُخْرَاكُمْ وَهِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ لِمَنْ يَخْشَى أَنْ يُؤْتَى عِنْدَ الْقِتَالِ مِنْ وَرَائِهِ وَكَانَ ذَلِكَ لَمَّا تَرَكَ الرُّمَاةُ مَكَانَهُمْ وَدَخَلُوا يَنْتَهِبُونَ عَسْكَرَ الْمُشْرِكِينَ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ .
قال : قَوْلُهُ (فَرَجَعَتْ أُولَاهُمْ فَاجْتَلَدَتْ هِيَ وَأُخْرَاهُمْ) أَيْ: وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مِنَ الْعَدو وَقد تقدم بَيَان ذَلِك من حَدِيث ابن عَبَّاسٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَأَنَّهُمْ لَمَّا رَجَعُوا اخْتَلَطُوا بِالْمُشْرِكِينَ وَالْتَبَسَ الْعَسْكَرَانِ فَلَمْ يَتَمَيَّزُوا فَوَقَعَ الْقَتْلُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ .اهـ.
(فاستشهد من أكرم الله بالشهادة من المؤمنين، فقتل جماعة من أفاضل الصحابة، وتولى أكثرهم)
الشهادة كرامة قال سبحانه وتعالى: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ[آل عمران:140]
(وتولى أكثرهم) ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري(4064) شرح حديث أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجَوِّبٌ عَلَيْهِ بِحَجَفَةٍ لَهُ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ النَّزْعِ، كَسَرَ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا الحديث .
  قال قوله (انْهَزَمَ النَّاسُ )أَيْ بَعْضُهُمْ أَوْ أَطْلَقَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ تَفَرُّقِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
قال :وَالْوَاقِعُ أَنَّهُمْ صَارُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ :
فِرْقَةٌ اسْتَمَرُّوا فِي الْهَزِيمَةِ إِلَى قُرْبِ الْمَدِينَةِ فَمَا رَجَعُوا حَتَّى انْفَضَّ الْقِتَالُ وَهُمْ قَلِيلٌ وَهُمُ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ. وَفِرْقَةٌ صَارُوا حَيَارَى لَمَّا سَمِعُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُتِلَ فَصَارَ غَايَةُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ أَنْ يَذُبَّ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ يَسْتَمِرَّ عَلَى بَصِيرَتِهِ فِي الْقِتَالِ إِلَى أَنْ يُقْتَلَ وَهُمْ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ .
وَفِرْقَةٌ ثَبَتَتْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
ثُمَّ تَرَاجَعَ إِلَيْهِ الْقِسْمُ الثَّانِي شَيْئًا فَشَيْئًا لَمَّا عَرَفُوا أَنَّهُ حَيٌّ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي الْحَدِيثِ السَّابِعِ .
قال :وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُخْتَلَفِ الْأَخْبَارِ فِي عِدَّةِ مَنْ بَقِيَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
******************************
وخلَصَ المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجُرح في وجهه الكريم وكُسرت رَباعيته اليمنى السفلى بحجر، وهُشِمت البيضة على رأسه المقدَّس، ورَشَقَه المشركون بالحجارة حتى وقع لشقِّه، وسقط في حفرة من الحُفَر التي كان أبو عامرٍ الفاسق حفرها يكيد بها المسلمين، فأخذ عليٌّ بيده، واحتضنه طلحةُ بن عبيد الله. وكان الذي تولى أذى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن قمِئة وعتبة بن أبي وقاص، وقيل: إن عبد الله بن شهاب الزهري أبا جد محمد بن مسلم بن شهاب هو الذي شجَّه صلى الله عليه وسلم.
******************************
قوله (وخلص المشركون) قال ابن الأثير في النهاية (2/ 61): " يُقَالُ خَلَصَ فُلان إِلَى فُلان: أَيْ وَصَلَ إليه". اهـ.
وقد ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله هاهنا بعض ما حصل للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الأذى.
(فجرح في وجهه الكريم وكسرت رَباعيته اليمنى السفلى بحجر)
الرباعية: السن الذي يلي الثنية ،وهو بين الثنية والناب.
(وهُشِمت البيضة)قال في النهاية: الْهَشْمُ: الكَسْر. والْهَشِيمُ مِنَ النباتِ: اليابِسُ المُتَكَسِّر. والبَيْضَة: الخُوذَة.
وقال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (6/ 97): "(الْبَيْضَةِ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَهِيَ مَا يُلْبَسُ فِي الرَّأْسِ مِنْ آلَاتِ السِّلَاحِ" .
وقد بوَّب الإمام البخاري بَابُ مَا أَصَابَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الجِرَاحِ يَوْمَ أُحُدٍ
ثم ذكر (4073)حديث أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوا بِنَبِيِّهِ، يُشِيرُ إِلَى رَبَاعِيَتِهِ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
وبعده (4074) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ دَمَّوْا وَجْهَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
وحديث سهل بن سَعْدٍ، وَهُوَ يُسْأَلُ عَنْ جُرْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ مَنْ كَانَ يَغْسِلُ جُرْحَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ كَانَ يَسْكُبُ المَاءَ، وَبِمَا دُووِيَ، قَالَ: كَانَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلاَمُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَغْسِلُهُ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَسْكُبُ المَاءَ بِالْمِجَنِّ، فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ أَنَّ المَاءَ لاَ يَزِيدُ الدَّمَ إِلَّا كَثْرَةً، أَخَذَتْ قِطْعَةً مِنْ حَصِيرٍ، فَأَحْرَقَتْهَا وَأَلْصَقَتْهَا، فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَئِذٍ، وَجُرِحَ وَجْهُهُ، وَكُسِرَتِ البَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ ".
وفي صحيح مسلم (1791) عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ فِي رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدَّمَ عَنْهُ، وَيَقُولُ: «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ؟» ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] .
قال الحافظ ابنُ حجر في فتح الباري(4073)وَمَجْمُوعُ مَا ذُكِرَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّهُ شُجَّ وَجْهُهُ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَجُرِحَتْ وَجْنَتُهُ وَشَفَتُهُ السُّفْلَى من بَاطِنهَا ووهَى منكبُه من ضَرْبَة ابن قَمِئَةَ وَجُحِشَتْ رُكْبَتُهُ .
 (وسقط في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق حفرها يكيد بها المسلمين)
أي سقط صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(فأخذ علي بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله)
أي علي بن أبي طالب. وعلي وطلحة كلاهما من العشرة المبشرين بالجنة .وممن أبلى بلاءً حسنًا في غزوة أُحُد رضي الله عنهما.
******************************
وقتل مصعب بن عمير رضي الله عنه بين يديه، فدفع صلى الله عليه وسلم اللواء إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه صلى الله عليه وسلم، فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وعضَّ عليهما حتى سقطت ثنيتاه، فكان الهتم يزيِّنه، وامتصَّ مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدمَ من جرحه صلى الله عليه وسلم.
وأدرك المشركون النبيَّ صلى الله عليه وسلم فحال دونه نفر من المسلمين نحوٌ من عشرة فقُتلوا، ثم جالدهم طلحة حتى أجْهَضَهم عنه صلى الله عليه وسلم، وترَّس أبو دجانة سماك بن خرشة عليه صلى الله عليه وسلم بظهره، والنبلُ يقع فيه، وهو لا يتحرك رضي الله عنه، ورمى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يومئذ رمياً مسدداً منكيًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارم فداك أبي وأمي). وأصيبت يومئذٍ عينُ قتادة بن النعمان الظفري، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فردها عليه الصلاة والسلام بيده الكريمة، فكانت أصحَّ عينيه وأحسنَهما.
وصرخ الشيطان ـ لعنه الله ـ بأعلى صوته: إن محمداً قد قُتل، ووقع ذلك في قلوب كثير من المسلمين، وتولى أكثرُهم، وكان أمرُ الله.
******************************
 (سقطت ثنيتاه) الثنيَّة من الأسنان في مقدمة الفم ،التي تلي الرَّباعية .
(فكان الهتم يزينه)قال الجوهري في الصحاح : الهَتْمُ: كسرُ الثنايا من أصلها. يقال: ضربَهُ فهَتَمَ فاهُ، إذا ألقى مقدَّم أسنانه.
كان الهتم -وهو سقوطُ ثناياه -يزيِّنه؛ لأنه من آثار غزوة أحد، ومن آثار الدفاع عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من جرحه صلى الله عليه وسلم)
وهذا يدل على أنه حضر غزوة أحد مالك بن سنان رضي الله عنه.
(وأدرك المشركون النبي صلى الله عليه وسلم فحال دونه نفر من المسلمين نحوٌ من عشرة فقتلوا)
أي: وصلوا إليه؛ لأن المسلمين قلة، وحمى النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم من المشركين نحوعشرة من أصحابه.
وقتلوا كلهم  رضي الله عنهم.
(ثم جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه صلى الله عليه وسلم)
أجهضهم أي: أبعدهم.وطلحة بن عبيد الله من الذين لم يفرُّوا وشُلَّت يده في غزوة أحد ،ففي صحيح البخاري (4063) عَنْ قَيْسٍ وهو ابن أبي حازم، قَالَ: «رَأَيْتُ يَدَ طَلْحَةَ شَلَّاءَ وَقَى بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ».
(فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارم فداك أبي وأمي))
وهذا متفق عليه البخاري(4059) ومسلم (2411) عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ أَبَوَيْهِ لِأَحَدٍ إِلَّا لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ: «يَا سَعْدُ ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي».
وسعد بن أبي وقاص من الذين ثبتوا ولم يفروا .
وما جمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأحد أبويه في تلك الغزوة إلا لسعد بن أبي وقاص. قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم  شرح حديث علي : فِيهِ جَوَازُ التَّفْدِيَةِ بِالْأَبَوَيْنِ وَبِهِ قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ.
وَكَرِهَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا  .
وَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ فِي التَّفْدِيَةِ بِالْمُسْلِمِ مِنْ أَبَوَيْهِ وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقِيقَةُ فِدَاءٍ .وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ وَأَلْطَافٌ وَإِعْلَامٌ بِمَحَبَّتِهِ لَهُ وَمَنْزِلَتِهِ وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِالتَّفْدِيَةِ مُطْلَقًا. اهـ.

( وتولى أكثرُهم)
وتقدم ما ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أنهم كانوا على ثلاثِ فرق وَأن أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ صاروا حيارى لَمَّا سمعوا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قُتِل . ثم بعد ذلك تراجع هذا القسم إليه شيئا فشيئًا لمَّا عرفوا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حي . والله المستعان.
******************************
ومر أنس بن النضر بقوم من المسلمين قد ألقوا بأيديهم، فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا قُتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تصنعون في الحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه، ثم استقبل الناس، ولقي سعد بن معاذ فقال: يا سعد، والله إني لأجد ريح الجنة من قِبل أحد، فقاتل حتى قتل رضي الله عنه، ووجدت به سبعون ضربة.
وجرح يومئذ عبد الرحمن بن عوف نحوا من عشرين جراحةً، بعضها في رجله، فعرج منها حتى مات رضي الله عنه.
******************************
(ومر أنس بن النضر بقوم من المسلمين قد ألقوا بأيديهم، فقال: ما تنتظرون؟)
هذا تثبيت من أنس بن النضرلمن كان متوقفا عن القتال، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد قُتِل فثبَّتهم. وفي المواقف الشديدة يُحتاج إلى التثبيت والتصبير فحثَّهم على القدوم إلى القتال، وقد أبلى بلاءً حسنًا رضي الله عنه . ثبت في صحيح البخاري (2805) عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ المُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ المُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ»، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، وَانْكَشَفَ المُسْلِمُونَ، قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ - يَعْنِي أَصْحَابَهُ - وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ، - يَعْنِي المُشْرِكِينَ - ثُمَّ تَقَدَّمَ»، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: «يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ، الجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ»، قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ، قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ المُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ قَالَ أَنَسٌ: " كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] إِلَى آخِرِ الآيَةِ " .
لم يعرفه أحد إلا أخته عرفته ببنانه لكثرةِ جراحاته والضرب فيه رضي الله عنه.
وقد كان المشركون حين غَلبُوا بعد أن كانوا قدهُزموا -ولله الأمر من قبل ومن بعد -كانوا يجدِّعون القتلى من المسلمين  يقطعون آذانهم وأنوفهم، حتى مِن نساء المشركين مَن كانت تفعل ذلك ، وقد قال أبو سفيان كما تقدم: " وَتَجِدُونَ مُثْلَةً، لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي" .والله المستعان.
******************************
وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو المسلمين، فكان أول من عرفه تحت المغفر كعب بن مالك رضي الله عنه، فصاح بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأشار إليه صلى الله عليه وسلم أن اسكت، واجتمع إليه المسلمون، ونهضوا معه إلى الشعب الذي نزل فيه، فيهم أبو بكر وعمر وعلي والحارث بن الصمة الأنصاري وغيرهم.
فلما أسندوا في الجبل، أدركه أُبَيُّ بن خلف على جواد، يقال له العود، زعم الخبيث أنه يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اقترب تناول رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الحربةَ من يد الحارث بن الصمة فطعنه بها، فجاءت في ترقوته، ويكرُّ عدوُّ الله منهزماً فقال له المشركون: والله ما بك من بأس، فقال: والله لو كان ما بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون، إنه قال لي: إنه قاتلي، ولم يزل به ذلك حتى مات بسرف مرجعه إلى مكة لعنه الله. وجاء علي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء ليغسل عنه الدم، فوجده آجِناً، فردَّه.
******************************
(فكان أول من عرفه تحت المغفر كعب بن مالك رضي الله عنه، فصاح بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أبشروا)
كعب بن مالك رأى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فبشر الصحابة فرحًا، وقال هذا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأنه حي ما قتل.
(فأشار إليه صلى الله عليه وسلم أن اسكت)
من أجل لا يعلم المشركون بمكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(فلما أسندوا في الجبل، أدركه أُبي بن خلف على جواد، يقال له العود، زعم الخبيث أنه يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اقترب تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من يد الحارث بن الصمة فطعنه بها)
أبي بن خلف هوأخو أمية بن خلف ،أمية بن خلف قتل ببدرٍ كافرا ،وأخوه أبي بن خلف مات من آثار طعنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم له في غزوة أُحد مرجعه إلى مكة . وفي الحديث (اشتد غضب الله على رجلٍ قتل نبيا أو قتله نبي ).
(فقال: والله لو كان ما بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون)
أي: أن المصيبة شديدة، ومات بسرف عند رجوعهم من غزوة أحد إلى مكة.
(وجاء علي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء ليغسل عنه الدم، فوجده آجناً، فرده)
(آجنًا) أي: متغيرًا، (فرده) أي: رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذا بنحوه في صحيح ابن حبان.
******************************
وأراد صلى الله عليه وسلم أن يعلو صخرة هناك، فلم يستطع لِما به صلى الله عليه وسلم، ولأنه ظاهرَ يومئذ بين درعين، فجلس طلحة تحته حتى صعد، وحانت الصلاة، فصلى جالساً، ثم مال المشركون إلى رحالهم، ثم استقبلوا طريق مكة منصرفين إليها، وكان هذا كله يوم السبت.
واستشهد يومئذ من المسلمين نحو السبعين.
منهم حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتله وحشي مولى بني نوفل وأُعتِق لذلك، وقد أسلم بعد ذلك، وكان أحدَ قَتَلَةِ مسيلمة الكذاب لعنه الله، وعبد الله بن جحش حليف بني أمية، ومصعب بن عمير، وعثمان بن عثمان، وهو شماس بن عثمان المخزومي، سُمِّي بشمَّاس لحُسْنِ وجهه.
فهؤلاء أربعة من المهاجرين، والباقون من الأنصار رضي الله عنْ جميعهم، فدفنهم في دمائهم وكُلُومهم، ولم يصلِّ عليهم يومئذ.
******************************
(وأراد صلى الله عليه وسلم أن يعلو صخرة هناك، فلم يستطع لِما به صلى الله عليه وسلم)
من الجروح والآلام ،ولأنه ظاهر يومئذ بين درعين.
(وحانت الصلاة، فصلى جالساً)
فيه المحافظة على صلاة الجماعة حتى في الغزو.
(واستُشهد يومئذ من المسلمين نحو السبعين)
هؤلاء جملةٌ نصَّ الحافظ ابن كثير رحمه الله أنهم استشهدوا في غزوة أحد.
(منهم حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتله وحشي مولى بني نوفل وأُعتِق لذلك)
وحشي بن حرب حكى قصة قتله لحمزة رضي الله عنه وهذا في صحيح البخاري (4072) من طريق جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الخِيَارِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا حِمْصَ، قَالَ لِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيٍّ: هَلْ لَكَ فِي وَحْشِيٍّ، نَسْأَلُهُ عَنْ قَتْلِ حَمْزَةَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَكَانَ وَحْشِيٌّ يَسْكُنُ حِمْصَ، فَسَأَلْنَا عَنْهُ، فَقِيلَ لَنَا: هُوَ ذَاكَ فِي ظِلِّ قَصْرِهِ، كَأَنَّهُ حَمِيتٌ، قَالَ: فَجِئْنَا حَتَّى وَقَفْنَا عَلَيْهِ بِيَسِيرٍ، فَسَلَّمْنَا فَرَدَّ السَّلاَمَ، قَالَ: وَعُبَيْدُ اللَّهِ مُعْتَجِرٌ بِعِمَامَتِهِ، مَا يَرَى وَحْشِيٌّ إِلَّا عَيْنَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: يَا وَحْشِيُّ أَتَعْرِفُنِي؟ قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ، إِلَّا أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ عَدِيَّ بْنَ الخِيَارِ تَزَوَّجَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ قِتَالٍ بِنْتُ أَبِي العِيصِ، فَوَلَدَتْ لَهُ غُلاَمًا بِمَكَّةَ، فَكُنْتُ أَسْتَرْضِعُ لَهُ، فَحَمَلْتُ ذَلِكَ الغُلاَمَ مَعَ أُمِّهِ فَنَاوَلْتُهَا إِيَّاهُ، فَلَكَأَنِّي نَظَرْتُ إِلَى قَدَمَيْكَ، قَالَ: فَكَشَفَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: أَلاَ تُخْبِرُنَا بِقَتْلِ حَمْزَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ طُعَيْمَةَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الخِيَارِ بِبَدْرٍ، فَقَالَ لِي مَوْلاَيَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: إِنْ قَتَلْتَ حَمْزَةَ بِعَمِّي فَأَنْتَ حُرٌّ، قَالَ: فَلَمَّا أَنْ خَرَجَ النَّاسُ عَامَ عَيْنَيْنِ، وَعَيْنَيْنِ جَبَلٌ بِحِيَالِ أُحُدٍ، بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَادٍ، خَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ إِلَى القِتَالِ، فَلَمَّا أَنِ اصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ، خَرَجَ سِبَاعٌ فَقَالَ: هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ؟ قَالَ: فَخَرَجَ إِلَيْهِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَقَالَ: يَا سِبَاعُ، يَا ابْنَ أُمِّ أَنْمَارٍ مُقَطِّعَةِ البُظُورِ، أَتُحَادُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهِ، فَكَانَ كَأَمْسِ الذَّاهِبِ، قَالَ: وَكَمَنْتُ لِحَمْزَةَ تَحْتَ صَخْرَةٍ، فَلَمَّا دَنَا مِنِّي رَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي، فَأَضَعُهَا فِي ثُنَّتِهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ وَرِكَيْهِ، قَالَ: فَكَانَ ذَاكَ العَهْدَ بِهِ، فَلَمَّا رَجَعَ النَّاسُ رَجَعْتُ مَعَهُمْ، فَأَقَمْتُ بِمَكَّةَ حَتَّى فَشَا فِيهَا الإِسْلاَمُ، ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى الطَّائِفِ، فَأَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا، فَقِيلَ لِي: إِنَّهُ لاَ يَهِيجُ الرُّسُلَ، قَالَ: فَخَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: «آنْتَ وَحْشِيٌّ» قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «أَنْتَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ» قُلْتُ: قَدْ كَانَ مِنَ الأَمْرِ مَا بَلَغَكَ، قَالَ: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ وَجْهَكَ عَنِّي» قَالَ: فَخَرَجْتُ فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ مُسَيْلِمَةُ الكَذَّابُ، قُلْتُ: لَأَخْرُجَنَّ إِلَى مُسَيْلِمَةَ، لَعَلِّي أَقْتُلُهُ فَأُكَافِئَ بِهِ حَمْزَةَ، قَالَ: فَخَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ، قَالَ: فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي ثَلْمَةِ جِدَارٍ، كَأَنَّهُ جَمَلٌ أَوْرَقُ ثَائِرُ الرَّأْسِ، قَالَ: فَرَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي، فَأَضَعُهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ، قَالَ: وَوَثَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى هَامَتِهِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الفَضْلِ: فَأَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: " فَقَالَتْ جَارِيَةٌ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ: وَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، قَتَلَهُ العَبْدُ الأَسْوَدُ " .
(وأُعتق لذلك)
كما تقدم في البخاري ، وعم جبيرهو طُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الخِيَارِكما في صحيح البخاري (قَالَ –أي وحشي-: نَعَمْ، إِنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ طُعَيْمَةَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الخِيَارِ بِبَدْرٍ، فَقَالَ لِي مَوْلاَيَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: إِنْ قَتَلْتَ حَمْزَةَ بِعَمِّي فَأَنْتَ حُرٌّ). فأُعتق من أجل قتله لحمزة عم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مجازاة له، ومكافأة له.
(فهؤلاء أربعة من المهاجرين، والباقون من الأنصار رضي الله عنهم جميعهم)
يعني الذين قُتلوا في غزوة أحد من الأنصار إلا القليل من المهاجرين، وقد ذكر هنا الحافظ ابن كثير رحمه الله أنهم أربعة.
 (فدفنهم في دمائهم وكُلومهم، ولم يصل عليهم يومئذ)
(كلومهم) أي: جروحهم، ولم يصل عليهم؛ لأنهم شهداء وهذا في صحيح البخاري (1343) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: «أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ»، فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ، وَقَالَ: «أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ يَوْمَ القِيَامَةِ»، وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ.
قال ابن كثير في البداية (4/43ط دار الكتب العلمية):كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ بَلْ فِي الْكَفَنِ الْوَاحِدِ .وَإِنَّمَا أَرْخَصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لِمَا بِالْمُسْلِمِينَ مِنَ الْجِرَاحِ الَّتِي يشق معها أن يحفروا لكل واحد،وَيُقَدِّمَ فِي اللَّحْدِ أَكْثَرَهُمَا أَخْذًا لِلْقُرْآنِ .اهـ.
(واستُشهِد يومئذ من المسلمين نحو السبعين)
كان عدد الذين استشهدوا في غزوة أُحُد نحو السبعين قال تعالى:﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[آل عمران:165] ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌأي: في غزوة أحد، ﴿أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا أي: في غزوة بدر، فإن الصحابة قتلوا سبعين من المشركين وأسروا سبعين.  
وقال الإمام البخاري في صحيحه (بَابُ مَنْ قُتِلَ مِنَ المُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ مِنْهُمْ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَاليَمَانُ، وَأَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ .
ثم ذكر رحمه الله (4078) بإسناده من طريق قَتَادَةَ، قَالَ: مَا نَعْلَمُ حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ أَكْثَرَ شَهِيدًا أَعَزَّ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ قَتَادَةُ: وَحَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ " قُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ، وَيَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ سَبْعُونَ، وَيَوْمَ اليَمَامَةِ سَبْعُونَ، قَالَ: «وَكَانَ بِئْرُ مَعُونَةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَوْمُ اليَمَامَةِ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ، يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ الكَذَّابِ».

******************************
وفرَّ يومئذٍ من المسلمين جماعةٌ من الأعيان، منهم عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد نص الله سبحانه على العفو عنهم، فقال عز وجل: :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران: 155]. 
وقتل يومئذ من المشركين اثنان وعشرون.
وقد ذكر سبحانه هذه الوقعة في سورة آل عمران حيث يقول: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[آل عمران:121].
******************************
(وفر يومئذ من المسلمين جماعة من الأعيان، منهم عثمان بن عفان رضي الله عنه)
عثمان بن عفان أحد المبشرين بالجنة، والخليفة الثالث بعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقد جاء رجل إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فطرح عليه ثلاثة أسئلة ، فأجابه وخصمه عبد الله بن عمر رضي الله عنه .
وهذا في صحيح البخاري (3698) من طريق عُثْمَانَ هُوَ ابْنُ مَوْهَبٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ حَجَّ البَيْتَ، فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلاَءِ القَوْمُ؟ فَقَالُوا هَؤُلاَءِ قُرَيْشٌ، قَالَ: فَمَنِ الشَّيْخُ فِيهِمْ؟ قَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ، إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ شَيْءٍ فَحَدِّثْنِي، هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ: ابْنُ عُمَرَ: تَعَالَ أُبَيِّنْ لَكَ، أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ، وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، وَسَهْمَهُ» وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، فَلَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ اليُمْنَى: «هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ». فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ: «هَذِهِ لِعُثْمَانَ» فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ اذْهَبْ بِهَا الآنَ مَعَكَ".
ولا يجوز بحالٍ تنقص الصحابة ،أوالكلام فيهم بما يحطُّ من شأنهم رضي الله عنهم أجمعين ،اختارهم الله صحابةً لنبيه الكريم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،ووعدهم كلهم بالحُسنى .

(وقُتل يومئذ من المشركين اثنان وعشرون)
هؤلاء عدد قتلى المشركين في غزوة أحد.
(وقد ذكر سبحانه هذه الوقعة في سورة آل عمران حيث يقول: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[آل عمران:121])
﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ...﴾ إلى ستين آية وبدايتها هذه الآية في سياق غزوة أحد .وقد نص على ذلك ابنُ القيم في زاد المعاد(3/ 189) وقال : فَكَانَ مِمَّا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي يَوْمِ أُحُدٍ سِتُّونَ آيَةً مِنْ آلِ عِمْرَانَ، أَوَّلُهَا: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ}  [آلِ عِمْرَانَ: 121] إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ..
وممن حضر هذه الوقعة من النساء عائشة أم المؤمنين، وفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأم سليم، وأم سَليط والدة أبي سعيد الخدري رضي الله عنهن حضرن الغزو لا للغزو ولكن لخدمة المجاهدين، فكن يداوين الجرحى، ويسقين المرضى إلى غير ذلك.
أخرج البخاري (4064) عن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجَوِّبٌ عَلَيْهِ بِحَجَفَةٍ لَهُ ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ النَّزْعِ، كَسَرَ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ بِجَعْبَةٍ مِنَ النَّبْلِ، فَيَقُولُ: «انْثُرْهَا لِأَبِي طَلْحَةَ» قَالَ: وَيُشْرِفُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَى القَوْمِ، فَيَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، لاَ تُشْرِفْ، يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ القَوْمِ، نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ، وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ، أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تُنْقِزَانِ القِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ القَوْمِ، ثُمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلَآَنِهَا، ثُمَّ تَجِيئَانِ فَتُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ القَوْمِ، وَلَقَدْ وَقَعَ السَّيْفُ مِنْ يَدَيْ أَبِي طَلْحَةَ إِمَّا مَرَّتَيْنِ وَإِمَّا ثَلاَثًا .
وبوب  البخاري في صحيحه على هذا الحديث في كتاب الجهاد (باب غَزْوِ النِّسَاءِ وَقِتَالِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ ) .
قال الحافظ في فتح الباري (2880):وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ التَّصْرِيحَ بِأَنَّهُنَّ قَاتَلْنَ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ ابن الْمُنيرِ :بَوَّبَ عَلَى قِتَالِهِنَّ وَلَيْسَ هُوَ فِي الْحَدِيثِ .
فَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّ إِعَانَتَهُنَّ لِلْغُزَاةِ غَزْوٌ، وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُنَّ مَا ثَبَتْنَ لِسَقْيِ الْجَرْحَى وَنَحْوِ ذَلِكَ إلَّا وَهُنَّ بِصَدَدِ أَنْ يُدَافِعْنَ عَنْ أَنْفُسِهِنَّ وَهُوَ الْغَالِبُ اهـ.
فكان من النساء من يحضر الغزوة لخدمة المجاهدين ،أخرج الإمام مسلم (1812) عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةِ، قَالَتْ: «غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ، أَخْلُفُهُمْ فِي رِحَالِهِمْ، فَأَصْنَعُ لَهُمُ الطَّعَامَ، وَأُدَاوِي الْجَرْحَى، وَأَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى» .
وقصة فاطمة رضي الله عنها تقدمت،وأنها داوت جرح النبي صلى الله عليه وسلم .
وأخرج البخاري(2881) من طريق ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ: أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَسَمَ مُرُوطًا بَيْنَ نِسَاءٍ مِنْ نِسَاءِ المَدِينَةِ، فَبَقِيَ مِرْطٌ جَيِّدٌ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ عِنْدَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَعْطِ هَذَا ابْنَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي عِنْدَكَ، يُرِيدُونَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ، فَقَالَ عُمَرُ: «أُمُّ سَلِيطٍ أَحَقُّ، وَأُمُّ سَلِيطٍ مِنْ نِسَاءِ الأَنْصَارِ، مِمَّنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، قَالَ عُمَرُ: «فَإِنَّهَا كَانَتْ تَزْفِرُ لَنَا القِرَبَ يَوْمَ أُحُدٍ».
وقد ترجم لأم سليط الحافظ في الإصابة وقال : قال أبو عمر-أي ابن عبدالبر-: من المبايعات، حضرت مع النّبيّ صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم يوم أحد، قال عمر بن الخطاب: كانت ممن يزفر لنا القرب  يوم أحد.
قلت: ثبت ذكرها في صحيح البخاريّ، عن عمر، كناها عمر بابنها سليط بن أبي سليط بن أبي حارثة، وهي أم قيس بنت عبيد. ذكر ذلك ابن سعد ، ثم ذكر غيره أنها تزوّجت بعد أبي سليط مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدريّ، فولدت أبا سعيد، فهو أخو سليط بن أبي سليط لأمّه.اهـ.
وهناك من الأمور كانت في غزوة أحد مشابهة لغزوة بدر منها:
النعاس: قال عز وجل في غزوة أحد:{ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } .وقال سبحانه في غزوة بدر ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ[الأنفال:11]. 
ومنها :الدعاء، أخرج الإمام مسلم (1743) عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ: «اللهُمَّ، إِنَّكَ إِنْ تَشَأْ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ».
 وسبق في غزوة بدر أنه قال نحو ذلك.
أمرٌثالث :أخرج البخاري (4046) ومسلم (1899) من طريق عَمْرٍو وهو ابن دينار، سَمِعَ جَابِرًا، يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ: أَيْنَ أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ قُتِلْتُ؟ قَالَ: «فِي الْجَنَّةِ»، فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ كُنَّ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تحت الرقم المذكور: لم أقف على اسمه .
وتقدم معنا في غزوة بدر قصة لعمير بن الحمام رضي الله عنه مشابهة لهذه ،رضي الله عنهما .
وقد ذكر هذه المسألة الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (4/29).
 انتهينا من غزوة أحد،واستفدنا فوائد عظيمة ودروسًا وعِبَر، وما كان من الابتلاءات للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحابته رضي الله عنهم في هذه الوقعة ،وفي ذلك حِكَمٌ عظيمة تقدم بعضها ،وقد كان في أول الأمر الدولة للمسلمين ثم كان من أمر الله ما كان ،ونلاحظ من الأدب مع الصحابة أن الحافظَ ابنَ كثير لا يقول :هُزِمَ الصحابة ،ولكنه يقول (فكان ما أراد الله تعالى كونَه) ،ثم كان العاقبة والنصر للمسلمين فقد أنزل الله عليهم الطمأنينة وغشيهم النعاس قال الحافظ ابن كثير في البداية (4/29) وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى طُمَأْنِينَةِ الْقُلُوبِ بنصر الله وتأييده وتمام توكلها على خلقها وَبَارِئِهَا.اهـ.
ونزل جبريل وميكائيل عليهما الصلاة والسلام للنصر والمَدد والمعونة أخرج البخاري(4054)ومسلم (2306) عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَمَعَهُ رَجُلاَنِ يُقَاتِلاَنِ عَنْهُ، عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ، كَأَشَدِّ القِتَالِ مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ»وعند مسلم يَعْنِي جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.وهذا من الكرامات التي وقعت في هذه الغزوة .
ومما استفدنا شؤم الذنب والتنازع لأن ما حصل للصحابة في هذه الغزوة هو بسبب مخالفة بعضهم فالمخالفة لأمرالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيها ضررٌ عظيمٌ، ولكن العاقبة للمتقين،حكمة الله أن الحرب سجال بين المسلمين وأعدائهم قال ابن القيم في زاد المعاد (3/ 196): فَإِنَّهُمْ لَوِ انْتَصَرُوا دَائِمًا دَخَلَ مَعَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَغَيْرُهُمْ، وَلَمْ يَتَمَيَّزِ الصَّادِقُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَوِ انْتُصِرَ عَلَيْهِمْ دَائِمًا لَمْ يَحْصُلِ الْمَقْصُودُ مِنَ الْبَعْثَةِ وَالرِّسَالَةِ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ أَنْ جَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لِيَتَمَيَّزَ مَنْ يَتَّبِعُهُمْ وَيُطِيعُهُمْ لِلْحَقَّ، وَمَا جَاءُوا بِهِ مِمّنْ يَتَّبِعُهُمْ عَلَى الظُّهُورِ وَالْغَلَبَةِ خَاصَّةً.اهـ.
 معرفة بعض الصحابة الذين شَهدِوا الغزوة وما هم عليه من شدة المسابقة إلى الجنة ،وشدة محبتهم للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبوطلحة يقول يا رسول الله نحري دون نحرك ،وبيان بعض من استُشهد في هذه الغزوة وأن شهادتهم كرامة من الله لهم ،وهذامما يزيد المؤمن محبةً للصحابة وتوقيرًا لهم،كرامة لأنس بن النضر لأنه وجد ريح الجنة دون أحُدٍ رضي الله عنه ،
 وأنه في هذه الغزوة تميَّز كثيرٌ من المنافقين حيث انخزل عبدالله ابن أُبَي بثلاثمائة، ورجعوا من الطريق  ،حضور الشيطان المعركة–نعوذ بالله منه- وما قام به من الكيد للمسلمين فقد صرخ وقال: أي عباد الله أُخراكم ،وتثبيط الصحابة بقوله إن محمدا قد قُتل  حتى ظهرللصحابة بعد شِدَّةٍ ومحنة عظيمة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يمتْ ،نزول آيات في سورة آل عمران  ما يقارب ستين آية في شأن غزوة أحد .
ردُّ الصبيان وعدم قبولهم في المعركة ،أن شهيد المعركة لا يغسَّل ولا يُصلَّى عليه، جواز دفنِ الرجلين والثلاثة في قبرٍ واحد عند وجود المشقة من تفريقهم لكثرتهم،فضل أهل القرآن لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُقدِّم في اللحد من هو أكثر قرآنًا،خروج النساء في الغزو لإعانة المجاهدين وخدمتهم .

هذا وقد ذكر ابنُ القيم في زاد المعاد فوائد واستنباطات كثيرة من وقعة أُحد فمن أرادَ المزيدَ فليَرجِعْ إليه .والله أَعلم .